رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا) (٢٠)

ومن ذلك نعلم أن العجز والجبن والبخل في الخلق ذاتي لازم في جبلته وأصل خلقه ، فإذا تكرم وتشجع فنصرته من المكانة والاكتساب والتخلق بأخلاق الله ، حيث كان في ذاته روحا منه ، قال تعالى :

(وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) (٢١)

فقد جمع في هذه الآيات كل رذيلة في النفس ، وأبان فيها أن الفضائل مكتسبة لها ، ليست في جبلتها ، فالتحفظ واجب.

(إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٢٢)

وهم المتأخرون عن هذه الصفة التي جبلوا عليها ، فإن المصلي هو المتأخر عن السابق في الحلبة ، فهذا معنى قوله (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) في الاعتبار ، وقد يكون تفسيرا للآية ، فإنه سائغ ، ولكن حمله على الإشارة أعصم ، واعلم أن مسمى الشر على الحقيقة ، ومسمى الخير إنما هو راجع إما لوضع إلهي جاءت به ألسن الشرائع ، وإما لملائمة المزاج ، فيكون خيرا في حقه ، أو منافرة مزاج فيكون شرا في حقه ، وإما لكمال مقرر اقتضاه الدليل فيكون خيرا ، أو نقص عن تلك الدرجة فيكون شرا ، وإما لحصول غرض فيكون خيرا في نظره ، أو عدم حصوله فيكون شرا في نظره ، وما فعل الله سبحانه إلا ما قد حصل في الوجود ، من كمال ونقص وملايمة ومنافرة ، وشرائع موضوعة بتحسين وتقبيح ، وأغراض موجودة في نفوس ، تنال وقتا ولا تنال وقتا.

(ألَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) (٢٣)

المراد أنهم كلما جاء وقتها فعلوها ، وإن كان بين الصلاتين أمور ، فلهذا حصل الدوام في فعل خاص مربوط بأوقات معينة ـ تفسير من باب الإشارة ـ من رأى روح الصلاة

٣٨١

هو الحضور مع الله دائما ومناجاته ، كانت جميع أفعاله صلاة ، فإن روح الصلاة لا ينفك دائما ، وهم أهل الحضور مع الله على الدوام ، والمشار إليهم بهذه الآية ، فإذا كان العبد في جميع أفعاله في صلاة فإنه يكون من الذين هم على صلاتهم دائمون ، وهم الذاكرون الله في كل أحيانهم ، فهم يناجونه في جميع الأحوال كلها ، فإن المصلي يناجي ربه ، والمناجاة ذكر ، والله جليس من ذكره سبحانه ، والدوام على مناجاته أن يكون العبد في جميع أحواله وتصرفاته مع الله كما هو في صلاته ، يناجيه في كل نفس ، وسبب ذلك كونه لابد أن يكون في حال من الأحوال ، ولابد أن يكون للشارع وهو الله في ذلك الحال حكم ، أي حكم كان ، وهو سبحانه حاضر مع أحكامه حيث كانت ، فالمراتب تناجيه في كل حال محظور وغير محظور ، لأن الأفعال والتروك ـ وهي أحوال العبد التي تعلقت بها أحكام الحق ـ مقدرة فلابد من وقوعها ، وهو سبحانه خالقها ، فلابد من حضوره فيها ، فيناجيه هذا العبد الذي قد عرف بحضور الحق معه في حاله ، فهذا هو الدوام على الصلاة ، وقالت عائشة تخبر عن حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إنه كان يذكر الله على كل أحيانه] تشير إلى ما قلناه ، فإنه قد كان يأتي البراز ، وهو ممنوع أن يذكر بلسانه ربه في تلك الحال ، وقد كان من أحيانه يمازح العجوز والصغير ، ويكلم الأعراب ، ويكون في هذه الأحوال كلها ذاكرا ، وهذا هو الذي يقال فيه ذكر القلب ، الخارج عن اللفظ وذكر الخيال ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [اعبد الله كأنك تراه] فمن ذكر الله بهذا الذكر فهو جليسه دائما ، وهو الذي أثنى عليه ربه وألحقه بالذين هم على صلاتهم دائمون ، ولما فسر الله الصلاة ما فسرها إلا بالذكر ، وهو التلاوة ، فالعارف هو الذي على صلاته دائم ، وفي مناجاته بين يدي ربه قائم ، في حركاته وسكناته ، فما عنده وقت معين ولا غير معين. ـ وجه آخر ـ ما أثنى الله تعالى على أحد من عباده في كتابه العزيز ، ولا على لسان نبيه في حديثه ، إلا كان الثناء عملا من الأعمال ، ما مدحهم إلا بالأعمال ، وهذا غاية الكرم والجود ، أن يمنحك ويعطيك ويثني عليك بعد ذلك بما ليس لك ، فإنه سبحانه آخذ بناصيتك ، قائدك إلى كل فعل أراده منك أن يوجده فيك وعلى يدك ، وأنت في غفلة لا تشعر ، فمن شعر بتولي الحق سبحانه وتعالى له في أفعاله فهو من الذين قال الله تعالى فيهم (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) لأنهم في مشاهدة الفاعل ومناجاته ، ومن لم يشعر فهو من الذين قال الله تعالى فيهم (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ)

٣٨٢

والله لو فتح الله لك بابا إلى مشاهدة توليه لك فيها ، وأخذه بناصيتك إلى عملك لبهرك المقام ، ولخرست وما أعطاك الحال أن تقول : صليت ولا صمت ولا كنيت عن نفسك بشيء من هذه الأفعال ، فمن عرف سر وضع الصلوات ، لم يزل يستعمله في عموم الحالات على تنوع التصرفات ، فلا يبرح على صلاته دائما ، وبسرها حاكما ، ولا يقنع بالاقتصار على المحافظة على الأوقات ، فإنه لأهل الأشغال والغفلات ، ولا شغل للعارفين إلا بربهم ، ولا مراقبة لهم في شيء إلا في قلبهم ، فإنه الذي وسعه ، وناداه فسمعه ، فهو في كل الأحيان شاهده ، وسره مع الأنفاس عابده ، فقابل الدوام بالدوام ، وزاد على اليقين المفضل عند أصحاب الليالي والأيام ، فجواد همته في ميدان الديمومية سائح ، ونون سره في بحرها المتلاطم سابح ، وإن كانت الصلاة مرتبتين محققتين ، مرتبة عميمة ومرتبة مخصوصة ، وأسرارها عند المحققين الذين هم على بينة من ربهم منصوصة ، والدوام إنما يقع في المرتبة العامة وهي المناجاة ، وأما المرتبة المخصوصة فلا يتمكن فيها الدوام لاختلاف المقامات ، وتنوع التنزلات لتنوع الحالات ، فمن وقف على سر الحضور ، لم يقتصر به على بعض الأمور ، وفيه يصح الدوام عند علماء الإلهام ، فقد تبينت الرتب ، وتحققت النسب ، جعلنا الله وإياكم ممن داوم على صلاته في الحكمين ، ففاز بالعلمين.

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ) (٢٤)

وهي الزكاة ، وإنما اشتدت على الغافلين الجهلاء لكونهم اعتقدوا أن الذي عيّن ملك لهم ، وأن ذلك من أموالهم ، وما علموا أن ذلك المعيّن ما هو لهم ، وأنه في أموالهم لا من أموالهم ، فلا يتعين لهم إلا بالإخراج ، فإذا ميزوه حين ذلك يعرفون أنه لم يكن من مالهم ، وإنما كان في أموالهم مدرجا ، وكانوا يعتقدون أن كل ما بأيديهم هو مالهم وملك لهم ، فلما أخبر الله أن لقوم في أموالهم حقا يؤدونه ، وما له سبب ظاهر تركن النفس إليه ، لا من دين ولا بيع ، إلا ما ذكر الله تعالى من إدخار ذلك له ثوابا إلى الآخرة ، شق ذلك على النفوس للمشاركة في الأموال ، ولما علم الله هذا منهم في جبلة نفوسهم أخرج ذلك القدر من الأموال من أيديهم ، بل أخرج جميع الأموال من أيديهم ، فقال تعالى (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي هذا المال ما لكم منه إلا ما تنفقون منه ، وهو التصرف فيه كصورة الوكلاء ، والمال

٣٨٣

لله ، وما تبخلون به ، فإنكم تبخلون بما لا تملكون ، لكونكم فيه خلفاء ، وعلى ما بأيديكم أمناء ، فنبههم بأنهم مستخلفون فيه ، وذلك ليسهل عليهم الصدقات رحمة بهم ، يقول الله : كما أمرناكم أن تنفقوا مما أنتم مستخلفون فيه من الأموال ، أمرنا رسلنا ونوابنا فيكم أن يأخذوا من هذه الأموال التي لنا بأيديكم مقدارا معلوما سميناه زكاة ، يعود خيرها عليكم ، فما تصرف نوابنا فيما هو لكم ملك ، وإنما تصرفوا فيما أنتم فيه مستخلفون ، كما أيضا أبحنا لكم التصرف فيه ، فلماذا يصعب عليكم ، فالمؤمن لا مال له وله المال كله عاجلا وآجلا ، وفرض الله علينا زكاة أو صدقة في أموالنا ، وجعل الأموال ظرفا للصدقة ، والظرف ما هو عين المظروف ، فمال الصدقة ما هو عين مالك بل مالك ظرف له ، فما طلب الحق منك ما هو لك ، فقال (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ).

(لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ) (٢٧)

أي من عذاب ربهم حذرون ، يقال : أشفقت منه فأنا مشفق إذا حذرته ، حذرون من عذاب ربهم غير آمنين ، يعني وقوعه بهم ، ولا يقال : أشفقت منه إلا في الحذر ، ويقال : أشفقت عليه إشفاقا من الشفقة ، والأصل واحد ، أي حذرت عليه ، لذلك قال تعالى :

(إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) (٢٨)

والمشفقون من أولياء الله تعالى من خاف على نفسه من التبديل والتحويل ، فإن أمنه الله بالبشرى كان إشفاقه على خلق الله ، مثل إشفاق المرسلين على أممهم ، ومن بشّر من المؤمنين ، وهم قوم ذوو أكبد رطبة ، لهم حنان وعطف ، إذا أبصروا مخالفة الأمر الإلهي من أحد ارتعدت فرائصهم إشفاقا عليه أن ينزل به أمر من السماء ، ومن كان بهذه المثابة فالغالب على أمره أنه محفوظ في أفعاله ، فلا يتصور منه مخالفة لما تحقق به من صفة الإشفاق ، لذلك أثنى الله عليهم بأنهم مشفقون ، للتغيير الذي يقوم بنفوسهم عند رؤية الموجب لذلك.

٣٨٤

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٣٤) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (٣٥) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ) (٤٠)

عين الشروق عين الغروب عين الاستواء ، عند العلماء بترحيل الشمس في منازل درج السماء ، فكل حركة جمعت الثلاثة الأحكام عند أرباب العقول والأفهام.

(عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (٤١)

وهذا قسم الله جل ثناؤه بالربوبية ، على قدرته ونفوذها في تبديل الخلق بخلق آخر خير منه ، فأقسم سبحانه على نفسه بالاسم الرب المضاف إلى المشارق والمغارب ، فإن الله سبحانه لما أقسم بذات الموجودات في قوله تعالى (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أقسم أيضا بحالها ، وهو الشروق والغروب ، وهي حالة لا تعرف إلا بوجود الكوكب والسماء والأرض ، فأقسم بالمشرق والمغرب لا بالشروق والغروب ، لأن القسم ينبغي أن يكون بالثابت لا بالزائل ، والمشرق ثابت والشروق زائل ، فأقسم بالذات من كونها مشرقا ومغربا ، فربط الصفة بموصوفها ، وأقسم بالجمع لأنها مشارق ومغارب كثيرة ، وهي شهادته وغيبه ، وظاهره وباطنه ، وفي عالم الجسوم وفي عالم الأرواح ، وفي الدنيا وفي الآخرة ، وفي الجنة وفي النار ، وفي كل حال من أحوال الوجود مطلقا ، فكما أقسم بذوات

٣٨٥

الوجود مطلقا أقسم بها من حيث أحوالها مطلقا ، فلم يترك شيئا بعد هذا ينبغي أن يقسم به ، ثم اعلم أن القدرة الإلهية لا يعسر عليها إيجاد ممكن البتة ، ولكنها إذا لم توجد ممكنا من الممكنات فإن ذلك راجع إلى الإرادة لا إلى القدرة ، ثم لتعلم أن الموجودات قد كملت أجناسها وأركانها ، فكل ما يظهر فإنه منها وفيها ، فلم يبق إلا التبديل ، سواء في الصور والأشكال ، فهو تبديل عرضي ، كما تبدل السماء والأرض ، وكما تبدلت النطفة علقة ، والعلقة مضغة ، وكما تبدلت لنا اللقمة دما وثفلا ، وهكذا بقي التبديل ، فإن كان التبديل من كون إلى كون كتبدل الماء هواء وشبه ذلك فهذا تبديل الأعيان ، وإن كان التبديل من صفة إلى صفة كالأبيض يصير أحمر ، والأحمر يصير أخضر ، والبارد يصير حارا. فهذا هو تغيير الموصوفات بالصفات ، لا أن الحمرة عادت خضرة كما استحال الماء هواء ، فهذا هو التغيير ، وإن كان عندنا المائية والهوائية والنارية والأرضية صورا في الجوهر يسمى بها هواء وماء وغير ذلك ، وهذا الخبر الذي وصف الله نفسه بتبديل الخلق في عمارة الموطن يحتمل أن يكون على الأمرين اللذين ذكرناهما ، إذ الذوات المشتركة في الجوهرية متماثلة ، واختلافها بالصور والأشكال ، والحدود الذاتية لها إنما هي ذاتية للصور والشكل لا للمشكل والمصور ، ولكن لا يفعل هذا الشكل إلا في العين لا في المشكل ، فيظن الظان أنه يجد المشكل ، وهو على الحقيقة إنما يجد الشكل ، لكنه لا يقدر أن يتصوره في غير متشكل ، فقد بان لك التبديل في الخلق ، وأن القدرة لا تعجز عن ذلك ، فإن لم تفعل فإن الإرادة لم تتعلق به ، ولا سبق في العلم تبدله ، ووقع الخطاب بما يقتضي حقيقة الممكن.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (٤٤)

٣٨٦

(٧١) سورة نوح مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (١)

نوح عليه‌السلام هو أول الرسل قال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) فنوح أول رسول أرسل ، ومن كان قبله إنما كانوا أنبياء ، كل واحد على شريعة من ربه ، فمن شاء دخل في شرعه معه ، ومن شاء لم يدخل ، فمن دخل ثم رجع كان كافرا ، ومن لم يدخل فليس بكافر ، ومن أدخل نفسه في الفضول وكذب الأنبياء كان كافرا ، ومن لم يفعل وبقي على البراءة لم يكن كافرا ، فأول شخص استفتحت به الرسالة نوح عليه‌السلام.

(قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا) (٦)

مما دعاهم إليه من توحيد الله ، وهذه الآية تبين خطأ من قال : إن الكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب ، وإذا خرج من اللسان لم يتعد الآذان ؛ فهذا غاية الغلط ، فإنه ما من رسول دعا قومه إلا بلسان صدق ، من قلب معصوم ولسان محفوظ ، كثير الشفقة على رعيته ، راغب في استجابتهم لما دعاهم إليه ، وقال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) فلو أثر كلام أحد في أحد لصدقه في كلامه لأسلم كل من شافهه النبي عليه‌السلام بالخطاب ، بل كذّب وردّ الكلام في وجهه وقوتل ، فإن لم يكن عناية بالسامع ـ بأن يجعل في قلبه صفة القبول حتى يلقى بها النور الإلهي من سراج النبوة ـ ما استنار القلب ولا آمن.

٣٨٧

(وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (١٢) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) (١٤)

الأطوار جمع طور وهو كل من مال لاستدارة كون ، ومنه سمي الطور طورا لانحنائه ، وجبل الخلق على الحركة ، فانتقل في الأطوار ، وحكمت عليه بمرورها الأعصار ، فإن لله في خلقه أسرارا ، فلما خلق الله عزوجل الخلق خلق الإنسان أطوارا ، فمنا العالم والجاهل ، ومنا المنصف والمعاند ، ومنا القاهر ومنا المقهور ، ومنا الحاكم ومنا المحكوم ، ومنا المتحكم ومنا المتحكم فيه ، ومنا الرئيس والمرؤوس ، ومنا الأمير والمأمور ، ومنا الملك والسوقة ، ومنا الحاسد والمحسود ، وكل هذا من تصاريف الأقدار ، وما أودع الله في حركات الأكوار ، مما يجيء به الليل والنهار ، من تنوع الأطوار ، بين محو وإثبات ، لظهور آيات بعد آيات ، فسبحان من خلقنا أطوارا ، وجعل لنا على علم الغيب والشهادة دليلا ليلا ونهارا ، فمحا آية الليل لدلالتها على الغيب ، وجعل آية النهار مبصرة لدلالتها على عالم الشهادة فقال تعالى :

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) (١٦)

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) فهو مجلى لنور الشمس ، (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) والسراج نور ممدود بالدهن الذي يعطيه بقاء الإضاءة عليه ، ولهذا جعل الشمس يضيء به العالم ، وتبصر به الأشياء التي كان يسترها الظلام ، فحدث الليل والنهار بحدوث كوكب

٣٨٨

الشمس والأرض ، فالليل ظلمة الأرض الحجابية عن انبساط نور الشمس ، والكواكب عندنا كلها مستنيرة لا تستمد من الشمس ، والقمر على أصله لا نور له البتة ، قد محا الله نوره ، وذلك النور الذي ينسب إليه هو ما يتعلق به البصر من الشمس في مرآة القمر ، على حسب مواجهة الأبصار منه ، فالقمر مجلى الشمس وليس فيه من نور الشمس لا قليل ولا كثير.

(وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) (١٧)

ليس في الأرض إلا خزائن المعادن والنبات ، لا غير ، فإن الحيوان من حيث نموه نبات. قال تعالى (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) فنسب الحق الإنبات إليه وإلى الأرض ، فنبتم (نَباتاً) مصدر نبت وما قال : إنباتا ؛ كذلك قال تعالى في الأجسام الإنسانية ، فأخبرنا أنا من جملة نبات الأرض ، فجاء في ذكرهم بالإنبات أنه أنبتهم ، ولم يؤكده بالمصدر ، فإن مصدر أنبت إنما هو إنبات ، وجاء بمصدر آخر ليعرف بأنهم نبتوا حين أنبتهم ، فأضاف النبات إلى الشيء الذي ينمو لأن الغذاء سبب في وجود النبات وبه ينمو ، فعبر عن نموه وظهور الزيادة فيه بقوله (نَباتاً) أي جعل غذاءكم منها ، أي مما تنبته فتنبتون به ، أي تنمي أجسامكم وتزيد ، ومن وجه آخر أوقع الحق الاشتراك بينه وبينهم في الخلق أنه لو لا استعدادهم للإنبات ما نبتوا ، لأن نباتا مصدر نبت لا مصدر أنبت ، فإن مصدر أنبت هو إنبات ، فانظروا ما أعجب مساق القرآن وإبراز الحقائق ، إذ لا ينفذ الاقتدار الإلهي إلا فيمن هو على استعداد النفوذ فيه ، ولا يكون ذلك إلا في الممكنات ، إذ لا نفوذ له في الواجب الوجود ، ولا في المحال ، وهنا نسب الحق ظهور النبات إلى النبات ، وفي النبات سر برزخي لا يكون في غيره ، فإنه عالم وسط بين المعدن والحيوان ، فله حكم البرازخ ، لأنه يعطيك العلم بذاته وبغيره ، وغير البرزخ يعطيك العلم بذاته لا غير ، لأن البرزخ مرآة للطرفين ، فمن أبصره أبصر فيه الطرفين ، لابد من ذلك ـ فائدة ـ يقول بعض العلماء بما تفعله الأزمان في الأجسام الطبيعية : تعرضوا لهواء الربيع ، فإنه يفعل بأبدانكم كما يفعل في أشجاركم ، وتحفظوا من هواء الخريف ، فإنه يفعل بأبدانكم كما يفعل في أشجاركم ، فقد نص الله تعالى على أننا من جملة نبات الأرض فقال (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أراد فنبتم نباتا.

٣٨٩

(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) (١٨)

(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) بالموت (وَيُخْرِجُكُمْ) منها (إِخْراجاً) بالبعث ، والفرق بين نشأة الدنيا الظاهرة وبين نشأة الآخرة الظاهرة ، أن الأولى أنبتنا فيها من الأرض ، فنبتنا نباتا ، كما ينبت النبات على التدريج وقبول الزيادة في الجرم طولا وعرضا ، ونشأة الآخرة إخراج من الأرض على الصورة التي يشاء الحق أن يخرجنا عليها ، ولذلك علّق المشيئة بنشر الصورة التي أعادها في الأرض ، الموصوفة بأنها تنبت ، فتنبت على غير مثال ، لأنه ليس في الصور صورة تشبهها ، فكذلك نشأة الآخرة ، يظهرها الله على غير مثال صورة تقدمت تشبهها.

(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا) (١٩)

بسط الله الأرض ليستقر عليها من خلقت له مكانا.

(لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (٢٠) قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (٢١) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) (٢٢)

روينا أن الله حين أنزل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية لم يعرف هذا اللحن الحاضرون ، ولا عرفوا معناه ، فبينما هم كذلك إذ أتى أعرابي قد أقبل غريبا ، فدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلم عليه وقال : يا محمد إني رجل من كبّار قومي ؛ بضم الكاف وتشديد الباء ، فعلم الحاضرون أن هذه اللفظة نزلت بلحن ذلك العربي وأصحابه ، فعلموا معناها.

(وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (٢٤) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا (٢٥) وَقَالَ نُوحٌ

٣٩٠

رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (٢٦)

وذلك لغلبة الغيرة على نوح عليه‌السلام ، واستعجاله ، لكون الإنسان خلق عجولا.

(إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) (٢٨)

لا أحد أعظم من الوالدين وأكبر بعد الرسل حقا منهما على المؤمن ، ومع هذا أمر الداعي أن يقدم في الدعاء نفسه على والديه ، وذلك أولا مراعاة لحقها ، فهي أقرب جار إليه ، والسر الآخر أنّ الداعي لغيره يحصل في نفسه افتقار غيره إليه ، ويذهل عن افتقاره ، فربما يدخله زهو وعجب بنفسه لذاك ، وهو داء عظيم ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبدأ لنفسه بالدعاء ، فتحصل له صفة الافتقار في حق نفسه ، فتزيل عنه صفة الافتقار صفة العجب والمنة على الغير ، وفي إثر ذلك يدعو للغير على افتقار وطهارة ، فلهذا ينبغي للعبد أن يبدأ بنفسه في الدعاء ، ثم يدعو لغيره ، فإنه أقرب إلى الإجابة ، لأنه أخلص في الاضطرار والعبودية ، قال الخليل عليه‌السلام في دعائه (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ) فقدم نفسه (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وقال نوح عليه‌السلام (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) فبدأ بنفسه (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وهو عليه‌السلام من الكمل ، ولم يقل كما قالت الملائكة (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) فكأنه أبقى شيئا ، فإنه ما طلب المغفرة إلا للمؤمن ، ولم يذكر اتباع سبيل الله ، لأن المؤمن قد يكون مخالفا أمر الله ونهيه ، والله يقول للمسرفين على أنفسهم (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) :

دعا قومه نوح ليغفر ربهم

لهم فأجابوه لما كان قد دعا

أجابوا بأحوال فغطوا ثيابهم

لسر بستر والسميع الذي وعى

ولو أنهم نادوا ليكشف عنهمو

غطاء العمى ما ارتد شخص ولا سعى

٣٩١

وهذي إشارات لأمة أحمد

وليست لنوح والحديث هما معا

رعى الله شخصا لم يزل ذا مهابة

كريما إماما حرمة الحق قد رعى

لو أن إله الخلق ينزل وحيه

على جبل راس به لتصدعا

وأثبت منه قلب شخص علمته

ولما أتاه وحيه ما تزعزعا

وإن كان من قوم إذا ليلهم دجا

تراهم لديه ساجدين وركعا

وتبصرهم عند المناجاة حسّرا

حيارى سكارى خاضعين وخشّعا

(٧٢) سورة الجنّ مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا) (٣)

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) فوصف الرب بالعلو عن قيام الوصف المذكور لعظمة الرب المضاف إلى المربوب (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) لعدم الكفاءة إذ لم يكن له كفوا أحد ، والحقيقة تمنع من الولادة والتبني ، لأن النسبة مرتفعة عن الذات ، والنسبة الإلهية من الله لجميع الخلق نسبة واحدة لا تفاضل فيها. ـ راجع سورة الإخلاص ـ.

(وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (٥) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (٦)

٣٩٢

الكيس من الناس من يهرب من مجالسة الجن ، فإن مجالستهم رديئة جدا ، قليل أن تنتج خيرا ، لأن أصلهم النار ، والنار كثيرة الحركة ، ومن كثرت حركته كان الفضول أسرع إليه في كل شيء ، فالجن أشد فتنة على جليسهم من الناس ، فإنهم قد اجتمعوا مع الناس في كشف عورات الناس التي ينبغي للعاقل أن لا يطلع عليها ، غير أن الإنس لا تؤثر مجالسة الإنسان إياهم تكبرا ، ومجالسة الجن ليست كذلك ، فإنهم بالطبع يؤثرون في جليسهم التكبر على الناس وعلى كل عبد لله ، وكل عبد لله رأى لنفسه شفوفا على غيره تكبرا فإنه يمقته الله في نفسه من حيث لا يشعر. واعلم أن الجان هم أجهل العالم الطبيعي بالله ، ويتخيل جليسهم بما يخبرونه به من حوادث الأكوان ، وما يجري في العالم مما يحصل لهم من استراق السمع من الملأ الأعلى ، فيظن جليسهم أن ذلك كرامة الله به ، هيهات لما ظنوا ، ولهذا ما ترى أحدا قط جالسهم فحصل عنده منهم علم بالله جملة واحدة ، فرجال الله يفرون من صحبتهم أشد فرارا منهم من الناس ، فإنه لابد أن تحصل صحبتهم في نفس من يصحبهم تكبرا على الغير بالطبع ، وازدراء بمن ليس له في صحبتهم قدم. وكان للجن قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسالك نحو السماء يسلكون فيها ليستمعوا حديث الملأ الأعلى الملكي ، لذلك قالوا بعد أن وصفهم الحق بقوله :

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) (٨)

عند مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشعل الفلك الأثير إشعالا عظيما ، فكثرت النجوم ذوات الأذناب في الأثير والاحتراقات ، وجعلها الحق رجوما للشياطين ، فعمرت كل مسلك في الأثير ، فضاقت المسالك على الجن الذي يسترقون السمع ، ولم يعرفوا ما علة ذلك فقالوا (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) فالحرس الملائكة وهم الرصد ، وهو قوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) والشهب النجوم ذوات الأذناب.

(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) (٩)

٣٩٣

الشياطين وهم كفار الجن لهم عروج إلى السماء الدنيا يسترقون السمع ، أي ما تقوله الملائكة في السماء وتتحدث به مما أوحى الله به فيها ، فإذا سلك الشيطان أرسل الله عليه شهابا رصدا ثاقبا ، ولهذا يعطي ذلك الضوء العظيم الذي تراه ويبقى ذلك الضوء في أثره طريقا ، فجعل الله ما نجم من ذوات الأذناب في ركن النار ، لرجم الأشرار ، ولم تزل نجوما ، وما كانت رجوما حتى جاء صاحب البعث العام ، إلى جميع الأنام ، من الإنس والجآن ، ولهذا قال : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) ، فلو ابتغى الربح باستراقه رشدا ، ما وجد له شهابا رصدا ، فحيل بينه وبين السمع ، لما نواه من عدم النفع ، فصاروا جهلا ، وقد كانوا علما. وكان من أعظم بلاء طرأ على الجن والشياطين منعهم على الغيب ، ولكن مع هذا كله يسلكون بحكم البحث ، فإن صادفهم شهاب أحرقهم (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) وهي الكواكب ذوات الأذناب ، وهي احتراقات وتكوينات سريعة الاستحالة كما تراها في العين ، وهي نجوم سريعة التكوين والفساد.

(وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) (١٤)

إذا حكم الحاكم بغير ما هي الأمور عليه كان حكم جور ، وكان قاسطا ، فقال تعالى :

(وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (١٥) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا) (١٦)

٣٩٤

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) في الحركات والسكنات (عَلَى الطَّرِيقَةِ) المشروعة ، والصراط المستقيم هو الشرع الإلهي ، والإيمان بالله رأس هذا الطريق ، وشعب الإيمان منازل هذا الطريق ، الذي بين أوله وغايته ، وما بين المنزلين أحواله وأحكامه (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) لما كان الماء أصلا في كل حي حياته عرضية ، كان من استقام سقاه الله ماء الحياة ، فإن كان سقي عناية كالأنبياء والرسل حيي به من شاء الله ، وإن كان سقي ابتلاء لما فيه من الدعوى كان بحكم ما أريد بسقيه. وطلب الاستقامة من المكلف هو القيام بفرائض الله عليه ، لذلك قال تعالى :

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) (١٧)

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) فهذا سقي ابتلاء.

(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) (١٨)

فإن الله مع الخلق ما الخلق مع الله ، لأنه يعلمهم فهو معهم أينما كانوا ، في ظرفية أمكنتهم وأزمانهم وأحوالهم ، ما الخلق معه تعالى جل جلاله ، فإن الخلق لا تعرفه حتى تكون معه ، فمن دعا الله مع الخلق ما هو كمن دعا الخلق مع الله ؛ فلا تدعوا مع الله أحدا ، ولا يصح السجود إلى غير الله ، فالسجود على الحقيقة لله ، فمن سجد لغير الله عن أمر الله قربة إلى الله طاعة لله فقد سعد ونجا ، ومن سجد لغير الله عن غير أمر الله قربة إلى الله فقد شقي.

(وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) (١٩)

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأضافه إليه صفة ، أي صفته العبودية ، فشهد الله تعالى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه عبد كامل العبودية ، فإنه لم يتحقق بهذا المقام على كماله مثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان عبدا محضا زاهدا في جميع الأحوال التي تخرجه عن مرتبة العبودية ، فشهد الله له بأنه عبد مضاف إليه من حيث هويته واسمه الجامع ، فقال في حق اسمه (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) وقال في حق هويته (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) فأسرى به عبدا ،

٣٩٥

فذكره بعبودية الاختصاص ليعلم بحريته عن كل ما سوى الله ، وخلوص عبوديته لله ، ليس فيه شقص لكون من الأكوان ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [العبد من لا عبد له] ففهم منه المحجوب أنه من لا عبد له قام بأمور نفسه ، فهو عبد نفسه ، وما مقصود الحق في ذلك إلا أن العبد من ليس له وجه إلى ربوبية وسيادة أصلا ، فإذا ملك العبد أمرا ما فله سيادة على ما ملك ، فالعبد على الحقيقة من لا ملك له ، لأن المملوك ذليل تحت تصرف المالك ، ولا يقدر على دفع تصرفه فيه ، ولا يكون هذا إلا بملك الرقبة ، فإن ملك التصريف دون الرقبة فهو مالك التصريف لا مالك الرقبة ، كالذي استأجر أجيرا على فعل يفعله ، فعبده التصرف لا المتصرف وهو المسمى أجيرا ، فالأجير خادم أجرته فهو خادم نفسه ، وذلك العبد فإنه لا عبد له فما له سيادة على أحد ، والعارف عبد الله وإن ملكه التصريف ولابد من ذلك فما له سيادة ، فإن الرقبى لله والعمرى للعبد.

(قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (٢٠) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (٢١) قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٢) إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (٢٣) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (٢٥) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) (٢٦)

الغيب الذي أفرده الحق في هذه الآية ولم يقرنه بالشهادة هو الغيب الذي انفرد الحق به سبحانه لأنه لا عين له يجوز أن تشهد ، فقال : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) فأرسلت حجب الأسرار دون أعين الناس وهو ما أخفى عنهم من الغيوب ، فإن قلت : فما فائدة الاستثناء في قوله :

٣٩٦

(إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) (٢٧)

قلنا : تدبر ما هو الغيب الذي اطلع عليه الرسل؟ وبماذا ربطه؟ فتعلم أن ذلك علم التكليف الذي غاب عنه العباد ، ولهذا جعل له الملائكة رصدا حذرا من الشياطين أن تلقي إلى ما ينقله إلى الخلق ويعمل به في نفسه من التكليف الذي جعله الله طريقا إلى سعادة من أمر ونهي (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) ، حتى لا يلتبس عليه الإلقاء ، والرصد هم الحرس من الملائكة ، فاختار الله تعالى من الناس الرسل ليبلغوا عن الله ما هو الأمر عليه ، فإنه ما أخرجهم إلا للعلم به ، لأنه أحب أن يعرف إليهم بالرسل بما بعثهم به من كتب وصحف ، فعرفوه معرفة ذاتية ، كما عرفوه بالعقول التي خلق لهم وأعطاها قوة النظر الفكري ، فعرفوه بالدلائل والبراهين معرفة وجودية سلبية ، لم يكن في قوة العقل من استقلاله أكثر من هذا ، ثم بعد ذلك جاءت الرسل من بعده بمعرفة ذاتية ، فعبد الخلق الإله الذي تعرف إليهم بشرعه ، إذ العقل لا يعطي عملا من الأعمال ، ولا قربة من القرب ، ولا صفة ثبوتية للحق ، وما حظ العقل من الشرع مما يستقل به دليله إلا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على زيادة الكاف لا على إثباتها صفة ، فاختار الحق تعالى الرسل لتبليغ ما لا يستقل العقل بإدراكه من العلم بذاته ، وبما يقرب إليه من الأعمال والتروك والنسب لذلك قال تعالى :

(لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) (٢٨)

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) فكأنه مستثنى ، منقطع هذا الغيب من ذلك الغيب انقطاعا حقيقيا لا انقطاع جزء من كل ، لما وقع الاشتراك في لفظة الغيب ، لذلك قلنا : مستثنى ، ولما خالفه في الحقيقة قلنا : منقطع ، ولكن بالحال بالذات ، تقول في المتصل : ما في الدار إنسان إلا زيدا ، فهذا المستثنى متصل ، لأنه إنسان قد فارق غيره من الأناسي بحالة كونه في الدار لا بحقيقته ، إذ لم يكن في الدار إلا هو ، فالانقطاع في الحال لا غير ، فإن قلت : ما في الدار إنسان إلا حمارا ، فهذا منقطع بالحقيقة والحال ، فكذلك الغيب الذي يطلع عليه الرسل بالرصد من الملائكة من أجل المردة من الشياطين هو الرسالة التي يبلغونها عن الله ، فإنه لا يحيط من علم غيب الله إلا بما شاء الله ، ولهذا قال (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا

٣٩٧

رِسالاتِ رَبِّهِمْ) فأضاف الرسالة إلى قوله (رَبِّهِمْ) لما علموا أن الشياطين لم تلق إليهم أعني إلى الرسل شيئا ، فتيقنوا أن تلك الرسالة من الله لا من غيره ، وهل هذا القدر الذي عبر عنه في هذه السورة المعينة في قوله (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) هل ذلك الإعلام لهذا الرسول بوساطة الملك؟ أو لم يكن في هذا الوحي الخاص ملك؟ وهو الأظهر والأوجه والأولى ، وتكون الملائكة تحف أنوارها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالهالة حول القمر ، والشياطين من ورائها لا تجد سبيلا إلى هذا الرسول حتى يظهر الله له في إعلامه ذلك من الوحي ما شاء ، ولكن من علم التكليف الذي غاب عنه وعن العباد علمه ، فإنه لا يصح القول بأن العبد يعلم بعض القربات إلى الله بعقله لا كلها ، فلا يعلم القربة إلى الله التي تعطي سعادة الأبد للعبد إلا من يعلم ما في نفس الحق ، ولا يعلم ذلك أحد من خلق الله إلا بإعلام الله ، لأن الغيب على قسمين : غيب لا يعلم أبدا وليس إلا هوية الحق ، ونسبته إلينا ، وأما نسبتنا إليه فدون ذلك ، فهذا غيب لا يمكن ولا يعلم أبدا ، والقسم الآخر غيب إضافي ، فما هو مشهود لأحد قد يكون غيبا لآخر ، فما في الوجود غيب أصلا لا يشهده أحد ، وأدقه أن يشهد الموجود نفسه الذي هو غيب عن كل أحد سوى نفسه ، فما ثم غيب إلا وهو مشهود في حال غيبته عمن ليس بمشاهد له ، فإذا ارتضى الله من ارتضاه لعلم ذلك أطلعه عليه علما ، لا ظنا ولا تخمينا ، فلا يعلم إلا بإعلام الله ، أو بإعلام من أعلمه الله عند من يعتقد فيه أن الله أعلمه ، وما عدا هذا فلا علم له بغيب أصلا ، وإنما اختص بهذا الإعلام مسمى «الرسول» لأنه ما أعلمه بذلك الغيب اقتصارا عليه ، وإنما أعلمه ليعلمه ، فتحصل له درجة الفضيلة على من أعلمه به ، لتعلم مكانته عند ربه ، فلهذا سماه رسولا ، وهذا النوع من الغيب لا يكون إلا من الوجه الخاص ، لا يعلمه ملك ولا غيره إلا الرسول خاصة ، سواء كان الرسول ملكا أو غيره ، فإن الله نفى أن يظهر على غيبه أحدا ، وإنما قال بأن الذي ارتضاه لذلك يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ، عصمة له من الشبه القادحة فيه ، فهو علم لا دخول للشبه فيه على صاحبه ، وهذا هو صاحب البصيرة الذي هو على بينة من ربه في علمه ، وله ذوق خاص يتميز به ، لا يشاركه فيه غيره ، إذ لو شاركه لما كان خاصا ، فإذا جاء الرسول به لمن يعلمه فذلك ليس عند هذا المتعلم من علم الغيب ، فإن الرسول قد أظهره الله عليه ، فما هو عند هذا من علم الغيب الذي لا يظهر الله عليه أحدا ، وإنما

٣٩٨

هو ما يحصل لأي عالم كان من الوجه الخاص ، ولكنه الآن ليس بواقع في الدنيا ، لكنه يقع في الآخرة ، وسبب ذلك أن كل علم يحصل للإنسان في الدنيا من العلم بالله خاصة ، فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد علمه ، فإنه علم علم الأولين والآخرين ، وأنت من الآخرين بلا شك ، وأما في غير العلم بالله فقد يعطاه الإنسان من الوجه الخاص ، فلا يعلم إلا منه ، فهو رسول في تعليمه إلى من يعلمه بذلك ، هذا أعطاه مقام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليست الفائدة إلا في العلم بالله تعالى ، فإنه العلم الذي به تحسن صورة العالم في نفسه ، فالعلم بالله من الرسول في المتعلم أعظم وأنفع من العلم الذي يحصل لك من الوجه الخاص ، إذا كان المعلوم كونا ما من الأكوان ليس الله ، فما الشرف للإنسان إلا في علمه بالله ، وأما علمه بسوى الله تعالى فعلالة يتعلل بها الإنسان المحجوب ، فإن المنصف ما له همة إلا العلم به تعالى ، فاجهد أن تكون ممن يأخذ العلم بالله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتكون محمدي الشهود ، إذ قطعنا أنه لا علم بالله اليوم عينا يختص به أحد من خلق الله (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) الفرق بين الإحاطة والإحصاء هو أن الإحاطة عامة الحكم في الموجود والمعدوم وفي كل معلوم ، والإحصاء لا يكون إلا في الموجود ، فما هو شيئية (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) شيئية (أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) فشيئية الإحصاء تدخل في شيئية الإحاطة ، فكل موجود محصي ، وكل محصي محاط به ، وما كل محاط به محصي ، وكل ما يدخله الأجل يدخل الإحصاء ، فقوله تعالى : (أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) يريد إحصاء كل شيء موجود ، فأحصى كل شيء من حروف وأعيان وجودية عددا ، إذ كان التناهي لا يدخل إلا في الموجودات فيأخذه الإحصاء ، فهذه شيئية الوجود ، وفيه إشارة إلى الإحاطة الإلهية بجميع الأسماء الكائنة الماضية والكائنة في الحال والكائنة في المستقبل ، فهي لا تختص إلا بالوجود الكائن والذي كان ويكون ، فهو تعلق أخص من تعلق قوله (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) من الواجبات والجائزات والمستحيلات ، وإن كان بعض العلماء لا يسمي شيئا إلا الموجود فلا نبالي ، فإن الله قد أحاط بكل شيء علما ، وقد علم المحال ، ولو خصص صاحب هذا الاصطلاح العلم المحيط في هذه الآية بالموجودات فليس له دليل على ذلك إلا كونه اصطلح على أنه لا يسمى شيئا إلا الموجود ، فالإحاطة هنا على بابها من العموم ، والإحصاء يقتضي التناهي في الشيء الذي أحصي ، والإحاطة إنما هي عبارة عن تعلق العلم بالمعلومات الغير المتناهية هنا ، وقد يكون

٣٩٩

الإحصاء هنا على العموم بمعنى الإحاطة ولكن كما قلنا في الكائنات المستقبلة وهي لا تتناهى ، فإن مقدورات الله لا تتناهى ، ومعلوماته كذلك أكثر من مقدوراته وغير ذلك ، والإحصاء بالعدد لا يتعلق به ، لأنه لا يجوز عليه ، فيحصي نفسه ، والمحال لا يوصف بالعدد فيتعلق به الإحصاء ، ولكن يحيط به العلم أي معنى ، لعلمه من جميع الوجوه.

(٧٣) سورة المزّمل مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (١)

لما فجأ الوحي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال [جئت منه رعبا] وأتى خديجة فقال [زملوني زملوني] وذلك من تجلي الملك ، فكيف به بتجلّي الملك؟ فمواجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تجليات ربه على قلبه أعظم سطوة من نزول ملك ، ووارد في الوقت الذي لم يكن يسعه فيه غير ربه.

(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) (٢)

لكون الليل محل التجلي الإلهي الزماني ، فإن الليل للحق ينزل فيه إلى السماء الدنيا ليناجي عبده ويسامره ويقضي حوائجه ، جاء في الخبر [كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ، أليس كل محب يطلب الخلوة بحبيبه؟ ها أنا ذا قد تجليت لعبادي ، هل من داع فأستجيب له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى ينصدع الفجر ، فقم بين يدي وسلني حتى أعطيك مسألتك] وقيام الليل عبارة عن الصلاة فيه.

(نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (٤) على غيرك ونهونه عليك.

٤٠٠