رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (٢٤) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (٣٠) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٣١)

وهذا من جهلهم ، لأنهم لا يعرفون الحق إلا بالرجال ، فالعاقل من يأخذ العلم والحكمة حيث وجدها ، ولا ينظر إلى المحل الذي جاء بها ، فهو يعرف الرجال بالحق ، وغير العاقل يعرف الحق بالرجال.

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (٣٢)

(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الرزق مقسوم ، ومنزّل بقدر معلوم ، لا ينقص ولا يزيد ، طلب العبيد ، وطلب المزيد في الجبلة ، في كل ملة ، كيف لا يظهر بالافتقار ، من حكم عليه الاضطرار ، وبقي الحكم للأقدار ، فكل شيء عنده بمقدار (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) ـ الوجه الأول ـ يعني الخلق ، فدخل فيه جميع

١٠١

بني آدم دنيا وآخرة ، فجعل تعالى العالم فاضلا مفضولا ، ـ الوجه الثاني ـ (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) بإعطاء كمال الإنسانية بالصورة الإلهية التي خلق عليها بعضهم (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ) وهم الذين رفعهم الله (بَعْضاً) وهم الأناسي الحيوانيون (سُخْرِيًّا) فجعل تعالى علة التسخير رفعة بعضنا على بعض بالدرجة التي يحتاج إليها المسخر المفعول ، فإن الله قد جعل العالم على مراتب درجات ، مفتقرا بعضه إلى بعض. واعلم أن التسخير قد يكون إذلالا ، وقد يكون القيام بما يحتاج إليه ذلك المسخر له بالحال ، وهذا الفرقان بين التسخيرين بما تعطيه حقيقة المسخر والمسخر له ، فالعبد الذي هو الإنسان مسخر لفرسه ودابته ، فينظر منها في سقيها وعلفها وتفقد أحوالها مما فيه صلاحها وصحتها وحياتها ، وهي مسخرة له بطريق الإذلال لحمل أثقاله وركوبه واستخدامه إياها في مصالحه ، وهكذا في النوع الإنساني برفع الدرجات بينهم ، فبالدرجة يسخر بعضهم بعضا ، فتقتضي درجة الملك أن يسخر رعيته فيما يريده بطريق الإذلال للقيام بمصالحه لافتقاره إلى ذلك ، وتقتضي درجة الرعايا والسوقة أن تسخر الملك في حفظها والذب عنها ، وقتال عدوها والحكم فيما يقع بينها من المخاصمات وطلب الحقوق ، فهذه سخرية قيام لا سخرية إذلال ، اقتضتها درجة السوقة ودرجة الملك ، وبذلك يكون الخلق مسخرا اسم فاعل ومسخرا اسم مفعول ، ففي رفع الدرجات جعل الله التسخير بحسب الدرجة التي يكون فيها العبد أو الكائن فيها ، كان من كان ، فيقتضي الكائن فيها أن يسخّر له من هو في غيرها ، ويسخره أيضا من هو في درجة أخرى ، وقد تكون درجة المسخر اسم مفعول أعلى من درجة المسخر اسم فاعل ، ولكن في حال تسخير الأرفع بما سخره فيه شفاعة المحسن في المسيء إذا سأل المسيء الشفاعة فيه ، وفي حديث النزول في الثلث الباقي من الليل غنية وكفاية وشفاء لما في الصدور لمن عقل ، ولما كانت الدرجة حاكمة اقتضى أن يكون الأرفع مسخرا اسم مفعول ، وتكون أبدا تلك الدرجة أنزل من درجة المسخر اسم فاعل ، والحكم للأحوال ، كدرجة الملك في ذبه عن رعيته وقتاله عنهم وقيامه بمصالحهم ، والدرجة تقتضي له ذلك ، والتسخير يعطيه النزول في الدرجة عن درجة المسخر له اسم فاعل.

(وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ

١٠٢

سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ (٣٤) وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (٤٤) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (٤٧) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤٨)

الراجع إلى الله مع نزول العذاب مقبول رجوعه ، لأنه أتى بما ترجي منه بقوله (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فالرجعة إلى الله مقبولة عند رؤية البأس وحلول العذاب ، وذلك نافع لهم في

١٠٣

الآخرة وإن لم يكشف عنهم العذاب في الدنيا ، وما اختص قوم يونس إلا بالكشف عنهم في الحياة الدنيا عند رجعتهم.

(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (٥٠) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) (٥٣)

يقول فرعون (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) فلو وهو حرف تحضيض ، أعطي يعني موسى عليه‌السلام نفوذ الاقتدار فينا حتى لا ننازعه ونسمع له ونطيع ، لأن اليدين محل القدرة ، والأسورة وهو شكل محيط من ذهب أكمل ما يتحلى به من المعادن ، ونفوذ الاقتدار من الاختصاص الإلهي ، يقول فرعون لقومه : فما أعطي ذلك موسى ؛ والذي يدلك على ما قلناه ، أن فرعون أراد هذا المعنى ، أنه جاء بأو بعده ، وهي حرف عطف بالمناسب ، فقال : (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) لعلمه بأن قومه يعلمون أن الملائكة لو جاءت لانقادوا إلى موسى طوعا وكرها ، يقول فرعون : فلم يكن لموسى عليه‌السلام نفوذ اقتدار فيّ حتى أرجع إلى قوله من نفسي بأمر ضروري لا نقدر على دفعه ، فترجعوا إلى قوله لرجوعي ، ولا جاء معه من يقطع باقتدارهم.

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (٥٤)

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) أي لطف معناهم بالنظر فيما قاله لهم ، فلما جعل فيهم هذا حملهم على تدقيق النظر في ذلك ، ولم يكن لهم هذه الحالة قبل ذلك (فَأَطاعُوهُ) ومن ادعى الربوبية لنفسه فإنما استخف قومه ، فإنه كاذب عند نفسه عالم بأنه كاذب ، ولكنه استخف قومه

١٠٤

(فَأَطاعُوهُ) لذلك وهو يعلم خلاف ذلك من نفسه ، ولا أعلم أن أحدا يجوع ويمرض ويغوط وأمثال هذا يدعي الألوهية إلا فرعون لما استخف قومه ، لذلك قال : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) أي في اعتقادكم ، فأطاعوه ظاهرا بالقهر الظاهر ، لأنه في محل يخاف ويرجى ، وباطنا بما نظروا فيه مما قاله لهم (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عما تعطيه العقول الصحيحة ، من إنكار ما ادعاه فرعون باللسان الظاهر في العقل ، وما شرّك الله تعالى فرعون مع قومه في ضمير إنهم.

(فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥٥)

(فَلَمَّا آسَفُونا) أي أغضبونا (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) فإن لله سبحانه نفوذ الاقتدار ، فانتقم منهم ليجعلهم عبرة للآخرين ، وذلك لما أخذ فرعون قلوبهم بالكلية إليه ، ولم يبق لله فيهم نصيب يعصمهم ، أغضبوا الله ، فغضب فانتقم ، فكان حكمهم في نفس الأمر خلاف حكم فرعون في نفسه ، فإنه علم صدق موسى عليه‌السلام ، وعلم حكم الله في ظاهره بما صدر منه ، وحكم الله في باطنه بما كان يعتقده من صدق موسى فيما دعاهم إليه ، وكان انتقام الله بقوله (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) فسوى الله في الغرق بينهم ، بين فرعون وقومه ، وتفرقا في الحكم.

(فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) (٥٦)

يعني للأمم الذين يأتون بعدهم ، وخص فرعون بأن تكون نجاته آية لمن رجع إلى الله بالنجاة.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً

١٠٥

فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (٦٢)

الأنبياء معصومون في إخبارهم عن الله أن يقولوا ما ليس هو الأمر عليه في نفسه ، بخلاف غير الأنبياء من المخبرين من عالم وغير عالم ، فالعالم قد يتخيل فيما ليس بدليل أنه دليل ، فيخبر بما أعطاه ذلك الدليل ثم يرجع عنه ، فلهذا لا ينزل في درجة العلم منزلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد يخبر بالعلم على ما هو عليه في نفس الأمر ، ولكن لا يتعين على الحقيقة لما ذكرناه من دخول الاحتمال فيه ، وكذلك غير العالم من العوام فقد يصادفون العلم وقد لا يصادفونه في إخبارهم ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس كذلك ، فإذا أخبر عن أمر من جهة الله فهو كما أخبر ، فالمحصّل له عالم بلا شك ، كما أن ذلك الخبر علم بلا شك.

(وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧)

الخلة هنا هي المعاشرة ، ولا تصح المخاللة من المخلوقين ، أعني من المؤمنين ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله] فالمخاللة لا تصح إلا بين الله وبين عبده ، قال تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) ولكن قد انطلق اسم الأخلاء على الناس مؤمنيهم وكافريهم ، فتسمى المعاشرة التي بين الناس إذا تأكدت في غالب الأحوال خلة ـ راجع سورة النساء آية ١٢٤ ـ.

١٠٦

(يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (٧١)

شهوة الجنة يقع لها اللذة بالمحسوس وبالمعقول على صورة ما يقع بالمحسوس ، من وجود الأثر البرزخي عند نيل المشتهى المعقول سواء ، وهذه الشهوة تكون في الجنة لكل أحد من أهل الجنة ، وفي الدنيا لا تقع إلا لآحاد من العارفين ، وأما الشهوة في الدنيا فلا تقع لها لذة إلا بالمحسوس الكائن ، والدار الآخرة تقتضي تكوين العالم عن العالم حسا وبمجرد حصول الخاطر ، والهمّ والإرادة والتمني والشهوة ، كل ذلك محسوس ، فلا تزال الآخرة دائمة التكوين عن العالم ، فإنهم يقولون في الجنان للشيء ، يريدونه كن فيكون ، فلا يتوهمون أمرا ما ، ولا يخطر لهم خاطر في تكوين أمر ما إلا ويتكون بين أيديهم ، وهذا في الدار الآخرة للجميع وليس ذلك إلا نيل الأغراض ، وهو الفعل بالهمة لكل أحد ، وهذا في الدار الدنيا نادر شاذ ، فإن قلت : فهل في نكاح الجنة نتاج؟ قلنا : نعم ، فإن في الإنتاج عين الكمال ، فإن فيه نتاج ولابد ، وولادته نفس يخرج من الزوجة عند الفراغ من الجماع ، فإن الإنزال ريح كما هو في الدنيا ماء ، فيخرج ذلك الريح بصورة ما وقع عليه الاجتماع بين الزوجين ، فمن أهل الجنة من يشاهد ذلك ومنهم من يغيب عنه ، فإن الأمر شهادة وغيب ، شهادة في حق من شهده ، وغيب في حق من غاب عنه ، والحكم في الجنة أن نفس حصول الشهوة نفس حصول المشتهى ، بحيث لو تأخرت عنه إلى الزمان الثاني الذي يلي زمان حصول الشهوة ، لكان ذا ألم لفقد المشتهى زمان الشهوة كالدنيا ، فإنه لابد أن يتأخر حصول المشتهى عن زمان الشهوة فلابد من الألم ، فإذا حصل المشتهى فأعظم الالتذاذ به اندفاع ذلك الألم ـ تحقيق ـ راجع البقرة آية رقم ٢٩ ـ.

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) راجع الأعراف آية ٤٣.

١٠٧

لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) (٧٤)

في مواطن لم يقيد الحق العذاب بالأليم وأطلقه ، فقال (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ) ولم ينعته بأنه أليم ، فإنه لا يزال عذابا وإن زال الألم.

(لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (٧٥)

(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) من كونه عذابا (وَهُمْ فِيهِ) أي في العذاب (مُبْلِسُونَ) أي مبعدون من السعادة العرضية في هذا الموطن ، لأن الإبلاس لفظة مختصة بأهل جهنم في بعدهم ، فلهذا جاء بالإبلاس ليوقع هذا الاصطلاح اللغوي في موضعه عند أهله ليعلموه ، فإنه لموطن جهنم لغة ـ ليست لأهل الجنان ـ والإبلاس منها ، وذلك زمان عذابهم وأخذهم بجرائمهم قبل أن تلحقهم الرحمة التي سبقت الغضب الإلهي.

(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ) (٧٧)

مالك عليه‌السلام هو متولي دار الشقاء التي هي السجن ، وسمي مالكا ومعناه الشديد ، يقال ملكت العجين إذا شددت عجنه ، فسمي مالكا وهو الخازن الأكبر المقدم بهذا الاسم لشدته وقوته وقهره الظاهر في عالم الشقاء ، فيزيد عذابهم وحرجهم لهذا القهر.

(لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (٨١) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا

١٠٨

وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٨٤)

جاء بالهوية بما ينبغي أن يظهر به في السموات من الألوهية بالاسم الذي يخصها ، وفي الأرض إله بالاسم الذي ينبغي أن يظهر به في الأرض من كونه إلها ، فكان آدم نائبا عن هذا الاسم ، وهذا الاسم هو باطنه ، وهو المعلوم له علم التأثيرات التي تكون عن الأسماء الإلهية التي تختص بالأرض ، حيث كانت خلافته فيها ، فإن لكل اسم خاصية في الفعل في الكون (١) (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) الحكمة حضرة تعطي علم الترتيب وإعطاء كل شيء حقه وإنزاله منزلته ، فيثبت الترتيب في أعيان الممكنات في حال ثبوتها بحكمة الحكيم ، لأنه ما من ممكن يضاف إلى ممكن إلا ويمكن إضافته إلى ممكن آخر لنفسه ، لكن الحكمة اقتضت بحكمها أن ترتبه كما هو بزمانه وحاله في حال ثبوته ، وهذا هو العلم الذي انفرد به الحق تعالى وجهل منه ، وظهر به الحكم في ترتيب أعيان الممكنات في حال ثبوتها قبل وجودها ، فتعلق بها العلم الإلهي بحسب ما رتبها الحكيم عليه ، فالحكمة أفادت الممكن ما هو عليه من الترتيب الذي يجوز خلافه ، والترتيب أعطى العالم العلم بأن الأمر كذا هو ، فلا يوجد إلا بحسب ما هو عليه في الثبوت الذي هو ترتيب الحكيم عن حكم الحكمة ، فالحكمة لها الجعل والعلم ليس كذلك ، لأن العلم تابع للمعلوم ، والحكمة تحكم في الأمر أن يكون هكذا (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) في المنع والعطاء ، فإن الله عزوجل ما منع إلا لحكمة ولا أعطى إلا لحكمة ، فهو العليم بكل شيء ، ومنزلة ذلك الشيء المعلوم.

(وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)

__________________

(١) إشارة لأبي عبد الله المصنف : أتى بلفظ (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) فكان ظهوره بالهوية فيها ولم يقل «وهو الذي في الأرض إله» فناب عنه الخليفة فيها ، ولو أتى بالهوية ما عبد غير الله في الأرض كما لم يعبد في السماء إلا هو.

١٠٩

وهذه شهادة من الله في حق المشركين ، فهو تنبيه عجيب ، فما ذكروا قط إلا الألوهية ، وما ذكروا الأشخاص ، ولكن لم يقبل الله منهم العذر بل قال (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).

(وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ٨٩

(٤٤) سورة الدّخان مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

سميت السورة بذلك الاسم لأن فيها آية (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) وهي السورة التي خبأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن صياد ، فقال له : [ما خبأت لك؟ فقال له : الدّخ] وهو لغة في الدخان ، فعلم ابن صياد اسمها الذي نواه وأضمره في نفسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خبئه ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [اخسأ فلن تعدو قدرك] أي علمك بهذا لا يخرجك عن قدرك الذي أهّلك الله له ، وقد روي [فلم تعدو قدرك] يعني بإدراكك لما خبأت لك ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يختبر صافا بما خبأ له عن وحي من الله ، فلو كان عن وحي ما عثر عليه ابن صياد ، لأن الله من وراء ما يأمر به بالتأييد ، بل كان هذا القول مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إبار النخل ، فلما خرج خبؤه كان ذلك من الله تأديب فعل ، ليحفظ عليه مقام المراقبة ، فلا ينطق إلا عن شهود ، إذ بقرينة الحال يعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما خبأ له ما خبأ إلا ليعجزه ، فأبى الله ذلك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن الله أدبني فأحسن تأديبي] ولو نطق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحاضرين بقصده فيما خبأ له لارتدت جماعة من الحاضرين لذلك ، ولكن الله عصم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القول ، ولم يخرجه العلم بالخبيئة عن كونه كاهنا ، والحاضرون يعرفون أمر الكهنة وشأنهم ، ولا سيما أهل اليمن والحجاز وجزيرة العرب ، فلم يخرجه ذلك العلم عن قدره عند الحاضرين.

(حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (٣)

١١٠

بدأ بالجمع الذي هو كل شيء. واعلم أن الله أنزل الكتاب فرقانا في ليلة القدر ليلة النصف من شعبان ، وأنزله قرآنا في شهر رمضان ، كل ذلك إلى السماء الدنيا ، ومن هناك نزل في ثلاث وعشرين سنة فرقانا نجوما ذا آيات وسور ، لتعلم المنازل وتتبين المراتب ، فمن نزوله إلى الأرض في شعبان يتلى فرقانا ، ومن نزوله في شهر رمضان يتلى قرآنا ، والليلة المباركة هي ليلة القدر الموافقة ليلة النصف من شعبان المخصوصة بالآجال ، وكما سبق أن ذكرنا في تفسير قوله تعالى (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أن الوحي وحيان : وحي القرآن وهو الأول ، ووحي الفرقان ، فإنه تعالى أشار في هذه الآية بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ) ولم يقل بعضه ، ثم قال.

(فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٤)

وهذا هو وحي الفرقان ، فالأمر ينزل إليها عينا واحدة ، ثم يفرق فيها بحسب ما يعطيه من التفاصيل ، كما تقول في الكلام إنه واحد من كونه كلاما ، ثم يفرق في المتكلم به ـ بحسب الأحوال الذي يتكلم به ـ إلى خبر واستخبار وتقرير وتهديد وأمر ونهي ، وغير ذلك من الكلام مع وحدانيته ، فقوله تعالى (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي محكم ، فتظهر الحكم ـ في التوحيد الآتي ـ التي جاءت بها الرسل الإلهيون ونطقت بها الكتب الإلهية ، رحمة بعباد الله عامة وخاصة ، فكل موجود يدركها ، وما كل موجود يعلم من أين صدرت ، فهي عامة الحكم خاصة العلم ، إذ كانت الاستعدادات من القوابل مختلفة ـ إشارة ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) لأهل السعة والمحققين والمعتبرين ، فإن أكثر الفتح عند هؤلاء هو أن يكشف للعبد عن نسخة القرآن في عالم الإنسان ، فعلى هذا الاعتبار قول الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) و (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) فهي في التفسير الظاهر ليلة القدر ، وفي اعتبار هؤلاء ، هي نفس المؤمن إذا صفت وزكت ، ولهذا قال : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وقلبه في الاعتبار السماء الدنيا التي نزل إليها القرآن مجموعا ، فعاد فرقانا بحسب المخاطبين ، فالإنسان الكامل كالأنبياء ومن تحقق بإرثهم ، هو القرآن العزيز على الحقيقة ، نزل من حضرة نفسه إلى حضرة موجده ، وهي الليلة المباركة ، لكونها غيبا ، والسماء الدنيا حجاب العزة الأحمى الأدنى إليه ، ثم جعل هناك فرقانا ، فنزل نجوما بحسب الحقائق الإلهية ،

١١١

فإنها تعطي أحكامها مختلفة ، فتفرق لذلك ، فلا يزال ينزل على قلبه من ربه نجوما ، حتى يجتمع هناك ويترك الحجاب وراءه ، فيزول عن الأين والكون ، ويغيب عن الغيب ، فالقرآن المنزل حق كما سماه الله حقا ، ولكل حق حقيقة ، وحقيقة القرآن الإنسان ، كما سئلت عائشة عن خلق النبي عليه‌السلام فقالت : [كان خلقه القرآن] قال العلماء : تريد قوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

(أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (٧) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٨)

هذا هو التوحيد الحادي والثلاثون في القرآن ، وهو توحيد البركة ، لأنه في السورة التي ذكر فيها أنه أنزله في ليلة مباركة ، فمن وحّد الله بهذا التوحيد المبارك الذي هو توحيد البركة عرف سر تشبيه نور الله بالمشكاة ، وما هي الزجاجة في هذا التشبيه؟ ولما كان هذا التوحيد في السورة التي ذكر فيها الليلة المباركة المخصوصة بالآجال ، لهذا نعت هذا التوحيد بأنه يحيي ويميت.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ

١١٢

رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) (١٩)

عين التحكم والتصرف مخصوص بالرسل في إظهار المعجزات والتحدي بها عن الأمر الإلهي ، فإنهم مرسلون بالدلالات على أنهم رسل الله ، فهم مخبرون بالحال أنهم المصطفون الأخيار لا بالقصد.

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٢٨) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) (٢٩)

قال تعالى في حال من مات ممقوتا عند الله (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) فوصف السماء والأرض بالبكاء على أهل الله.

(وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (٣٢)

سبق العلم بأمر ما يمنع وقوع غيره ، وهذا باب عظيم واجب غلقه وسده ، لأنه مهلك إلا للعارف المتمكن ، فإنه يتعلق بالقدر.

١١٣

(وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ (٣٣) إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) (٣٨)

وهو قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً).

(مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (٣٩)

ـ الوجه الأول ـ يقول تعالى في خلق السموات والأرض إنه ما خلقهما إلا بالحق أي ما خلقهما إلا له تعالى جده وتبارك اسمه ، لأنه قال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) فما خلق العالم إلا له تعالى ، فإن الباء هنا بمعنى اللام ، أي ما خلقناهما إلا للحق ـ الوجه الثاني ـ (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) وهو ما يجب لهما من قوله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) ـ الوجه الثالث ـ (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) الحق المخلوق به هو نفس الرحمن ، وهو العماء ، فهو كالظرف يبرز منه وجود ما يحوي عليه ، طبقا عن طبق ، عينا بعد عين ، على الترتيب الحكمي.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (٤١) إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ ٤٧ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ

١١٤

لْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤٩)

(الْعَزِيزُ) أي إنك المنيع الحمى في وقتك (الْكَرِيمُ) على أهلك وفي قومك ، فما هي سخرية به ، فإنه كذلك كان في قومه يدعى بهذا الاسم ، وهي سخرية به لأنه خاطبه بذلك في حالة ذله وإباحة حماه وانتهاك حرمته ، فدعاه الحق به هنا سخرية به على جهة الذم ، فإنه تغرّب عن موطنه الذي ربّي فيه وولد فيه ، وهو موطن العبودية ، ومن اغترب عن موطنه حرم عليه الاتصاف بالأسماء الإلهية في حال غربته ، كما قال تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) كما كان عند نفسه في زعمه ، فإنه تغرّب عن موطنه ، فهو صاحب دعوى ، فلا أذل في الآخرة ممن بلغ في الدنيا غاية العزة في نفسه ، ولو كان مصفوعا في الدنيا ، ولا أريد بعز الدنيا أن يكون فيها ملكا ، إلا أن يكون صفته في نفسه العزة ، وكذلك الذلة فإنه لا أعز في الآخرة ممن بلغ في الدنيا غاية الذل في جناب الحق ، وأما أن يكون في ظاهر الأمر ملكا أو غير ذلك ، فما نبالي في أي مقام وفي أي حال أقام الحق عبده في ظاهره ، وإنما المعتبر في ذلك حاله في نفسه ، قال تعالى في الحديث القدسي : [الكبرياء ردائي والعظمة إزاري من نازعني واحدا منهما قصمته] فلو كانت الكبرياء والجبروت والعزة والعظمة التي يدعيها العزيز الجبار العظيم المتكبر من العباد صفة لهم ، ما ذمهم ولا أخذهم أخذة رابية.

(إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (٥٣) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ) (٥٤)

لما كان المقصود بالنكاح الالتذاذ ، وكان لحصول اللذة بالجماع معنى لا يحصل إلا بالجماع ، زوجنا الله بالحور العين ، فإن قلت : فهل في نكاح الجنة توالد أم لا؟ قلنا : إن التوالد في الآخرة في هذا النوع الإنساني باق في المثل ، في نكاح الرجل المرأة الآدمية الإنسانية ، والتوالد أيضا بين جنسين مختلفين ، وهم بنو آدم والحور ، اللاتي أنشأهن الله في الجنان على صورة الإنسان ولسن بأناسي ، فتوالدهما بنكاح بينهما في الإن س والحور ،

١١٥

ويتناكحان في الزمن الفرد ، ينكح الرجل إذا أراد جميع من عنده من النساء والحور من غير تقدم ولا تأخر ، مثل فاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، بل بقطف دان من غير فقد ، مع وجود أكل وطيب مطعم ، فإذا أفضى الرجل إلى الحوراء أو الإنسية ، له في كل دفعة شهوة ولذة لا يقدر قدرها ، لو وجدها في الدنيا غشي عليه من شدة حلاوتها ، فتكون منه في كل دفعة ريح مثيرة تخرج من ذكره ، فيتلقاها الرحم ـ رحم المرأة ـ فيتكون من حينه فيها ولد في كل دفعة ، ويكمل نشوءه ما بين الدفعتين ، ويخرج مولودا مصورا مع النفس الخارج من المرأة روحا مجردا طبيعيا ، فهذا هو التوالد الروحاني في البشري بين الجنسين المختلفين والمتماثلين ، فلا يزال الأمر كذلك دائما أبدا ، ويشاهد الأبوان ما تولد عنهما من ذلك النكاح ، ولا حظ لهؤلاء الأولاد في النعيم المحسوس ، ولا بلغوا مقام النعيم المعنوي ، فنعيمهم برزخي كنعيم صاحب الرؤيا بما يراه في حال نومه ، وذلك لما يقتضيه النشء الطبيعي ، فلا يزال النوع الإنساني يتوالد ، ولكن حكمه ما ذكرناه ، إلا أن الأنفاس التي تظهر من تنفس الحوراء أو الآدمية إذا كانت صورة ما ظهرت فيه من نفس النكاح ، يخرج مخالفا للنفس الذي لا صورة فيه ، يميزه أهل الكشف ، ولا يدرك ذلك في الآخرة إلا أهل الكشف في الدنيا ، وصورة هذا النشء المتولد عن هذا النكاح في الجنة ، صورة نشء الملائكة أو الصور من أنفاس الذاكرين لله ، وما يخلق الله من صور الأعمال ، وقد صحت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) (٥٦)

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا) يعني في الجنة (الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) فأفردها ، ويريد : في الأولى ، التي هي الدار الدنيا ، فحذف حرف الجر ، وهذه الآية ليست بنص في عدم الموت الحقيقي لكل حي يحيى في الدنيا بعد موته قبل حياة البعث ، ولكن يتقوى بها وجه التأويل في أنه موت غشي وصعق (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) ـ إشارة ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه] وقد علمنا أن لقاء الله لا يكون

١١٦

إلا بالموت ، وعلمنا معنى الموت ، فاستعجلناه في الحياة الدنيا ، فمتنا في عين حياتنا عن جميع تصرفاتنا وحركاتنا وإرادتنا ، فلمّا ظهر الموت علينا في حياتنا ـ التي لا زوال لها عنا حيث كنا ، التي بها تسبّح ذواتنا وجوارحنا وجميع أجزائنا ـ لقينا الله فلقينا ، فكان لنا حكم من يلقاه محبا للقائه ، فإذا جاء الموت المعلوم في العامة وانكشف عنا غطاء هذا الجسم ، لم يتغير علينا حال ولا زدنا يقينا على ما كنا عليه ، فما ذقنا إلا الموتة الأولى ، وهي التي متناها في حياتنا الدنيا ، فوقانا ربنا عذاب الجحيم.

(فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٥٧)

قال عليّ رضي الله عنه : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ؛ فمن رجع إلى الله هذا الرجوع سعد ، وما أحسّ بالرجوع المحتوم الاضطراري ، فإنه ما جاءه إلا وهو هناك عند الله ، فغاية ما يكون الموت المعلوم في حقه ، أن نفسه التي هي عند الله يحال بينها وبين تدبير هذا الجسم الذي كانت تدبره ، فتبقى مع الحق على حالها ، وينقلب هذا الجسد إلى أصله وهو التراب الذي منه نشأت ذاته ، فكأن دارا رحل عنها ساكنها ، فأنزله الملك في مقعد صدق عنده إلى يوم يبعثون ، ويكون حاله في بعثه كذلك لا يتغير عليه حال ، من كونه مع الحق لا من حيث ما يعطيه الحق مع الأنفاس ، وهكذا في الحشر العام وفي الجنان التي هي مقره ومسكنه.

(فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ) (٥٩)

(٤٥) سورة الجاثية مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم (١) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ

١١٧

يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٥)

خرق العوائد في العموم وهي في الخصوص عوائد ، فلذلك تهول عند العامة ، والعاقل يهوله المعتاد وغير المعتاد ، ولذلك قال تعالى في المعتاد (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فإن كل ما في الكون آية عليه ، وهي أكثر الآيات الدالة على الله لقوم يعقلون ، وما سميت العقول عقولا إلا لقصورها على من عقلته من العقال ، فالعقل قيّد موجده ، والشرع والكشف أرسله ، وهو الحق ، فالسعيد من عقله الشرع لا من عقله غير الشرع ، فإن العامة ليست الآيات عندهم إلا التي هي عندهم غير معتادة ، فتلك تنبههم إلى تعظيم الله ، والخاصة عندهم الآيات هي المعتادة وغير المعتادة ، فالعالم كله عندهم آيات بينات.

(تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (٩) مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣)

١١٨

(وَسَخَّرَ لَكُمْ) أي من أجلكم (ما فِي السَّماواتِ) من ملك وكوكب سابح في فلك (وَما فِي الْأَرْضِ) وما فيهما من الخلق فدخل الحيوان في ذلك (جَمِيعاً مِنْهُ) لما كان المقصود من العالم الإنسان الكامل ، كان من العالم أيضا الإنسان الحيوان المشبه بالكامل في النشأة الطبيعية ، فقال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) أي من أجل الإنسان الكامل الخليفة في الأرض ، فشغل الملأ الأعلى به سماء وأرضا ، وأمر سبحانه وتعالى من في السموات والأرض بالنظر فيما يستحقه هذا الخليفة النائب ، فسخر له جميع من في السموات والأرض ، حتى المقول عليه الإنسان من حيث تماميته لا من حيث كماليته ، فهذا النوع المشارك له في الاسم إذا لم يكمل هو من جملة المسخرين لمن كمل ، فلا أفقر من الإنسان الكامل إلى العالم ، لأنه يشهده مسخّرا له ، فعلم أنه لو لا ما هو عليه من الحاجة إلى ما سخّروا فيه من أجله ما سخروا ، فيعرف نفسه أنه أحوج إلى العالم من العالم إليه ، ومن هنا يعلم أن الله خلق الخلق للخلق لا لنفسه ، فإن المنافع إنما تعود من الخلق على الخلق ، والله هو النافع الموجد للمنافع ، وأما خلقنا له فهو خلقنا لنعبده ، فمعناه لنعلم أنا عبيد له ، فإنا في حال عدمنا لا نعلم ذلك ، لأنه ما ثمّ وجود يعلم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ليعلموا ما مراد الله من ذلك ، واعلم أن الوضع والتركيب ليس العلم به من حظ الفكر ، بل هو موقوف على خبر الفاعل لها والمنشىء لصورها ، ومتعلق علم العقل من طريق الفكر إمكان ذلك خاصة لا ترتيبه ، فإن العقول عاجزة وقاصرة عن معرفة ما خلق الله من أجرام العالم وأرواحه ولطائفه وكثائفه ـ نصيحة ـ لا يغرنك يا ولي قوله تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) فإنه لم يقل إنه فعل ذلك ليسعدكم ولا أيضا ليشقيكم ، فبقيت على قدم الحذر والغرور واقفا ، فتحفظ فإنها آية فتنة يضل بها من يشاء ويهدي بها من يشاء ، فإن الحقائق التي أنشئت عليها علوا وسفلا ليست برفعة إلهية ، وإنما هي رفعة تعطيها الحقائق ، لا تعصم من نار ولا تدخل نعيما ، ولا يدخل بها أهل الجنة في جنتهم ولا أهل النار في نارهم ، فلا فائدة فيها ولا سلطان لها على السعادة ، وبها زلّت أقدام من خرجوا عن الشريعة.

(قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا

١١٩

يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٦) وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (١٨)

الشرع لا يتوقف ، على منافر أو موافق إذا تصرف ، له الحكم فيما ساء وسر ، ونفع وضر ، منزلته الحكم في الأعيان لا في الأكوان ، الصلاة خمس ، ما بين جهر وهمس ، بني الإسلام على خمس ، لإزالة اللبس ، فالتوحيد إمام فله الأمام ، والصلاة نور والصبر ضياء والصدقة برهان والحج إعلام بالمناسك الكرام ، وحرمات في حلال وحرام ، الشرع زائل ، والطبع ليس براحل ، محل الشرع الدار الدنيا ومحل الطبع الآخرة والأولى ، يرتفع الحكم التكليفي في الآخرة ، ولا يرتفع الطبع في الحافرة ، للشرع منازل الأحكام ، وللطبع البقاء والدوام ، جاءت الشرائع بحشر الأجساد ، وثبتت بخرق المعتاد ، أينما كانت الأجساد ، فلابد من كون وفساد ، وبهذا ورد الشرع وجاء السمع ، وقبله الطبع ووافق عليه الجمع والإيمان به واجب ، وأن الله خلقهم من طين لازب.

(إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (١٩)

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) بل كل نفس بما كسبت رهينة. ـ إشارة ـ الولاية سارية في الوجود ، فالله ولي المؤمنين من كونه مؤمنا ، فمن أين هو ولي المتقين ولا يتصف

١٢٠