رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

من التبديل والتغيير ، فإما يدل على توحيد ، وإما صفة توحيد ، وإما صفة فعل ، وإمّا ما يعطي الاشتراك ، وإما تشبيه ، وإما حكم ، وإما قصص ، وإما موعظة بترغيب أو ترهيب ، أو دلالة على مدلول عليه ، فهو محصور بين محكم ومتشابه ، وسمى اللوح بالمحفوظ لما حفظ الله عليه ما كتب فيه ، فلم ينله محو بعد ذلك ولا تبديل ، فكل شيء فيه ، وهو أي اللوح المحفوظ المسمى في القرآن بكل شيء ، تسمية إلهية ، ومنه كتب الله كتبه وصحفه المنزلة على رسله وأنبيائه ، مثل قوله تعالى (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من اللوح المحفوظ ، فهو موضع تنزيل الكتب ، وهو أول كتاب سطر فيه الكون ، أمر الله تعالى القلم أن يجري على هذا اللوح بما قدره وقضاه ، مما كان من إيجاده ، ما فوق اللوح إلى أول موجود ، وإيجاد الأرواح المهيمة في جلال الله تعالى وجماله ، ومما يكون إلى أن يقال (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) ويذبح الموت ، ويقوم منادي الحق على قدم الصدق ، فيقول [يا أهل الجنة خلود فلا خروج من النعيم الدائم الجديد ، ويا أهل النار خلود فلا خروج من العذاب المقيم الجديد] إلى هنا حد الرقم بما بينهما ، وما بعد هذا فله حكم آخر ، فهذا اللوح محل الإلقاء العقلي ، هو للعقل بمنزلة حواء لآدم ، وليس فوق القلم موجود محدث يأخذ منه يعبر عنه بالدواة وهي النون ، وإنما نونه التي هي الدواة عبارة عما يحمله في ذاته من العلوم بطريق الإجمال من غير تفصيل ، فلا يظهر لها تفصيل إلا في اللوح الذي هو اللوح المحفوظ ، فالقلم محل التجميل واللوح محل التفصيل ، وهذا الملك الكريم الذي هو اللوح المحفوظ هو أيضا قلم لما دونه ، وهكذا كل فاعل ومنفعل لوح وقلم ، وجعل الله أمر التركيب وعالم الأجسام والإنشاءات كلها بيد هذا الملك الكريم ، كما جعل القلم الأعلى واهب الأرواح فيها ، ويسمى اللوح المحفوظ النفس الناطقة الكلية الثابتة عند أهل الإشارات ، لأن النفس الناطقة وجدت من نفس الرحمن ، فنفّس الله بها عن العقل إذ جعلها محلا لقبول ما يلقي إليها ، ولوحا لما يسطره فيها ، وهو محفوظ عن المحو والتبديل والتحريف ، لأن كتابته نقش فلا تقبل المحو ، ومما كتب فيه وأثبت علم التبديل ، أي علم ما يبدل ويحرّف في عالم التغيير والإحالة ، والذي كتبه القلم الأعلى لا يتبدل ، فلا يمحى ما كتب في هذا اللوح ، فالقلم الأعلى يثبت في اللوح المحفوظ كل شيء يجري من أقلام المحو والإثبات ، ففي اللوح المحفوظ إثبات المحو في الألواح ، وإثبات الإثبات ، ومحو الإثبات عند وقوع الحكم وإنشاء أمر آخر ، فهو لوح

٤٨١

مقدس عن المحو ، فهو الذي يمده القلم الأعلى باختلاف الأمور ، وعواقبها مفصلة مسطرة بتقدير العزيز العليم.

(٨٦) سورة الطارق مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (٤) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) (٥)

المخاطب هنا هم البنون.

(خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ) (٦)

وهو الماء المهين ، فلماذا يعتز ويعلو ويتكبر؟ فلينظر مم خلق ، فإذا نظر الإنسان في هذا الأصل زكت نفسه وتطهرت من الدعوى.

(يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (٩)

فإن الشرع ينظر إلى ظاهر الإنسان ويراعيه في الدار الدنيا ـ دار التكليف ـ أكثر من باطنه ، وفي الآخرة بالعكس ، هنالك تبلى السرائر ، هل عملوا لخطاب الحق أو عملوا لغير ذلك.

(فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) (١٠) ثم أقسم تعالى بالجمع فقال :

٤٨٢

(وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) (١٤)

فليس جهول بالأمور كمن درى ، فألق سمعك واحضر بكلك ، عسى أن تكون من أهل التحصيل فتكون من المفلحين.

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا) (١٥)

الكيد من كاد يكيد ، أي كاد يقارب الحق ، فقال تعالى (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) أي يقاربون الحق فيما يظهر لكم ، وكاد من أفعال المقاربة ، تقول العرب : كاد العروس يكون أميرا ؛ أي قارب أن يكون أميرا ، وكاد أن يكون حقا لظهوره بصفة حق ، فقال تعالى :

(وَأَكِيدُ كَيْدًا (١٦) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) (١٧)

(٨٧) سورة الاعلى مكيّة

بسم الله الحمن الرحيم

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١)

لأن صفة العلو لله تعالى فإنه رفيع الدرجات لذاته ، فإنه تعالى قال (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ) فقال تنزيها للاشتراك بالمعية (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) عن هذا الاشتراك المعنوي. ـ الوجه الأول ـ ولما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال [اجعلوها في سجودكم] فاقترن بأمر الله بقوله (سَبِّحِ) أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا بمكانها ، يقول : نزهوا الله في علوه عن السجود ، فعمنا القرآن في أحوالنا في الصلاة ، من قيام وركوع وسجود ،

٤٨٣

فإنه لا يصح لنا أن نناجي الله في الصلاة بغير كلامه ، لأنه لا يليق ، وكذا ورد في الخبر أن الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح ؛ ثم يقول الساجد بعد التسبيح [اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت ، سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره ، تبارك الله أحسن الخالقين ، اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي سمعي نورا ، وفي بصري نورا ، وعن يميني نورا ، وعن شمالي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا ، وفوقي نورا وتحتي نورا ، واجعل لي نورا ، واجعلني نورا] ـ الوجه الثاني ـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) التسبيح ثناء عن التقييد ، فله سبحانه الإطلاق فلا تقيده صفة دون صفة.

إن الثناء على الأسماء أجمعها

بها وليس سواها يعرفون ولا

أليس هذا صحيحا قد أتاك به

في محكم الذكر قرآنا عليك تلا

في أخذه الذر ثم الحق أشهدنا

ألست ربكمو كان الجواب بلى

ولم يخص بهذا الحكم امرأة

عند الشهود ولا أيضا به رجلا

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (٢)

ـ الوجه الأول ـ ما من صورة محسوسة أو خيالية أو معنوية إلا ولها تسوية من جانب الحق كما يليق بها وبمقامها وحالها ، وذلك قبل التركيب أعني اجتماعها بالمحمول وهو الروح المنفوخ فيها ، فإذا سواها الرب بما شاء من قول أو يد أو يدين أو أيد ـ وما ثمّ سوى هذه الأربعة ـ وتهيأ بالاستعداد للتركيب ، توجه عليه نفس الرحمن فنفخ فيه من روحه ـ الوجه الثاني ـ (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) قد يعني به خلق الإنسان ، لأن التسوية والتعديل لا يكونان معا إلا للإنسان ، لأنه سواه على صورة العالم وعدله عليه ، ولم يكن ذلك لغيره من المخلوقين من العناصر.

(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى (٥) سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى (٦) إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (٧) وَنُيَسِّرُكَ

٤٨٤

لِلْيُسْرَى (٨) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) (١١)

الأشقى أشقى ما دام يصلي النار الكبرى ، كما قال تعالى :

(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (١٢) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) (١٣)

فجاء بثم بعد حكم كونه يصلى النار ، فبين كونه يصلى وبين كونه لا يموت ولا يحيى ، قدر ما تعطيه حقيقة ثم في اللسان التي للعطف ، فينتقل الحكم عليه بذبح الموت ، فأهل النار بعد انقضاء فترة العذاب لا يموتون فيها ولا يحيون ، كما يقال في النائم ما هو بميت ولا حي ، فراحة أهل النار بذبح الموت راحة النائم ، فلا يموت ولا يحيى ، أي لا تزول هذه الراحة له مستصحبة ، فنعيمهم نعيم النائم في النار ، فلا يستيقظ أبدا من نومته ، فتلك الرحمة التي يرحم الله بها أهل النار الذين هم أهلها وأمثالها ، كالمحرور يتنعم بالزمهرير ، والمقرور منهم يجعل في الحرور ، فهم في نعيم النار دائمون مؤبدون ، كنعيم النائم بالرؤيا التي يراها في حال نومه من السرور ، وربما يكون في فراشه مريضا ذا بؤس وفقر ، ويرى نفسه في المنام ذا سلطان ونعمة وملك ، فإن نظرت إلى النائم من حيث ما يراه في منامه ويلتذ به قلت : إنه في نعيم وصدقت ، وإن نظرت إليه من حيث ما تراه في فراشه الخشن ومرضه وبؤسه وفقره وكلومه ، قلت : إنه في عذاب ، وذلك كلّه بعد قوله (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) ذلك زمان عذابهم وأخذهم بجرائمهم قبل أن تلحقهم الرحمة.

(قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (١٥)

أثنى الله تعالى على الذاكر ، وهو الذي كان له علم بأمر ما ثم نسيه ، لما جبل عليه الإنسان من النسيان ، ولما توهم بعض الناس بما أضاف الله إليهم من الأعمال والأموال والتمليك أن لهم حظا في الربوبية ، وأنها من نعوته وله قدم فيها ، اعتنى الله بمن اعتنى به فقال (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أي تأخر إلى مقام عبوديته ، وأفرد الربوبية لله تعالى ، فأفلح من جميع

٤٨٥

وجوهه ، وليست هذه الصفة مشاهدة لغير الذاكر ، فالذاكر عبد مخلص لله تعالى ، فإن العبد قد حيل بينه وبين شهود ذلك بما جعل الله فيه من النسيان والسهو والغفلة ، فيتخيل أن له قدما في السيادة ، ألا ترى ما قال في الذي اتصف بنقيض هذه الحال ، لما جاءه ذكر ربه وهو القرآن يذكره بنفسه وبربه (فَلا صَدَّقَ) من أتى به أنه من عند ربه (وَلا صَلَّى) ولا تأخر عن دعواه وتكبره وقد سمع قول الله الحق ـ نصيحة ـ إذا كان عزيزا أن ينزه العبد نفسه أن يكون ربا أو سيدا من وجه ما ، أو من كل وجه ، فإن الإنسان يغفل ويسهو وينسى ويقول : أنا ؛ ويرى لنفسه مرتبة سيادة في وقت غفلته على غيره من العباد ، فإذ ولابد من هذا فليجتهد أن يكون عند الموت عبدا محضا ليس فيه شيء من السيادة على أحد من المخلوقين ، ويرى نفسه فقيرة إلى كل شيء من العالم ، من حيث أنه عين الحق من خلف حجاب الاسم.

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (١٧)

فتتعلق بها الهمة ، فإن الماضي والحال قد حصلا ، والمستقبل آت فلابد منه ، فتعلق الهمة به أولى ، فإنه إذا ورد عن همة متعلّقة به كان لها لا عليها ، لحسن الظن بالآتي ، وهذه فائدة من حافظ عليها حاز كل نعيم.

(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (١٩)

(٨٨) سورة الغاشية مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (٢) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (٣) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (٤) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (٦)

٤٨٦

لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (١٠) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (١١) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (١٢) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٧)

اعلم أن حرمة الله ذاتية فهو يقتضي التعظيم لذاته ، بخلاف الأسباب المعظمة ، فإن الناظر في الدليل ما هو الدليل له مطلوب لذاته ، فينتقل عنه ويفارقه إلى مدلوله ، فلهذا العالم دليل على الله ، لأنا نعبر منه إليه تعالى ، لذلك قال تعالى (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى) كذا يعدد المخلوقات لتتخذ أدلة عليه لا ليوقف معها ، والنظر إلى الكيفيات المراد به بالضرورة المكيفات لا التكييف ، فإن التكييف راجع إلى حالة معقولة ، لها نسبة إلى المكيّف وهو الله تعالى ، وما أحد شاهد تعلق القدرة الإلهية بالأشياء عند إيجادها ، فالكيفيات المذكورة التي أمرنا بالنظر إليها لا فيها إنما ذلك لنتخذها عبرة ودلالة على أن لها من كيّفها ، أي صيرها ذات كيفيات ، وهي الهيئات التي تكون عليها المخلوقات المكيفات ، فقال (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) يعني السحاب الكائن من الأبخرة هنا الصاعدة للحرارة التي فيها (كَيْفَ خُلِقَتْ).

(وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩)

وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢٠)

وغيرها لا يصح أن تنظر حتى تكون موجودة فننظر إليها وكيف اختلفت هيئاتها ، ولو أراد بالكيفية حالة الإيجاد لم يقل : انظر إليها ، فإنها ليست بموجودة ، فعلمنا أن الكيف المطلوب منا في رؤية الأشياء ما هو ما يتوهم من لا علم له بذلك ، ألا تراه سبحانه لما أراد النظر الذي هو الفكر قرنه بحرف (في) ولم يصحبه لفظ كيف.

٤٨٧

(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ) (٢١)

أي إنما أنت مبلغ عن الله لا غير ، كما قال له (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وقوله (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) وقوله (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) والمذكر لا يكون إلا لمن كان على حالة منسية ، ولو لم يكن كذلك لكان معلما لا مذكرا ، فدل أنه لا يذكرهم إلا بحال إقرارهم بربوبيته تعالى عليهم حين قبض الذرية من ظهر آدم في الميثاق الأول.

(لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) (٢٢)

عليك أيها المذكر بأن تبلغ ما تحقق في علمك ، ما عليك أن تهديهم ، فلماذا تقتل نفسك إذا لم تر القبول فيما تقول من السامعين؟ أمالك في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسوة (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

(إلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (٢٤)

إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) (٢٦)

(٨٩) سورة الفجر مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْفَجْرِ) (١)

بطلوع الفجر يكون رجوع الحق إلى عرشه من السماء الدنيا التي نزل إليها ، وفيه ـ إشارة ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خيّر عند الموت ما قال ، ولا سمع منه إلا الرفيق

٤٨٨

الأعلى ، فإنه تعالى كان مرافقه في الدنيا ، وعلم منه أنه يريد بطلوع الفجر الرجوع إلى عرشه من السماء الدنيا التي نزل إليها في ليل نشأته الطبيعية ، فلم يرد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفارقة رفيقه ، فانتقل لانتقاله ورحل لرحلته ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [الرفيق].

(وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (٢)

عشر الحج أيام ترك زينة ، ولهذا شرع للمحرم ترك الزينة ، وشرع لمن أراد أن يضحي إذا أهل هلال ذي الحجة أن لا يقص ظفرا ولا يأخذ من شعره.

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (٣)

لابد من رب وعبد ، فقد ثبت الجمع وتعين الشفع ، فالشفعية حقيقة العبد ، إذ العبادة تناقض التوحيد ، فإنها تطلب عابدا ومعبودا ، والعابد لا يكون المعبود ، فإن الشيء لا يذل لنفسه ، والوترية لا تنبغي إلا لله من حيث ذاته ، وتوحيد مرتبته أي مرتبة الإله لا تنبغي إلا لله من غير مشاركة ، فأبرز العالم في الشفعية لينفرد سبحانه بالوترية ، فيصح الاسم الواحد الفرد ، ويتميز السيد من العبد ، والعبودية عبوديتان : عبودية اضطرار ويظهر ذلك في أداء الفرائض ، وعبودية اختيار ويظهر ذلك في النوافل ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إن الله وتر يحب الوتر] وأوتر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواحدة وبثلاث وبالخمس وبالسبع وبالتسع وبإحدى عشرة ، وكل فرد وتر بالغا ما بلغ ، وكل مشفع وترا أحد ، وكل موتر شفعا وتر وفرد وأحد ، ويسمى وترا لأنه طالب ثأر من الأحد الذي شفع فرديته ، فإن الحكم للأحد في شفع الفرد ، ليس للفرد ولا للوتر ، فلما انفرد به الأحد طلب الفرد ثأره من الأحد بالوتر ، فإن الوتر في اللسان العربي بلحنهم هو الذّحل ، وهو طلب الثأر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذي تفوته صلاة العصر في الجماعة [كأنما وتر أهله وماله] كأن صلاة الجماعة في العصر طلبت ثأرها من المصلي فذا مع تمكنه من الجماعة ، وإذا أوتر بواحدة سميت البتيرا ، لأن من شأن الوتر على حكم الأصل أن يتقدمه الشفع ، فإذا أوتر بواحدة لم يتقدمها شفع فكانت البتيرا على التصغير ، والأبتر هو الذي لا عقب له ، وهذه البتيرا ما هي بتيرا لكونها لا عقب لها ، وإنما هي بتيرا لكونها ليست بمنتجة ولا نتجت ، فإذا تقدمها الشفع لم تكن

٤٨٩

بتيرا لأنها ما ظهرت إلا عن شفع ، ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يسلم من شفعه إلا في وتر ذلك الشفع ، فيصله بالشفع ليعلم أنه منه ، هذا كله ليتميز من الأحد فإن الأحد لا يدخله اشتراك ولا يكون نتيجة عن شفع أصلا ، وإن كان عن شفع فليس بواحد ، وإنما هو ثلاثة أو خمسة فما فوق ذلك ، وتقول في سادس الخمسة أنه واحد لأنه ليس بسادس ستة ، فقد تميز عن الشفع بما هو منفصل ، وليس إلا الأحد ، بخلاف الفرد والوتر ، فإنه لما كانت الثلاثة أول الأفراد من العدد إلى مالا يتناهى ، والشفعية المعبر عنها بالاثنين أول لأزواج إلى ما لا يتناهى في العدد ، فما من شفع إلا ويوتره واحد ، يكون بذلك فردية ذلك الشفع ، وما من فرد إلا ويشفعه واحد ، يكون به شفعية ذلك الفرد ، فالأمر الذي يشفع الفرد ويفرد الشفع هو الغني الذي له الحكم ولا يحكم عليه ، ولا يفتقر ويفتقر إليه ، فأحدية الحق اتصفت بالوتر لطلب الثأر من الأحدية للواحد الذي أظهر الاثنين بوجوده ، فما زاد إلى مالا يتناهى ، فلما أزال بهذا الظهور حكم الأحدية ، فصارت أحدية الحق تطلب ثأر الأحدية المزالة التي أذهب عينها هذا الواحد ، الذي بوجوده ظهرت الكثرة ، وتطلب الوحدانية ، فتسمى بالوتر لهذا الطلب ، ولكن لما كانت الأحدية لم تذهب ، بل الذي أعطاه الواحد هو ما يقتضيه حقيقة ذاته ، وهي أحدية الاثنين وأحدية الثلاثة والأربعة ، بالغا ما بلغ العدد ، وذلك لتستدل أعيان الأعداد بأحديتها تلك على أحدية الحق ، فما سعى الواحد إلا في حق الأحدية ومن أجلها ، فإن الأعداد ما ظهرت في الكون إلا من حكم الأسماء الإلهية ، فإنها كثرة ، ومع كثرتها فالأحدية لها متحققة ، فأراد الواحد أن لا يجهل أعيان الأعداد أحدية الأسماء ، حتى لا تتوهم الكثرة في جناب الله ، فأعطى في كل عدد أحدية ذلك العدد ، غيرة من وجود الكثرة المذهبة لعين الأحدية والوحدة ، فقبل الاسم الوتر عذر الاسم الواحد ، وعلم أنه متخلق في ذلك بأخلاق أحدية الحق في إقامة أحدية الأسماء الكثيرة ، ومشى عليه اسم الوتر للغيرة ، فإن الله يحب الوتر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إن لله تسعة وتسعين اسما ، مئة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة ، فإنّ الله وتر يحبّ الوتر] فأوتر التسعة والتسعين واستثنى الواحد من المائة ، ولم يقل : مائة إلا وترا أو فردا ، لأن الاشتراك في الفردية والوترية ، وليس في الأحدية اشتراك ، فقوة الأحد ليست لسواه ، وأحدية الكثرة أبدا إنما هي فرد أو وتر ، لا يصح أن تكون واحدا ، وسواء كانت الكثرة

٤٩٠

شفعا أو وترا ، وإنما أحب الله الوتر لأنه طلب الثأر ، والحقّ سبحانه قد نوزع في أحديته بالألوهية ، فلمّا نوزع في ألوهيته جاء بالوتر ، أي بطالب الثأر ، ليفني المنازع ويفرد الحق بالأحدية ، أحدية الذات ، لا أحدية الكثرة التي هي أحدية الأسماء ، فإن أحدية الأسماء شفع الواحد ، لأن الله كان من حيث ذاته ولا شيء معه ، فما شفع أحديته إلا أحدية الخلق ، فظهر الشفع ـ لطيفة ـ غارت الأحدية إذ سمعت الوترية تصحب العبادة وذلك بصلاة المغرب ، فشرعت وتر صلاة الليل لتشفع وتر صلاة النهار ، فتأخذ بوتر الليل ثأرها من وتر صلاة النهار.

(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) (٤)

إشارة : لما كان للوتر حظ كثير في المبدأ (١) لكن ليس هو كالواحد ، فإن الواحد هو أصله ، لهذا قرن معه الشفع دون غيره فقال عز من قال (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) فأقسم بهما ، ولم يكن له ذلك السريان ، فجاءت الفهوانية بالوحدانية من جهة غيبها لا من جهة عينها ، من أجل الوتر أن يقوم بالشفعية ، فتعارض الوحدانية في السريان ، وليس له ذلك فقال (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) فهو تنبيه على سير الواحد في المراتب لإظهار الأعداد ، وكنى عنه بالليل لطموس عين الوحدانية في الأعداد من جهة الظاهر ، إلا من كل مبدأ ، فإنها تظهر بذاتها ، فإنك لا تقول بعد الواحد واحد أبدا ، وإنما تقول اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ، كذلك إلى عشرة ، وأشبهت بسائط العدد التي هي اثنى عشر ، لفظة الواحد من كونها تظهر في المراتب ، ظهور الواحد فيها ، فهي نائبة عنه من حيث الاسم لا من حيث المعنى ، وهي واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة ، عشرة ، مائة ، ألف ، وما ثم أكثر ، فإن الحكم إنما هو للإثني عشر الذي قد ربط الله الوجود بها ، فالواحد سار في جميع الأشياء كما ذكرنا ، فصار لا يظهر في الأعداد إلا هذه الاثنا عشر ، فنقول واحد وعشرون ، اثنان وثلاثون ، ثلاثة وأربعون ، أربعة آلاف ، خمسة عشر ألفا ، مائة ألف.

__________________

(١) الإيجاد عن الفردية.

٤٩١

(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (١٤)

يعني على الجسور المضروبة على الصراط على جهنم ، وهي أدق من الشعر وأحد من السيف ، وهناك ملائكة يرصدون الخلق عليها ، ليسأل الحق العبد ـ راجع البقرة آية ـ ٢١٠ ـ.

(فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) (١٥)

وهو الحيوان الذي في صورة الإنسان ، فإنه تعالى أردف قائلا :

(وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (١٦) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (١٧)

من يمسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة ، وليس ذلك لغير اليتيم لعدم الناصر الظاهر.

(وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (١٨)

المسكين قد بالغ الله فيه بالضعف ، فهو صاحب ضعفين : ضعف الأصل وضعف الفقر ، وهو من سكن تحت مجاري الأقدار ، ونظر إلى ما يأتي به حكم الله في الليل والنهار ، واطمأن بما أجرى الله به وعليه ، وعلم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه ، وأنه الفعال لما يريد ،

٤٩٢

وتحقق بأن قسمه من الله ما هو عليه في الحال ، فجبر الله كسره بقوله [أنا عند المنكسرة قلوبهم].

(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (٢٠)

إنما سمي المال مالا لأنه يميل بالنفوس إليه ، وإنما مالت النفوس إليه لما جعل الله عنده من قضاء الحاجات به ، وجبل الإنسان على الحاجة لأنه فقير بالذات ، فمال إليه بالطبع الذي لا ينفك عنه.

(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) (٢١)

لتجلي الحق ، إذا كانت كالعهن المنفوش ، فإن الجبال وهي لا تعرف التواضع ظهرت ابتداء بصورة القهر ، حيث سكنت ميد الأرض ، ويتجلى الحق يوم القيامة فتصير الجبال دكا دكا ، فتمد الأرض بمزيد امتداد الجبال وتصيرها أرضا ، فما كان منها في العلو في الجو إذا انبسط زاد في بسط الأرض.

(وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٢٢)

وهو إتيان عام للاسم الرب للفصل والقضاء ، لأن هناك إتيان خاص بالرحمة لمن اعتنى به من عباده ، مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن] وهذا الإتيان يوم القيامة للفصل والقضاء بين الناس ، فمن الناس من يقضى له بما فيه سعادته ، ومن الناس من يقضى له بما فيه شقاوته.

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) (٢٣)

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) وما وصفها الحق بالمجىء من ذاتها ، فقال (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) يعني يوم القيامة ، وإنما امتنعت من الإتيان حتى جيء بها ، لما علمت بما هي عليه وبما فيها من أسباب الانتقام بالعصاة من المؤمنين ، وما وقعت عينها إلا على مسبح لله بحمده ،

٤٩٣

وفيها رحمة الله لكونها دخلت في الأشياء ، قال الله تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فمنعتها الرحمة القائمة بها من الإتيان ، وأشهدتها تسبيح الخلائق وطاعتهم لله ، فجيء بها ليعلم من لا يدخلها ما أنعم الله عليه به بعصمته منها ، ويعلم من يدخلها أنه بالاستحقاق يدخلها ، فتجذبه بالخاصية إليها جذب المغناطيس الحديد ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إنه آخذ بحجز طائفة من النار وهم يقتحمون فيها تقحم الفراش].

(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (٢٤)

فإن الكافر الجاهل يكشف له الغطاء وتتبين له الأمور الواقعة في الدنيا ما أثمرت هنالك ، فيقول (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) لعلمه أنه كان متمكنا من ذلك فلم يفعل ، فعذابه ندمه ، وما غبن فيه نفسه أشد عليه من أسباب العذاب من خارج ، وهذا هو العذاب الأكبر.

(فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) (٢٨)

النفس المطمئنة إذا رجعت راضية فهي النفس العالمة ، لأنها إن لم ترجع راضية من ذاتها رجعت كرها وأجبرت على الرجوع. واعلم أن الرضا والتسليم نزاع خفي لا يشعر به إلا أهل الله ، فإن كان متعلق الرضا المقضي به. فيحتاج إلى ميزان شرعي ، وإن كان متعلق الرضا القضاء ، فإن كان القضاء يطلب القهر ويجد الراضي ذلك من نفسه ، فيعلم أن فيه نزاعا خفيا ، فيبحث عنه حتى يزيله ، وإن لم ير أن ذلك القضاء يطلب القهر ، فيعلم أنه الرضا الخالص الجبلي ، لأن الرضا من راض يروض ، ومنه الرياضة ، ورضت الدابة وهو الإذلال ، ولا يوصف به إلا الجموح ، والجموح نزاع ، إنما يراض المهر الصغير لجموحه وجهله بما خلق له ، فإنه خلق للتسخير والركوب والحمل عليه ، والمهر يأبى ذلك فإنه ما يعلمه ، فيراض حتى ينقاد في أعنة الحكم الإلهي ، وكذلك رياضة النفوس ، لو لا ما فيها من الجموع لما راضها صاحبها ، فإذا خلقت مرتاضة بالأصالة فكان ينبغي أن لا يطلق عليها اسم راضية بل هي مرضية ، وإنما النفوس الإنسانية لما خلقها الله على الصورة الإلهية شمخت

٤٩٤

على جميع العالم ممن ليست له هذه الحقيقة ، وانحجبت عن الحقائق الإلهية التي تستند إليها حقائق العالم حقيقة حقيقة ، فاكتسبت الرياضة لأجل هذا الشموخ ، فذلت تحت سلطانه وحمدت على ذلك ، وكذلك التسليم لم يصح إلا مع التمكن من الجموح ، فالنفس الراضية هي النفس العالمة المرضية عند الله ، فدخلت في عباده فقيل لها.

(فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) (٢٩) فلم تنسب ولا انتمت إلى غيره ، ممن اتخذ إلهه هواه.

(وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠)

ودخلت في جنته أي في كنفه وستره ـ إشارة واعتبار لا تفسير ـ (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) إن الله سبحانه لما أوجد الروح خليفة على مملكة البدن ، وأوجده على الكمال ، أراد أن يعرفه سبحانه مع ذلك أنه فقير ، ولا حول ولا قوة إلا لسيده الرب تعالى ، فلهذا أوجد له منازعا ينازعه فيما قلده ، فلما رأى الروح أنه ينادي والنفس لا تجيبه ، وقد قيل له : هي ملكك ، قال لوزيره : ما السبب المانع لها من إجابتي؟ فقال له العقل : أيها السيد الكريم إن في مقابلتك موجودا قام لها في مقامك ، أميرا قويا مطاعا ، صعب المرتقى عزيز المنال ، يقال له الهوى ، أعطيته معجلة مشهودة ، كثير الرجل والخول ، قوي العدد والعدد ، أرسل وزيره واسمه شهوة إليها ، فبسط لها حضرته وعجّل لها أمنيتها في أدنى زمان ، فأجابت لدعائه وانقادت له ، وحصلت تحت قهره ، واتبعها أجنادك وبادية رعيتك ، فرجع الروح بالشكوى إلى القديم سبحانه ، فثبتت له في نفسه عبوديته بالافتقار والعجز والذلة ، وتحقق التميز وعرف قدره فلما رجع الروح بالشكوى إلى ربه صار سبحانه واسطة بينها وبينه فقال لها : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي سيدك وهو الروح (راضِيَةً مَرْضِيَّةً ...) فلما أتاها النداء برفع الوسائط حنت وأنّت ، واشتاقت فأجابت وأنابت بالعناية الإلهية (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) يعني عباد الاختصاص ، أهل الحضرة (وَادْخُلِي جَنَّتِي) يريد المكاره التي هي نعم الخليفة.

٤٩٥

(٩٠) سورة البلد مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) (٣)

ينسب الولد لوالده فإن له عليه ولادة بوضعه في الرحم ، وينسب إلى الأم لأن لها عليه ولادة بخروجه من بطنها.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) (٤)

ـ إشارة ـ وما خلقه الله في كبد إلا ليشفق عليه كل أحد.

(أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (٦) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ) (٨)

ومن أوجه ذلك أن كان الإنسان ذا بصر وبصيرة ، فما جعل الله للإنسان عينين إلا ليدرك بهما الصفتين ، عين حس وعين عقل ، بصيرة وبصر ، فكل عين لها طريق وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى ، فالعين التي أدركت أن الرمي لله غير العين التي أدركت بها أن الرمي لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الله خلق من كل زوجين اثنين ، خلق لإدراكهما عينين ، عينا يشهد بها خالقه الواجب الوجود ، وعينا يشهد بها إمكانه ، فلا تنظر إلى الحق نظرا يفنيك عن إمكانك فتدعي أنك الحق فتقع في الجهل ، ولا تنظر إلى إمكانك نظرا يفنيك عن الحق فيورثك الصمم فتجهل ما خلقت له ، فكن تارة وتارة ، فإن الإنسان الكامل الخليقة جعل له عينين ، ينظر بالعين الواحدة إلى الحق تعالى من كونه غنيا عن العالمين فلا يراه في شيء ولا في نفسه ، وينظر إليه بالعين الأخرى من اسمه الرحمن بكونه يطلب العالم ويطلبه العالم فيراه ساري الوجود في كل شيء ، فيفتقر بهذه النظرة من هذه العين إلى كل شيء من حيث

٤٩٦

ما هي الأشياء أسماء للحق لا من حيث أعيانها ، فلا أفقر من الإنسان الكامل إلى العالم لأنه يشهده مسخرا له ، فعلم أنه لو لا ما هو عليه من الحاجة إلى ما سخروا فيه من أجله ما سخروا ، فيعرف نفسه أنه أحوج إلى العالم من العالم إليه.

(وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) (٩)

اعلم أن اللسان أملك شيء للإنسان ، سريع الحركة ، حركته أقرب إلى الهلاك منها إلى النجاة ، كثير العثرات ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم] وهو ترجمان إرادة الحق بما شاء أن يجريه في عالم الشهادة ، لا ترجمان الأمر إلا بالموافقة ، فإما صادق وإما دجال ، فاللسان قلم القلب ، تكتب به يمين القدرة ما تملي عليه الإرادة من العلوم في قراطيس ظاهر الكون ، فالكلام من موارده عمل من الأعمال ، يحصيه الملك ، كما قال تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ثم يصعد به في المساء والصباح إلى الواحد جل جلاله ، فما كان خالصا له سبحانه ألقاه في عليين ، وما كان غير خالص بنوع ما من أنواع الكدر ، مثل الزيادات في الحديث ، والكذب والرياء والمراء والجدال في نصرة الباطل ، ألقاه في سجين. واللسان إذا تحقق في مراعاة ما توجه إليه من الشارع ، ووقف عندما حدّ له ، فاشتغل بالواجب عليه فيه ، كشهادة التوحيد ، وقراءة القرآن في بعض المواطن ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإصلاح ذات البين وشهادة التعيين ، وتبيين العالم ، وإرشاد الضال ، ورد السلام وما أشبه ذلك كله ، فهذا كله من الترغيبات في النطق المقرب إليه ، كتلاوة القرآن ودوام التسبيح والتحميد وجميع الأذكار والمواعظ ، كما يجب عليه الكف عن التضريب بين الناس والفرية والجهل من القول والنميمة والغيبة وكل نطق مذموم شرعا ، فإذا تحقق العبد بهذه الأوصاف على ما حدّ له كان مالكا للسانه ، وشهابا ثاقبا لشيطانه.

إن اللسان رسول القلب للبشر

بما قد أودعه الرحمن من درر

فيرتدي الصدق أحيانا على حذر

ويرتدي المين أحيانا على خطر

كلاهما علم في رأسه لهب

لا يعقل الحكم فيه غير معتبر

فانظر إلى صادق طابت موارده

وكاذب رائج غاد على سفر

مع اتحادهما والكيف مجهلة

من سائل كيف حكم الحق في البشر

٤٩٧

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١٠)

أي بيّناهما له ، أي بيّنا له الطريقين ، فبان الصبح لذي عينين ، لما هداه النجدين ، وأقيم المكلف في الوسط ، فمنهم من أقسط ومنهم من قسط ، فالمقسط أخذ ذات اليمين ، فارتفع في عليين ، والقاسط أخذ ذات الشمال فنزل إلى سجين ، فما عدل بكل واحد سوى طريقه ، وطريقه ما خرج عن حكم تحقيقه ، فالطريق ساقه وقاده ، إما إلى شقاء وإما إلى سعادة ، فاعرف الطريق واختر الرفيق ، تنج من عذاب الحريق ، فإنه وإن كان المآل إلى السعادة في الدارين ، فإنه لا يعلم قدر ما قررناه إلا ذو عينين ، لا ذو عين واحدة ، ومن وقف بين النجدين فرأى غاية كل طريق ، فسلك طريق سعادته التي لا يتقدمها شقاء ، فإنها طريق سهلة بيضاء ، مثلى نقية لا شوب فيها ولا عوجا ولا أمتا ، والطريق الأخرى وإن كانت غايتها سعادة ، ولكن في الطريق مفاوز ومهالك وسباع عادية وحيات مضرة ، فلا يصل مخلوق إلى غايتها حتى يقاسي هذه الأهوال ، والطريقان متجاوران ، ينبعثان من أصل واحد ، وينتهيان إلى أصل واحد ، ويفترقان ما بين الأصلين ، ما بين البداية والغاية ، فيشاهد صاحب المحجة البيضاء ما في طريق صاحبه ، لأنه بصير وصاحبه أعمى ، فليس يرى الأعمى طريق البصير ، فيطرأ على البصير من مشاهدة تلك الآفات التي في طريق الأعمى مخاوف ، لما يرى من الأهوال ويتوهم في نفسه لو كان فيها ما يقاسيه ، ويرى الأعمى ليس عنده خبر من هذا كله لما هو عليه من العمى ، فلا يبصر شيئا فيسير ملتذا بسيره ، حتى يتردى في حفرة أو تلدغه حية من تلك الحيات ، فحينئذ يحس بالألم ويستغيث بصاحبه ، فمن الأصحاب من يغيثه ومن الأصحاب من يكون قد سبقه ، فلا يسمعه فيبقى مضطرا ما شاء الله فيرحمه‌الله فيسعده ـ وجه آخر ـ اعلم أن التجلي دائم لا حجاب عليه ، ولكن لا يعرف أنه هو ، وذلك أن الله لما خلق العالم أسمعه كلامه في حال عدمه ، وهو قوله كن ، وكان مشهودا له سبحانه ، ولم يكن الحق مشهودا له ، وكان على أعين الممكنات حجاب العدم ، لم يكن غيره ، فلا تدرك الموجود وهي معدومة ، كالنور ينفر الظلمة ، فإنه لا بقاء للظلمة مع وجود النور ، كذلك العدم والوجود ، فلما أمرها بالتكوين لإمكانها واستعداد قبولها سارعت لترى ما ثمّ ، لأن في قوتها الرؤية كما في قوتها السمع من حيث الثبوت لا من حيث الوجود ، فعندما وجد الممكن انصبغ بالنور ، فزال العدم ، وفتح عينيه فرأى

٤٩٨

الوجود الخير المحض ، فلم يعلم ما هو ، ولا علم أنه الذي أمره بالتكوين ، فأفاده التجلي علما بما رآه ، لا علما بأنه هو الذي أعطاه الوجود ، فلما انصبغ بالنور التفت على اليسار فرأى العدم فتحققه ، فإذا هو منبعث منه ، كالظل المنبعث من الشخص إذا قابله النور ، فقال : ما هذا؟ فقال له النور من الجانب الأيمن : هذا هو أنت ، فلو كنت أنت النور لما ظهر للظل عين ، فأنا النور وأنا مذهبه ، ونورك الذي أنت عليه إنما هو من حيث ما يواجهني من ذاتك ، ذلك لتعلم أنك لست أنا ، فأنا النور بلا ظل ، وأنت النور الممتزج لإمكانك ، فإن نسبت إليّ قبلتك ، وإن نسبت إلى العدم قبلك ، فأنت بين الوجود والعدم ، وأنت بين الخير والشر ، فإن أعرضت عن ظلك فقد أعرضت عن إمكانك ، وهو شهودك ظلك ، وإن أعرضت عن إمكانك جهلتني ولم تعرفني ، فإنه لا دليل لك على أني إلهك وربك وموجدك إلا إمكانك ، وهو شهودك ظلك ، وإن أعرضت عن نورك بالكلية ، ولم تزل مشاهدا ظلك لم تعلم أنه ظل إمكانك ، وتخيلت أنه ظل المحال ، والمحال والواجب متقابلان من جميع الوجوه ، فإن دعوتك لم تجبني ولم تسمعني ، فإنه يصمك ذلك المشهود عن دعائي ، فلا تنظر إليه نظرا يفنيك عن ظلك ، فتدعي أنك أنا فتقع في الجهل ، ولا تنظر إلى ظلك نظرا يفنيك عني فإنه يورثك الصمم فتجهل ما خلقتك له ، فكن تارة وتارة ، وما خلق الله لك عينين إلا لتشهدني بالواحدة ، وتشهد ظلك بالعين الأخرى ، وقد قلت لك في معرض الامتنان (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي بيّنا له الطريقين ، طريق النور والظل (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) فإن العدم المحال ظلمة ، وعدم الممكن ظل لا ظلمة ، ولهذا في الظل راحة الوجود.

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ) (٢٠)

٤٩٩

(٩١) سورة الشّمس مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

في القسم الإلهي أقوال : هل أقسم بنفسه ، أو بمخلوقاته ، أو بهذا وقتا وبهذا وقتا آخر ، فإن كان قسمه بمخلوقاته هل أضمر أم لا؟ وعلى كل حال فلها شرف عظيم بإضافتها إليه ، سواء أظهر الاسم أو لم يظهر ، وإذا كان القسم بالمخلوقات كان سبب القسم بالأشياء طلب التعظيم من الخلق للأشياء حتى لا يهملوا شيئا من الأشياء الدالة على الله ، سواء كان الدليل سعيدا أو شقيا ، وعدما أو وجودا ، أي ذلك كان ، وإن كان القصد الإلهي بالقسم نفسه لا الأشياء ، وأضمر الأسماء الإلهية لتدل الأشياء على ما يريده من الأسماء الإلهية ، فما تخرج عن الدلالة وشرفها ، وعلم من الله ما ينبغي أن يطلق عليه من الأسماء في المعنى فيما أضمر ، وفي اللفظ فيما أطلق ، إذ لو أراد إطلاق ما أضمره عليه لأظهره ، كما أظهره في قوله (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وقال تعالى في القسم بأسمائه المضمرة من حيث المعنى.

(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) (١) لما أنارها وما محاها.

(وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا) (٢) بما ابتلاها ، فإن القمر بالنص ، له الصورة والمقدار بالزيادة والنقص ، (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) (٣) في مجلاها.

(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) (٤) فأسرها وما أفشاها.

(وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا) (٥)

٥٠٠