رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

اعلم أن الرحمن خلق الإنسان علمه البيان وهو ما ينطق به اللسان ، ثم الرب الأكرم هو.

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (٤)

ما يخطه البنان ، فالإنسان بنيان ، صنعة رب كريم وأكرم ورحمان.

(عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى) (٦)

أبان الله عن أرفع طريق الهدى ، وزجر عن طريق الردى ، فقال (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) ردعا وزجرا لحالة تحجبك ، فإن عزة الإيمان أعلى ، وعزة الفقر أولى ، فقال :

(أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) (٧)

وذلك بأن يغلق الله عليه باب العطاء ، لما جعل في قلبه من خوف الفقر إن أعطى ، فيطغى في غناه في عين فقره ، فإن هو أعطى ما به استغنى افتقر فاحتقر ، فلا يزال الغني خائفا ولا يزال الفقير طالبا ، فالرجاء للفقير فإنه يأمل الغنا ، والخوف للغني فإنه يخاف الفقر.

(إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (٨)

ـ إشارة ـ لا راحة مع الخلق ، فارجع إلى الحق فهو أولى بك ، إن عاشرتهم على ما هم عليه بعدت عنه ، فإنهم على ما لا يرضاه ، وإن لم تعاشرهم وقعوا فيك ، فلا راحة.

(أرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) (١٤)

ما قال الله تعالى ذلك توبيخا وتنبيها وعرف بذلك عباده إلا لاختلاف أهل النظر في ذلك ، بين أنه يرانا وبين أنا نراه ، فالمؤمن على كل حال يعلم بأن الله يراه من هذا التعريف ،

٥٢١

فما عرفهم إلا ليلزموا الحياء منه تعالى في تعدي حدوده ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [استحيوا من الله حق الحياء] ومن هذه الآية نعلم أن الممكنات وإن كانت لا تتناهى وهي معدومة ، فإنها عندنا مشهودة للحقّ عزوجل من كونه يرى ، فإنّا لا نعلل الرؤية بالموجود ، وإنما نعلل الرؤية للأشياء بكون المرئي مستعدا لقبول تعلق الرؤية به ، سواء كان معدوما أو موجودا ، وكل ممكن مستعد للرؤية ، فالممكنات وإن لم تتناه فهي مرئية لله عزوجل ، لا من حيث نسبة العلم ، بل من نسبة أخرى تسمى رؤية ، كانت ما كانت ، لذلك لم يقل تعالى هنا : ألم يعلم بأن الله يعلم ؛ وبهذه الآية قصم الظهر وحير العقل ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال [إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه].

(كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (١٩)

جاء الأمر بالسجود هنا بعد كلمة ردع وزجر ، وهو قوله (كَلَّا لا تُطِعْهُ) لما جاء به من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، يقول له ربه : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) لما تعتصم مما دعاك إليه فتأمن من غائلة ذلك ، وقد جعل الله القربة في الصلاة في حال السجود ، وليس الإنسان بمعصوم من الشيطان في شيء من صلاته إلا في السجود ، فإنه إذا سجد اعتزل عنه الشيطان يبكي على نفسه ، ويقول : أمر ابن آدم بالسجود فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ؛ وإنما أمرت الملائكة والخلق بالسجود وجعل معه القربة ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أقرب ما يكون العبد من الله في سجوده] ليعلموا أن الحق في نسبة الفوق إليه من قوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) و (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) كنسبة التحت إليه ، فإن السجود طلب السفل بوجهه ، كما أن القيام يطلب الفوق إذا رفع وجهه بالدعاء ويديه ، وقد جعل الله السجود حالة القرب من الله ، فلم يقيده سبحانه الفوق عن التحت ولا التحت عن الفوق ، فإنه خالق الفوق والتحت ، فشرع الله للعبد السجود ، وجعل له فيه القربة ، لأنه ربما يتخيل العبد تنزيه الحق عن التحت أن يكون له نسبة إليه ، فطلبت الوجوه بالسجود رؤية ربها ، لأن الوجوه مكان الأعين ، والأعين محل الأبصار ، فطلبه العبد في سجوده ليراه من حيث

٥٢٢

حقيقته ، فإن التحت للعبد لأنه سفل ، ونبّه الشرع على ذلك بحديث الهبوط ، وهو أنا روينا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [لو دليتم بحبل لهبط على الله] فنسبة التحت والفوق إليه سبحانه على السواء ، لا تحده الجهات ولا تحصره ، وكل أحد إنما يطلب ربه من حقيقته ، ومن حيث هو ، فنسبة العلو والسفل من الله واحدة ، فالعلو لله عرفا وعلما ، والمعية علما وشرعا لا عرفا ، ولما كان السجود في العرف بعدا عما يجب لله من العلو ، أراد الله أن يرى حكمه في الغاية وليس إلا السجود ، فمن سجد اقترب من الله ضرورة ، فيشهده الساجد في علوه ، ولهذا شرع للعبد أن يقول في سجوده [سبحان ربي الأعلى] ينزهه عن تلك الصفة ، ولما كان السجود حال القربة وصفة المقربين قال له : (اسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) يعني اقتراب كرامة وبر وتحف ، كما يقول الملك للرجل إذا دخل عليه فحياه بالسجود له بين يديه ، فيقول له الملك : أدنه أدنه ، حتى ينتهي منه حيث يريد من القربة ، فهذا معنى قوله (وَاقْتَرِبْ) في حال السجود ، إعلاما بأنه قد شاهد من سجد له ، وأنه بين يديه ، وهو يقول له : اقترب ؛ ليضاعف له القربة ، كما قال [من تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا] فإذا كان اقتراب العبد عن أمر إلهي كان أعظم وأتم في بره وإكرامه ، لأنه ممتثل أمر سيده على الكشف والشهود ، ودلّت هذه الآية على أن أول شيء يمنحك السجود هو القربة ، ثم بعد ذلك تعطى من مقام القربة ما يليق بالمقربين من الملائكة والنبيين ، وليس في العبادات ما يلحق العبد بمقامات المقربين ـ وهو أعلى مقام أولياء الله من ملك ورسول ونبي وولي ومؤمن ـ إلا الصلاة ، فإن الله في هذه الحالة يباهي به المقربين من ملائكته ، وذلك أنه يقول لهم : يا ملائكتي أنا قربتكم ابتداء وجعلتكم من خواصّ ملائكتي ، وهذا عبدي جعلت بينه وبين مقام القربة حجبا كثيرة وموانع عظيمة ، من أغراض نفسية وشهوات حسية ، وتدبير أهل ومال وولد وخدم وأصحاب وأهوال عظام ، فقطع كل ذلك وجاهد حتى سجد واقترب فكان من المقربين ، فانظروا ما خصصتكم به يا ملائكتي من شرف المقام حيث ما ابتليتكم بهذه الموانع ولا كلفتكم مشاقها ، فاعرفوا قدر هذا العبد وراعوا له حق ما قاساه في طريقه من أجلي ، فتقول الملائكة : يا ربنا لو كنا ممن يتنعم بالجنان وتكون محلا لإقامتنا ألست كنت تعيّن لنا فيها منازل تقتضيها أعمالنا؟ ربنا نحن نسألك أن تهبها لهذا العبد ، فيعطيه الله ما سألته فيه الملائكة ، فانظروا ما أشرف الصلاة ، وأفضل ما فيها ذكر الله من الأقوال ،

٥٢٣

والسجود من الأفعال ، وفيه العصمة من الشيطان ، فإنه لا يفارق المصلي في شيء من أفعال الصلاة إلا في السجود خاصة ، لأنه خطيئته ، وعند السجود يبكي ويتأسف ثم يعود إلى الإغواء عند الرفع من السجود ، ومن جهة أخرى ، لما كان الإنسان مظهرا للأسماء الإلهية ، وكونه على الصورة أعطاه ذلك الرفعة ، ولاتصافه بالرفعة أمر بالسجود ليمنحه التقريب ، فهذه السجدة سجدة طلب القرب من الله ـ إشارة ـ اعلم أن الله تعالى لما خلق العالم جعل له ظاهرا وباطنا ، وجعل منه غيبا وشهادة ، وكله لله شهادة وظاهر ، فجعل القلب من عالم الغيب وجعل الوجه من عالم الشهادة ، وعيّن للوجه جهة يسجد لها سماها بيته وقبلته ، أي يستقبلها بوجهه إذا صلى ، وجعل استقبالها عبادة ، وجعل أفضل أفعال الصلاة السجود وأفضل أقوالها ذكر الله بالقرآن ، وعيّن للقلب نفسه سبحانه ، فلا يقصد غيره ، وأمره أن يسجد له ، فإن سجد عن كشف لم يرفع رأسه أبدا من سجدته دنيا وآخرة ، ومن سجد من غير كشف رفع رأسه ، ورفعه المعبر عنه بالغفلة عن الله ونسيان الله في الأشياء ، فمن لم يرفع رأسه في سجود قلبه فهو الذي لا يزال يشهد الحق دائما في كل شيء ، فلا يرى شيئا إلا ويرى الله قبل ذلك الشيء ، وهذه حالة أبي بكر الصديق.

ـ إشارة ـ شاهد السجدتين ، أنت كل من حيث حقك وحقيقتك ، وأنت جزء من حيث أحدهما ، فله عليك سجدتان ، لكونك على حقيقتين ، فاسجد له من حيث كلك سجود العالم كله ، فتجدك قد استوفيت حقائق سجودهم في سجدتك ، وإن لم تجد ذلك فما سجدت ، واسجد له أيضا السجدة الثانية التي لا تعم ، وهو سجود الاختصاص ، بما تختص به خاصيتك التي لا مشاركة فيها ، ولا يقبل السجود الخاص إلا في الصلاة ، وهو سجود القلب ، وسجود كل قلب على حدّ علمه ، وعلمه على حدّ ما يتجلى له ، وهاتان السجدتان ، خلع الثياب ، وتحجير الأسباب ، وذبح النفس ، ورمي الكون ، وإلا فكيف يصح سجود الاختصاص بوجود الكثرة؟

ـ إشارة ـ (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) دعاك إلى الاقتراب الاسم القريب ، فإنك المحب ليس الحبيب ، ولهذا قال لك (وَاقْتَرِبْ) ولو كنت محبوبا لقال لك : تقترب ؛ فإذا لاحت لك عبوديتك في سجودك ، وصحت لك القربة من معبودك ، وتحققت كبرياءه فيها ، وقلت عند ذلك : نوفيها ، غلطت وأصبت ، وأحطت وخبتّ ، فانظر في علوه ، ونزاهته في

٥٢٤

سموه ، وسبحه على قدر ما ظهر ، كما شرع وأمر ، يبدو لك في هذا الخضوع ، ما بدا لك في الركوع ، من إعادة التنزيه إليك ، ورده عليك (١) ، واجتهد في الدعاء ، مع أن قبلته في السماء ، وقبلتك في سجودك في الأرض ، محل الانحطاط والخفض ، لا تجزع أيها الساجد ، فإنك لفخذ نقطة الدائرة المشاهد ، وهي الغيب الحقيقي ، والإله الخالقي ، فمكّن كفيك من الترب ، فإنك في محل القرب ، فتفطّن لما رمزناه ، وفك المعمى الذي ألغزناه ، واعلم أنك معصوم في سجودك من الشيطان ، فإنه قهاره فليس له عليك سلطان ، إذا عاين هذه الحال اشتغل بنفسه ، واحترق في برج نحسه ، وصار شاهدا لك عند ربك بالطاعة ، ومشاهدا لما يؤول إليه من الخسران يوم قيام الساعة ، ويكفيك هذا القدر في سجودك ، فإنه حجابك في استمرار وجودك ، جعلنا الله وإياكم ممن سجد فوجد ، وتهجد فتمجد ، بمنه وكرمه.

(٩٧) سورة القدر مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١)

قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) بنون الجمع والعظمة ، فجمع في إنزاله فيها جميع الأسماء الإلهية (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) اعلم أن الله أنزل الكتاب فرقانا في ليلة القدر ليلة النصف من شعبان ، وأنزله قرآنا في شهر رمضان ، كل ذلك إلى السماء الدنيا ، ومن هناك نزل في ثلاث وعشرين سنة فرقانا نجوما ذا آيات وسور ، لتعلم المنازل وتتبين المراتب ، فمن نزوله إلى الأرض في شهر شعبان يتلى فرقانا ، ومن نزوله في شهر رمضان يتلى قرآنا ، واختلف الناس في ليلة القدر أعني في زمانها ، فهي عندنا تدور في السنة كلها ، وقد جعلها الله دائرة متنقلة في الشهور وفي أيام

__________________

(١) ينظر إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث القدسي [إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أردها عليكم] ـ راجع قول أبي يزيد البسطامي : سبحاني ـ في كتابنا شرح كلمات الصوفية.

٥٢٥

الأسبوع ، حتى يأخذ كل شهر من الشهور قسطه منها ، وكذلك كل يوم من أيام الأسبوع ، كما جعل رمضان يدور في الشهور الشمسية ، حتى يأخذ كل شهر من الشهور الشمسية فضيلة رمضان فيعمّ فضل رمضان فصول السنة كلها ، وعلامتها محو الأنوار بنورها ، فيمحو نور ليلة القدر شعاع الشمس حتى تعلو قيد رمح أو أقل من ذلك ، فحينئذ يرجع إليها نورها ، فترى الشمس تطلع في صبيحتها صبيحة ليلة القدر كأنها طاس ليس لها شعاع ، من وجود الضوء ، مثل طلوع القمر لا شعاع له.

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (٢)

التي أمرنا بالتماسها لعظم قدرها وعظم قدر من أنزلها ، وحقارة من التمسها عند نفسه بالتماسها ، فإنه شاهد بالتماس هذا الخير العظيم القدر على نفسه بافتقار عظيم يقابله ، لأن العبد كلما أراد أن يتحقق بعبوديته حقرّ قدره ، إلى أن يلحق نفسه بالعدم ، فسميت ليلة القدر لمعرفة أهل الحضور فيها بأقدراهم ، أعني بحقارة أقدارهم.

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (٣)

ـ الوجه الأول ـ إن ليلة القدر إذا صادفها الإنسان هي خير له فيما ينعم الله به عليه من ألف شهر ، أن لو لم تكن إلا واحدة في ألف شهر ، فكيف وهي في كل اثني عشر شهرا في كل سنة؟ ـ الوجه الثاني ـ ما أراد بألف شهر توقيتا ، بل أراد أنها خير على الإطلاق من جميع ليالي الزمان ، في أي وجود كان ، وفيه زمان رمضان ويوم الجمعة ويوم عاشوراء ويوم عرفة وليلة القدر ، فكأنه قال : تضاعف خيرها ثلاثا وثمانين ضعفا وثلث ضعف ، لأنها ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر ، قد تكون الأربعة أشهر مما يكون فيها ليلة القدر ، فيكون التضعيف في كل ليلة قدر أربعة وثمانين ضعفا ، فانظر ما في هذا الزمان من الخير ، فهي خير من ألف شهر من غير تحديد ، وإن كان الزائد على ألف شهر غير محدود ، فلا يدري حيث ينتهي ، فما جعلها الله أنها تقاوم ألف شهر ، بل جعلها خيرا من ذلك ، أي أفضل من ذلك من غير توقيت ، فإذا نالها العبد كان كمن عاش في عبادة ربه مخلصا أكثر من

٥٢٦

ألف شهر ، من غير توقيت ، كمن يتعدى العمر الطبيعي يقع في العمر المجهول ، وإن كان لابدّ له من الموت ولكن لا يدري ، هل يعد تعديه العمر الطبيعي بنفس واحد ، أو بآلاف من السنين؟ فهكذا ليلة القدر إذ لم تكن محصورة كما قدمنا ، وجعل سبحانه إضافة الليل إلى القدر دون النهار لأن الليل شبيه بالغيب ، والتقدير لا يكون إلا غيبا ، فهي ليلة المقادير مقادير الأشياء ، والمقادير ما تطلب سوانا ، فلهذا أمرنا بطلب ليلة القدر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [التمسوها] لنستقبلها ، وكان نزول القرآن في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، فأتى بغاية أسماء العدد البسيط الذي لا اسم بعده بسيط إلا ما يتركب ، كما كان القرآن آخر كتاب أنزل من الله ، كما كان من أنزل عليه آخر الرسل وخاتمهم ، ثم أضاف ذلك الاسم الذي هو ألف إلى شهر بالتنكير ، فيدخل الفصول فيه ، والشهر العربي قدر قطع منازل درجات الفلك كله لسير القمر الذي به يظهر الشهر ، فلو قال : أزيد من ذلك لكرر ، ولا تكرار في الوجود ، بل هو خلق جديد ، ولو نقص بذكر الأيام أو الجمع لما استوفى قطع درجات الفلك ، فلم تكن تعم رسالته ، ولم يكن القرآن يعم جميع الكتب قبله ، لأنه ما ثمّ سير لكوكب يقطع الدرجات كلها في أصغر دورة إلا القمر ، الذي له الشهر العربي ، فلذلك نزل في ليلة هي خير من ألف شهر ، أي أفضل من ألف شهر ، والأفضل زيادة ، والزيادة عيّنها ، وجعل الأفضلية في القدر وهي المنزلة عند الله لذلك المذكور ، وكانت تلك الليلة المنزل فيها التي هي ليلة القدر موافقة ليلة النصف من شعبان ، فإنها (لَيْلَةِ الْقَدْرِ) تدور في السنة كلها ، فأي ليلة شاء الله أي يجعلها محلا من ليالي السنة ، للقدر الذي به تسمى ليلة القدر جعل ذلك ، فإن كان ذلك من ليالي السنة ليلة لها خصوص فضل على غيرها من ليالي السنة ، كليلة الجمعة وليلة عرفة وليلة النصف من شعبان وغير تلك من الليالي المعروفة ، فينضاف خير تلك الليلة إلى فضل القدر ، فتكون ليلة القدر تفضل ليلة القدر في السنة التي لا ينضاف إليها فضل غيرها.

(تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ) (٤)

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) ما نزل فيها واحد (وَالرُّوحُ) القائم فيهم مقام الإمام في الجماعة (فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) وكل يقتضي جميع الأمور التي يريد الحق تنفيذها في خلقه.

٥٢٧

(سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥)

حتى نهاية غاية ، فإنها تتضمن حرف إلى التي للغاية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [من قام ليلة القدر فيوافقها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر] فألحقت من قامها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المغفرة ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [من حرم خيرها فقد حرم]. ـ إشارة ـ من قام ليلة القدر من أجل ليلة القدر فقد قام لنفسه ، وإن كان قيامه لترغيب الحق في التماسها ، ومن قام لأجل الاسم الذي أقامه ، رمضان أو غيره ، فقيامه لله لا لنفسه ، وهو أتم ، والكل شرع ، فمن الناس عبيد ومنهم أجراء ، ولأجل الإجارة نزلت الكتب الإلهية بها بين الأجير والمستأجر ، فلو كانوا عبيدا ما كتب الحق كتابا لهم على نفسه ، فإن العبد لا يوقّت على سيده ، إنما هو عامل في ملكه ، ومتناول ما يحتاج إليه ، فهؤلئك لهم أجرهم ، والعبيد لهم نورهم ، وهو سيدهم ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [التمسوها] لنستقبلها كما يستقبل القادم إذا جاء من سفره ، والمسافر إذا جاء من سفره فلابد له إذا كان له موجود من هدية لأهله الذين يستقبلونه ، فإذا استقبلوه واجتمعوا به دفع إليهم ما كان قد استعده به لهم ، فتلك المقادير فيهم ، وبذلك فليفرحوا ، فمنهم من تكون هديته لقاء ربه ، ومنهم من تكون هديته التوفيق الإلهي والاعتصام ، وكل على حسب ما أراد المقدّر أن يهبه ويعطيه ، لا تحجير عليه في ذلك ، وجاء في حديث الترمذي عن أبي ذر ، وفيه يقول [فقام بنا حتى تخوفنا أن يفوت الفلاح ، قيل : وما الفلاح؟ قال : السحور] ينبه بذلك على أن الإنسان إنما هو في الصوم بالعرض ، فإنه لا بقاء له ، فإن الصوم لله ، فالإنسان في بقائه آكل لا صائم ، فهو متغذ بالذات صائم بالعرض ، والفلاح البقاء ، لهذا قال الصاحب لما اتصف في ليلته بالقيوم ، قال : تخوفنا أن يفوتنا الفلاح ، وهو أن ينقضي زمان الليل وما عرفنا نفوسنا ، إذ في معرفتنا بها معرفة ربنا ، لكنهم ما فاتهم الفلاح بحمد الله ، بل أشهدهم الله نفوسهم بالغذاء ، ليشهدوا أن القيومية له ذاتية ، وقيومية العبد إنما هي بإمداد ما يتغذي به ، فالتماسنا لليلة القدر لم يغننا عن حظوظ نفوسنا التي بها بقاؤنا ، وهو التغذي ، فإن التماسنا لها إنما هو لما ينالنا من خيرها في دار البقاء ، فما التمسناها بالعبادة إلا لحظ نفسي نبقى به في الدار الآخرة ، وأما التماسها في الجماعة فلمناسبة الجمعية في الإنسان ، فإنه لا أعرف بالله منه ، لجمعيته وعقله ومعرفته بنفسه.

٥٢٨

(٩٨) سورة البيّنة مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً (٢) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥)

(وَما أُمِرُوا) وهؤلاء هم أهل المكابدة والمجاهدة في استخلاص الدين ممن أمرهم الله أن يستخلصوه منه ، من شيطان أو باعث من خوف ورغبة وجنّة ونار ، وليس على الحقيقة إلا هوى أنفسهم (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ) الإخلاص النية ، ولهذا قيدها بقوله (لَهُ) لا لغيره ولا لحكم الشركة ، وفي النية نقول :

الروح للجسم والنيات للعمل

تحيا بها كحياة الأرض بالمطر

فتبصر الزهر والأشجار بارزة

وكل ما تخرج الأشجار من ثمر

كذاك تخرج من أعمالنا صور

لها روائح من نتن ومن عطر

لو لا الشريعة كان المسك يخجل من

أعرافها هكذا يقضي به نظري

إذا كان مستند التكوين أجمعه

له فلا فرق بين النفع والضرر

فالزم شريعته تنعم بها سورا

تحلها صور تزهو على سرر

مثل الملوك تراها في أسرّتها

أو كالعرائس معشوقين للبصر

٥٢٩

روينا من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال [إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه] فالنية لجميع الحركات والسكنات من المكلفين للأعمال كالمطر لما تنبته الأرض ، فالنية من حيث ذاتها واحدة وتختلف بالمتعلق وهو المنوي ، فتكون النتيجة بحسب المتعلق به لا بحسبها ، فإن حظ النية إنما هو القصد للفعل أو تركه ، وكون ذلك الفعل حسنا أو قبيحا وخيرا أو شرا ما هو أثر النية ، وإنما هو أمر عارض ميّزه الشارع وعيّنه للمكلف ، فليس للنية أثر البتة من هذا الوجه خاصة ، وإنما النية سبب في ظهور الأعمال الصالحة وغير الصالحة ، وليس لها إلا الإمداد ، وحقيقتها تعطي تعلقها بالمنوي ، وكون ذلك المنوي حسنا أو قبيحا ليس لها ، وإنما ذلك لصاحب الحكم فيه بالحسن والقبح ، فالمخاطب المكلف إن نوى الخير أثمر خيرا ، وإن نوى الشر أثمر شرا ، وما أتي عليه إلا من المحل من طيبه وخبثه ، فالإخلاص هو النية ، فإن فاتتك النية فاتك الخير كله ، فكثير ما بين فاعل بنية القربة إلى الله وبين فاعل بغير هذه النية ، والعبادة عمل وترك ، فالإخلاص مأمور به شرعا (الدِّينَ) وهو ما تعبدهم به (حُنَفاءَ) (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) فيجب تأخر العبد عن رتبة سيده ، وتخليص عبوديته لله من غيره ، كما أقر له بذلك في قبضة الذرية ، يريد الحق أن يستصحبه ذلك الإقرار في حياته الدنيا موضع الحجاب والستر ، فإن الحق له التقدم على الخلق بالوجود من جميع الوجوه وبالمكانة والرتبة ، فكان ولا مخلوق ، هذا تقدم الوجود ، وقدّر وقضى وحكم وأمضى إمضاء لا يردّ ولا يقضى عليه ، فهذا تقدم الرتبة ، فلا يجتمع الخلق والحق أبدا في وجه من الوجوه ، فالعبد عبد لنفسه ، والرب رب لنفسه ، فأوجب على عباده التأخر عن ربوبيته ، فشرع له الصلاة ليسميه بالمصلي ، وهو المتأخر عن رتبة ربه ، فقال تعالى من باب الإشارة (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) فمن لزم رتبته منا فما جنى. على نفسه بل أعطى الأمر حقه (وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (٦)

٥٣٠

اعلم أن كل مشرك كافر ، فإن المشرك باتباع هواه فيمن أشرك واتخذه إلها وعدوله عن أحدية الإله ، يسترها عن النظر في الأدلة والآيات المؤدية إلى توحيد الإله فسمي كافرا لذلك الستر ظاهرا وباطنا ، وسمي مشركا لكونه نسب الألوهية إلى غير الله مع الله ، فجعل لها نسبتين فأشرك ، فهذا الفرق بين المشرك والكافر ، وأما الكافر الذي ليس بمشرك فهو موحد غير أنه كافر بالرسول وببعض كتابه ، وكفره على وجهين : الوجه الواحد أن يكون كفره بما جاء من عند الله مثل كفر المشرك في توحيد الله ، والوجه الآخر أن يكون عالما برسول الله وبما جاء من عند الله أنه من عند الله ويستر ذلك عن العامة والمقلدة من أتباعه رغبة في الرياسة ، وهو الذي أراد عليه‌السلام بقوله في كتابه إلى قيصر [فإن توليت فعليك إثم الأريسيين] أي الأتباع.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٨)

متعلق الرضا القليل ، فإن الإنعام لا يتناهى بالبرهان الواضح والدليل ، فلابد من الرضى ، بذا حكم الدليل وقضى ، وبهذا المعنى رضاه سبحانه عنك بما أعطيته منك (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) لما كانت مواهب الله لا نهاية لها ، فما لها آخر ترجع إليه فتنقضي ، والعبد ما وفىّ فيما كلفه الله وسعه ولا حق استطاعته ، فصح وثبت (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) فيما أتوا به من الأعمال (وَرَضُوا عَنْهُ) ورضوا بما وهبهم مما عنده مما لا يتناهى كثرة ، فالرضا من صفات الحق والرضا من صفات الخلق بما ينبغي للحق وبما يليق بالمخلوق ، ورد في بعض الأخبار النبوية أن الناس في الجنة إذا أخذوا منازلهم فيها ، ناداهم الحق جل جلاله بالكلام الذي ينبغي أن ينسب إليه من غير تكييف ولا تشبيه [يا عبادي هل بقي لكم شيء] فيقولون : [يا ربنا ما بقي لنا شيء ، نجيتنا من النار وأدخلتنا الجنة وكسوتنا وأطعمتنا وسقيتنا وفعلت وصنعت ، فيقول جل جلاله : وبقي لكم شيء ، فيقولون : يا ربنا وما بقي لنا؟ فيقول : أن أعلمكم برضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبدا ، هل رضيتم؟ فيقولون : رضينا

٥٣١

عنك] فما يسر أهل الجنة بشيء أعظم من سرورهم بهذا الخطاب ، وهؤلاء المخاطبون بهذا الخطاب هم أهل الجنة الذين هم أهلها ، العاملون لها والمتعشقون بها ، الذين ما طلبوا من الحق سواها ، وأما العارفون أهل الله وخاصته فليس لهم في هذا الخطاب مدخل ، إذ قد نالوه في الدنيا ، وأولئك في الآخرة ، فالعارفون في الجنة بحكم العرض لا بحكم الذات وهم مع الله بالذات ، فقيل فيهم : أهل الله وخاصته ، ولم ينسبوا إلى الجنة لكن الجنة تنسب إليهم ، وأما أهل الجنة الذين هم أهلها فهم مع الجنة بالذات ومع الله بالعرض ، فرؤيتهم لله تعالى في أوقات مخصوصة ، وكلهم في الجنان مع الحور والولدان (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) بطلب الحق المشروع ليتصف به ، بالعمل ليرضي الله بذلك ، فيكون ممن رضي الله عنهم في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، فهم على ما شرع لهم رقيقة ـ خشية الفؤاد من قلة الزاد وهول المعاد ، بل هو من سوء المعاملة مع طلب المواصلة ، بل هو من الدعوى مع التعدي في التقوى.

(٩٩) سورة الزّلزلة مدنيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة إذا زلزلت تقوم مقام أو تعدل نصف القرآن إذا قسم قسمين.

(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (٢) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) (٦)

لا تخدعنك دار لا بقاء لها

بالله يا صاح كن منها على حذر

إن زلزلت راح ذاك المزج وانفصلت

هذي إلى الخلد والأخرى إلى سقر

فلا يغرنك شيء أنت تاركه

فإنما الناس في الدنيا على سفر

وإنما هي أعمالكم ترد عليكم ، ولا يبرز لكم إلا ما عملتم بيديكم ، فما للنفوس جنى

٥٣٢

إلا ما غرسته في حياتها الدنيا من خير أو شر ، فمن بذر حنطة ، حصد حنطة كانت له فيها غبطة ، ومن بذر ما بذر ، حصد مثل الذي بذر ، فقال تعالى :

(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (٧)

الأعمال معان عرضية تعرض للعامل ، ألحقها الله بالموزون فقال (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) فأدخل العمل في الميزان ، فكان موزونا في الحضرة المثالية التي لا تدرك المعاني إلا في صورة المحسوس ، والحق تعالى يحفظ الأعمال إما للعبد أو عليه ، فيكسو الله الأعمال التي هي أعراض لا تقوم بنفسها صور القائمين بأنفسهم ، ويجعل ذلك خلعا عليها ، ولذلك جاء وزن الأعمال وشبّهها بمثاقيل الذر ، فمن عمل خيرا على أي وجه كان فإنه يراه ويجازى به ، ومن عمل شرا فلابد أن يراه وقد يجازى به ، وقد يعفى عنه ويبدل له بخير إن كان في الدنيا قد تاب ، وإن مات عن غير توبة فلابد أن يبدل بما يقابله بما تقتضيه ندامته يوم يبعثون. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إنما هي أعمالكم ترد عليكم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر].

(وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨)

وأقله العتاب الإلهي والتقرير عند السؤال على ما وقع منه ، فلابد أن يقف على ما عمل ، فالمؤمن يرهب من هذا التوبيخ برؤية العمل القبيح الذي لابد له من رؤيته ، ولم يتعرض الحق في هذه الآية للمؤاخذة به ، فالرؤية لابد منها ، فإن كان ممن غفر له يرى عظيم ما جنى وعظيم نعمة الله عليه بالمغفرة ، هذا يعطيه الخبر الإلهي الصدق الذي لا يدخله الكذب ، فإنه محال على الجناب الإلهي ، فإن نظر العالم إلى أن خطاب الحق لعباده إنما يكون بحسب ما تواطؤا عليه ، وهذا خطاب عربي لسائر العرب بلسان ما اصطلحوا عليه ، من الأمور التي يتمدحون بها في عرفهم ومن الأمور التي يذمونها في عرفهم ، فعند العرب من مكارم الأخلاق أن الكريم إذا وعد وفا وإذا أوعد تجاوز وعفا ، وهي من مكارم أخلاقهم ومما يمدحون بها الكريم ، ونزول الوعيد عليهم بما هو في عرفهم ، لم يتعرض في ذلك لما تعطيه الأدلة العقلية من عدم النسخ لبعض الأخبار ولاستحالة الكذب ، بل المقصود إتيان مكارم الأخلاق ، قال شاعرهم :

٥٣٣

وإني إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

مدح نفسه بالعفو والتجاوز عمن جنى عليه ، بما أوعد على ذلك من العقوبة بالعفو والصفح ، ومدح نفسه بإنجاز ما وعد به من الخير ، يقال في اللسان : وعدته في الخير والشر ، ولا يقال : أوعدته بالهمز إلا في الشر خاصة ، والله يقول (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) أي بما تواطؤوا عليه ، والتجاوز والعفو عند العرب مما تواطؤوا على الثناء به على من ظهر منه ، فالله أولى بهذه الصفة ، وقد عرفنا الله أن وعيده ينفذه فيمن شاء ويغفر لمن شاء.

ـ إشارة ـ إذا بلغت النفس التراق ، وقيل : من راق ، والتفت الساق بالساق ، وزلزلت أرض الجسوم زلزالها ، وبان للنفس ما عليها وما لها ، وزلت بها القدم ، حينئذ تندم ولا ينفعها الندم.

(١٠٠) سورة العاديات مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (١) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (٢) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (٥) إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (٨)

الخير يعني المال ، فالنفس مجبولة على حب المال وجمعه ، فجعل الكرم في الإنسان تخلقا لا خلقا ، ولهذا سمى الزكاة صدقة أي كلفة شديدة على النفس لخروجها عن طبعها في ذلك.

(أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) (١٠)

إذا بعثت الأجسام من قبورها ، وحصل للعرض عليها ما في صدورها ، صدق الخبر الخبر ، وما بقي للريب في ذلك أثر.

٥٣٤

(إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ) (١١)

فاكتفى بالخبرة عن العلم ، إذ كانت كل خبرة علما.

(١٠١) سورة القارعة مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) (٤)

لما كانت رحمة الله واسعة ، ونعمته سابغة جامعة ، حشر العالم يوم القيامة كالفراش المبثوث ، لأن الرحمة منبثة في المواطن كلها ، فانبث العالم في طلبها لكون العالم على أحوال مختلفة ، وصور متنوعة الوجوه ، فتطلب بذلك الانبثاث من الله الرحمة التي تذهب منه تلك الصورة التي تؤديه إلى الشقاء ، فهذا سبب انبثاثهم في ذلك اليوم.

(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) (٥)

كذلك الجبال الصلبة تكون كالعهن المنفوش ، لما خرجت عنه من القساوة إلى اللين ، الذي يعطي الرحمة بالعباد.

(فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) (٧)

فإذا رفع ميزان العدل ، في قبة الفصل ، فاز بالثقل أهل الفضل.

٥٣٥

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (٩) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (١٠) نَارٌ حَامِيَةٌ) (١٢)

ـ الوجه الأول ـ اعلم أن الميزان الذي يوزن به الأعمال على شكل القبان ، ولهذا وصف بالثقل والخفة ، ليجمع بين الميزان العددي وهو قوله تعالى (بِحُسْبانٍ) وبين ما يوزن بالرطل ، وذلك لا يكون إلا في القبان ، فلذلك لم يعين الكفتين بل قال : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) في حق السعداء (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) في حق الأشقياء ، ولو كان ميزان الكفتين لقال : وأما من ثقلت كفة حسناته فهو كذا ، وأما من ثقلت كفة سيئاته فهو كذا ؛ وإنما جعل ميزان الثقل هو عين ميزان الخفة كصورة القبان ، ولو كان ذا كفتين لوصف كفة السيئات بالثقل أيضا إذا رجحت على الحسنات ، وما وصفها قط إلا بالخفة ، فعرفنا أن الميزان على شكل القبان. ـ راجع الأعراف آية ٩ ـ الوجه الثاني ـ الوزن وزنان : وزن الأعمال بعضها ببعض ويعتبر في ذلك كفة الحسنات ، ووزن الأعمال بعاملها ويعتبر فيها كفة العمل. لما كان الحشر يوم القيامة والنشور في الأجسام الطبيعية ، ظهر الميزان بصورة نشأتهم من الثقل ، فإذا ثقلت موازينهم وهم الذين أسعدهم الله فأرادوا حسنا ، وفعلوا في ظاهر أبدانهم حسنا ، فثقلت موازينهم ، فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى مائة ألف مما دون ذلك وما فوقه ، وأما القبيح السيّىء فواحدة بواحدة ، فيخف ميزانه أعني ميزان الشقي بالنسبة إلى ثقل السعيد. واعلم أن الحق تعالى ما اعتبر في الوزن إلا كفة الخير ، لا كفة الشر ، فهي الثقيلة في حق السعيد ، الخفيفة في حق الشقي ، مع كون السيئة غير مضاعفة ، ومع هذا فقد خفت كفة خيره ، فانظر ما أشقاه ، فالكفة الثقيلة للسعيد هي بعينها الخفيفة للشقي لقلة ما فيها من الخير أو لعدمه بالجملة ، مثل الذي يخرجه سبحانه من النار وما عمل خيرا قط ، فميزان مثل هذا ما في كفة اليمين منه شيء أصلا ، وليس عنده إلا ما في قلبه من العلم الضروري بتوحيد الله ، وليس له في ذلك تعمل ، مثل سائر الضروريات ؛ فلو اعتبر الحق بالثقل والخفة الكفتين ، كفة الخير والشر لكان يزيد بيانا في ذلك ، فإن إحدى الكفتين إذا ثقلت خفت الأخرى بلا شك ، خيرا كان أو شرا ؛ وأما إذا وقع الوزن به فيكون هو في إحدى الكفتين ، وعمله في الأخرى ، فذلك وزن آخر ، فمن ثقل ميزانه نزل عمله إلى

٥٣٦

أسفل ، فإن الأعمال في الدنيا من مشاق النفوس ، والمشاق محلها النار ، فتنزل كفة عمله تطلب النار ، وترتفع الكفة التي هو فيها لخفتها فيدخل الجنة ، لأن لها العلو. والشقي تثقل كفة الميزان التي هو فيها ، وتخف كفة عمله ، فيهوي في النار ، وهو قوله (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) فكفة ميزان العمل هي المعتبرة في هذا النوع من الوزن ، الموصوفة بالثقل في السعيد لرفعة صاحبها ، والموصوفة بالخفة في حق الشقي لثقل صاحبها ، وهو قوله تعالى : (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) وليس إلا ما يعطيهم من الثقل الذي يهوون به في نار جهنم.

(١٠٢) سورة التكاثر مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) (١)

تفسير من باب الإشارة : من حصل له العلم بالأحكام التي يحتاج إليها فلا يكثر مما لا يحتاج إليه ، فإن التكثير مما لا حاجة فيه سبب في تضييع الوقت عما هو أهم ، فعلى الإنسان أن يربط نفسه بما فيه سعادته ونجاته ، ولا يكون ممن قال سبحانه وتعالى فيهم (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) ليقال ـ الحديث إنك عالم ـ فقد ذم الله ذلك في كثير العلم وقليله ، وليعمر العبد أوقاته بما هو أولى به.

(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) (٧)

اليقين هو كل ما ثبت واستقر ولم يتزلزل ، فله علم وعين وحق ، أي وجوب حكمه ، فلا يضاف إلى اليقين إلا ما يقبله ، فإن كان مما تدل عليه علامة أضيف إليه العلم ، وإن لم يكن فلا يضاف إليه ، وإن كان مما يشهد أضيف إليه العين ، وإن لم يكن فلا تضاف

٥٣٧

إليه ، وإن كان ممن له في نفس الأمر حكم واجب على أحد من المخلوقين أضيف إليه الحق ، فقيل : حق اليقين لوجوبه ، فلو كان علم اليقين وعينه وحقه نفس اليقين ما صحت الإضافة ، لأن الشيء الواحد لا يضاف إلى نفسه ، لأن الإضافة لا تكون إلا بين مضاف ومضاف إليه ، فتطلب الكثرة حتى يصح وجودها ، ومن أخذ الأشياء عن عين اليقين اتصف بالعلم اليقيني ، فإن الجاهل قد يتصف بالعلم فيما جهله ولا يتصف باليقين ، ولهذا جاز أن يضاف العلم إلى اليقين ، وليس من إضافة الشيء إلى نفسه ، لا لفظا ولا معنى ، فأما اللفظ فإن لفظة اليقين ، ما هي لفظة العلم ، فجازت الإضافة. ومن طريق المعنى ، إن اليقين عبارة عن استقرار العلم في النفس ، والاستقرار ما هو عين المستقر ، بل الاستقرار صفة للمستقر ، وهي حقيقة معنوية لا نفسية ، فليست عين نفس العلم فجازت الإضاقة ، وإنما قلنا : إن الجاهل قد يتصف بالعلم فيما هو جاهل به ، فهو قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) فذكر أعلم في الصنفين ، ومن لم يفرق بين اليقين والعلم ويقول : إن العلم هو اليقين ، وقد ورد في كتاب الله مضافا ، احتاج إلى طلب وجه في ذلك تصح له به الإضافة ليؤمن بما جاء من عند الله ، فقال : قد يكون المعنى واحدا ويدل عليه لفظان مختلفان ، فيضاف أحد اللفظين إلى الآخر ، فإنهما غيران بلا شك في الصورة ، مع أحدية العين ، هكذا قال أصحاب اللسان ، وهو قول صحيح ، غير أن الإضافة هنا قد تقع في الصورة ، والصورة صورتان ، فإن في ذكر لفظين مختلفين صحة الإضافة لحق اليقين وعلم اليقين وعين اليقين. وإنما احتال من احتال هذه الحيلة لقصور فهمه عما تدل عليه الألفاظ من الموضوعات من المعاني ؛ فلو علم ذلك لعلم أن مدلول لفظة العلم غير مدلول لفظة اليقين ، فقد علمنا علما يقينيا أن في العالم بيتا يسمّى الكعبة ، ببلدة تسمى مكة ، لا يتمكن لأحد الجهل بهذا ، ولا أن يدخله شبهة ، ولا يقدح في دليله دخل ، فاستقر العلم بذلك ، فأضيف إلى اليقين الذي هو الاستقرار أن لله بيتا يسمى الكعبة ، بقرية تسمى مكة ، تحج الناس إليه في كل سنة ، ويطوفون به ، ثم شوهد هذا البيت عند الوصول إليه بالعين المحسوسة ، فاستقر عند النفس بطريق العين كيفيته وهيئته وحاله ، فكان ذلك عين اليقين الذي كان قبل الشهود علم يقين ، وحصل في النفس برؤيته ما لم يكن عندها قبل

٥٣٨

رؤيته ذوقا ، ثم فتح الله عين بصيرته في كون ذلك البيت مضافا إلى الله مطافا به ، مقصودا دون غيره من البيوت المضافة إلى الله ، فعلم علة ذلك وسببه ، بإعلام الله لا بنظره واجتهاده ، فكان علمه بذلك حقا يقينا مقررا عنده لا يتزلزل ، فما كل حق له قرار ، ولا كل علم ، ولا كل عين ، فلذلك صحت الإضافة ، فإذا تقرر هذا فقد علمت معنى علم اليقين وعينه وحقه. فكل ما ثبت له القرار بعلامة مخصوصة به ولا تكون علامة إلا عليه فذلك هو علم اليقين ، ولابد من شهود تلك العلامة وتعلقها بالعين واختصاصها به فذلك هو عين اليقين ، ولابد من وجود حكمه في هذه العين وفي هذا العلم ، فلا يتصرف العلم إلا فيما يجب له التصرف فيه ، ولا تنظر العين إلا فيما يجب لها النظر إليه وفيه ، فذلك هو حق اليقين الذي أوجبه على العلم والعين.

(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (٨)

الإنسان يوم القيامة الكبرى ، وهي قيامة البعث والحشر الأعظم ، الذي يجمع الناس فيه ما بين مسؤول ومحاسب ومناقش في حسابه وغير مناقش ، وهو الحساب اليسير ، وهو عرض الأعمال على العبد من غير مناقشة ، والمناقشة السؤال عن العلل في الأعمال ، فالسؤال عام في الجميع حتى الرسل ، والسؤال على نوعين : سؤال على تقرير النعم على طريق مباسطة الحق للمسئول ، فهو ملتذ بالسؤال ، وسؤال على طريق التوبيخ أيضا لتقرير النعم فهو في شدة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه وقد أكلوا تمرا وماء عن جوع [إنكم لتسألون عن نعيم هذا اليوم] وهذا السؤال موجه للإنذار والبشارة في قوم مخصوصين ، وهم أهل ذلك المجلس ، وهو تنبيه بما هو عليه الأمر في حق الجميع للتقليل من الحلال ، إما للنشاط في الطاعات ، وإما لخفة الحساب.

٥٣٩

(١٠٣) سورة العصر مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣)

فينبغي للمؤمن أن يقبل من أخيه النصح والوصية ، فإن المؤمنين أهل إنصاف ، مطلبهم واحد ، مأمورون بذلك بقوله تعالى : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ) وقد أمرنا بالتعاون على البر والتقوى ، ونهانا عن التعاون على الإثم والعدوان ، بقوله (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) لذلك عليك بالنصيحة على الإطلاق ، فإنها الدين ، خرج مسلم في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال [الدين النصيحة ، قالوا : لمن يا رسول الله؟ قال : لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم] واعلم أن النصاح الخيط ، والمنصحة الإبرة ، والناصح الخايط. والخايط هو الذي يؤلف أجزاء الثوب حتى يصير قميصا أو ما كان ، فينتفع به بتأليفه إياها ، وما ألفه إلا بنصحه. والناصح في دين الله ، هو الذي يؤلف بين عباد الله وبين ما فيه سعادتهم عند الله ، ويؤلف بين الله وبين خلقه ، وهو قوله : النصيحة لله ، وفيه تنبيه في الشفاعة عند الله إذا رأى العبد الناصح أن الله يريد مؤاخذة العبد على جريمته ، فيقول لله : يا رب إنك ندبت إلى العفو عن عبادك ، وجعلت ذلك من مكارم الأخلاق ، وهو أولى من جزاء المسيء بما يسوءه ؛ وذكرت للعبد أن أجر العافين عن الناس فيما أساؤا إليهم فيه ، مما توجهت عليهم به الحقوق ، على الله ؛ فأنت أحق بهذه الصفة لما أنت عليه من الجود ، والكرم ، والامتنان ، ولا مكره لك ؛ فأنت أهل العفو والتكرم والتجاوز عن هذا العبد المسيء المتعدي حدودك عن إساءته ، وإسبال ذيل الكرم عليه ؛ وأما النصيحة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي زمانه إذا رأى منه الصاحب أمرا قد قرر خلافه ـ والإنسان صاحب غفلات ـ فينبّه الصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، مثل سهوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة ، ولهذا أمر الله عزوجل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٥٤٠