رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

الجلي الخفي ، لا إله إلا هو العلي العظيم (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) ـ الوجه الأول ـ لخطاب الله الحق فألقى السمع لما قيل له وعرّف به ـ الوجه الثاني ـ (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) هم أهل الإيمان المقلدة ، الذين قلدوا الأنبياء والرسل فيما أخبروا به عن الحق لا من قلد أصحاب الأفكار والمتأولين الأخبار الواردة بحملها على أدلتهم العقلية ، فهؤلاء الذين قلدوا الرسل صلوات الله وسلامه عليهم هم المرادون بقوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) فالذي ينبغي للعبد أن يصغي إلى الحق ويخلي سمعه لكلامه ، حتى يكون الحق هو الذي يتلوه بلسانه ويسمعه ، ويتولى شرح كلامه ويترجم للعبد عن معناه ، فيأخذ العلم منه لا من فكره واعتباره ، وإنما ألقى السمع لما يقوله الحق له ، فيقول له : يا عبدي أردت بهذه الآية كذا وكذا ، وبهذه الآية الأخرى كذا وكذا. ـ الوجه الثالث ـ (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) فسمع بالله (وَهُوَ شَهِيدٌ) ـ الوجه الأول ـ (وَهُوَ شَهِيدٌ) فأبصر بالله. ـ الوجه الثاني ـ (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي حاضر معه فيما يلقى إليه المخبر ، فيمثله نصب عينيه ، فكأنه يشاهده ، فإنه خبر صدق جاء به صادق أمين فهو تنبيه على حضرة الخيال واستعمالها ، وهو قوله عليه‌السلام في الإحسان [أن تعبد الله كأنك تراه] و [الله في قبلة المصلي] فلذلك هو شهيد. ـ الوجه الثالث ـ (وَهُوَ شَهِيدٌ) لمواقع الخطاب الإلهي على الشهود والكشف. ـ الوجه الرابع ـ (وَهُوَ شَهِيدٌ) لتقلبه في نفسه ، فيعلم أن الأمر كذلك ـ الوجه الخامس ـ (وَهُوَ شَهِيدٌ) لما يحدث الله في كونه من الشأن ، فإنه قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة إلى قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) مع غير ذلك (لَذِكْرى) لعبرة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي لمن له فطنة بالتقلب في الأحوال ، أو تقلب الأحوال عليه ، فيعلم من ذلك شؤون الحق وحقائق الأيام التي الحق فيها في شأن ، فالشأن واحد العين والقوابل مختلفة كثيرة ، يتنوع فيها هذا الشأن بتنوعها واختلافها ، فهو من الله واحدة ، وفي صور العالم كثيرة ، (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) لما يتلى عليه من قوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) وأمثاله (وَهُوَ شَهِيدٌ) من نفسه تقلب أحواله ، فيكون على بصيرة في ذلك من الله ، فحصرت الآيات في السمع والبصر ، فإما شهود وإما خبر ، فإن المراد من جميع التكليف سلامة القلب ، ومن لم يكن له قلب سليم فلا أقل من الحضور لفهم المسموع أو التفهيم ، فإن من السمع الفهم عن الله سبحانه ، قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) فمن ألقى السمع وهو شهيد فهو عارف ، وحظه السماع من التنزيل

١٨١

العزيز والبكاء ، وإياه أراد بقوله : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) الآية ، فمن كان سمعه كذلك فعليه التخلق بما يسمع ، والمبادرة إلى الانقياد للتكليفات في جميع الأعضاء والقوابل في ظاهره وباطنه ، وفعل ما قدر عليه من المندوبات ، واجتناب ما سمع النهي عنه من المحرمات ، والتعفف عن المكروهات ، وترك فضلات المباحات بجميعه ، فقد خوطب بذلك على التفصيل ، فأما من له قلب فإنه بجميعه سمع ، كما أنه بجميعه يد ، كما أنه بجميعه رجل ، كما أنه بجميعه فرج ، كما أنه بجميعه قلب ، ولا يكون شهيدا ، إلا أن يقطع بأن ما سمعه حق ، لا من جوّز سواه ، ومن جوّز ذلك فعليه تعلم الإيمان بالمبادرة إلى امتثال ما سمع ، فإن من عمل على الشك صادقا في طلبه أورثه اليقين ، والله يقول : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) فلو سمعوا لاستجابوا ، فبادر أيها السالك إلى مفهومك ، مما سمعت ، ولا تقف على البواطن ، فالذي يلزمك مفهومك ، ومن عمل بما علم ورثه الله علم ما لا يعلم (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) فإن أدركت زائدا على الظاهر موافقا مراد الآمر فبفضل الله على عقلك ، وإلا فلا حكم لعقلك على سمعك ، سيما بعد الشهادة ، فاتهم عقلك مبادرا إلى ما فهمت من ظاهره ، ومن لم يكن له قلب ولا ألقى السمع وهو شهيد فليس من أهل الذكرى.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ) (٣٨)

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) فأضاف الحق العمل إليه ، وذكر في الخلق أنه بيديه وبأيد وبيده وبقوله ، قال تعالى : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) مع قدرته على خلقه إياها دفعة واحدة من غير تدريج ، لكن القدرة لا تؤثر في القدر ، وإنما أثرها في المقدور بشاهد القدر ، فإن شهد بها القدر بالتأثير أثرت ، وإلا أمسكت عن إذن القدر لا عن نفسها ، فمن حكم القدر كونها في ستة أيام ، فلا سبيل إلى عدول القدرة عما حكم به القدر ، (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) ثم أعلمنا أنه وإن اتصف بالعمل أنه لم يؤثر فيه تعب فقال : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) فيما خلقه ، وهو قوله : (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ) فإن اللغوب هو الإعياء ، ورد أنه سبحانه نظر إلى ما خلق في يوم السبت ، فاستلقى ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال : أنا الملك لظهور الملك ، ولهذا سمي يوم السبت ، والسبت الراحة ، ولهذا أخبر تعالى أنه ما مسه من لغوب فيما خلقه ، فهي راحة لا عن إعياء كما هي في حقنا.

١٨٢

(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ) (٤١)

من المعلوم أن بعثة الخلائق وحشرهم يكون من الأرض المقدسة ، وقد فسر قوله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي من صخرة بيت المقدس.

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) (٤٥)

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي ما أرسلناك لتجبرهم على الإيمان ، وإنما وظيفتك أن تبلغ عنا ما نزل إليهم ، وأمرهم إلينا (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

(٥١) سورة الذاريات مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أقسم تعالى بأنواع أخرى من الملائكة المسخرات ، والوكلاء على ما يخلقه من التكوينات فقال :

(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) (١)

(وَالذَّارِياتِ) نوع من الملائكة المسخرة في الهواء ، العاصفات السائقات ، وقيل هم الملائكة عمار كرة الماء.

١٨٣

(فَالْحامِلاتِ وِقْراً) (٢)

(فَالْحامِلاتِ) المعصرات (وِقْراً) ثقلا ، ومن جملة الحاملات الحوامل من العالم ، كالأرض والسحاب والنساء وجميع الأناثي ، وما تحمله الكتب في حروفها من المعاني.

(فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (٣) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) (٤)

بالتفصيل والتصوير والترتيب ، وهم من ملائكة الكرسي ، حيث انقسمت الكلمة الواحدة التي هي في العرش واحدة ، فهي رحمة واحدة إليها مآل كل شيء ، انقسمت في الكرسي موضع القدمين إلى رحمة وغضب مشوب برحمة ، فهذا الصنف من الملائكة المقسمات أمرا لا يعرفون أحدية وإن كانت فيهم ، فإن الله وكلهم بالتقسيم مع الأنفاس ، فحيل بينهم وبين مشاهدة الوحدات ، فأية وحدة تجلت لهم قسموها بالحكم ، فلا يشهدون إلا القسمة في كل شيء ، ولا غفلة عندهم ولا نسيان لما علموه ، وقيل هم عمار السماء ذات البروج ، وهو الأطلس.

(إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (٦) وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ) (٧)

إن الله لما جعل السباحة للنجوم في السموات حدثت لسيرها طرق ، لكل كوكب طريق ، وهو قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) فسميت تلك الطرق أفلاكا ، فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب ، وهي سريعة السير في جرم السماء الذي هو مساحتها.

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) (١٠)

اعلم أن العلم بالله من جهة الشرع هو تعريف الحق عباده بما هو عليه ، فإنه أعلم بنفسه من عباده وبه ، فإن العلم به منه أن يعلم أنه جامع بين التنزيه والتشبيه ، وهذا في الأدلة النظرية غير سائغ ، أعني الجمع بين الضدين في المحكوم عليه ، ليس ذلك إلا هنا خاصة ، فلا يحكم عليه خلقه ، والعقل ونظره ، وفكره من خلقه ، فكلامه في موجده بأنه ليس كذا

١٨٤

وهو كذا خرص بلا شك ، والخارص قد يصيب وقد يخطىء ، والعلم بالله من حيث القطع أولى به من حيث الخرص ، فهو يدخل تحت الخرص المذموم.

(الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (١١) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١٩)

راجع سورة المعارج آية ٢٤ ـ واعلم أن الزكاة واجبة ، وحق في المال لا على المكلف ، والعارف يعلم أنه مستخلف فيما بيده من المال ، فيخرج الزكاة إخراج الوصي على مال المحجور عليه للزكاة ، والعامي لا يعلم ذلك ، فأضيف المال إليه ، فقيل له أموالكم ، فيخرجها بحكم الملك.

(وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (٢١)

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من عرف نفسه عرف ربه] فينبغي للإنسان أن ينظر في روحه كيف توجه إلى مدينة جسمه المزخرف ودخله ، ليعاين ما أودع الحق فيه من الحكم والترتيب الأحسن ، لأنه في أحسن تقويم ، فإذا شرعت في هذا النظر فأمعن فيه ، ولا تترك زاوية من الإنسان حتى تدخلها وتعرف ما خزنت ، فإنها خزائن الحق ، فإنك تقف على علم عظيم ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه] فإن الإنسان من حيث تفصيله مفطور على العلم بالله ، كسائر ما سوى الجن والإنس من المخلوقات ، فما من شيء في الإنسان ، من شعر وجلد ولحم وعصب ودم وروح ونفس وظفر وناب إلا وهو عالم بالله تعالى بالفطرة ،

١٨٥

بالوحي الذي تجلى له فيه ، والإنسان من حيث مجموعيته وما لجمعيته من الحكم جاهل بالله ، حتى ينظر ويفكر ويرجع إلى نفسه ، فيعلم أن له صانعا صنعه وخالقا خلقه ، فالإنسان من حيث تفصيله عالم بالله ، ومن حيث جملته جاهل بالله ، حتى يتعلم ، أي يعلم بما في تفصيله ، وكل علم لا يكون حصوله عن كشف بعد فتح الباب يعطيه الجود الإلهي ويبديه ويوضحه فهو شعور لا علم ، لأنه حصل من خلف الباب والباب مغلق ، وليس الباب سواك ، فأنت بحكم معناك ومغناك ، وذلك هو غلق الباب ، فإنك تشعر أن خلف هذا الجسم والصورة الظاهرة معنى آخر لا تعلمه ، وإن شعرت به ، فالصورة الظاهرة المصراع الواحد ، والنفس المصراع الآخر ، فإذا فتحت الباب تميز المصراع من المصراع ، وبدا لك ما وراء الباب ، فذلك هو العلم ، فما رأيته إلا بالتفصيل ، لأنك فصلت ما بين المصراعين حتى تميز هذا فيك ، فإن كان الباب عبارة عن حق وخلق ، وهو أنت وربك ، فالتبس عليك الأمر ، فلم يتميز عينك من ربك ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من عرف نفسه عرف ربه] فالشعور مع غلق الباب ، والعلم مع فتح الباب ، فإذا رأيت العالم متهما لما يزعم أنه به عالم فليس بعالم ، وذلك هو الشعور ، وإن ارتفعت التهمة فيما علم فذلك هو العلم ، ويعلم أنه قد فتح الباب له ، وأن الجود قد أبرز له ما وراء الباب ، وكثير من الناس يتخيل أن الشعور علم ، وليس كذلك ، وإنما حظ الشعور من العلم أن تعلم أن خلف الباب أمرا ما على الجملة لا يعلم ما هو.

(وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (٢٢)

الرزق معنوي وحسي ، فالرزق الذي في الأرض ما تقوم به الأجسام ، والذي في السماء ما تقوم به الأرواح ، وكل ذلك رزق ، ليصح الافتقار من كل مخلوق ، وينفرد الحق بالغنى.

(فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) (٢٣)

أقسم الله جل ثناؤه بالربوبية على ضمان الرزق ، والضمير يعود على المذكور ، فأقسم سبحانه بنفسه من اسم الرب المضاف إلى السماء والأرض على نفسه ، أن الرزق قضاء وعد به أولياءه في السماء ، ومثّله بالنطق منا الذي لا يرتاب فيه ، ليتميز المؤمن الكامل من غيره ،

١٨٦

فقال تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) ولما كان الرب هو السيد والمالك والمربي والمصلح والثابت ، أثبت الحق افتقار العالم إليه في هذا القسم بهذا الاسم ، فالكل صنعه وخلقه وفعله ، فالسموات والأرض إشارة إلى العالم العلوي والسفلي ، ولما أقسم الله بهذا القسم ضجّت الملائكة في السماء ، حيث أقسم لهم الله بنفسه لكونهم لم يثقوا بالضمان دون اليمين ، ولكن لما كان الله عليما بنا ، لهذا أقسم لنا ، فإن نشأتنا تعطي ذلك ، فلابد من إيقاع هذا القسم لنا ، لما تقتضيه مرتبتنا من التهمة وعدم الثقة التي هي أوصاف أسافل نشئنا ، وبضدها أوصاف علية ، فمن يعرفنا يعرف لمن أقسم منا ، فيستريح ولا ينكر ، فإنه ما خرج عن حقيقته ، فأقسم الله لمن غلب حال ظلمته وأسفله ، والدليل على ما قلناه أنه مع هذا القسم لم تصح الطمأنينة ، بل بقي من أجل هذا القسم صاحب عقد على ذلك ، لا صاحب حال ، فإن حاله يشهد عليه بذلك ، ولهذا نضطرب عند فقد الأسباب ، فصرف حقيقته بهذا الحال ، ولم يؤثر القسم في حاله ، واضطرابه في الرزق يشهد عليه بالتهمة مطلقا ، ولهذا وقع القسم ، ووقع بالسماء والأرض الذي هو وجود العالم بأسره ، من طريق ذاته لا من طريق حاله ووصفه ، وسيأتي قسمه بحاله ووصفه في قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) حتى يكمل شرف العالم كله من كونه مضافا إليه عموما ، وشرف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصوصا في قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ) فقد جمع له بين الخصوص والعموم بخلاف غيره من جنسه ، وبهذا القسم نفّس الله عن المؤمنين غير الموقنين ، بقسمه على الرزق وما وعد به من الخير المطلق والمقيد بالشروط لمن وقعت منه ووجدت فيه (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) فنفّس الله عنهم بذلك وحصل لهم اليقين ، وما بقي لهم بعد إلا الاضطراب الطبيعي ، فإن الآلام الطبيعية المحسوسة ما في وسع الإنسان رفعها إذا حصلت ، بخلاف الآلام النفسية فإنه في وسعه رفعها ، فوقع التنفيس بالقسم أن الرزق من الله لابد منه ، وبقي في قلب بعض الموقنين بذلك من الحرج تعيين وقت حصوله ، ما وقع به التعريف ، ولو وقع لم يرفع الاضطراب الطبيعي ، فلما علم الحق أنه لا ينفس في تعيين الأوقات ، لذلك لم يوقع بها التعريف ، وقال بعضهم موبخا لمن اضطرب إيمانه بالرزق مع صدق وعده تبارك وتعالى وقسمه : ـ

وترضى بصراف وإن كان مشركا

ضمينا ولا ترضى بربك ضامنا

١٨٧

وكأنه تعالى يقول لنا : إنكم لن تنالوا من الرزق مع جمعكم إياه وانكبابكم عليه إلا ما قدرته لكم ، وسواء عليكم تعرضتم لتحصيل ما ضمنته لكم أو أعرضتم عنه ، لابد لي أن أوصله إليكم ، فإني أطلبكم به كما أطلبكم بآجالكم ، وما ذلك من كرامتكم علي ، ولا من إهانتكم ، فإني أرزق البر والفاجر ، والمكلف وغير المكلف ، وأميت البر والفاجر والمكلف وغير المكلف ، فإنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، كما أنه لن تموت نفس حتى يأتيها أجلها المسمى ، وسواء كان الرزق قليلا أو كثيرا ، وليس رزقك إلا ما تقوم به نشأتك ، وتدوم به قوتك وحياتك ، وليس رزقك ما جمعت وادخرت ، فقد يكون ذلك لك ولغيرك ، لكن حسابه عليك إذا كنت جامعه وكاسبه ، فلا تكسب إلا ما يقوتك ويقوت من كلفك الله السعي عليه لا غير.

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (٢٥) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا

١٨٨

عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٤٢)

ما كل كلّ في كل موضع ترد فيه يعطي الحصر ، فإنه قد تأتي ويراد بها القصر ، مثل قوله في الريح العقيم : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) وقد مرت على الأرض وما جعلتها كالرميم ، مع كونها أتت عليها ، وما جعل الحق الحكم في الأرض إليها ، وقد قال عن هذه الريح (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) ـ إشارة ـ الريح العقيم هي التي تهب لتزيل عن القلب كل ما سوى الله تعالى ، وتذهب بالأغيار ، غيرة أن يكون في محل قد اصطفاه الحق غيره ، لأنها ريح الغيرة ، فليس يبقى مع مالكها غيره.

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٤٧)

الأيد هي القوة ، قال تعالى : داود ذا الأيد ، أي صاحب القوة ، ما هو جمع يد.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (٤٨) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٤٩)

فيكون لأحد الزوجين العلو وهو الذكر ، ولأحد الزوجين السفل وهو الأنثى ، ليظهر بينهما إذا اجتمعا بقاء أعيان ذلك النوع ، وجعل ذلك في كل نوع نوع ، ليعلمنا أن الأمر في وجودنا على هذا النحو ، فقال : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، فما خلق الله من كل شيء إلا زوجا واحدا ذكرا وأنثى مثلا ، وسماه زوجين ، فإن بإضافة كل واحد منهما إلى الآخر يسمى زوجا ، لأن كل واحد بالنظر إلى نفسه دون أن ينضم إليه هذا الآخر لا يكون زوجا فإذا انضم إليه آخر ، انطلق على كل واحد منهما اسم الزوج ، فقيل فيهما زوجان ولما كانت

١٨٩

الوترية في حق المخلوق محالا قال تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) اثنين حتى لا تنبغي الأحدية إلا لله ، فينفرد الحق سبحانه بحقيقة الوترية التي لا تقبل الشفعية ، فإن الله تعالى لما جعل العرش محل أحدية الكلمة ، وهو الرحمن لا غيره ، وخلق الكرسي فانقسمت فيه الكلمة إلى أمرين ليخلق من كل شيء زوجين ، ليكون أحد الزوجين متصفا بالعلو والآخر بالسفل ، الواحد بالفعل والآخر بالانفعال ، فظهرت الشفعية من الكرسي بالفعل ، وكانت في الكلمة الواحدة ، ليعلم أن الموجود الأول أنه وإن كان واحد العين من حيث ذاته ، فإن له حكم نسبة إلى ما ظهر من العالم عنه ، فهو ذات وجودية ونسبة ، أي ذات وأسماء ، فهو أصل شفعية العالم.

(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) (٥٠)

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) هو أمر بالسفر إلى الله ، وذم من يتربص عن هذا السفر بقوله : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ ...) الآية ، فجعل البركة في الحركة منه وإليه ، واعلم أن الموجب للفرار هو ما فر إليه لا ما فر منه ، إذ لو عرف أنه ما ثمّ ما يفر إليه لسكن الفار وما فر ، فإذا أردت أن تعرف الفرق بين الفرار الموسوي والفرار المحمدي فانظر في ابتداء الغاية ، وهو حرف من ، وفي انتهاء الغاية وهو حرف إلى فالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) وقال في تعوذه : [وأعوذ بك منك] فهذا أمره ودعاؤه ، وقال عن موسى عليه‌السلام معرفا إيانا : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) ويقال للمحمدي : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ) فالحكم على المحمدي لانتهاء الغاية ، وعند الموسوي لابتداء الغاية ، وانظر إلى ما أنتجه الفرار لموسى عليه‌السلام من فرعون ، فوهبه الله حكما ، وهي الرسالة ، فجعله من المرسلين إلى من خاف أن يسلط عليه ، وهو فرعون ، فإذا أنتج له هذا الفرار من المخلوق خوفا على نفسه ، فأين أنت من المحمدي الذي أمرك أن تفر إلى الله؟ فقيدك بحرف الغاية في القصد الأول : والحكم يرجع إلى الله الذي تفر إليه بلا واسطة ، فالذي ينتج الفرار إليه لا يقدر قدره ، ويكون على بينة من ربه محفوظا في أحواله وأفعاله وأقواله ، فإذا فر الفار إلى الله وعيّن من فر إليه وأبهم ما فر منه ، فما ترون تكون جائزته؟ فإن جائزة موسى منقطعة ، فإن الخلافة هنا تترك والرسالة كذلك ، ينقطع الأمران بالموت والانقلاب إلى الدار

١٩٠

الآخرة ، فهذا أعطى حكم ما فر منه لما كان منقطعا ، فإنه انقطع بغرقه أو بموته لو مات ، فكانت النتيجة والهبة مناسبة بما أعطيه من انقطاعهما بالموت ، فإن الإمامة والرسالة تنقطعان بالموت ، والفرار إلى الله يعطي ما يبقى ببقاء الله ، ولا أعيّن ، فإن التعيين في ذلك إلى الله ، وإذا كانت هذه الأمة مع الأنبياء بهذا الحكم وهذه المنزلة ، فما ظنك بمنزلة أمم الأنبياء منا؟ والله ما يعرفون على أي طريق سلكت هذه الأمة في فرارها ، فإن الله مجهول الأينية ، والفرار كان إليه ، فلا يدري أحد يفر إليه إذا تلقاه وأخذ بيده إلى أين يسير به؟ فإن الله أسرع إلى من فر إليه في تلقيه من الفار إليه ، فإنه يقول وهو الصادق تعالى : [ومن أتاني يسعى أتيته هرولة] فوصف نفسه بالإقبال على عبده إذا أتاه بأضعاف ما يأتيه به من الحال ، وإتيان الفار إليه أشد من الهرولة ، فيكون إتيان الحق إليه أشد من ذلك ، وأعطى الله هذا لهذه الأمة بعناية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله تعالى : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) يعود على الاسم الله ، فإذا نظرت تعلم ما هو الاسم الذي من أجله كان الإنذار المبين ، من المنذر لك ، وأن الاسم الله ـ وهو الاسم الجامع ـ هو الذي وجهه إليك ليأمرك بالفرار إليه ، ولما كان في عرف الطبع الاستناد إلى الكثرة ، فإذا حققت معرفة الأسماء الإلهية وجدت أسماء الأخذ قليلة وأسماء الرحمة كثيرة في الاسم الله ، فلذلك أمرك بالفرار إلى الله ، ليحصل للنفس الأمان باستنادها إلى الكثرة ، ثم قال تعالى بعد الأمر بالفرار إلى الله :

(وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) (٥١)

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) تفتقرون إليه ، بل فروا إلى الله في طلب حوائجكم منه التي فطرتم عليها ـ تحقيق ـ من عرف هذا التتميم عرف قوله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أنه الفرار من الجهل إلى العلم ، وأن الأمر واحد أحدي ، وأن الذي كان يتوهمه أمرا وجوديا من نسبة الألوهية لهذا الذي اتخذه إلها محال عدمي ، لا ممكن ولا واجب ، فهذا معنى الفرار المأمور به ، فإليه ـ من حيث نسبة الألوهية إليه ـ يكون الفرار ، فالذي فطر عليه الإنسان والعالم من العلم العلم بوجود الله ، والعلم بفقر المحدث إليه ، فإذا كان هذا ، فلابد لكل من هذه صفته أن يفر إلى الله لمشاهدة فقره ، وما يعطيه حكم الفقر من الألم للنفس ، ليغنيه من انقطع إليه ، فربما يزيل عنه ألم الفقر ، بما يعطيه من لذة مزيلة لألم فقر معين ، لا يزيل عنه ألم

١٩١

الفقر الكلي الذي لا يمكن زواله عن الممكن ـ لأن الفقر له وصف ذاتي ـ لا في حال عدم ولا في حال وجود ، فلابد لمن هذه حاله من تخل وفرار عن الأمور الشاغلة له.

(كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥)

وذكر من نسي إقراره بربوبيته عند أخذ ميثاقه ، قال بعض السامعين : (سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) فقال تعالى آمرا : (وَذَكِّرْ) يعني بالعلم من غفل عنه ونسيه (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) وهم الذين علموا ما ثمّ بنور الإيمان ، ثم إنهم غفلوا فحيل بينهم وبين ما علموه من ذلك ، فإذا ذكروا تذكروا ، وقام لهم شهود ما قد كانوا علموه ، فنفعتهم الذكرى ، فعملوا بما علموا ، والتفت الحق هنا إلى القابل وما التفت إلى المعرض ، فلم يرتبط الوجود إلا بالمؤمن ، فوعظنا بالحوادث الواقعة على خلاف الأغراض ، مما تنفر عنه طباعنا ، وذكرنا بأنا معرّضون لحلولها بنا إلا أن يعصم الله في بعضها لا في كلها ، فإن منتهى الدوائر وأعظمها الموت ، ولابد منه بأي وجه كان ، ولا أعني بالموت إلا الانتقال عن هذه الدار ، وذكرنا تعالى بموعظته ذكرى حال ، إذ أصاب من قبلنا بوقوع تلك الدوائر عليهم ، وذكرنا بأمور أخر خبّر عنها في المستقبل عند الانتقال إلى الدار الآخرة ، تقع بالعباد ، مما يسر وقوعها ومما لا يسر ، ومما يوافق الغرض ويلايم الطبع ، ومما لا يلايم الطبع ولا يوافق الغرض ، ومما يدل على الكمال والنقص ، فذكر بالرغبة في ذلك والرهبة من ذلك ، وشهد الله أن الذكرى تنفع المؤمنين ، فانتفاعك بالذكرى شاهد لك بالإيمان ، وإن لم تنفعك الذكرى فاتهم نفسك في إيمانك ، وإذا رأيت من يدعي الإيمان ويذكر فلا يقع له نفع بما ذكّر به علمت أنه في الحال ليس بعالم بما آمن به ، فليس بمؤمن أصلا ، فإن شهادة الله حق وهو صادق ، وقد أعلمنا أن المؤمن ينتفع بالذكرى ، وشهدنا أن هذا لم ينتفع بالذكرى ، فلابد أن نزيل عنه الإيمان تصديقا لله ، ولا معنى للنفع إلا وجود العمل منه بما علم ، وما نرى أحدا يتوقف بالعمل فيما يزعم أنه عالم به ، إلا وفي نفسه احتمال ، ومن قام له في شيء

١٩٢

احتمال فليس بعالم به ، ولا بمؤمن بمن أخبره بذلك إيمانا يوجب له العلم.

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦)

لما كانت طبيعة الممكن قبلت الوجود ، فظهر في عينه بعد أن لم يكن ، سماه الحق خلقا ، مشتقا من الخليقة ، وهي طبيعة الأمر وحقيقته ، أي مطبوعا على الصورة ، وهي خليقته ، فلما أوجده الله على صورته ، وأوجده لعبادته ، كان ما أوجده عليه خلاف ما أوجده له ، فقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فاشترك الجن مع الإنس فيما وجد له لا فيما وجد عنه ، لأن الإنسان خص بما وجد عليه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [خلق الله آدم على صورته] والخلق عطاء من الحق ليعبد ، فهو عطاء عوض ففيه طلب ، ولذلك قال (لِيَعْبُدُونِ) فخلقهم له لا لهم ، ففي هذه الآية خلقنا له أي لنعبده ، ومعناه لنعلم أنا عبيد له ، فإنا في حال عدمنا لا نعلم ذلك ، لأنه ما ثم وجود يعلم ، فعلل سبحانه بلام العلة ، فيعبدونه لكونه أنعم عليهم بالإيجاد لكمال مرتبة العلم والوجود ، من حيث من ذكر من الأجناس ، لا لكمال مرتبة الوجود والمعرفة من غير هذا التقييد ، فإن ذلك يكفي فيه خلق محدث واحد ، وإيجاد العلم المحدث فيه المتعلق بالله والكون ، ولكن لما كانت الأجناس منحصرة عند الله وأوجدها وبقي هذان الجنسان ، أوقع الإخبار عنهما بما ذكر ، وابتدأ بلام العلة وختم بياء الإضافة ، قال عزوجل فيما أوحى به إلى موسى عليه‌السلام : [يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي] وما يلزم نفوذ حكم العلة في كل معلول ، فإن من الجن والإنس من عبده ومنهم من أشرك به ، وقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ) وهو ما استتر ، فلا يعلم إلا منه (وَالْإِنْسَ) هو ما ظهر فيعلم بذاته ، (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) إثبات للسبب الموجب للخلق ، فاللام في ليعبدون لام الحكمة والسبب شرعا ، لأنه حكيم ، وله في كل شيء حكمة ظاهرة لا تعلم إلا من جهة الشرع في التكليف ، وأما العلة في التكليف من جهة الحق فمظنونة غير معلومة ، لا يعلمها إلا هو ومن أعلمه الله بها ، فتكون لام ليعبدون لام العلة عقلا ، فصرح تعالى بالسبب الذي لأجله أوجدنا ، وهكذا العالم كله ، فإن الجن كل مستتر من ملك وغيره ، وخصصنا والجن بالذكر ، فإن الله تعالى لما خلق العالم له تعالى ، أي لعبادته ، قال فيمن علم أنه جعل في نشأته عزة ، وهما الجن والإنس ، ولما جعل فيهما استعدادا يمكن

١٩٣

أن يسعى به لنفسه ولغير الله ، نبه أنه ما خلقهم إلا لعبادته فقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فخص الإنس والجن الناري في هذه الآية ، لأنهما ما جبلا على طاعة الأمر دون معصية مثل باقي الخلق ، وإلا فإنه سبحانه قد أوجد العالم ليظهر سلطان الأسماء ، فإن قدرة بلا مقدور ، وجودا بلا عطاء ، ورازقا بلا مرزوق ، ومغيثا بلا مغاث ، ورحيما بلا مرحوم ، حقائق معطلة التأثير ، وما اعتبر الحق من العالم في هذه الإضافة إلا هذين النوعين ، فجعل الظهور للإنس من اسمه الظاهر ، وجعل البطون للجان من اسمه الباطن ، وما عداهما فمسخر لهما ، ويحتمل أن قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) يعني ظاهرا وباطنا ، فما جعل لهم في الربوبية قدما ، وما قال الله تعالى ذلك في غير هذين الجنسين ، لأنه ما ادعى أحد الألوهية ، ولا اعتقدها في غير الله ، ولا تكبر على خلق الله إلا هذان الجنسان ، فلذلك خصهما بالذكر دون سائر المخلوقات وقال : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي ليتذللوا إليّ ، لما ظهر فيهما من العزة ودعوى الألوهية والإعجاب بنفوسهم ، فمن لطف الله بهم أن نبههم على ما أراد بهم في خلقه إياهم ، فمن تنبه كان من الكثير الذي يسجد لله ، ومن لم يتنبه كان من الكثير الذي حق عليه العذاب ، والشرك ـ وهو الظلم العظيم ـ ما ظهر في الوجود إلا من هذا النوع الإنساني ، وما ذكر الجن معه في الخلق للعبادة إلا لكونه أغواه بالشرك ، لا أنه أشرك ، والإنس هو الذي أشرك ، واعلم أن السبب الموجب لتكبر الثقلين دون سائر الموجودات ، أن سائر الموجودات توجه على إيجادهم من الأسماء الإلهية أسماء الجبروت والكبرياء والعظمة والقهر ، فخرجوا أذلاء تحت هذا القهر الإلهي ، وتعرف إليهم حين أوجدهم بهذه الأسماء ، فلم يتمكن لمن خلق بهذه المثابة أن يرفع رأسه ، ولا أن يجد في نفسه طعما للكبرياء على أحد من خلق الله ، فكيف على من خلقه؟ وقد أشهده أنه في قبضته وتحت قهره ، وشهدوا كشفا نواصيهم ونواصي كل دابة بيده ، والأخذ بالناصية عند العرب إذلال ، هذا هو المقرر عرفا عندنا ، فمن كان حاله في شهود نظره إلى ربه أخذ النواصي بيده ، ويرى ناصيته من جملة النواصي كيف يتصور منه عز أو كبرياء على خالقه من هذا الكشف؟ وأما الثقلان فخلقهم بأسماء اللطف والحنان والرأفة والرحمة والتنزل الإلهي ، فعندما خرجوا لم يروا عظمة ولا عزا ولا كبرياء ، ورأوا نفوسهم مستندة في وجودها إلى رحمة وعطف وتنزل ، ولم يبد الله لهم من جلاله ولا كبريائه ولا عظمته في خروجهم إلى الدنيا شيئا يشغلهم عن نفوسهم ،

١٩٤

ألا تراهم في الأخذ الذي عرض لهم من ظهورهم حين قال لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) فأقروا له بالربوبية لأنهم في قبضة الأخذ محصورون ، فلو شهدوا أن نواصيهم بيد الله شهادة عين ، أو إيمان كشهادة عين ـ كشهادة الأخذ ـ ما عصوا الله طرفة عين ، وكانوا مثل سائر المخلوقات ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فلما ظهروا عن هذه الأسماء الرحمانية قالوا : يا ربنا لم خلقتنا؟ قال : لتعبدون ، أي لتكونوا أذلاء بين يدي ، فلم يروا صفة قهر ولا جناب عزة تذلهم ، ولا سيما وقد قال لهم لتذلوا إلي ، فأضاف فعل الإذلال لهم ، فزادوا بذلك كبرا ، فلو قال لهم : ما خلقتكم إلا لأذلكم ؛ لفرقوا وخافوا ، فإنها كلمة قهر ، فكانوا يبادرون إلى الذلة من نفوسهم خوفا من هذه الكلمة ، كما قال للسموات والأرض ائتيا طوعا أو كرها ، فلو لم يقل كرها فإنها كلمة قهر حيثما أتت ، فلهذا قلنا ما أوجد كل ما عدا الثقلين ولا خاطبهم إلا بصفة القهر والجبروت ، ولا نشك أن كل ما خلق من الملائكة وغيرهم من العالم ما خلقهم إلا مسبحين بحمده ، وما خص بهذه الصفة ـ أعني صفة العبادة ، وهي الذلة ـ غير الثقلين ، فما خلقهم حين خلقهم أذلاء ، وإنما خلقهم ليذلوا ، وخلق ما سواهم أذلاء في أصل خلقهم ، فما جعل العلة في سوى الثقلين الذلة كما جعلها فينا ، فلما قال للثقلين عن السبب الذي لأجله أوجدهم وخلقهم ، نظروا إلى الأسماء التي وجدوا عنها ، ولو أنه متوجه عليهم الاسم المذل لأنه خلقهم لعبادته ، فما رأوا اسما إلهيا منها يقتضي أخذهم وعقوبتهم إن عصوا أمره ونهيه ، وتكبروا على أمره ، فلم يطيعوه وعصوه ، فما تكبر أحد من خلق الله على أمر الله غير الثقلين ، ولا عصى الله أحد من خلق الله سوى الثقلين ، فعصى آدم ربه وهو أول الناس ، وعصى إبليس ربه ، فسرت المخالفة من هذين الأصلين في جميع الثقلين ، فجعل الحق العبادة بأيديهم ، وجعلها المقصودة منه بخلقهم ، فمنهم من قام بما قصد له ، فكان طائعا مطيعا لأمر الله الوارد عليه بالأعمال والعبادة ، فإنه قال لهم (فَاعْبُدُونِ) كما أخبر (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) هذا أمر بعبادة (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) هذا أمر بعمل ، والعمل ما هو عبادة ، فالعمل صورة والعبادة روحها ، فالعبادة مقبولة عند الله على كل حال ، اقترنت بعمل أو لم تقترن ، والعمل لغير عبادة لا يقبل على كل حال ، من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة. ولما خلق الله الثقلين في هذا المقام الذي قصده بخلقهم ، وهو أجلية الحق ، فرغهم لذلك ، حتى لا يقوم لهم حجة بالاشتغال

١٩٥

بما به قوامهم ، فخلق الأشياء التي بها قوامهم ، خاصة من أجلهم ، ليتفرغوا لما قصد بهم ، فقامت عليهم حجة الله إذا لم يقوموا بما خلقوا له ، وكونهم ما فعل بعضهم ما خلق له لا يلزم منه بالقصد أنه خلق لما تصرف فيه ، ولذلك يسأل ويحاسب ، ـ الوجه الثاني ـ ما خلقنا الله لعبادته إلا ليعود ثواب ذلك العمل وفضله إلينا ، ولذلك ما خص بهذا الخطاب إلا الثقلين ، فتدل هذه الآية من هذا الوجه على أن الله سبحانه ما أوجدنا إلا لنا ، لا لنفسه ، فإنه هو الغني عن العالمين ، هذا إذا لم يكن الجن عبارة عن باطن الإنسان ، وهو ـ الوجه الثالث ـ في تفسير قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) فذكر تعالى ما ظهر ، وهو مسمى الإنس ، وما استتر ، وهو مسمى الجن ، فأعلم أنه أوجدك له لا لك ، فما أنت المقصود لعينك ، فكأنه يقول : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ) وهو ما استتر من الإنسان وما بطن منه (وَالْإِنْسَ) وهو ما يبصر منه لظهوره (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ظاهرا وباطنا ، فقد يريد الحق بهذه الآية الإنسان وحده ، من حيث ما له ظاهر وباطن ، فمن حيث ما له ظاهر هو إنس ، من آنست الشيء إذا أبصرته ، والجن باطن الإنسان ، فإنه مستور عنه ، فكأنه قال : ما خلقت ما ظهر من الإنسان وما بطن إلا ليعبدون ظاهرا وباطنا ، فإن المنافق يعبده ظاهرا لا باطنا ، والمؤمن يعبده ظاهرا وباطنا ، والكافر المعطل لا يعبده لا في الظاهر ولا في الباطن ، وبعض العصاة يعبده باطنا لا ظاهرا ، وما ثمّ قسم خامس ، وما أخرجنا الجن الذين خلقهم من نار من هذه الآية ، وجعلناها في الإنسان وحده من جهة ما ظهر منه وما استتر إلا لقول الله لما ذكر السجود أنه ذكر جميع من يسجد له ممن في السموات ومن في الأرض ، وقال في الناس : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) فما عمهم ، ودخل الشياطين في قوله : (مَنْ فِي الْأَرْضِ) ، وذلك أن الشيطان ، وهو البعيد من الرحمة ، يقول للإنسان إذا أمره بالكفر فكفر (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) فأبان الله لنا عن معرفة الشيطان بربه وخوفه منه ، فلذلك كان صرف الجن إلى ما استتر من الإنسان أولى من إطلاقه على الجان ، والله أعلم. وأما قوله تعالى : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي ليتذللوا لي ، فإن الله تعالى لم يقل (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) ليأنس بعضهم ببعض ، ولا يتعشق بعضهم ببعض ، ولا يتعرف بعضهم أسرار بعض ، وإنما خلق المكلف من أجله ، فلا ينظر إلى غيره فقال : (لِيَعْبُدُونِ) أي ليتذللوا لي ، ولا يتذللون لي حتى يعرفوني في الأشياء ، فيذلوا لي ، لا لمن ظهرت فيهم ، من حيث

١٩٦

إنه قال عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) فلا يتذللون لي حتى يعرفوا مكانتي وعزتي ، فيتذللون لعزتي ويعرفون منزلتي من منزلتهم ، لذلك قال : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ولا يعبدونه حتى يعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، قال ابن عباس (لِيَعْبُدُونِ) معناه ليعرفون ، فما فسر بحقيقة ما تعطيه دلالة اللفظ ، وإنما تفسيره ليذلوا لي ، فالعبد معناه الذليل ، يقال : أرض معبدة أي مذللة ، ولا يذل له من لا يعرفه ، فلابد من المعرفة به أولا ، وأنه ذو العزة التي تذل الأعزاء لها ، فلذلك عدل ابن عباس في تفسير العبادة إلى المعرفة ، هذا هو الظن به ، وما خلق الجن والإنس من بين الخلق إلا لمحبته ، فإنه ما يعبده ويتذلل إليه إلا محب ، وما عدا الإنسان فهو مسبح بحمده ، لأنه ما شهده فيحبه ، فما تجلى لأحد من خلقه في اسمه الجميل إلا للإنسان وفي الإنسان في علمي ، فلهذا ما فني وهام في حبه بكليته إلا في ربه أو فيمن كان مجلى ربه.

(مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ) (٥٧)

فإن الحق يتنزه عن الغذاء والأكل ، فإنه سبحانه لا ينبغي له أن يطعم ، ثم إن الله علم من بعضهم أنه يقوم له شبهة في السعي فيما خلق من أجله ، في حق الغير ، لما بلغه أن الله يقول : [جعت فلم تطعمني] وقال لما قال له العباد : [يا رب كيف تطعم وأنت رب العالمين؟] فقال الله له : [ألم تعلم أنه استطعمك فلان فلم تطعمه ، أما إنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي] فأنزل الحق نفسه منزلة الجائع ، فلاحت له هذه الشبهة ، قال : نسعى في حق الغير وننتفع بما نسعى به بحكم التبع ، فقال الله له : ما فهمت عني (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) والرزق معنوي وحسي ، أي محسوس ومعقول ، وهو كل ما بقي به وجود عين المرزوق ، فهو غذاؤه ، والمرزوقون منهم معقول ومنهم محسوس ، ورزق كل مرزوق ما كان به بقاؤه ونعيمه إن كان ممن يتنعم ، وحياته إن كان ممن يوصف بأنه حي ، وليست الأرزاق لمن جمعها ، وإنما الأرزاق لمن تغذى بها.

(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥٨)

لا أنتم ، فما بقيت لمن قامت لهم شبهة حجة بتمام الآية ، وأما اعتمادهم على ذلك الخبر

١٩٧

فلا يقوم لهم به حجة عند الله ، فإنه لما خلق الأشياء من أجلك التي بها قوامك ، أعطاك إياها وأوصلها إليك ليكون بها قوامك ، ثم أفضل لبعضهم من ذلك ما يزيد على قوامهم ، ليوصله إلى غيره ليكون به قوام ذلك الغير ، ويحصل لهذا أجر أداء الأمانة التي أمّنه الله عليها ، فذلك هو الذي عتبه الحق حيث استطعمه فلان ، وكان عنده ما يفضل عن قوامه فلم يعطه إياه ، فلم يلزم من هذا الخبر أن يسعى في حق الغير ، وهو المراد في تمام الآية السابقة ، وجاء الحق في هذه الآية بالاسم الرزاق بهذه البنية للمبالغة ، لاختلاف الأرزاق ، وهي مع كثرتها واختلافها منه لا من غيره ، وإن المرزوقين مختلف قبولهم للأرزاق ، فما يتغذى به حيوان ما قد لا يصلح أن يكون لحيوان آخر ، لأن المراد بتناول الرزق بقاء المرزوق ، فإذا أكل ما فيه حتفه فما تغذى به وما هو رزق له ، وإن كان به قوام غيره ، فلذلك تسمى ببنية المبالغة في ذلك فقال : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) ولم يزل الحق ينزل من عين ما ـ يطلب ما به بقاؤه وحياته ـ إلى عين ، حتى عم العالم كله بالرزق ، فكان رزاقا ، ونعت هذا الرزاق بذي القوة المتين فقال : (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ـ الوجه الأول ـ ولو نعت به الله لقال : ذا القوة المتين ؛ فنصب ، ولا يتمكن نعت الاسم الله من حيث دلالته ، فإنه جامع للنقيضين ، فهو وإن ظهر في اللفظ فليس المقصود إلا اسما خاصا منه ، تطلبه قرينة الحال بحسب حقيقة المذكور بعده الذي لأجله جاء الاسم الإلهي ، فإذا قال طالب الرزق المحتاج : يا الله ارزقني ، والله هو المانع أيضا ، فما يطلب بحاله إلا الاسم الرزاق ، فما قال بالمعنى إلا : يا رزاق ارزقني ، فوصف الحق نفسه بأنه ذو القوة ، وهذا فيه إجمال ، فإنه اسم حميري ، أي صاحب القوة ، أي قوة القوة التي فينا ونجدها من نفوسنا ، كما نجد الضعف ، ونعت الرزاق بالقوة لوجود الكفران بالمنعم من المرزوقين ، فهو يرزقهم مع كفرهم به ، ولا يمنع عنهم الرزق والإنعام والإحسان بكفرهم ، مع أن الكفر بالنعم سبب مانع يمنع النعمة ، فلا يرزق الكافر مع وجود الكفر منه لما رزقه إلا من له القوة ، فلهذا نعته بذي القوة المتين ، فإن المتانة في القوة تضاعفها ، فما اكتفى سبحانه بالقوة حتى وصف نفسه بأنه المتين فيها ، إذ كانت القوة لها طبقات في التمكن من القوي ، فوصف نفسه بالمتانة ، والمتين هو الذي لا يتزلزل عما يجب له الثبوت فيه لتمكنه وثقله ، والمتانة في المعاني كالكثافة في الأجسام ، فجاء بالاسم المناسب للرزق ، لأن الرزق المحسوس به تتغذى الأجسام

١٩٨

وتعبل ، وكلما عبلت زادت أجزاؤها وكثفت ، وأين السمن من الهزال؟ فما أحسن تعليم الله وتأديبه وتبيانه لمن عقل عن الله ، ومن المتانة أن الصور لما تبدلت في التجلي واختلفت ، والأسماء الإلهية لما كثرت وتنوعت ، ودل كل اسم على معنى لا يكون لغيره ، وأعطت كل صورة أمرا لم تعطه الصورة الأخرى ، أخبر أنه من المتانة بحيث أن الأمر على ما قرر وشوهد من التحول والتبدل ، والعين ثابتة في مكانتها لا تقبل التغيير ، فليست المتانة إلا للإله القوي الحق الذي يجد في نفسه الطالب الاستناد إليه ولا يدري ما هو ، ولمتانته لا يقوى الناظر أن ينقله إلى محل اعتقاده ، فمتانته حجابه فلا يعرف ـ الوجه الثاني ـ لما كانت القوة فينا للغذاء ، ونحن نعلم أن الله لا يطعم ولا يطلب الرزق من عباده ، بل هو الرزاق ذو القوة المتين ، تحفظ الحق سبحانه فقال : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) فتكون قوتي مما طعمت ، بل لي القوة من غير غذاء ولا طعام.

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠)

فالحاصل من هذا أنه من لم يغب عن عبوديته لله في كل حال ، فقد أدى ما خلق له وكان طائعا وسواء كان مطيعا أو مخالفا ، فإن العبد الآبق لا يخرجه إباقه عن الرق ، وإنما يخرجه عن لوازم العبودية ، من الوقوف بين يدي سيده لامتثال أوامره ومراسمه ، ألا ترى اسم العبودية ينسحب عليه سواء كان مطيعا أو مخالفا.

(٥٢) سورة الطّور مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالطُّورِ) (١)

الطور هو الجبل المنحني لا المستقيم الحاد.

١٩٩

(وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ) (٢)

ـ إشارة ـ وهو العالم من باب الإشارة ، مسطور لأنه منضود ، قد ضم بعضه إلى بعض ، فالوجود بأسره من باب الإشارة كتاب مسطور.

(فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ) (٣)

في رق الوجود ، المنشور في عالم الأجرام من الاسم الله ، والعالم كالكتاب ، لما فيه من الترتيب على الوجوه التي أوجدها الله عليه ، تلاه الله عليك سبحانه لتعقل عنه إن كنت عالما ، وهو منشور ظاهر ، فهو مبسوط غير مطوي ، ليعلم ببسطه أنه مخلوق للرحمة ، وبظهوره يعقل ويعلم ما فيه وما يدل عليه ، والعالم الكبير المعبر عنه بالكتاب المسطور يعبر عنه بالفرقان ، ومختصر هذا الكتاب المسطور هو المعبر عنه بالقرآن ، ومن وجه آخر فإن الكتاب الكبير الخارج عنك يعبر عنه بالقرآن ، ومختصره هو نفسك المعبر عنه بالفرقان ، إذ الإنسان محل الجمع لما تفرق في العالم الكبير ، وإنما قلنا في بسطه إنه للرحمة ، لأنه منها نزل كما قال تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وخاتمة الأمر ليست سوى عين سوابقها ، وسوابقها الرحمن الرحيم.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) (٤)

البيت المعمور المسمى بالضراح في السماء الأولى مما يلي الفلك المكوكب ، وهو على سمت الكعبة كما ورد في الخبر ، لو سقطت منه حصاة لوقعت على الكعبة ، وهذا البيت له بابان ، يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم يخرجون من الباب الذي يقابله ولا يعودون إليه أبدا ، يدخلون فيه من الباب الشرقي لأنه باب ظهور الأنوار ، ويخرجون من الباب الغربي لأنه باب ستر الأنوار المذهبة ، فيحصلون في الغيب ، فلا يدري أحد حيث يستقرون ، فاختص هذا البيت بعمارة ملائكة يخلقون كل يوم من قطرات ماء نهر الحياة الواقعة من انتفاض الروح الأمين جبريل ، فإنه ينغمس في نهر الحياة في كل يوم غمسة لأجل خلق هؤلاء الملائكة ، عمرة البيت المعمور ، فيخرج فينتفض كما ينتفض الطائر ، فيقطر منه في ذلك

٢٠٠