رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

الانتفاض سبعون ألف قطرة ، يخلق الله من كل قطرة ملكا ، كما يخلق الإنسان من الماء في الرحم ، فيخلق سبعون ألف ملك من تلك السبعين ألف قطرة ، وهم الذين يدخلون البيت المعمور ، وبعدد هؤلاء الملائكة في كل يوم تكون خواطر بني آدم ، فما من شخص مؤمن ولا غيره إلا ويخطر له سبعون ألف خاطر في كل يوم ، لا يشعر بها إلا أهل الله ، وهؤلاء الملائكة الذين يدخلون البيت المعمور يجتمعون عند خروجهم منه مع الملائكة الذين خلقهم الله من خواطر القلوب ، فإذا اجتمعوا بهم كان ذكرهم الاستغفار إلى يوم القيامة ، فمن كان قلبه معمورا بذكر الله مستصحبا ، كانت الملائكة المخلوقة من خواطره تمتاز عن الملائكة التي خلقت من خواطر قلب ليس له هذا المقام ، وسواء كان الخاطر فيما ينبغي أو فيما لا ينبغي ، فالقلوب كلها من هذا البيت خلقت ، فلا تزال معمورة دائما ، وكل ملك يتكون من الخاطر يكون على صورة ما خطر سواء ، فاجعل قلبك مثل البيت المعمور بحضورك مع الحق في كل حال ، واعلم أنه ما وسع الحق شيء سوى قلب المؤمن.

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) (٥)

لما كانت السماء كالسقف للبيت لهذا سماه الحق السقف المرفوع ـ إشارة لا تفسير ـ إشارة لما يأتي الإنسان من العلم والتعريف الإلهي من نفسه ، فتدركه القوى الحسية والمعنوية ـ (وَالطُّورِ) الجسم لما فيه من الميل الطبيعي ، لكونه لا يستقل بنفسه في وجوده (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) عن إملاء إلهي ويمين كاتبة بقلم اقتداري (فِي رَقٍّ) وهو عينك (مَنْشُورٍ) ظاهر غير مطوي فما هو مستور (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) وهو القلب الذي وسع الحق ، فهو عامره (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) ما في الرأس من القوى الحسية والمعنوية (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي الطبيعة الموقدة بما فيها من النار الحاكم الموجب للحركة (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ) أي ما تستعذبه النفس الحيوانية والروح الأمري والعقل العلوي من سيدها المربي لها المصلح من شأنها (لَواقِعٌ) ساقط عليها (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) ـ إشارة واعتبار ـ الطور في الاعتبار الجسم ، مسلط عليه الروح ليدبره ، (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) سمي مسطورا أي سلط عليكم لتعملوا به ، لأنه إنما جاء ليعمل به ، ومتى عصي انتقم ممن عصاه ، (فِي رَقٍّ) هو الوجود الذي كتب فيه حروف العالم ، و (مَنْشُورٍ) هو ما ظهر لك منه ، والمطوي ما غاب عنك

٢٠١

منه ، (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) هو محل القوى من الإنسان الذي هو الدماغ ، لأن فيه جميع القوى المعنوية والحسية (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) هو بحر الحياة لأنه لو لا هذا البحر ما عقل شيئا ولا حصل له علم ولا غيره ، إذ من شرط العلم الحياة ، والبحر المسجور في الاعتبار هو المعنى الذي يصيرنا نارا ، وهو في حق النفس في حال الاصطلام تنعت بالبحر المسجور ، فكل ما يعسر على السالك إزالته ، أعانته عليه نار الاصطلام فأحرقته وأراحته منه.

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِن دَافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا (٩) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١١)

قال الحق لعبده : بلغ عني حقا ، وأنا الصادق ، وعزتي وجلالي وما أخفيته من سنّي علمي ، لأعذبن عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، من كذّب رسلي وكذّب اختصاصي لهم من سائر العباد ، وكذّب بصفاتي وادعى أنه ليس لي صفة ، وأوجب عليّ وأدخلني تحت الحصر ، وكذّب كلامي وتأوله من غير علم به ، وكذّب بلقائي وقال : إني لم أخلقه وإني غير قادر على بعثه كما بدأته ، وكذّب بحشري ونشري وحوض نبيي وميزاني وصراطي ورؤيتي وناري وجنتي ، وزعم أنها أمثلة وعبارات المراد بها أمور فوق ما ظهر ، وعزتي وجلالي لتردون وتعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ، ولأنتقمن في دار الخزي والعذاب منهم على ما أخبرت في كتبي ، كذبوني وصدقوا أهواءهم ، ونفوسهم سولت لهم الأباطيل ، وشياطينهم لعبت بهم (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) صراطي ممدود على ناري ، فالويل ثم الويل لمن كذبني (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

(الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦)

٢٠٢

كما أنه استوى عندهم الإنذار وعدم الإنذار في الدنيا فلم يؤمنوا ، كذلك استوى في حقهم في الآخرة وجود الصبر وعدمه ، فلم يؤثر في نفوذ الجزاء الوفاق.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (٢١)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) يعني إيمان الفطرة (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فورثوهم ، وصلّي عليهم إن ماتوا ، وأقيمت فيهم أحكام الإسلام كلها ، مع كونهم على حال لا يعقلون جملة واحدة (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) يعني أولئك الصغار ، ما أنقصناهم من أعمالهم ، وأضاف العمل إليهم يعني قولهم بلى في إشهاد الذر ، فبقي لهم على غاية التمام ما نقصهم منه شيئا ، لأنهم لم يطرأ عليهم حال يخرجهم من فعل ما من أفعالهم عن ذلك الإقرار الأول ، فالذرية تابعة للآباء في الإيمان ، ولا يتبعونهم في الكفر إن كان الآباء كفارا.

(وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ (٢٥) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٢٨)

البر معناه المحسان والمحسن ، فإن الحق تعالى نظر إلى خلقه من كل وجه بالإحسان ، ولهذا تسمى بالبر الرحيم ، فمن حيث أن الخلق عيال الله رزقهم ، ومن حيث أن فيهم من

٢٠٣

هو أهل له اعتنى بهم فأشفق عليهم ، ومن حيث أنهم مخلوقون على الصورة على وجه الكمال استنابهم ، ومن حيث أن بعضهم على بعض الصورة رفق بهم ، ومن حيث النسب المذكور في أن الرحم شجنة من الرحمن نظر إليهم الاسم الرحمن بالوصل وانتظام الشمل ، فمن كل وجه له نظر إليهم بالإحسان.

فلو لا الحصر ما وجد النعيم

ولا كان الجنان ولا الجحيم

وفي الدارين إنعام لرحمى

بأهلهما يقوم بهم مقيم

وقول الله أصدق كل قيل

يعرف أنه البر الرحيم

فلما ظهر العالم من البر الرحيم لما يعرف غير الإحسان والرحمة.

(فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ

٢٠٤

مَّرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (٤٨)

جعل الله تعالى من باب الإشارات واللطائف قول الكفار حكم الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما جعل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكم الله علينا ، وفي هذه الآية تأنيس وبشارة لنا بأن أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر في هذه الآية على الحكم الرباني عليه في ذلك ، فأخبر بوجود الضيق والمشقة لذلك الحكم ، فكذلك إذا جاء الحكم منه علينا بما لا يوافق غرض النفس ، فيأخذه المؤمن عن مشقة وجهد وعناء ، فإنه لا يسقط عن مرتبة الإيمان وكأن هذه الآية تنفس عن الشدة التي في الآية التي في النساء (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآية وأضاف الحق إلى نفسه الأعين بلفظ الجمع ليدل على الكثرة ، فكل عين حافظة مدركة لأمر ما بأي وجه كان فهي عين الحق ، الذي له الحفظ والإدراك ، فذلك سبب الجمع فيها ، فعين الله حافظة بلا شك ، ولما عيّن الله أصحاب الحقوق فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن لربك عليك حقا ، وإن لنفسك عليك حقا ، وإن لأهلك عليك حقا ، فآت كل ذي حق حقه] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لي وقت لا يسعني فيه غير ربي] فهو لله في ذلك الموطن لا لنفسه ولا لشيء من خلقه ، وسامحه الحق في رجوعه إلى أهله من هذا المقام ، لكونه ما يرجعه إلا حق الله الذي افترضه عليه لمن رجع إليه ، وهذا مقام يقتضي الصبر عن الله من حيث هذا المشهد الخاص ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) برجوعك لأداء هذه الحقوق (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) لعلمه تعالى بأنه محب ، والمحب يتألم للفراق والاشتغال بشهود الغير ، والعبد مأمور بالرضى بالقضاء لا بكل مقضي به ، فقوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) المأمور به ، فذلك الثبوت مع الله عند نفوذ الحكم الإلهي فيه ، أي حكم كان من بلاء أو عافية ، ولما كان مطلوب الإنسان بالطبع ، الخروج من الضيق إلى الانفساح والسعة والضياء المشرق ، لما يراه من ظلمة الطبع

٢٠٥

وضيقه ، فلا يصبر ، فقيل له : اثبت للحكم فإنك لا تخلو عن نفوذ حكم فيك ، إما بما يسوءك أو بما يسرك ، فإن ساءك فتحرك إلينا في رفعه عنك ، وإن سرك فتحرك إلينا في إبقائه عليك والشكر على ذلك ، فنزيدك ما يتضاعف به سرورك ولا يضعف ، فأنت رابح على كل حال ، وما أمرناك بالصبر إلا ليكون عبادة واجبة فتجازى جزاء من أدى الواجب (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي ما حكمنا عليك إلا بما هو الأصلح لك عندنا ، سواء سرك أم ساءك ، أي ما أنت بحيث نجهله ، أو ننساه ، فمن تحقق بهذه الآية يعطى الثبوت مع الحكم الرباني لما فيه من المصلحة ، وإن لم يشعر به العبد وجهله فهو في نفس الأمر مصلحة ، كان الحكم ما كان ، وهذا هو مقام الإحسان الأول ، الذي هو فوق الإيمان ، فله الشهود الدائم في اختلاف الأحكام ، ولابد من اختلافها لأنه تعالى كل يوم هو في شأن (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ).

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) (٤٩)

(٥٣) سورة النّجم مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) (١)

أي إذا سقط ، وهذا قسم أي ومسقط النجم ، فذكر الحق أشياء وأضمر الأسماء الإلهية ، لتدل الأشياء على ما يريده من الأسماء الإلهية ـ راجع سورة والشمس. ـ اعتبار ـ هذه الآية فيها إشارة إلى النظر في الأدلة ، لأنه لما أفل النجم استدل إبراهيم الخليل عليه‌السلام على أنه ليس بإله ، فكمل برهانه النظري.

(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) (٢)

الخوف مع الضلال قال تعالى : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) أي ما خاف في حيرته ،

٢٠٦

لأنه من علم أن الغاية في الحق هي الحيرة فقد اهتدى ، فهو صاحب هدى وبيان في إثبات الحيرة.

(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) (٣)

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) بأسرار الاستوا ، لكونه شديد القوى ، ولما كان القرآن لا يقبل نزوله إلا مناسبا له في الاعتدال ، فهو معرى عن الهوى ، لهذا قيل في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) في حين قيل في غيره من الرسل الخلفاء : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) فلم ينزل في المرتبة منزلة من أخبر عنه أنه لا ينطق عن الهوى ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسان حق ظاهر في صورة خلق.

(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (٤)

وهذا يدل على أن الحديث مثل القرآن بالنص ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينطق عن هواه ، بل ينطق عن الله تعالى ، وإن لم نسم كل كلام إلهي قرآنا ، مع علمنا أنه كلام الله ، فالقرآن كلام الله وما كل كلام الله قرآن ، والكل كلامه ، ولهذا فإن حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو ما نسميه السنة حكم الله ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناقل عن الله ومبلغ عنه بما أراه الله ، ومن لا ينطق عن الهوى لا يسأل عما يقول سؤال مناقشة وحساب ، ولكن قد يسأل سؤال استفهام لإظهار علم يستفيده السامعون.

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى) (٧)

اعلم أن الأنبياء ما اختارت النوم على ظهورها إلا لعلمها أنه كل ما قابل الوجه فهو أفق له ، إذ كان لا يقابل الوجه إلا الأفق ، وثمّ أفق أدنى أي أقرب إلى الأرض ، وثمّ أفق أعلى وهو ما تقابله بوجهك عند استلقائك على ظهرك.

(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) (٨)

ـ الوجه الأول ـ فدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتدلى الحق تعالى ، إذ لا يكون التدلي إلا

٢٠٧

من أعلى ـ الوجه الثاني ـ ثم دنا في إسرائه إلى السموات ليريه من آياته ، فتدلى فدل على أن نسبة الصعود والهبوط على السواء في حقه ، فجمع بين صاحب الحوت وصاحب الإسراء أنه لم يكن واحد منهما بأقرب من الحق من الآخر ، فهي إشارة إلى عدم التحيز وأن الذات مجهولة غير مقيدة بقيد معين ، فكان من آياته التي أراه ليلة إسرائه كونه تدلى في حال عروجه.

(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (٩)

قاب قوسين هو التقاء قطري الدائرة ، أو هو قدر الخط الذي يقسم قطري الدائرة ، فيشقها بقسمين وهو غاية القرب ، فإن أقرب القرب أن يكون عين الخط الذي به تقسم الدائرة نصفين لظهور القوسين (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) وهي إشارة إلى التقريب الصوري ، فإنه ما أظهر القوسين من الدائرة إلا الخط المتوهم ، ولا يكون قرب أقرب من القوسين ، إلا من كان قربه قرب حبل الوريد منه ، وهو القرب العام ، ومن عرف هذا القرب كان من المقربين ، وعرف سر الحق في وجوده وموجوداته على التنزيه ، فقال : (أَوْ أَدْنى) يعني مما تمناه العبد أو يتمناه ، وهذا أبلغ في المعنى في قوله أو أدنى ، فهو قرب قدر لا قرب مقدار. واعلم أن رؤية الحق لا تكون أبدا حيث كانت إلا في منازلة بين عروج ونزول ، فالعروج منّا والنزول منه ، فلنا التداني وله التدلي ، إذ لا يكون التدلي إلا من أعلى ، ولنا الترقي وله تلقي الوافدين عليه ، وذلك كله إعلام بالصورة التي يتجلى فيها لعباده ، وأنها ذات حد ومقدار ، فكانت كل صورة من الأخرى أدنى من قاب قوسين ، لكل واحدة من الصورتين قوس أظهر التقويس ، والفرقان بين الصورتين الخط الذي قسّم الدائرة بنصفين ، فكان الأمر عينا واحدة ثم ظهر بالصورة أمران ، فلما صار الحكم أمرين ، كان من الأمر الواحد تدليا لأن العلو كان له ، وفي عين هذا التدلي دنو من الأمر الآخر ، وكان من الأمر الآخر تدان إلى من تدلى إليه ، فكان دنوه عروجا ، لأن تدلي الأمر الآخر إليه أعلمنا أن السفل كان قسم هذا الآخر ، وما تداني كل واحد من الآخر إلا ليرجع الأمر كما كان دائرة واحدة ، لا فصل بين قطريها ، وهذا الخط الفاصل بين قسم الدائرة هو عين تميز العبد عنه ، وتميزه عن العبد من الوجه الذي كان به الحق إلها وكان العبد به عبدا ، فلما تحقق التمييز ، ووقع

٢٠٨

الانفصال بالتكوين ، وأظهر الخط حكمه ، عاد الأمر واحدا ، فوصف الحق نفسه بأنه سمع العبد وبصره وجميع قواه ، فالعالم في جنب الحق متوهم الوجود لا موجود ، فالموجود والوجود ليس إلا عين الحق وهو قوله : (أَوْ أَدْنى) فالأدنى رفع هذا التوهم ، وإذا رفع من الوهم لم يبق سوى دائرة ، فلم تتعين القوسان ، فمن كان من ربه في القرب بهذه المثابة ، أعني بمثابة الخط القاسم للدائرة ، ثم رفع نفسه منها ، ما يدري أحد ما يحصل له من العلم بالله ، ولما كان القرآن منزلا على لسان العرب ، ففيه ما في اللسان العربي ، ولما كانت الأعراب لا تعقل ما لا يعقل إلا حتى ينزل لها في التوصيل بما تعقله ، لذلك جاءت الكلمات التي وردت في القرآن والحديث من الألفاظ التي توهم التشبيه والتجسيم وغير ذلك مما لا يليق بالله تعالى في النظر الفكري عند العقل خاصة ، ولما كانت الملوك عند العرب تجلس عبدها المقرب المكرم منها بهذا القدر في المساحة ، فعقلت العرب من هذا الخطاب (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) قرب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربه ، ولا تبالي بما فهمت من ذلك سوى القرب ، ـ إشارة ـ إذا نزلت (قابَ قَوْسَيْنِ) ، فلا تطلب أثرا بعد عين ، فمقام قاب قوسين مقام المعاينة ، وهو مقام يعطي حكمه في الدنيا والآخرة ، حيث كان ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ما تجلى الله لشيء ثم احتجب عنه] وفيه أنشدوا.

يا مؤنسي بالليل إذا هجع الورى

ومحدثي من بينهم بنهار (١)

ولما أدنى الحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تدلى إليه.

(فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (١٠)

بلا واسطة ، وأما وحيه بالواسطة فقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) وما عيّن لنا في الذكر الحكيم ما أوحى ، ولا ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أوحي في ذلك القرب به إليه ، فكان التلقي في هذا الموطن تلقيا ذاتيا لا يعلمه إلا من ذاقه (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ـ إشارة ـ من التحدث بنعم الله تعالى يترجم الشيخ قدس الله سره عما ذاقه من مناجاة في سلوكه في مقام (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) فيقول قال لي : ناجيتك في كل حضرة ،

__________________

(١) راجع كتابنا شرح كلمات الصوفية ص ٣٤٥.

٢٠٩

ونظرت إليك فيها نظرة ، ثمّ نظرة بين هشيمه ونضره ، وفي هذا كله لا تشبع ولا تقنع ، إلا تحيط وتجمع ، وتقول : هذا ثماد من بحور ، وقليل من كثير ؛ فقلت : من أين كان للعبد أن يعرف مولاه ، لو لا ما قلت (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ والعبد ليست له إرادة ، يطلب بها الرجوع إلى الشهادة ، إنما هي الإفادة والزيادة ، فإن وقع منك لا مني ، نطقت عنك لا عني ، وكانت لي الحجة ، واتضح لي سنن المحجة ، فوعزتك لو أبقيتني آباد الآباد ، ما طلبت منك إلا الازدياد ، فإني علمت أن النهاية محال ، فكيف أرجع عن هذا الحال؟ فإن أردت مني الرجوع إلى الملك فأشترط ، وحينئذ تقر عيني وأغتبط ، قال : وماذا تشترط؟ قلت : يكون نوري عليهم منبسط ، أرقيهم بالهمة ، وأنا خارج عن كور العمة ـ أي أبين لهم ، ولا أتقيد بهم ـ أناجي بواطنهم بقلبك ، وأنا مخبو في خزائن غيبك [قوله «أناجيهم بقلبك» أي بقلبي الذي هو متعلق بك ـ فهي إضافة ملك وتشريف ـ فأنت بعثته إليهم ، فكنت مقتديا لأمرك لا صاحب هوى] يجدون الأثر ولا يرون عينا ، ويطلبون أينا فلا يجدون أينا ـ أي إني أتبرأ من الذي أوصلت إليهم ، وأعلمهم أنه من عند الله ، وأني عبد لا أثر لي ، فيشهدون أثر الحق في ذواتهم ، ولا يرون عين المؤثر ـ فتكبر هممهم ، ويتقوى أممهم ، حتى أكون في ذلك الإرشاد والهداية ، صاحب نهاية وبداية ، فأخترق وإليّ يخترق ، ونطلب فلا نلحق ، فإن صح لي هذا الاشتراط ، وتقوى هذا الارتباط ، فإنما أنشر البساط ، وأسير بين الانقباض والانبساط ؛ قال : ارق إلى حضرة أوحى أناجيك فيها بما يكون ، وأهب لك بها سر القلم والنون ، حتى تقول للشيء كن فيكون ؛ فاختطفت مني ، وأفنيت عني ، واتفقت أمور وأسرار ، غطّى عليهن إقرار وإنكار ، جلّت عن العبارة ، ودقّت عن الإشارة ، فهي لا تنعت ولا توصف ، ولا تحدّ ولا تتصف ، وغاية العبارة عنها أن يقال : زال قلت وقال ، وانعدم المقام والحال ، ولم يبق مثل ولا ضد ، ولا مطلع ولا حدّ ، وذهبت الجنة والنار ، وفنيت الظلم والأنوار ، وفني كل قاب ورفرف ، ولم يبق جناح ولا أشرف ، واتحد السؤال والجواب ، وزال المكتوب والكتاب ، وكان المجيب هو المجاب ، ومضت البحار وأحجارها ، والحدائق وأزهارها ، ومارت السماء وطمست أنوارها ، فلم أرجع إلى البقاء بالحق ، بعد ذهاب العين والمحق ، حتى وجدت في غيابات لباب سر أسرار روح معنى قلب النفس ، ما كنت أمّلته بالأمس ، ثم توجني بتاج البهاء ، وإكليل السناء ، وأفرغ عليّ حلة

٢١٠

الكبرياء ، وأذن لي أن آذن على سواء ، وذلك على الشرط الذي اشترطته في مناجاة حضرة الرياح ، والعقد الذي ربطته بحضرة الجرس والجناح ، وأنا اليوم أنادي وأنادى ، وأهادي وأهادى ، وأسري ويسرى إلي ، وأتوكل ويتوكل علي ، ووهب لي كل حضرة تحت علمي ، يخترقها السالكون إلي باسمي ، ولا يدركون مني غير ما أدركته ، ولا يملك أحد منهم في وجودي سوى ما ملكته ، هذا إن كانت لهم عندي عناية ، وسبق لهم في سابق علمي هداية ، وإلا ففي بحر المعارف يسبحون ، وفي قفر اللطائف يخبطون ، مهد الله لهم السبيل ، وعرفهم أسرار التنزيل.

(مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) (١١)

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) العين ، أي تجلى له في صورة علمه به ، فأنس بمشاهدة من علمه ، فكان شهود تأنيس في ذلك المقام.

(أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) (١٢)

ـ إشارة ـ ما عرف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم طعم التواضع إلا صبيحة ليلة إسرائه ، لأنه نزل من أدنى من قاب قوسين إلى من أكذبه ، فاحتمله وعفا عنه ، فإنه ما تواضع عن رفعة إلا صاحب منعة ، فلا يتواضع إلا مؤمن ، فإن له الرفعة الإلهية بالإيمان.

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) (١٤)

إنما سميت منتهى ، لأنه إليها ينتهي ما ينزل ، ثم يلبس صورة يقتضيها حكم السموات ، وإليها ينتهي ما يطلع من الأرض ثم يحبس ، فالسدرة شجرة في الجنة تنتهي إليها أعمال بني آدم ، ولهذا سميت سدرة المنتهى ، فهي موضع الفصل ، وبظلها تستظل صورة الأعمال ، والسدرة عروقها دون السماء ، وأصلها في السماء ، وفروعها في عليين ، فتنتهي إليها أعمال العباد الصالحة والطالحة ، فإذا مات الإنسان وقبضت روحه قرنت بعملها حيث انتهى عمله من السدرة ، فالذي لا تفتح له أبواب السماء عمله في عروق هذه السدرة ، والذي يفتح لهم أبواب السماء عملهم في موضع ثمر هذه السدرة ، ولهذا لا يجوع السعيد ولا يعرى ،

٢١١

للورق والثمر اللذين في الفروع ، والشقي يجوع ويعرى لعدم الثمر والورق في العروق ، وللحق فيها تجل خاص عظيم يقيد الناظر ويحير الخاطر ، وفيها من الآيات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها [إنها غشيها من نور الله ما غشي فلا يستطيع أحد أن ينعتها] للغشاء النوري الذي لا تنفذه الأبصار ، بل لا تدركه الأبصار ، فهي شجرة النور ، فعليها من النور والبهاء بحيث أن يعجز عن وصفها الإنسان من كل عالم ، وما في الجنة قصر ولا طاقة إلا وغصن من أغصان هذه السدرة داخل فيه ، وفي ذلك الغصن من النبق على قدر ما في العمل الذي هو الغصن صورته من الحركات ، وما من ورقة في ذلك الغصن إلا وفيها من الحسن بقدر ما حضر هذا العبد مع الله في ذلك العمل ، وأوراق الغصن بعدد الأنفاس في ذلك العمل ، وإذا أكل أهل السعادة من هذه الشجرة زال الغلّ من صدروهم ، ومكتوب على ورقها سبوح قدوس رب الملائكة والروح.

(عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى) (١٥)

تأوي عندها نفوس السعداء ، وهي الجنة التي أنزل منها آدم ، وهي اليوم مقام الروح الأمين جبريل عليه‌السلام ، وهي اليوم برزخ لذرية آدم ونزل إليها جبريل من السدرة بنزول آدم ، وهذه الجنة لا تقتضي الخلود لذاتها ، فلذلك أمكن خروج آدم منها ، ولذلك تأثر بالاشتياق أن يكون ملكا بعد سجود الملائكة بغرور إبليس إياه ووعده في الخلود ، رغبة في الخلود والبقاء مع جبريل ، والجنة التي عرضها السموات والأرض تقتضي الخلود لذاتها ، يعلم ذلك من دخلها أنه لا يمكن الخروج منها إذ لا سبيل للفساد إليها ، قال سبحانه وتعالى في وصف عطائها : (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير منقطع.

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) (١٦)

فلم ينعتها سبحانه ، وكذلك قال عليه‌السلام ، وهو معدن الفصاحة والحكم ، وقد أوتي جوامع الكلم : [فغشيها من نور الله ما غشيها ، فلم يستطع أحد أن ينعتها] وإذا كان هذا ، فكيف يصف أحد حقيقتها؟ فجدير أن يوقف عندما وقف ، وغشاها الله من الأنوار ما غشى ، ألا إن تلك الأنوار أنوار الأعمال ، فلا يستطيع أحد أن ينعتها إنما ينظر إليها فيدركه

٢١٢

البهت ، فلا تصل عين إلى مشاهدتها فتحدها أو تصفها ، فالنور الذي كساها نور أعمال العباد ، وأنوار الأعمال تبعث من صورها فتغشاها ، فلا يستطيع أحد أن ينعتها ، فإن النعت للأشياء تقييد وتمييز ، والأعمال تختلف ولها مراتب ، وأنوارها على قدر مراتبها ، فعال وأعلى ، ومضيء وأضوأ ، ونعت العالي يناقض الأعلى ، ونعت المضيء يقابل الأضوأ من حيث ما هو أضوأ ، فلا يتقيد بنعت ، لأنك إن قيدتها بنعت أبطله لك نقيضه ، فما وفيتها حقها من النعتية ، إذ لم تكن أنوار الأعمال على درجة واحدة ، وقد غشيتها هذه الأنوار وغطتها ، فلا يقدر أحد أن يصل إلى نعتها ، فالسعداء وإن استظلوا بها ، فقد كسوها من ملابس الأنوار ما فضلت به جميع الأشجار ، وهي طعام وغاسول ، ونبقها كالقلال ، منه ترزق أرواح الشهداء ، فهي الشجرة الطهور ، فيها مرضاة الحق ، لذلك شرع السدر في غسل الميت للقاء الله ، الماء والسدر ليناله طهور هذه السدرة ، وجانب السدرة منصة هي مقعد جبريل عليه‌السلام.

(مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) (١٧)

ـ تحقيق وإفصاح من أول السورة إلى ما أذن به الفتاح بالتلاوة الإلهية ـ من حيث القرآن هو كلام الله ، التي لا يسأل عنها بالكيفية ولا الماهية : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) في قلب تعرى عن الهوى (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) ولكنه شرب فارتوى ، (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) لخروجه عن كرة الهوا (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أنزلناه عليه بلا واسطة كشفا وتلويحا ، فكان به عند نزول الواسطة في عالم الألفاظ عجولا فصيحا (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) بحضرة الاستوا ، (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) بما أيده به من القوى (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) عليه مراتب روحانية العلى ، (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) على المقام الأجلى (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) من المقام الاسمى خلف حجاب العزة الأحمى ، (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) فما أمسى عليه يوم ولا أضحى (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) من حسن الرؤى (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) فهو بحيث لا يرى (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) عند الصيحة الكبرى (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) مستقر الحسن والبها (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) المحفوفة بالبلوى ، حضرة ارتفاع الشكوى المنتجة للنجوى (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) فيعدم البصير ويظهر الأعشى (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما

٢١٣

طَغى) ولو طغى لسفل ، ولو زاغ ما ارتقى.

وبالتلاوة الجسمانية والروحانية : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) بالسر الإنساني في الموقع الرباني ، ليحصل معرفته ويكمل مرتبته (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) يقول قد أصاب المطلوب وظفر بالمحبوب (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) لأنه مقدس عن التأليف والتركيب ، والتدبير والترتيب ، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) من الله إلى الرب ، كما تقول في شاهد الغيب : من السر إلى القلب (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) ترجمان الاستوا إليه المستوى ، (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) جبار قهار مقتدر أقوى (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) فوق فلك الإشارات العلى (ثُمَّ دَنا) من حضرة المنى (فَتَدَلَّى) حين تجلى (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أو كحبل الوريد الأدنى (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) لما اشتغل بمنافعه وهو قاعد ، وقام بأسبابه وهو راقد (ما كَذَبَ الْفُؤادُ) النكتة الجامعة الإلهية (ما رَأى) من الحقائق الإنسانية (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) ولا كون يرى (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) حضرة ذات الإنتها (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) حين مقام السوى (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) عند صلاة الظهر والعشا ، (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) لأنه في خط الاستوا.

ـ إشارة واعتبار ـ محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووارثه لما دنا من الرفيق الأعلى ، فتدلى على المقام الأجلا ، (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) مقام محمود للمحمدي المجتبى. (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ففهم عنه صريح المعنى (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) من حقائق القرب في الإسرا (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) وآدم بين الطين والماء سوا (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) حيث تجتمع البداية والانتها ، الأزل والوقت والأبد سوا (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) مستقر الواصلين الأحيا ، لما شاهدوا الذات آواهم بجنة الصفات عن الورى ، أي سترهم بالصفات (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) من طرف الإسرا والتنزه في العلا (ما زاغَ الْبَصَرُ) وكيف يزيغ لعدم لا يرى ، أي ما مال إلى الغير ، وما ترك الميل تكبرا على الغير ، إنما شغله بربه حال بينه وبين الغير ، فلهذا قال : (وَما طَغى) أي ما طغى في زيغه ، إذ كان زيغ شغل بربه ، لا زيغ تكبر.

(لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (١٩)

٢١٤

عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رجلا ممن مضى كان يقعد على صخرة لثقيف يبيع السمن من الحاج ، إذا مرّ يلتّ سويقهم ، وكان ذا غنم ، فسميت الصخرة اللات ، فلما فقده الناس ، قال لهم عمرو : إن ربكم اللات قد دخل في جوف الصخرة ـ وكانت العزّى ثلاث شجرات نخل ، وكان أول من دعا إلى عبادتها عمرو بن ربيعة ، والحارث بن كعب ، وقال لهم عمرو : إن ربكم يصيف باللّات لبرد الطائف ، يشتي بالعزّى لحرّ تهامة ، وكان في كل واحد شيطان يعبد. فلما بعث الله عزوجل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعث بعد فتح مكة خالد ابن الوليد إلى العزّى يهدمها ، فخرج في ثلاثين فارسا من أصحابه إلى العزى حتى انتهى إليها فهدمها ، ثم رجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أهدمت؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : هل رأيت شيئا؟ قال : لا ، قال : فإنك لم تهدمها ، فارجع إليها فاهدمها ، فخرج خالد بن الوليد وهو متغيظ ، فلما انتهى إليها جرّد سيفه ، فخرجت إليه امرأة سوداء عريانة ناشرة شعرها ، فجعل السادن يصيح بها ، قال خالد : وأخذني اقشعرار في ظهري ، فجعل السادن يصيح ويقول :

أعزّاي شدّي شدة لا تكذبي

أعزّاي ألقي بالقناع وشمري

أعزّاي إن لم تقتلي المرء خالدا

فبوئي بذنب عاجل وتبصري

فأقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه بالسيف إليها ، وهو يقول :

كفرانك اليوم ولا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

قال : فضربها بالسيف. ثم رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبره. فقال : نعم تلك العزّى ، وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبدا. ثم قال خالد رضي الله عنه : الحمد لله الذي أكرمنا بك يا رسول الله ، وأنقذنا بك من الهلكة ، لقد كنت أرى أبي يأتي العزّى ، بخير ماله من الإبل والغنم ، فيذبحها للعزّى ، ويقيم عندها ثلاثا ، ثم ينصرف إلينا مسرورا ، فنظرت إلى ما مات أبي عليه ، وإلى ذلك الرأي الذي كان يعيش في فضله ، وكيف جزع حتى صار يذبح لما لا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يضر ولا ينفع. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن هذا الأمر إلى الله ، فمن يسّره للهدى ، تيسر له ، ومن يسّره للضلالة كان لها. وكان هدمها لخمس ليال بقين من رمضان ، سنة ثمان ، وكان سادنها أفلح بن النضر السلميّ من

٢١٥

بني سليم. وحكى سعيد بن عمرو الهذلي : أن أفلح سادنها لما حضرته الوفاة ، دخل عليه أبو لهب ، يعوده وهو حزين ، فقال : ما لي أراك حزينا؟ قال : أخاف أن تضيع العزى بعدي ، فقال له : لا تحزن ، فأقوم عليها بعدك. فجعل أبو لهب يقول لكل من لقي : إن تظهر العزى كنت قد أخذت عندها يدا ، وإن يظهر محمد على العزى ـ وما أراده يظهر ـ فابن أخي ، فأنزل الله تعالى (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ). وجاء حسان بن ثابت الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو في المسجد ، فقال : يا رسول الله أئذن لي أن أقول ، فإني لا أقول إلا حقا ، فقال : قل ، فأنشأ يقول.

شهدت بإذن الله أن محمدا

رسول الذي فوق السماوات من عل

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنا أشهد. فقال حسان :

وأن أبا يحيى ويحيى كليهما

له عمل في دينه متقبل

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنا أشهد. فقال حسان :

وأن الذي عادى اليهود ابن مريم

رسول أتى من عند ذي العرش مرسل

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنا أشهد فقال حسان :

وأن أخا الأحقاف إذ يعذلونه

يجاهد في ذات الإله ويعدل

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنا أشهد. فقال حسان :

وأن التي بالجزع من بطن نخلة (١)

ومن دانها فل عن الحق معزل

وكان سدنة العزى بنو شيبان بن سليم ، حلفاء بني هاشم ، وكانت قريش وبنو كنانة ، وخزاعة ، وجميع مضر ، تعظمها ، فإذا فرغوا من حجهم وطوافهم بالكعبة ، لم يحلّوا حتى يأتوا العزّى ، فيطوفون بها ويحلّون عندها ، ويعكفون عندها يوما.

(وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) (٢٠)

__________________

(١) قال سفيان : يعني العزى.

٢١٦

من حديث محمد بن إسحق : أن عمرو بن لحي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد ، وهي التي كانت الأزود وغسان يحجونها ويعظمونها ، فإذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى ، لم يحلوا إلا عند مناة ، وكانوا يهلون لها ، ومن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة ، لمكان الصنمين اللذين عليهما ـ نهيك مجاود الربح ـ ومطعم الطير ـ وكان هذا الحي من الأنصار يهلون لمناة ، وكانوا إذا هلوا بحج أو عمرة لم يظلّ أحدهم سقف بيت حتى يفرغ من حجه أو عمرته ، وكان الرجل إذا أحرم لم يدخل بيته ، وإن كان له فيه حاجة تسوّر من ظهر بيته ، لا يحز رتاج الباب رأسه ، فلما جاء الله بالإسلام وهدم أمر الجاهلية ، أنزل الله عزوجل (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ، وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها).

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى) (٢٣)

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) فأنتم عارفون بأسمائهم ، وأن آباءكم نصبوها آلهة ، وقال تعالى في عبادة هؤلاء : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) فما نسب قط أنهم عبدوا غير الله إلا على طريق الظن لا على جهة العلم ، فإن ذلك في نفس الأمر ليس بعلم ؛ فلو علم المشرك ما يستحقه الحق من نعوت الجلال لعلم أنه لا يستحق أن يشرك به ، ولو علم المشرك أن الذي جعله شريكا لا يستحق أن يوصف بالشركة لله في ألوهته لما أشرك ، فما أخذ إلا بالجهل من الطرفين (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) فإن الإله الذي أدعوكم إليه تعرفونه ، وأن اسمه الله لا تنكرونه ، وأنتم القائلون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فسميتموه ، فهذا الذي جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند الله الذي عبد هؤلاء هذه المسماة آلهة عندهم على جهة القربة إلى الله الكبير المتعال.

٢١٧

(أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (٢٥) وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى) (٢٦)

الملائكة تشفع فيمن كان على مكارم الأخلاق في الدنيا وإن لم يكن مؤمنا.

(إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى (٢٧) وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (٢٨)

اعلم أنه من أقام في نفسه معبودا يعبده على الظن لا على القطع خانه ذلك الظن وما أغنى عنه من الله شيئا.

(فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (٢٩)

وهو قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) لأن المتولي عن ذكر الله معرض ، وأعطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العلامة ، وهو التولي عن الذكر لا عن الله ، فإن التولي عن الله لا يصح ، ولهذا قال لنبيه : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) كيف يتولى عمن هو بالمرصاد ، والكل في قبضته وبعينه. فكأنه قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أظهر له صفته في إعراضك عنه لعله يتنبه ، فإنه يأنف من إعراضك عنه لما هو عليه في نفسه من العزة ، فإن إعراضك عنه إذلال في حقه وعدم مبالاة به ، فإن المعرض بالتولي إذا تبعته زاده اتباعك نفورا وعدم التفات ، فإذا أعرضت عنه ووليته ظهرك كما ولاك ظهره لم يحس بأقدام خلفه ، تهدّى في مشيته وأخذ نفسه ، وارتأى مع نفسه فيما أعرض عنه ، والتفت وما رآك خلفه ، فصار يحقق النظر فيك وأنت ذو نور ، فلابد أن يلوح له من نورك ما يؤديه ويدعوه إلى التثبت في أمرك وفيما جئت به ، فلعله أن يكون من المهتدين ، فهذا الإعراض صنعة في الدعاء إلى الله.

(ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ

٢١٨

بِمَنِ اهْتَدَى) (٣٠)

قال تعالى في الجاهل : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) فسمى الجهل علما ، فنقول هو جهل في عين العلم ، فإن الجاهل قد يتصف بالعلم فيما هو جاهل به ، فإن مسمى العلم ينطلق اسمه على ما هو علم وما ليس بعلم ، وأعلمنا الحق أنهم عملوا بما علموا عن الحياة الدنيا ، ولكنهم أعرضوا عن العلم بالآخرة فلم يعملوا لها ، والعلم ليس سوى عين العلامة وبه سمي علما ، فبالعلم يعلم العلم كما يعلم به سائر المعلومات ، فهي كلها علامات ، ولذلك قد يسمى الظن علما شرعا ، لأن العلم هنا عبارة عن العلامة التي يحصل بها الظن في نفس الظان الحاكم به ، فيكون علمه بتلك العلامة علما ، ولذلك قال تعالى : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ولم يكن علما ، فكأنه قال : ذلك الذي أعطتهم العلامة في ذلك الأمر (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) فذكر أعلم في الصنفين ، واعلم أن التولي عن الذكر المضاف إلى الله ، ما أطلق الله الإعراض عنه على الانفراد ، بل ضم إليه قوله ولم يرد إلا الحياة الدنيا ، فبالمجموع أمر الحق تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا وقع بالإعراض عنه فإن قوله تعالى : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ذمّ ـ إشارة لا تفسير ـ لما كان لله سبحانه وتعالى القرب المفرط من العبد كما قال : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) والحياة الدنيا ليس إلا نعيم العبد بربه على غاية القرب الذي يليق بجلاله ، ولم يكن مراد المذكر بالذكر إلا أن يدعو الغافل عن الله ، فإن جاء الذاكر ودعا بالذكر ، فسمعه هذا المدعو ـ وكان معتنى به ـ فشاهد المذكور عند الذكر في حياته الدنيا ، أمر الله هذا المذكر أن يعرض عن هذا المذكور لئلا يشغله بالذكر عن شهود مذكوره والنعيم به ، فقال الحق يخاطبه : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) لأن الذكر لا يكون إلا مع الغيبة (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) وهي نعيم القرب ـ من باب الإشارة لمن هو في هذا المقام لا من باب التفسير ـ ثم تمم وقال : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ثناء من باب الإشارة على هذا الشخص وتنبيها على رتبته في العلم بالله ، فأما ما فيه من الثناء عليه ، أنه في حال شهوده للحق في مقام القرب ، فلا يقدر لفنائه على القيام بما يطلبه به الذكر من التكليف ، فكأن المذكر ينفخ في غير ضرم ، لأنه لا يجد قابلا ، فأمر بالإعراض عنه لما في ذلك الذكر بهذه الحالة من سوء الأدب في الظاهر مع الذّكر ، فلو

٢١٩

كان هذا السامع عنده من القوة أن يشهد الحق في كل شيء لشهده في الذكر ، فلم يكن الحق يأمر المذكر بالإعراض عنه ولا كان يتولى السامع ، وذلك مبلغه من العلم.

(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (٣٢)

(إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) أي ستره واسع ، أترى هذه السعة الربانية تضيق عن شيء؟ فمنا من تفيض عليه الرحمة من خزائن الوجوب ، ومنا من تفيض عليه الرحمة من خزائن المنن ، فالكل طامع ، والمطموع فيه واسع ، وهو ينزل إلى السماء الدنيا القريبة منا في كل ليلة يقول : هل من مستغفر فأغفر له؟ وما من شيء إلا وهو مستغفر في أكثر أوقاته لمن هو إله ، ولم يقل تعالى : إنه ينزل ليعذب عباده الذين نزل في حقهم (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) بأبيكم (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) ببنيكم (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) أي أمثالكم ، فلا تزكي على الله أحدا ، فقد نهانا الله بهذه الآية عن ذلك ولكن قل : أحسبه كذا ، أو أظنه كذا ، كما أمرك به رسول الله فإنه قال : [لا أزكي على الله أحدا] وذلك لعزة العلم ، فشرعت التزكية في حكم الشرع بغلبة الظن فيقول : أحسبه كذا وأظنه كذا ، لأنه لا يعلم كل أحد ما منزلة ذلك المزكى عند الله أدبا مع الله ، لئلا يقطع على الله بشيء ، (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) فيخصه بالرحمة الموجبة بالصفة الموجبة في قوله : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ممن لم يتق فيخصه برحمته المطلقة ، وهي رحمة الامتنان ولا تتقيد بحصر ـ إشارة ـ (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) أي واسع الستر ، فما من شيء إلا وهو مستور بوجوده ، وهو الستر العام ، فإن الأمور كلها ستور بعضها على بعض ، وأعلاها سترا الاسم الظاهر ، فإنه ستر على الاسم الباطن الإلهي ، وما ثمّ وراء الله مرمى ، فهو ستر عليه ، وكل حرف جاء لمعنى فهو ستر عليه ، والقلب محل الصور الإلهية التي أنشأتها

٢٢٠