رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

قلبك وبدنك ، وأنت محمود ، وإن لم ترض بما قسمت لك ، سلطت عليك الدنيا ، حتى تركض فيها ركض الوحوش في البرية ، وعزتي وجلالي لا تنال منها إلا ما قدّرت لك وأنت مذموم ؛ فعلّق الراحة بالقلب مع البدن ، إذ لا يصح طلب شيء من غير إرادة ، إذ هي المحركة للباحث على البحث والتفتيش ، والإرادة من خاصتك المصرفة لعامتك ، فإن تصرفت في المضمون تصرفا كليا ، لم تتهيأ لامتثال أوامرك عليها ، وعند عدولها عن ذلك كنت لئيما على رعيتك ، على ما يرد في داخل الباب ، فالله الله ، اجهد أن لا تتعلق لك إرادة إلا بمراد محبوبك من جهة ظاهر الأمر ، وباطن الإرادة بعد وقوع المراد ، المؤدي إلى العلم بأن ذلك الواقع لو لا ما سبق في العلم على ذلك ، وتعلقت به الإرادة لما وقع على ذلك الوصف ، مع جواز تبدله في نفسه في وقوعه على غير ذلك ، وهل خلقت الدنيا إلا من أجلك؟ وخلقك سبحانه من أجله ، فأوجدك له وأوجد الأشياء لك ، أنزل في التوراة : يا ابن آدم ، خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي فلا تهتك ما خلقت من أجلي فيما خلقت من أجلك ؛ قال الله تعالى في القرآن العظيم : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) وقال : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) إلى أمثال هذا مما لا يحصى في القرآن كثرة.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٢١)

ليس لمخلوق أن يشرع ما لم يأذن به الله ، ولا أن يوجب وقوع ممكن من عالم الغيب يجوز خلافه في دليله على جهة القربة إلى الله إلا بوحي من الله وإخبار ، وأما ما اقتضاه نظر المجتهدين من العلماء في الأحكام فإنه بتقرير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحكم المجتهد من شرعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يعطي المجتهد دليله ، وهو الذي أذن الله به ، فما هو من الشرع الذي لم يأذن به الله ، فإن ذلك كفر وافتراء على الله ، وليس الاجتهاد أن تحدث حكما ، هذا غلط ، وإنما الاجتهاد المشروع في طلب الدليل من كتاب أو سنة أو إجماع ، وفهم عربي على إثبات حكم في تلك

٨١

المسألة بذلك الدليل الذي اجتهدت في تحصيله والعلم به في زعمك ، هذا هو الاجتهاد ، فإن الله تعالى ورسوله ما ترك شيئا إلا وقد نص عليه ولم يتركه مهملا ، فإن الله تعالى يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وبعد ثبوت الكمال فلا يقبل الزيادة ، فإن الزيادة في الدين نقص في الدين ، وذلك هو الشرع الذي لم يأذن به الله ، فينبغي لكل مؤمن أن يجتنب صحبة المبتدعين في دين الله ما لم يأذن به الله.

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ (٢٢) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (٢٣)

لما كان أجر جميع الرسل على الله وحده ـ من قوله تعالى (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) ـ اختص محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفضيلة لم ينلها غيره ، عاد فضلها على أمته ، ورجع حكمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حكم الرسل قبله في إبقاء أجره على الله ، فأمره الحق أن يأخذ أجره الذي له على رسالته من أمته ، وهو أن يوادوا قرابته ، فقال له : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي على تبليغ ما جئت به إليكم (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فتعين على أمته أداء ما أوجب الله عليهم من أجر التبليغ ، فوجب عليهم حب قرابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل بيته ، وجعله باسم المودة وهو الثبوت على المحبة ، فلما جعل له ذلك ، ولم يقل إنه ليس له أجر على الله ولا أنه بقي له أجر على الله ، وذلك ليجدد له النعم بتعريفه ما يسرّ به ، فقيل له بعد هذا : قل لأمتك آمرا ـ ما قاله كل رسول لأمته (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فما سقط الأجر عن أمته في مودتهم للقربى ، وإنما رد ذلك الأجر بعد تعيينه عليهم ، فعاد ذلك الأجر عليهم الذي كان يستحقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيعود فضل المودة على أهل المودة ، فما

٨٢

يدري أحد ما لأهل المودة في قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأجر إلا الله ، ولكن أهل القربى منهم ، ولهذا جاء بالقربى ولم يجىء بالقرابة ، فوددنا من قرابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم القربى منهم ، وهم المؤمنون ، ولذلك فرّق عمر رضي الله عنه بين من هو أقرب قرابة ، وأقرب قربى ، وهو عربي نزل القرآن بلسانه ، فلو لا ما في ذلك فرقان في لسانهم واصطلاحهم ما فرق عمر بين القربى والقرابة ، قال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ) فلو كانت المودة في القربى التي سألها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منا ، يريد به القرابة ما نفاها الحق عنها في قوله (يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) ولو كانوا قرابتهم ، فعلمنا أن المودة في القربى أنها في أهل الإيمان منهم ، وهم الأقربون إلى الله ، فتميز صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سائر الرسل عليهم‌السلام بما أعطى الله لأمته في مودتهم في القربى ، وتميزت أمته على سائر الأمم بما لها من الفضل في ذلك ، وجاء تعالى بلفظ المودة ، وهي الثبوت على المحبة ، فإنه من ثبت وده على أمر استصحبه في كل حال ، وإذا استصحبته المودة في كل حال لم يؤاخذ أهل البيت بما يطرأ منهم في حقه مما له أن يطالبهم به ، فيتركه ترك محبة وإيثارا لنفسه لا عليها ، فبالنسبة لحقوقنا وما لنا أن نطالبهم به فنحن مخيرون ، إن شئنا أخذنا وإن شئنا تركنا ، والترك أفضل عموما ، فكيف في أهل البيت؟ فإذا نزلنا عن طلب حقوقنا وعفونا عنهم في ذلك ، أي فيما أصابوا منا كانت لنا بذلك عند الله اليد العظمى والمكانة الزلفى ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما طلب منا عن أمر الله إلا المودة في القربى ، وفيه سر صلة الأرحام ، ومن لم يقبل سؤال نبيه فيما سأله فيه ـ مما هو قادر عليه ـ بأي وجه يلقاه غدا؟ ويرجو شفاعته؟ وهو ما أسعف نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما طلب منه من المودة في قرابته ، فكيف بأهل بيته؟ فهم أخص القرابة ، وما سأل منا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأجر على تبليغ الدعاء إلا المودة في القربى ، وهو حب أهل البيت وقرابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يكرموا من أجله كانوا ما كانوا ، وقد طرأ على الشيعة ـ ولا سيما الإمامية ـ تلبيسات من عدم الفهم حتى ضلوا ، فدخلت عليهم شياطين الجن أولا بحب أهل البيت واستفراغ الحب فيهم ، ورأوا أن ذلك من أسنى القربات إلى الله ، وكذلك هو لو وقفوا ولا يزيدون عليه ، إلا أنهم تعدوا في حب أهل البيت إلى طريقين ، منهم من تعدى إلى بغض الصحابة وسبهم حيث لم يقدموهم ، وتخيلوا أن أهل البيت أولى بهذه المناصب الدنيوية ، فكان منهم ما قد عرف واستفاض ، وطائفة زادت إلى

٨٣

سب الصحابة القدح في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي جبريل عليه‌السلام ، وفي الله جل جلاله ، حيث لم ينصوا على رتبتهم وتقديمهم في الخلافة للناس ، حتى أنشد بعضهم : ما كان من بعث الأمين أمينا ؛ وهذا كله واقع من أصل صحيح ، وهو حب أهل البيت ، أنتج في نظرهم فاسدا ، فضلوا وأضلوا ، فانظر ما أدى إليه الغلو في الدين ، أخرجهم عن الحد فانعكس أمرهم إلى الضد.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (٢٥)

إذا رجع العبد إلى الله بالتوبة رجع الحق إليه بالقبول ، فإن الله لا يقبل معاصي عباده ويقبل التوبة والطاعات ، وهذا من رحمته بعباده ، فإنه لو قبل المعاصي لكانت عنده في حضرة المشاهدة كما هي الطاعات ، فلا يشهد الحق من عباده إلا ما قبله ، ولا يقبل إلا الطاعات ، فلا يرى من عباده إلا ما هو حسن محبوب عنده ، ويعرض عن السيئات فلا يقبلها.

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٢٧)

اعلم أن السخاء هو العطاء على قدر الحاجة من غير مزيد ، لمصلحة يراها المعطي ، إذ لو زاد على ذلك ربما كان فيه هلاك المعطى إياه ، ولذلك قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) وهو الثابت الواقع ، ولا حكم لأداة (لو) ، فإن كلمة (لو) لو زرعت ما نبت عنها شيء ويخسر البذر ، فمتى سمعت (لو) حيث سمعتها فلا تنظر إلى ما

٨٤

تحتها ، فإن ما تحتها لا يوجد ، فلا تخف منها ولا من دلالتها ، وليكن مشهودك الواقع خاصة ، فإنه لو وجد البغي عن البسط لم تقم الحجة عليهم ، ولكنه تعالى قال (لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) لأنهم يضعفون عن القيام بما يستحقه بسط الرزق من الشكر ، وليس في قوة الإنسان إلا البغي به والكفر والأشر والبطر (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) يعني الرزق ، وله موازين ، فإنه لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ، فأنزل بقدر ما يشاء ، فيمنع بحق وحكمة ، ويعطي بحق وحكمة ، فهو الموصوف بالمعطي والمانع ، وهو بكل شيء عليم ، فما أنزل شيئا إلا بقدر معلوم ، ولا خلق شيئا إلا بقدر ، فإذا وجد البغي مع القدر قامت الحجة على الخلق ، فإن القدر ما يقع بوجوده في موجود معين المصلحة المتعدية منه إلى غير ذلك الموجود ، فمنع الغير مما بيده مع حصول الاكتفاء فما زاد فيعلم أنه لمصلحة غيره (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) فيعلم على من يبسط رزقه ، وعلى من يقبض عنه ذلك القدر الذي بسطه على غيره فبغي به ، ولذلك ما ذكر إلا عموم البسط في العباد كلهم ، وأضاف البغي للكل ، لأنه قد بسط للبعض فوقع منهم البغي فيما بسطه له ، لأنه شغله عن حاجة نفسه الضرورية بحاجة نفسه التي هي غير ضرورية. ولما كانت الدنيا تجري لأجل مسمى وينقضي أمدها ، فتكون الأشياء فيها تجري إلى أجل مسمى ، قال تعالى : (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) لأجل ذلك الأجل ، فينزل مالكها فيها بقدر معلوم مساو لمدة الأجل ، والآخرة بخلاف ذلك ، فإنها لا ينتهي أمدها ، ألا ترى إلى قوله تعالى في خلق هذه الأرض الأولى (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) فجعلها ذات مقدار ، فالرزق مقسوم ومنزل بقدر معلوم ، ولا ينقص ولا يزيد بسؤال العبيد. طلب المزيد في الجبلة في كل ملة ، كيف لا يظهر بالافتقار من حكم عليه الاضطرار ، وبقي الحكم للأقدار ، فكل شيء عنده بمقدار ، وهذه الآية دليل على أن البسط لا يكون إلا لرفيع المنزلة رفيع الدرجات ، فينزل بالحال إلى حال من هو في أدنى الدرجات ، فلما تمكن هذا البسط في قلوب العباد أثر في قلوبهم بغيا فتعدوا منزلتهم ، فقالوا : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) حيث نزل الحق إليهم في البسط بقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) ـ إشارة ـ نبه الحق بهذه الآية على مقام القبض ، فإن إظهار التوحيد ـ أي توحيد الأفعال ـ لله تعالى ، يوما ما أو في نازلة ما ، لا في كل يوم ، ولا في كل النوازل ، لأن استدامة هذا التجلي يؤدي إلى تعطيل الأحكام والديانات ، وإذا كان ذلك خرب الملك عاجلا أو آجلا ، فالله الله ولا لمحة بارق من التوحيد.

٨٥

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٨)

وذلك من آثار البسط الإلهي لعباده ، واتساع مغفرته وعموم فضله.

(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ (٢٩) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (٣٠)

ما أصابت المصائب من أصابته إلا جزاء بما كسبت يده ، مع كون الله تعالى يعفو عن كثير ، وقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ) الآية ، ما ظهر من الفتن والخراب والحروب والطاعون ، فهو كله جزاء بأعمال عملوها ، فاستحقوا بذلك ما ظهر من الفساد في البر والبحر (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) مما لو شاء آخذ به عباده ـ راجع المائدة آية (١٥).

(وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٣٢) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٣٣) تسري بها الريح.

يقول الحق في حق راكب البحر إذا اشتد عليه الريح وبرد ، فبما فيها من النعمة يطلب منه الشكر عليها ، وبما فيها من الشدة والخوف يطلب منه الصبر ، فيقول : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) وهو ما ابتلي به من الريح لسوق الجواري في البحر : (لِكُلِّ صَبَّارٍ) لما فيها من الأمر المفزع الهائل (شَكُورٍ) لما فيها من الفرح والنعمة بالوصول إلى المطلوب بسرعة.

٨٦

(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (٣٥) فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٣٦)

احذر من فتنة الحياة الدنيا وزينتها ، والزاهد في الدنيا مال إلى قوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) وأما العارف فمال إلى قوله تعالى : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى).

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (٣٨)

المشاورة محاورة ، وهي إن دلت على عدم الاستقلال بجودة النظر ، فهي من جودة النظر ، وإن نبهت على ضعف الرأي فهي من الرأي ، عرض الإنسان ما يريد فعله على الآراء ، دليل على عقله التام ليقف على تخالف الأهواء ، فيعلم مع أحدية مطلوبه أنه وإن تفرد ، فله وجوه تتعدد ، وأي شيء أدل على أحدية الحق ، من مشاورة الخلق ، لا يطلع على مراتب العقول إلا أصحاب المشاورة ، ولا سيما في المسامرة ، فإنها أجمع للهم والذكر ، وأقدح لزناد الفكر.

(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٤٠)

السوء على نوعين : سوء شرعي وسوء ما يسوءك ، وإن حمده الشرع ولم يذمه ، فقد يكون هذا السوء من كونه يسوءك ، لا أن السوء فيه حكم الله ، كما قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) فالسيئة الأولى شرعية صاحبها مأثوم عند الله ، لأنه تعدى ، والسيئة

٨٧

الأخرى ما يسوء المجازى عليها ، فهي ليست بسيئة شرعا وإنما هي سيئة من حيث إنها تسوء المجازى بها كالقصاص ، فسمى الله الجزاء سيئة بالمثلية ، وليس الجزاء بسيئة مشروعة ، لأن الله لا يشرع السوء ، فنبه تعالى بقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ) على الزهد والترك للأخذ عليها بتسمية الجزاء سيئة ، فأنزل المسيء منزلة السيئة وسمي بها ، فلم يقل وجزاء المسيء ، فإن المسيء هو الذي يجازى بما أساء لا السيئة ، فإن السيئة قد ذهب عينها ، وهي لا تقبل الجزاء ، وأضيف الجزاء إلى السيئة ، فللمسيء حكم السيئة ، ولذلك نبه تعالى بقوله (مِثْلُها) فأطلق على الجزاء اسم سيئة ، ومن اتصف بشيء من ذلك فيقال فيه : إنه مسيء ، فحث تعالى على اختيار العفو على الجزاء بالمثل نفاسة وتقديس نفس ، من أن توصف بأنها محل للسيئة والسوء ، فقال فيمن لم يفعلها (فَمَنْ عَفا) فنبه على أن ترك الجزاء على السيئة من مكارم الأخلاق ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرجل الذي طلب القصاص من قاتل من هو وليه ، فطلب منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعفو عنه أو يقبل الدية فأبى ، فقال : خذه ؛ فأخذه ، فلما قفى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أما إنه إن قتله كان مثله] يريد قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) فسمي قاتلا ، فبلغ ذلك القول الرجل فرجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلّى عن قتله وتركه وعفا ، (فَمَنْ عَفا) ولم يجاز بالسيئة على السيئة ، أي عفا المظلوم عمن ظلمه ولم يؤاخذه بما استحق عليه فهو أولى (وَأَصْلَحَ) أي عفا عمن أساء إليه وأصلح ، يعني حال من أساء إليه بالإحسان ، فأصلح منه ما كان أوجب الإساءة إليه منه ، فما أراد بأصلح إلا هذا ، ولا يحصل في هذا المقام إلا من له همة عالية ، فإن الله قد أباح له أن يجازي المسيء بإساءته على وزنها ، فأنف على نفسه أن يكون محلا للاتصاف بما سماه الحق سيئة ، ولهذا النوع أجر على الله من وجهين : أجر العفو ـ وأجر العفو من الله كثير فإنه من الأضداد ـ وأجر الإصلاح ، وهو الإحسان إليه ، المزيل لما قام به من الموجب للإساءة إليه ، والله يحب المحسنين ، ولو لم يكن في إحسانه المعبر عنه بالإصلاح إلا حصول حب الله إياه الذي لا يعدله شيء لكان عظيما فيكون أجر من هذا صفته على الله أجر محب لمحبوب ، وكفى بما تعطيه منزلة الحب ، فما يقدر أحد أن يقدر أجر ما يعطيه المحب لمحبوبه ، فقال تعالى : (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) وكان ينبغي أن يكون أجره على من تركت مطالبته بجنايته ، فتحمل الله ذلك الأجر عنه إبقاء على المسيء ورحمة به ، فلا يبقى للمظلوم عليه حق يطالبه

٨٨

به ، فشرع الله لنا في بعض الحقوق أنا إذا تركناها كان أعظم لنا ، وجعل ذلك من مكارم الأخلاق فقال : (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي هذه صفة الحق فيمن عفى عنه ، فيما هو حق له معرى عن حق الغير ، فإقامة العدل إنما هو في حق الغير ، وما كان الله ليأمر بمكارم الأخلاق ولا يكون الجناب الإلهي موصوفا به ، فكذلك يفعل مع عباده فيما ضيعوه من حقه وحقوقه ، يعفو ويصفح ويصلح ، فيكون المآل إلى رحمة الله في الدارين ، فتعمهم الرحمة حيث كانوا ولا يستوون ، فما أمرك بالعفو عمن جنى عليك إلا ليعفو عنك إذا جنيت عليه في ظنك ، ولو علم الناس قدر ما نبهنا عليه في هذه المسئلة ما جازى أحد من أساء إليه بإساءة ، فما كنت ترى في العالم إلا عفوّا مصلحا ، فإن المسيء في حقنا ، الذي خيرنا الله بين جزائه بما أساء وبين العفو عنه لما أساء ، أعطانا من خير الآخرة ما نحن محتاجون إليه ، حتى لو كشف الله الغطاء بيننا وبين ما لنا من الخير في الآخرة في تلك المساءة حتى نراها عيانا ، لقلنا إنه ما أحسن أحد في حقنا أحسن من هذا الذي قلنا إنه أساء في حقنا ، فلا يكون جزاؤه عندنا الحرمان ، فنعفو عنه فلا نجازيه ، ونحسن إليه مما عندنا من الفضل على قدر ما تسمح به نفوسنا ، فإنه ليس في وسعنا ولا يملك مخلوق في الدنيا ما يجازي به من الخير من أساء إليه ، ولا يجد ذلك الخير ممن أحسن إليه في الدنيا ، فمن كان هذا عقده ونظره كيف يجازي المسيء بإساءته إذا كان مخيرا فيها ، ولو لم يكن ثم إخبار من الله بالخير الأخروي لمن أسيء إليه إذا صبر ولم يجاز لكان المقرر في العرف كافيا فيما في التجاوز والعفو والصفح عن المسيء ، فإن ذلك من مكارم الأخلاق ، ولو لا إساءة المسيء إليّ ما اتصفت أنا ولا ظهرت مني هذه المكارم من الأخلاق ، كما أني لو عاقبته انتفت عني هذه الصفات في حقه ، وكنت إلى الذم أقرب مني إلى أن أحمد علي العقاب ، فكيف والشرع قد جاء في ذلك بأن أجر من يعفو ويتجاوز ولا يجازي أنه على الله؟.

(وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) (٤١)

من طلب حقه واستقصاه فلا يلام.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ

٨٩

أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ (٤٤) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ) (٤٥)

الخشوع مقام الذلة والصغار ، وهو نعت محمود في الدنيا على قوم محمودين ، وهو نعت محمود في الآخرة على قوم مذمومين شرعا ، وفيهم قال تعالى (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) ولا يكون الخشوع حيث كان إلا عن تجل إلهي على القلوب ، في المؤمن عن تعظيم وإجلال ، وفي الكافر عن قهر وخوف وبطش ، قال عليه‌السلام : [إن الله إذا تجلى لشيء خشع له] (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) إلى إله قاهر عليّ ، فإن هذا النظر حال الذليل لا يقدر يرفع رأسه من القهر ، وذلك الخشوع من الكافر يوم القيامة والذلة والنظر المنكسر الذي لا يرفع بسببه رأسه إنما هو لله تعالى ، خوفا منه ، فلو راقبوه في دنياهم أمنوه في أخراهم ، وهذا كان حال المؤمن في الدنيا ، فمن لم يتضع هنا اتضع هناك ، ومن لم يخشع هنا خشع من الذل هناك ، فلتبشر الخاشعين في هياكل الظلم بالسرور في هياكل النور ، ولما كان هذا حال المؤمن في الدنيا لخوفه من الله تمم (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ).

(وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم

٩٠

مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ) (٤٨)

(إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) وقد فعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبلغ ، وأسمع الله من شاء وأصم من شاء.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ) (٤٩)

الوهب هو إعطاء إنعام لا لطلب الشكر ولا العوض ، وهو وصف يرجع إليه تعالى ، ما طلب منهم في ذلك عوضا (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) مراعاة لمحل التكوين (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) مراعاة للملقي.

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٥٠)

ـ الوجه الأول ـ (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) مراعاة للمجموع ، فإن زوجهم إناثا أو ذكرانا أو ذكرا وأنثى فلوجود الجمع (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) لمن لا يقبل الولادة ـ الوجه الثاني ـ (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) وهو الخنثى ، وينكر الطبيعيون أن يكون من ماء المرأة شيء ، وذلك ليس بصحيح ، فإن الإنسان يتكون من ماء الرجل ومن ماء المرأة ، فإن عيسى عليه‌السلام تكون جسمه من ماء أمه فقط ، وقد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي لا ينطق عن الهوى أنه قال : [إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرا ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثا] وفي رواية [سبق بدل علا] فقد جاء بالضمير المثنى في أذكرا وأنثا والمرأة والرجل إذا لم يسبق أحدهما صاحبه في إنزال الماء ، وأنزلا معا بحيث أن يختلطا ولا يعلو أحد الماءين على الآخر فإنه من أجل تلك الحالة إذا وقعت على تلك الصورة يخلق الله الخنثى ،

٩١

فيجمع بين الذكورة والأنوثة ، وهو قوله تعالى : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) ، فإن كانا على السواء من جميع الجهات والاعتدال من غير انحراف ماء أحدهما كان الخنثى ، يحيض من فرجه ويمني من ذكره ، فيعطي الولد ويقبل الولد ممن ينكحه ، وإن انحرف الماء عن الاعتدال ولم يبلغ مبلغ العلو على الآخر كان الحكم للمنحرف إلى العلو ، فإن كان ماء المرأة حاض الخنثى ولم يمن ، وإن كان ماء الرجل أمنى ولم يحض ، فسبحان القدير الخلاق العليم (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) فوصف تعالى نفسه في ذلك بأنه عليم قدير وهو وصف يرجع إليه.

(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٥١)

اعلم أن المناجاة والمشاهدة لا يجتمعان ، فإن المشاهدة للبهت والكلام للفهم ، فالعبد في حال الكلام مع ما يتكلّم به لا مع المتكلم ، أي شيء كان. واعلم أن خطاب الله تعالى أو كلام الله تعالى لمن شاء من عباده في حالتي اليقظة والمنام على ثلاثة أنواع : نوع يسمى وحيا ، ونوع يسمعه كلامه من وراء حجاب ، ونوع بوساطة رسول ، فيوحي ذلك الرسول من ملك أو بشر بإذن الله ما يشاء الله لمن أرسله إليه ، وهو كلام الله ، إذ كان هذا الرسول إنما يترجم عن الله ، فالإنسان لا يسمع كلام الحق من كونه بشرا إلا بهذه الضروب التي ذكرها الحق في هذه الآية أو بأحدها ، فإذا زال في نظره عن بشريته وتحقق بمشاهدة روحه كلمه الله بما كلم به الأرواح المجردة عن المواد ، وذلك لأن للبشر ما يباشره من الأمور الشاغلة له عن اللحوق برتبة الروح التي له من حيث روحانيته ، فإن ارتقى عن درجة البشرية كلمه الله من حيث كلم الأرواح إذ كانت الأرواح أقوى في التشبه ، لكونها لا تقبل التحيز والانقسام ، وتتجلى في الصور من غير أن يكون لها باطن وظاهر ، فما لها سوى نسبة واحدة من ذاتها ، وهي عين ذاتها ، والبشر من نشأته ليس كذلك ، ففيه ما يقتضي المباشرة والتحيز والانقسام ، وفيه ما لا يطلب ذلك وهو روحه المنفوخ فيه ، ولذلك قال تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) وهو بشر (إِلَّا وَحْياً) وهو الخطاب الإلهي ، والوحي هو السرعة ، والوحي هو المفهوم الأول والإفهام الأول ، ولا أعجل من أن يكون

٩٢

عين الفهم عين الإفهام عين المفهوم منه ، ولا سرعة أسرع مما ذكرناه ، فإن لم تحصل لك هذه النكتة فلست صاحب وحي ، فالوحي ما يسرع أثره من كلام الحق تعالى في نفس السامع ، وقد يكون الوحي إسراع الروح الإلهي الأمري بالإيمان بما يقع به الإخبار ، والمفطور عليه كل شيء مما لا كسب له فيه من الوحي أيضا ، كالمولود يتلقى ثدي أمه ، ذلك من أثر الوحي الإلهي إليه ، وقال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ) فلو لا ما فهمت من الله وحيه لما صدر منها ما صدر ، ولهذا لا يتصور المخالف إذا كان الكلام وحيا ، فإن سلطانه أقوى من أن يقاوم (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) وكذا فعلت ولم تخالف ، مع أن الحالة تؤذن أنها ألقته في الهلاك ، ولم تخالف ولا ترددت ولا حكمت عليها البشرية ، بأن إلقاءه في اليم في تابوت من أخطر الأشياء ، فدل على أن الوحي أقوى سلطانا في نفس الموحى إليه من طبعه الذي هو عين نفسه ، فإذا زعمت أن الله أوحى إليك ، فانظر في نفسك في التردد أو المخالفة ، فإن وجدت لذلك أثرا بتدبير أو تفضيل أو تفكر فلست صاحب وحي ، فإن حكم عليك وأصمك وحال بين فكرك وتدبيرك وأمضى حكمه فيك ، فذلك هو الوحي ، وأنت عند ذلك صاحب وحي ، والوحي على ضربين ـ الوجه الأول ـ الوحي منه ما يلقيه الحق إلى قلوب عباده من غير واسطة ، فأسمعهم في قلوبهم حديثا لا يكيف سماعه ، ولا يأخذه حدّ ولا يتصوره خيال ، ومع هذا يعقله ولا يدري كيف جاء ، ولا من أين جاء ، ولا ما سببه ، فقوله تعالى : (إِلَّا وَحْياً) يعني من الوجه الخاص ، بما يلقي الله برفع الوسائط ، وهو ما يلقيه في القلب على جهة الحديث ، فيحصل من ذلك علم بأمر ما ، وهو الذي تضمنه ذلك الحديث ، وإن لم يكن كذلك فليس بوحي ولا خطاب ، فإن بعض القلوب يجد أصحابها علما بأمر ما من العلوم الضرورية عند الناس ، فذلك علم صحيح ليس عن خطاب ، وكلامنا إنما هو في الخطاب الإلهي المسمى وحيا ، فإن الله تعالى جعل مثل هذا الصنف من الوحي كلاما ، ومن الكلام يستفيد العلم بالذي جاء له ذلك الكلام ، وبهذا يفرق إذا وجد ذلك ، وهؤلاء البشر منهم المحدثون الذي ورد الخبر الصحيح أن عمر بن الخطاب منهم ـ الوجه الثاني ـ (إِلَّا وَحْياً) يريد إلهاما بعلامة يعلم بها أن ربه كلمه ، حتى لا يلتبس عليه الأمر (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) فهو خطاب إلهي يلقيه على السمع لا على

٩٣

القلب ، فيدركه من ألقي عليه فيفهم منه ما قصد به من أسمعه ذلك ، وقد يحصل له ذلك في صورة التجلي حيث كان ، فيكلمه من وراء حجاب صورة ما يكلمه به ، فتخاطبه تلك الصورة الإلهية وهي عين الحجاب ، فيفهم من ذلك الخطاب علم ما يدل عليه ، ويعلم أن ذلك حجاب ، وأن المتكلم من وراء ذلك الحجاب ، ورد في الصحيح تجلي الحق في الصور وتحوله فيها ، وقد يكون من وراء حجاب يريد إسماعه إياه لحجاب الحروف المقطعة والأصوات ، كما سمع الأعرابي القرآن المتلو الذي هو كلام الله ، أو حجاب الآذان أيضا من السامع ، فيكون الحجاب صورة بشرية لتقع المناسبة بين الصورتين بالخطاب ، وقد يكون الحجاب بشريته مطلقا ، فيكلمه في الأشياء كما كلم موسى عليه‌السلام من جانب الطور الأيمن في البقعة المباركة ، (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) فوقع الحد بالجهة ، وتعين البقعة ، فكان الحجاب صورة النار التي وقع فيها التجلي ، (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) من جنسك وغير جنسك ، فمن ـ الوجه الأول ـ يكلمه بواسطة بشر ، وهو قوله (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فأضاف الكلام إلى الله ، وما سمعته الصحابة ولا هذا الأعرابي إلا من لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو إذا أوحى الله إلى الرسول البشري من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط ، وألقاه الرسول علينا ، فهو كلام الحق لنا من وراء حجاب تلك الصورة المسماة رسولا إن كان مرسلا إلينا أو نبيا ، فإن الحق لا يكلم عباده ولا يخاطبهم إلا من وراء حجاب صورة يتجلى لهم فيها ، تكون تلك الصورة حجابا عنه ودليلا عليه ، ألا ترى كلام الله موسى عليه‌السلام وقد تجلى له في صورة حاجته وهي النار ، ومن ـ الوجه الثاني ـ (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) يعني لذلك البشر ، فهو ترجمان الحق في قلب العبد ، فيكلمه بوساطة رسول من ملك ، كقوله (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) يعني القرآن الذي هو كلام الله ، على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون قوله تعالى على كلا الوجهين (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) ينوب عنه في الكلام ، وهو الترجمان ، فهو ما ينزل به الملك ، أو ما يجيء به الرسول البشري إلينا إذا نقلا كلام الله خاصة مثل التالي (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) الله تعالى ما أمره أن يوحي به إليه (إِنَّهُ عَلِيٌّ) أي عليم بما تقتضيه المراتب التي ذكرها وأنزلها منزلتها (حَكِيمٌ) يريد بإنزال ما علمه منزلته ـ تحقيق ـ البشرية حجاب لا يرتفع أبدا ، ـ انظر في بشريتك تجدها عين سترك الذي كلمك من ورائه ، فقد يكلمك منك فأنت حجاب نفسك عنك وستره عليك ، ومن المحال

٩٤

أن تزول عن كونك بشرا ، فإنك بشر لذاتك ولو غبت عنك أو فنيت بحال يطرأ عليك ، فبشريتك قائمة العين ، فالستر مسدل ، ولذلك أخطأ من قال : ما دام في بشريته فالكلام له من وراء حجاب ، ولكن إذا خرج عن بشريته ارتفع الحجاب ؛ والخطأ هنا في قوله : ارتفع الحجاب ؛ ولم يقيد ، وإنما يقال : ارتفع حجاب بشريته ، ولا شك أن خلف حجاب بشريته حجبا أخر ، فقد يرتفع حجاب البشرية ويقع الكلام من الله لهذا العبد خلف حجاب آخر ، أعلاها من الحجب ، وأقربها إلى الله ، وأبعدها من المخلوق ، المظاهر الإلهية التي يقع فيها التجلي إذا كانت محدودة معتادة المشاهدة ، كظهور الملك في صورة رجل ، فيكلمه على الاعتدال للعادة والحد ، وقد تجلى له وقد سد الأفق ، فغشي عليه لعدم المعتاد ، وإن وجد الحد ، فكيف بمن لم ير حدا ولا اعتاد؟ فقد تكون المظاهر غير محدودة ولا معتادة ، وقد تكون محدودة لا معتادة ، وقد تكون محدودة معتادة ، ومن هذا نعلم أن الله ما جمع لأحد بين مشاهدته وبين كلامه في حال مشاهدته ، فإنه لا سبيل إلى ذلك إلا أن يكون التجلي الإلهي في صورة مثالية ، فحينئذ يجمع بين المشاهدة والكلام ، ولذلك قال تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) وما زال البشر عن حكم بشريته كمسئلة موسى ، والحجاب عين الصورة التي يناديه منها ، وما يزال البشر عن بشريته وإن فني عن شهودها ، فعين وجودها لا يزول والحد يصحبها ـ مسألة الفرق بين الكلام والقول ـ الكلام ، ما أثر ولا يدخله انقسام ، فإذا دخله الانقسام فهو القول ، وفيه المنة الإلهية والطول ، القرآن كله قال الله ، وما فيه تكلم الله ، وإن كان قد ورد فيه ذكر الكلام ، ولكن تشريفا لموسى عليه‌السلام ، ولو جاء بالكلام ما كفر به أحد ، لأنه من الكلم ، فيؤثر فيمن أنكره وجحد ، ألا ترى إلى قوله (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) كيف سلك به نهجا قويما؟ فأثر فيه كلامه ، وظهرت عليه أحكامه ، فإذا أثر القول ، فما هو لذاته بل هو من الامتنان الإلهي والطول ، ففرّق بين القول والكلام ، تكن من أهل الجلال والإكرام ، كما تفرق بين الوحي والإلهام ، وبين ما يأتي في اليقظة والمنام ، ولما أخبر الحق تعالى نبيه بالمراتب كلها التي تطلبها البشرية من كلام الحق قال له : ـ

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ

٩٥

وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (٥٢)

(وَكَذلِكَ) أي ومثل ذلك (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) ـ الوجه الأول ـ يعني الروح الأمين الذي نزل به على قلبك ـ الوجه الثاني ـ يعني قوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) وهو عرو المحل عن كل ما يشغله عن قبول ما أوحي به إليه ، فما هو تحت كسبك ولا تعلق لك خاطر بتحصيله ، وهو نور من حضرة الربوبية لا من غيرها ، وأصله الروح الذي هو من أمر ربي ، أي من الروح الذي لم يوجد عن خلق ، فإن عالم الأمر كل موجود لا يكون عن سبب كون يتقدمه ، (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) يعني هذا المنزل نور هداية ، وهو النور الذي قال الله تعالى فيه (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) وقوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) وهو هذا الروح (فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) فكان بجعل الله ولم يضفه إلى الاكتساب ، فقال تعالى (وَلكِنْ جَعَلْناهُ) يعني الوحي وهو العلم (نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) فشبه الوحي وهو العلم بالنور للمشابهة الجلية بين العلم والنور ، حتى يهدي به إلى صراط مستقيم ، وجاء بمن وهي نكرة في الدلالة ، مختصة عنده ببعض عباده من نبي أو ولي ، وقوله تعالى : (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) يعطي أن الإيمان لا تعطيه إقامة الدليل ، بل هو نور إلهي يلقيه الله في قلب من شاء من عباده ، وقد يكون عقيب الدليل ، وقد لا يكون هناك دليل أصلا ، كما قال تعالى : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) بذلك النور الذي هديتك به ، فإن كان هذا العبد نبيا فهو مشرع ، وإن كان وليا فهو تأييد لشرع النبي ، وحكمه في أمر مشروع مجهول عند بعض المؤمنين به (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) في حق النبي طريق السعادة والعلم ، وفي حق الولي طريق العلم لما جهل من الأمر المشروع فيما يتضمنه من الحكمة.

(صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣)

٩٦

(صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الصراطات تميزت بالإضافة ، فمنها صراط الله ، ومنها صراط العزيز ، ومنها صراط الرب ، ومنها صراط محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنها صراط النعم ، وهو صراط الذين أنعمت عليهم ، فصراط الله هو الصراط العام الذي عليه تمشي جميع الأمور ، فيوصلها إلى الله ، فيدخل فيه كل شرع إلهي وموضوع عقلي ، فهو يوصل إلى الله ، فيعم الشقي والسعيد ، والله على صراط مستقيم ، والطريق لا يراد لنفسه ، وإنما يراد لغايته ، فالشريعة (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الموازين (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) وترجع لأنها على صراطه ، وهو غاية صراطه ، فلابد للسالك عليه من الوصول إليه ، فتعم الرحمة الجميع ، فإن الرحمة سبقت الغضب ، فما دام الحق منعوتا بالغضب فالآلام باقية على أهل جهنم الذين هم أهلها ، فإذا زال الغضب الإلهي وامتلأت به النار ، ارتفعت الآلام ، وحكمت الرحمة ، وهذا الصراط هو الذي يقول فيه أهل الله : إن الطرق إلى الله على عدد أنفاس الخلائق ؛ وكل نفس إنما يخرج من القلب بما هو عليه القلب من الاعتقاد في الله.

(٤٣) سورة الزخرف مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٣)

القرآن كتاب من جملة الكتب إلا أن له الجمعية دون سائر الكتب ، وهو صفة الحق ، وهو أم الكتاب الذي خرجت عنه الكتب المنزلة ، واختلفت الألسنة به لقبوله إياها بحقيقته ، فقيل فيه إنه عربي وإنه عبراني وإنه سرياني بحسب اللسان الذي أنزل به ، وهذا هو عين الجعل في القرآن وعين نسبة الحدوث إليه ، والجعل يكون بمعنى الخلق وبغيره ، فما ينسب إلى القرآن من قوله محدث فهو من حكم الجعل الذي بمعنى الخلق (١) ، قال تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ

__________________

(١) الخلق هنا بمعنى التقدير لا الإيجاد ، فإن جعل تأتى في القرآن بمعنى خلق وبمعنى صيّر ، والجعل الذي هو على معنى الخلق وهو الإيجاد ، جعله الله من القول المفصّل الذي يستغني به السامع ، وأمّا جعل الذي هو بمعنى التصيير فإن ـ

٩٧

مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) فهو محدث الإتيان ، وما هو الإتيان عين الإنزال ، كما أنه ليس بعين الجعل.

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤١)

جعل الله في الوجود كتابين : كتابا سماه أمّا ، فيه ما كان قبل إيجاده وما يكون ، كتبه بحكم الاسم المقيت ، فهو كتاب ذو قدر معلوم فيه بعض أعيان الممكنات وما يتكون عنها ، وكتابا آخر ليس فيه سوى ما يتكون عن المكلفين خاصة ، فلا تزال الكتابة فيه ما دام التكليف ، وبه تقوم الحجة لله على المكلفين ، وبه يطالبهم لا بالأم ، وهو كتاب الإحصاء ، فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وكل صغير وكبير مستطر ، وهو منصوص عليه في الأم التي هي الزبر ، ومعناه الكتابة ، وإن كانت أصناف الكتب كثيرة فإنها ترجع إلى هذين الكتابين ، فمن الكتاب الثاني يسمى الحق خبيرا ، ومن الأم يسمى عليما ، فهو العليم بالأول الخبير بالثاني ، وكلا الكتابين محصور لأنه موجود ، وعلم الله في الأشياء لا يحصره كتاب مرقوم ولا يسعه رق منشور ولا لوح محفوظ ولا يسطره قلم أعلى.

(أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (٧) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ

__________________

ـ الله عزوجل أنزله من القول الموصّل ، الذي لا يدري المخاطب به ما أراد المخاطب ، حتى يصل الكلمة بكلمة بعدها ، فيعلم ما أراد بها. (راجع كتاب الحيدة للإمام عبد العزيز الكناني).

٩٨

لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) (١٢)

إشارة ـ اعلم أنه لما كان الاستواء صفة الحق على العرش ، وخلق الإنسان الكامل على صورته ، جعل له مركبا سماه فلكا ، كما كان العرش فلكا ، فالفلك مستوى الإنسان الكامل ، وجعل لمن هو دون الإنسان الكامل مركبا غير الفلك ، من الأنعام والخيل والبغال والحمير ، ليستوي الإنسان على ظهور هذه المراكب ، وشاركهم في ركوبها الإنسان الكامل ، فالكامل من الناس يستوي على كل مركوب ، وغير الكامل لا يستوي على الفلك إلا بحكم التبعية لا لعينه.

(لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (١٣)

اعلم أن البهائم وإن كانت مسخرة مذللة من الله للإنسان ، فلا تغفل عن كونك مسخرا لها بما تقوم به من النظر في مصالحها ، في سقيها وعلفها وما يصلح لها ، من تنظيف أماكنها ومباشرة القاذورات والأزبال من أجلها ووقايتها من الحر والبرد والمؤذيات لها ، فهذا وأمثاله من كون الحق سخرك لها ، وجعل في نفسك الحاجة إليها ، فإنها تحمل أثقالك إلى بلد لم تكن تبلغه إلا بشق الأنفس ، فلا فضل لك عليها بالتسخير ، فإن الله أحوجك إليها أكثر مما أحوجها إليك ، فما جعل لها إليك حاجة ، وجعل فيك الحاجة إليها ، وجميع البهائم تفر منك ممن لها آلة الفرار ، وما هذا إلا لاستغنائها عنك وما جبلت عليه من العلم بأنك ضار لها ، ثم طلبك لها وبذل مجهودك في تحصيل شيء منها دليل على افتقارك إليها ، فبالله من تكون البهائم أغنى منه ، كيف يحصل في نفسه أنه أفضل منها؟ هل سمعت في النبوة الأولى والثانية قط أن حيوانا أو شيئا من غير الحيوان عصى أمر الله أو لم يقبل وحي الله.

(وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (١٤) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذَا بُشِّر

٩٩

أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (١٧)

فإنهم كانوا يكرهون البنات ، وجعلوا بين الله وبين الملائكة نسبا ، فقالوا : إن الملائكة بنات الله ؛ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم.

(أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) (١٩)

لما كانت اللفظة التي تطلق على الأجسام النورانية والأرواح لفظة تقتضي التأنيث ، وهو الملائكة والجنة ، لهذا جعلهم من جعلهم بناتا وإناثا.

(وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) (٢٣)

اعلم أن التقليد هو الأصل الذي يرجع إليه كل علم نظري أو ضروري أو كشفي ، فإذا كان التقليد هو الحاكم ولابد ، ولا مندوحة عنه ، فتقليد الرب أولى فيما شرع من العلم به ، فلا تعدل عنه ، فإنه أخبرك عن نفسه في العلم به ، فتقليد الحق أولى من تقليد من هو مخلوق مثلك ، فكما استفدت منه سبحانه الوجود فاستفد منه العلم ، فقف عند خبره عن نفسه بما أخبر ، ولا تبال بالتناقض في الأخبار ، فإن لكل خبر مرتبة ينزل ذلك الخبر فيها.

١٠٠