رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

الاعتقادات بنظرها وأدلتها ، فهي ستور عليها ، لذلك تبصر الشخص ولا تبصر ما اعتقده إلا أن يرفع لك الستر بستر آخر ، وهو العبارة عن معتقده في ربه ، فالعبارة وإن دلتك عليه فهي ستر بالنظر إلى عين ما تدل عليه ، فإن الذي تدل عليه ما ظهر لعينك ، ولذلك فإن الأسماء الإلهية وإن دلت على ذات المسمى ، فهي أعيان الستور عليها ، والأسماء اللفظية الكائنة في ألسنة الناطقين والأسماء الرقمية في أقلام الكاتبين فإنها ستور على الأسماء الإلهية ، من حيث أن الحق متكلم لنفسه بأسمائه ، فتكون هذه الأسماء اللفظية والمرقومة التي عندنا أسماء تلك الأسماء وستورا عليها ، فإنا لا ندرك لتلك الأسماء كيفية ، ولو أدركنا كيفيتها شهودا لارتفعت الستور ، وهي لا ترفع ، فالستور وإن كانت دلائل فهي دلائل إجمالية ، فالعالم بل الوجود كله ستر ومستور وساتر ، فنحن في غيبه مستورون ، وهو ستر علينا ، فالوجود هو الستر العام ، فهو واسع المغفرة ، وهي حضرة إسبال الستور ، وختم تعالى بقوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) والستر وقاية ، والغفران هو الستر ، فالعبد يتقي بالستر.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (٣٤) أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٣٧)

وفّى بما رأى من ذبح ابنه.

(أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (٣٨)

فإن الدار الآخرة دار تمييز فلا تصيب العقوبة إلا أهلها.

(وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (٣٩)

جعل الله الإنسان لا يسعى إلا لنفسه ، ولهذا قرن بسعيه الأجر حتى يسعى لنفسه ، بخلاف من لا أجر له من العالم الأعلى والأسفل ، وليس بعد الرسل ومرتبتهم في العلم بالله مرتبة ، فهم المطرقون والمنبهون ، ومع هذا فما منهم من رسول إلا قال : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فما هو من سعي الإنسان فهو له عند الله بطريق الإيجاب الإلهي الذي أوجبه على

٢٢١

نفسه ، وأما ما عمل عنه غيره بحكم النيابة مما لم يؤذن فيه المّيت ولا أوصى به ولا له فيه تعمل ، فإن الله يعطيه ذلك المقام إذا وهبه إياه غيره ، فيأخذه الميت لا من طريق الوجوب الإلهي لكن يجب عليه أخذه ولابد ، فإنه أتاه من غير مسئلة.

(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى (٤١) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) (٤٢)

يريد المنتهى بظهورنا ، أي لا يزال وجه العالم أبدا إلى الاسم الأول الذي أوجده ناظرا ، ولا يزال ظهر العالم إلى الاسم الآخر المحيط الذي ينتهي إليه بورائه ناظرا ، والله هو الوجود المحض ، محيط بنا وإليه ننتهي ، فيحول وجوده وإحاطته بيننا وبين العدم ، فالمآل إلى الرحمة العامة ـ إشارة ـ لا يحجبنّك قوله تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) فتقول : ليس هو معي في البداية ، بل هو معك في البداية وفي طريقك إليه وإليه نهايتك ، لكن تختلف أفعاله فيك ، وهي اختلاف أحوالك ، ففي البداية يسويك ، وفي الطريق يهديك ، وفي الغاية يملك ويخلع عليك خلعة الخلافة ، فلما كان المنتهى المطلب أظهر الاسم في المنتهى ، ولذلك قال : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى).

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) (٤٣)

من الناس من وفقهم الله لوجود أفراح العباد على أيديهم ، أول درجة من ذلك من يضحك الناس بما يرضي الله ، أو بما لا رضا فيه ولا سخط وهو المباح ، فإن ذلك نعت إلهي لا يشعر به ، بل الجاهل يهزأ به ولا يقوم عنده هذا الذي يضحك الناس وزن ، وهو المسمى في العرف مسخرة ، وأين هو هذا الجاهل بقدر هذا الشخص من قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) ولا سيما وقد قيدناه بما يرضي الله أو بما لا رضا فيه ولا سخط ، فعبد الله المراقب أحواله وآثار الحق في الوجود يعظم في عينه هذا المسمى مسخرة ، وكان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعيمان يضحكه ليشاهد هذا الوصف الإلهي في مادة ، فكان أعلم بما يرى ، ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن يسخر به ولا يعتقد فيه السخرية ، وحاشاه من ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٢٢٢

بل كان يشهده مجلى إلهيا ، يعلم ذلك منه العلماء بالله ، ومن هذه الحضرة كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمازح العجوز والصغير ، يباسطهم بذلك ويفرّحهم.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) (٤٤)

ـ إشارة ـ الأرض عاد بخارها عليها ، وتحلل شوقا فنزل إليها ، والأمطار دموع العشاق ، من شدة الأشواق لألم الفراق ، فلما تلاقى أضحك بأزهاره ، جزاء بكاء وابل مدراره ، فأمات وأحيا من أضحك وأبكى.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (٤٥) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى) (٤٨)

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ليس الغنى عن كثرة العرض ، لكن الغنى غنى النفس] ترى التاجر عنده من المال ما يفي بعمره وعمر ألزامه لو عاش إلى انقضاء الدنيا ، وما عنده في نفسه من الغنى شيء ، بل هو من الفقر إلى غاية الحاجة ، بحيث أن يرد بماله موارد الهلاك في طلب سد الخلة التي في نفسه ، عسى يستغني ، فما يستغني ، بل لا يزال في طلب الغنى الذي هو غنى النفس ولا يشعر. واعلم أن أول درجة الغنى القناعة والاكتفاء بالموجود ، فلا غنى إلا غنى النفس ، ولا غنّي إلا من أعطاه الله غنى النفس ، فليس الغنى ما تراه من كثرة المال مع وجود طلب الزيادة من رب المال ، فالفقر حاكم عليه.

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى) (٤٩)

كانت العرب تعبد كوكبا في السماء يسمى الشعرى ، سنّة لهم أبو كبشة ، وتعتقد فيها أنها رب الأرباب ، لذلك قال تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) وأبو كبشة هذا الذي كان شرع عبادة الشعرى هو من أجداد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمه ، ولذلك كانت العرب تنسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه ، فتقول : ما فعل ابن أبي كبشة؟ حيث أحدث عبادة إله واحد كما أحدث جده عبادة الشعرى.

٢٢٣

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى) (٥٠)

عاد الأولى هم قوم هود عليه‌السلام ، وثمود قوم صالح عليه‌السلام ، وفي رواية أنهم قوم إدريس عليه‌السلام ، وما طلب منهم إلا أن يقولوا : لا إله إلا الله.

(وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) (٥٣)

وهو أن جبريل عليه‌السلام اقتلع أرض قوم لوط من سبع أرضين ، فحملها حتى بلغ بها إلى سماء الدنيا ، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم وأصوات ديكهم ، ثم قلبها وأرسل على الشرار منهم حجارة من سجيل.

(فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى (٥٥) هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى (٥٦) أَزِفَتْ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) (٥٩)

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) يعني من القرآن ، فيما وعظهم به منهم وتوعدهم ووعدهم (تَعْجَبُونَ) تكثرون العجب ، كيف جاء به مثل هذا؟ وما أنزل على عظمائكم كما قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).

(وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ) (٦٠)

(وَتَضْحَكُونَ) أي تهزؤون منه إذا أتى به ، لأنهم لا يعرفون الحق إلا بالرجال (وَلا تَبْكُونَ) فإن في القرآن ما يبكي من الوعيد ، وما يضحك ويتعجب فيه من الفرح باتساع رحمة الله ولطفه بعباده ، وفي القرآن من الوعيد والمخاوف ما يبكي بدل الدموع دما لمن دبر آياته.

٢٢٤

(وَأَنتُمْ سَامِدُونَ) (٦١)

لاهون وفي القرآن هذا كله!! ـ سامد لغة حميرية يقولون : اسمد لنا أي غن لنا ، في وقت حصادهم لينشطوا للعمل ، وكانت العرب إذا سمعت القرآن غنت حتى لا تسمع القرآن ، وكانوا يقولون ما أخبر الله عنهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فما لكم عنه معرضون وموطن الدنيا موطن حذر؟ ولا سيما والموت فيكم رائح وغاد مع الأنفاس ، ولا تتفكرون إلى أين تصيرون؟ وإلى أين تسافرون؟ وأين تحطون؟ فإن كنتم أهل غناء فتغنوا بالقرآن ، فهو أولى بكم ورد في الخبر : [ما أذن الله لنبي كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن] يقول : ما استمع كاستماعه ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ليس منا من لم يتغن بالقرآن] فجعل التغني به من السنة.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٦٢)

فأمر بالسجود والذلة والمسكنة ، وهذه السجدة فيها خلاف ، وهي سجدة الطرب واللهو ، تنبيه للغافلين عن الله.

(٥٤) سورة القمر مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١)

ورد في الخبر عن الصاحب أن القمر انشق على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند سؤال طائفة من العرب أن يكون لهم آية على صدقه ، فانشق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اشهدوا. وقال تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) فلا يدرى هل أراد الانشقاق الذي وقع فيه السؤال؟ وهو الظاهر من الآية فإنه أعقب الانشقاق بقوله :

(وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ) (٢)

٢٢٥

وكذا وقع القول منهم لما رأوا ذلك ، ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحاضرين : [اشهدوا] لوقوع ما سألوا وقوعه ، وما لهم إلا ما ظهر ، وهل هو ذلك الواقع في نفس الأمر أو في نظر الناظر؟ هذا لا يلزم ، فإنه لا يرتفع الاحتمال إلا بقول المخبر إذا أخبر أنه في نفس الأمر كما ظهر في العين ، وقول المخبر هو محل النزاع ، وما اشترطوا في سؤالهم أن لا يظهر منهم ما ظهر منهم من الإعراض عند وقوع ما سألوا وقوعه ، فلم يلزم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر مما وقع فيه من السؤال ، ثم جاء الناس من الآفاق يخبرون بانشقاق القمر في تلك الليلة ، ولهذا قال الله تعالى عنهم : إنهم قالوا فيه (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) فقال الله :

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ) (٣)

وكان ذلك الأمر ما كان.

(وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ٥ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ (٦) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ٧ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨)

(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) وهو الله تعالى (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ).

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ) (١٤)

٢٢٦

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي بحيث نراها ، يشير الحق بذلك إلى أنه يحفظها ، لأن المحفوظ لا يختفي عنه ، وقال تعالى : (بِأَعْيُنِنا) فكثر دلالة على أنها تجري في حفظ الله من حفظ إلى حفظ ، ووصف الحق نفسه بالأعين لأن مدبر السفينة يحفظها ، والمقدم يحفظها ، وصاحب الرجل يحفظها ، وكل من له تدبير في السفينة يحفظها ، بل يحفظ ما يخصه من التدبير ، فقال تعالى فيها : إنها تجري بأعين الحق ، وما ثمّ إلا هؤلاء ، وهم الذين وكّلهم الله بحفظها ، فكل حافظ في العالم أمرا ما فهو عين الحق ، إذ الحفظ لا يكون إلا ممن لا يغالب على محفوظه ولا يقاوى على حفظه ، والحق تعالى مع بعض عباده بالولاية والعناية والكلاءة والرعاية ، فله تعالى عين في كل أين ، ولذلك قال : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) فجمع ، والقول الحق إذا جاء صدع ، فكل مدبر عينه ، وكل عامل يده وكونه.

(وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ (١٩) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ (٢٨) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا

٢٢٧

أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (٤٩)

كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس ، فكل شيء بقضائه أي بحكمه ، وقدره أي وزنه ، وهو تعيين وقت ، حالا كان وقته أو زمانا أو صفة أو ما كان ، فالقضاء الذي له المضي في الأمور هو الحكم الإلهي على الأشياء بكذا ، وهو مجمل ، والمقضي به تفصيل ذلك المجمل وهو القدر ، لأن القدر توقيت الحكم ، فالقدر ما يقع بوجوده في موجود معين المصلحة المتعدية منه إلى غير ذلك الموجود ، فالقضاء في أم الكتاب ، ويطلبه حكم الإمام المبين الذي فيه ما يتكون عن المكلفين خاصة وهو القدر ، وكلا الكتابين محصور لأنه موجود ، وعلم الله في الأشياء لا يحصره كتاب مرقوم ، فالقضاء يحكم على القدر ، والقدر

٢٢٨

لا حكم له في القضاء ، بل حكمه في المقدّر لا غير بحكم القضاء ، فالقاضي حاكم والمقدار مؤقت ، فالقدر التوقيت في الأشياء ، فما أنزل الله شيئا إلا بقدر معلوم ، ولا خلق شيئا إلا بقدر ، وبالقدر تقوم الحجة لله في عباده ، فكل شيء بقضاء وقدر أي بحكم مؤقت ، فمن حيث التوقيت المطلق يجب الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره ، ومن حيث التعيين يجب الإيمان به لا الرضا ببعضه ، فإن الله تعالى أمرنا بالرضا قبل القضاء مطلقا ، فعلمنا أنه يريد الإجمال ، فإذا فصّله حال المقضي عليه بالمقضي به انقسم إلى ما يجوز الرضا به وإلى ما لا يجوز ، وعلم القدر طوي عن كل ما سوى الله ، فإن القدر نسبة مجهولة خاصة ، وهو مرتبة بين الذات وبين الحق من حيث ظهوره ، فلا يعلم أصلا وعز عن العلم به أو تصوره ، فلا ينال أبدا ، وقد كان العزير رسول الله عليه‌السلام كثير السؤال عن القدر إلى أن قال له الحق : يا عزير لئن سألت عنه لأمحون اسمك من ديوان النبوة ، فإن من علم الله علم القدر ، ومن جهل الله جهل القدر ، والله سبحانه مجهول ، فالقدر مجهول ، وسبب طي علم القدر ، سبب ذاتي ، حتى لا يشارك الحق في علم حقائق الأشياء من طريق الإحاطة بها ، إذ لو علم أي معلوم كان بطريق الإحاطة من جميع وجوهه كما يعلمه الحق لما تميز علم الحق عن علم العبد بذلك الشيء ، فالعبد جاهل بكيفية تعلق العلم مطلقا بمعلومه ، فلا يصح أن يقع الاشتراك مع الحق في العلم بمعلوم ما ، ومن المعلومات العلم بالعلم ، وما من وجه من المعلومات إلا وللقدر فيه حكم لا يعلمه إلا الله ، فلو علم القدر علمت أحكامه ، ولو علمت أحكامه لاستقل العبد في العلم بكل شيء ، وما احتاج إلى الحق في شيء ، وكان الغنى له على الإطلاق ، لذلك طواه الله عن عباده ، ومن الأسباب التي لأجلها طواه عن الإنسان كون ذات الإنسان تقتضي البوح به ، لأنه أسنى ما يمدح به الإنسان ولا سيما الرسل ، فحاجتهم إليه آكد من جميع الناس ، لأن مقام الرسالة يقتضي ذلك ، وما ثمّ علم ولا آية أقرب للدلالة على صدقهم من مثل هذا العلم ، والرسالة تعطي الرغبة في هداية الخلق أجمعين ، ولا طريق للهداية أوضح من هذا الفن ، فالذي كانوا يلقونه من الكتم من الألم والعذاب في أنفسهم لا يقدر قدره ، لأن الغيرة الإلهية اقتضت طي هذا العلم عمن لا ينبغي أن يظهر عليه ، فخفف الله عن الرسل مثل هذا الألم فطوى هذا العلم عنهم ، فإن النشأة العنصرية تقتضي عدم الكتم فيما ينبغي أن تمدح به.

٢٢٩

(وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٠)

الأمر الإلهي كلمة واحدة كلمح بالبصر ، وليس في التشبيه الحسي أعظم ولا أحق تشبيها به من اللمح بالبصر ، فإن البصر لا شيء أسرع منه ، فإن زمان لمحة العين ـ أي زمان التحاظه ـ عين زمان تعلقه بالملموح ، ولو كان في البعد ما كان ، فهو زمان التحاقه بغاية ما يمكن أن ينتهي إليه في التعلق ، وأبعد الأشياء في الحس الكواكب الثابتة التي في فلك المنازل ، وعندما تنظر إليها يتعلق اللمح بها ، فهذه سرعة الحس ، فما ظنك بالمعاني المجردة عن التقييد في سرعة نفوذها؟ فإن للسرعة حكما في الأشياء لا يكون لغير السرعة ، ومن هنا يعرف قول الحق للشيء ؛ كن فيكون ؛ فحال كن الإلهية حال المكون المخلوق (وَما أَمْرُنا) وهو قوله : كن (إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) ومن أراد أن يعرف ذلك في صورة نشء العالم وظهوره ، وسرعة نفوذ الأمر الإلهي فيه وما أدركت الأبصار والبصائر منه ، فلينظر إلى ما يحدث في الهواء من سرعة الحركة بجرة النار في يد المحرك لها ، إذا أدارها ، فتحدث في عين الرائي دائرة أو خطا مستطيلا إن أخذ بالحركة طولا أو أي شكل شاء ، ولا تشك أنك أبصرت دائرة نار ولا تشك أن ما ثمّ دائرة ، وإنما أنشأ ذلك في نظرك سرعة الحركة ، فالدائرة مثل عين الصورة المخلوقة الظاهرة لإدراك العين عن قوله : كن ، فتحكم من حيث نظرك ببصرك وبصيرتك وفكرك أنه خلق وبعلمك وكشفك أنه حق مخلوق به ، واعلم أن الكيفيات لا تنقال ، ولكن تقال بضرب من التشبيه ، فإن أمره واحدة أي كلمة واحدة مثل لمح بالبصر ، فإن اللمحة الواحدة من البصر تعمّ من أحكام المرئيات من حيث الرائي إلى الفلك الأطلس جميع ما يحوي عليه في تلك اللمحة من الذوات والأعراض القائمة بها من الأكوان والألوان ، وشبّه الإمضاء بلمح البصر ، وسبب ذلك أن الذي يصدر منه الأمر لا يتقيد ، فهو في كل مأمور بحيث أمر ، فينفذ الأمر بحكمه دفعة واحدة.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (٥٣)

٢٣٠

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) في اللوح المحفوظ ، وهو القضاء والقدر ، فما فيه إلا ما يقع ، ولا ينفذ الملائكة الولاة في العالم إلا ما فيه ، وما من حدث يحدث الله في العالم إلا وقد وكل الله بإجرائه ملائكة.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) (٥٤)

أي في ستر وسعة ـ إشارة ـ في ستور علوم جارية واسعة ، كلما قلت : هذا ؛ جاء غيره ، لأن النهر جار على الدوام بالأمثال.

(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) (٥٥)

(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) في حضرة منيعة ، وما أقعدهم ذلك المقعد إلا صدقهم (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) فإن الاقتدار يناسب الصدق ، فإن معناه القوي ، يقال : رمح صدق ، أي صلب قوي ، ولما كانت القوة صفة هذا الصادق ، حيث قوي على نفسه فلم يتزين بما ليس له ، والتزم الحق في أقواله وأحواله وأفعاله وصدق فيها ، أقعده الحق عند مليك مقتدر ، أي أطلعه على القوة الإلهية التي أعطته القوة في صدقه الذي كان عليه ، فإن الملك هو الشديد أيضا ، فهو مناسب للمقتدر ، يقال : ملكت العجين إذا شددت عجنه ، فالمتقي ما نال مقعد الصدق إلا من كونه محقا ، لأنه صادق في تقواه (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) عند ملك ماضي الكلمة في ملكه ، لأنهم كل ما همّوا به انفعل لهم ، وحكم الاقتدار ما هو حكم القادر ، فالاقتدار حكم القادر في ظهور الأشياء بأيدي الأسباب ، والأسباب هي المتصفة بكسب القدرة ، فهو تعالى المقتدر على كل ما يوجده عند سبب أو بسبب ، كيف شئت قل ، فما أوجده على أيدي الأسباب هو قوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) وليست سوى الأسباب ـ اعتبار ـ

اعترضت لي عقبة

وسط الطريق في السفر

فأسفرت عن محن

فيمن طغى أو من كفر

من دونها جهنم

ذات زفير وسعر

ترمي من الغيظ وجو

ه المجرمين بشرر

بحورها قد سجرت

وسقفها قد انفطر

٢٣١

وشمسها قد كورت

ونجمها قد انكدر

أتيتكم أخبركم

لتعرفوا معنى الخبر

ولا تقولوا مثل من

قال فما تغني النذر؟

فكان من أمرهم

ما قد سمعتم وذكر

قالوا : وقد دعاكم

الداعي إلى شيء نكر

فيخرجون خشّعا

مثل الجراد المنتشر

شعثا حفاة حسرا

في يوم نحس مستمر

إلى عذاب وثوى

إلى خلود في سقر

فلو ترى نبيهم

حين دعاهم فازدجر

وقد دعا مرسله

أني ضعيف فانتصر

فقال : يا عين انسكب

وأنت يا أرض انفجر

حتى التقى الماء على

أمر حكيم قد قدر

فاصطفقت أمواجه

وذاكم البحر الزخر

فالحكم حكم فاصل

والأمر أمر مستقر

وأمره واحدة

كمثل لمح بالبصر

سفينة قامت من أل

واح نجاة ودسر

تجري بعين حفظه

وعدا لمن كان كفر

تسوقها الأرواح عن

أمر مليك مقتدر

أنزلها الجود على ال

جودي فقالوا : لاوزر

ناداهم الحق اخرجوا

منها أنا عين الوزر

حطوا وقالوا : ربنا

لديك نعم المستقر

فيا سماء أقلعي

من سح ماء منهمر

وأنت يا أرض ابلعي

ماءك واخزن واحتكر

قد قضي الأمر فمن

كان عدوا قد غبر

تركتها تذكرة

لكم فهل من مدّكر؟

وكل ما كان وما

يكون منكم مستطر

وإن ما يفعله

في الكون من خير وشر

مقدّر مؤقت

كذا أتانا في الزّبر

الموت سم ناقع

والحشر أدهى وأمر

سفينكم أجسامكم

في بحر دنيا قد زخر

وأنتم ركابها

وأنتم على خطر

ما لكم من ساحل

غير القضاء والقدر

فابتهلوا واجتهدوا

فما من الله مفر

هذا الذي أشهدته

في ليلتي حتى السحر

فازدجروا واعتبروا

واتعظوا بمن غبر

فالكل والله بلا

شك على ظهر سفر

(٥٥) سورة الرحمن مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(الرَّحْمَنُ) (١) مبالغة في الرحمة العامة التي تعم الكون أجمعه.

(عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (٢)

٢٣٢

نصب القرآن ، يعني علّم القرآن أين ينزل من الإنسان ، هل في النفس ، أو في الجنان؟ وفي أي قلب يكون ويستقر ، وعلى أي قلب ينزل ، فالرحمن علّم القرآن النزول إلى قلوب عباده المؤمنين التي وسعته ، فهو نزول منه إليه.

(خَلَقَ الْإِنسَانَ) (٣)

فعين له الصنف المنزل عليه. اعلم أن الله كان ولا شيء معه ، لم يرجع إليه من إيجاد العالم صفة لم يكن عليها ، بل كان موصوفا لنفسه ، ومسمى قبل خلقه بالأسماء التي يدعونه بها خلقه ، فلما أراد وجود العالم وبدأه على حد ما علمه بعلمه بنفسه ، انفعل عن تلك الإرادة المقدسة بضرب تجل من تجليات التنزيه إلى الحقيقة الكلية ، انفعل عنها حقيقة تسمى الهباء ، هي بمنزلة طرح البناء الجص ليفتح فيها ما شاء من الأشكال والصور ، وهذا هو أول موجود في العالم ، ثم أنه سبحانه تجلى بنوره إلى ذلك الهباء ، والعالم كله فيه بالقوة والصلاحية ، فقبل منه تعالى كل شيء في ذلك الهباء على حسب قوته واستعداده ، كما تقبل زوايا البيت نور السراج ، وعلى قدر قربه من ذلك النور يشتد ضوءه وقبوله ، فلم يكن أقرب إليه قبولا في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسماة بالعقل ، فكان سيد العالم بأسره ، وأول ظاهر في الوجود ، فكان وجوده من ذلك النور الإلهي ، ومن الهباء ومن الحقيقة الكلية ، وفي الهباء وجد عينه ، وعين العالم من تجليه ، ثم انتهى ترتيب نضد العالم وإيجاده إلى الإنسان ، فهو آخر الموّلدات ، وهو نظير العقل الأول وبه ارتبط ، لأن الوجود دائرة ، فكان ابتداء الدائرة وجود العقل الأول الذي ورد في الخبر أنه أول ما خلق الله العقل ؛ فهو أول الأجناس وانتهى الخلق إلى الجنس الإنساني فكملت الدائرة ، واتصل الإنسان بالعقل كما يتصل آخر الدائرة بأولها ، فكانت دائرة ، وما بين طرفي الدائرة جميع ما خلق الله من أجناس العالم ، بين العقل الأول الذي هو القلم أيضا ، وبين الإنسان الذي هو الموجود الآخر ، ولما كانت الخطوط الخارجة من النقطة التي في وسط الدائرة إلى المحيط الذي وجد عنها ، تخرج على السواء لكل جزء من المحيط ، كذلك نسبة الحق تعالى إلى الموجودات نسبة واحدة فلا يقع هناك تغيير البتة ، كانت الأشياء كلها ناظرة إليه ، وقابلة منه ما يهبها ، نظر أجزاء المحيط إلى النقطة ، واعلم أن الله ما خلق العالم الخارج عن الإنسان إلا ضرب مثال للإنسان ، ليعلم

٢٣٣

أن كل ما ظهر في العالم هو فيه ، فكل مولد يجمع حقائق ما فوقه حتى ينتهي إلى الإنسان ، وهو آخر مولد ، فتجمع فيه جميع قوى العالم والأسماء الإلهية بكمالها فسمي إنسانا لعموم نشأته وحصره الحقائق كلها ، وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر ، وهو المعبر عنه بالبصر ، فلهذا سمي إنسانا ، فإنه به نظر الحق سبحانه إلى خلقه فرحمهم ، فلا موجود أكمل من الإنسان الكامل ، ومن لم يكمل في الدنيا من الأناسي فهو حيوان ناطق ، جزء من الصورة ، لا يلحق بدرجة الإنسان ، بل نسبته إلى الإنسان نسبة جسد الميت إلى الإنسان ، فهو إنسان بالشكل لا بالحقيقة ، فالإنسان هو العين المقصودة ، وهو مجموع الحكم ، ومن أجله خلقت الجنة والنار ، والدنيا والآخرة ، والأحوال كلها والكيفيات ، وفيه ظهر مجموع الأسماء الإلهية وآثارها ، فهو المنعّم والمعذّب ، والمرحوم والمعاقب ، ثم جعل له أن يعذب وينعم ويرحم ويعاقب ، وهو المكلف المختار ، وهو المجبور في اختياره ، وله يتجلى الحق بالحكم والقضاء والفصل ، وعليه مدار العالم كله ، ومن أجله كانت القيامة ، وبه أخذ الجان ، وله سخر ما في السموات وما في الأرض ، ففي حاجته يتحرك العالم كله علوا وسفلا ، دنيا وآخرة ، وجعل نوع هذا الإنسان متفاوت الدرجات ، فسخر بعضه لبعضه ، وسخره لبعض العالم ليعود نفع ذلك عليه ، فما سخر إلا في حقّ نفسه ، وانتفع ذلك الآخر بالعرض ، وما خص أحد من خلق الله بالخلافة إلا هذا النوع الإنساني ، وملّكه أزمة المنع والعطاء ، فالسعداء خلفاء ونواب ، ومن دون السعداء فنواب لا خلفاء ، ينوبون عن أسماء الله في ظهور حكم آثارها في العالم على أيديهم ، وقدم الله الإنس على الجان في آيات هذه السورة ، وفي قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) فابتدأ به تقديرا ومرتبة نطقية ، تهمما به على الجن ، وإن كان الجن موجودا قبله ، يؤذن بأنه وإن تأخرت نشأته فهو المعتنى به في غيب ربه ، لأنه المقصود من العالم لما خصه به من كمال الصورة في خلقه باليدين ـ إشارة واعتبار ـ اعلم أن العوالم أربعة : العالم الأعلى وهو عالم البقاء ، ثم عالم الاستحالة وهو عالم الفناء ، ثم عالم التعمير وهو عالم البقاء والفناء ، ثم عالم النسب ، وهذه العوالم في موطنين : في العالم الأكبر وهو ما خرج عن الإنسان ، وفي العالم الأصغر وهو الإنسان ، (فأما العالم الأعلى) فالحقيقة المحمدية وفلكها الحياة ، نظيرها من الإنسان اللطيفة والروح القدسي ، ومنهم العرش المحيط ، ونظيره من الإنسان الجسم ، ومن ذلك الكرسي ،

٢٣٤

ونظيره من الإنسان النفس ، ومن ذلك البيت المعمور ، ونظيره من الإنسان القلب ، ومن ذلك الملائكة ونظيرها من الإنسان الأرواح التي فيه والقوى ، ومن ذلك زحل وفلكه نظيره من الإنسان القوة العلمية والنفس ، ومن ذلك المشتري وفلكه نظيرها القوة الذاكرة ومؤخر الدماغ ، ومن ذلك الأحمر وفلكه نظيرهما القوة العاقلة واليافوخ ، ومن ذلك الشمس وفلكها نظيرهما القوة المفكرة ووسط الدماغ ، ثم الزهرة وفلكها نظيرهما القوة الوهمية والروح الحيواني ، ثم الكاتب وفلكه نظيرهما القوة الخيالية ومقدم الدماغ ، ثم القمر وفلكه نظيرهما القوة الحسية والجوارح التي تحس ، فهذه طبقات العالم الأعلى ونظائره في الإنسان ، (وأما عالم الاستحالة) فمن ذلك كرة الأثير وروحها الحرارة واليبوسة وهي كرة النار ونظيرها الصفراء وروحها القوة الهاضمة ، ومن ذلك الهواء وروحه الحرارة والرطوبة ونظيره الدم وروحه القوة الجاذبة ، ومن ذلك الماء وروحه البرودة والرطوبة نظيره البلغم وروحه القوة الدافعة ، ومن ذلك التراب وروحه البرودة واليبوسة نظيره السوداء وروحها القوة الماسكة ، وأما الأرض فسبع طباق ، أرض سوداء ، وأرض غبراء ، وأرض حمراء ، وأرض صفراء ، وأرض بيضاء ، وأرض زرقاء ، وأرض خضراء ، نظير هذه السبعة من الإنسان في جسمه ، الجلد والشحم واللحم والعروق والعصب والعضلات والعظام (وأما عالم التعمير) فمنهم الروحانيون نظيرهم القوى التي في الإنسان ، ومنهم عالم الحيوان نظيره ما يحس من الإنسان ، ومنهم عالم النبات نظيره ما ينمو من الإنسان ، ومن ذلك عالم الجماد نظيره ما لا يحس من الإنسان (وأما عالم النسب) فمنهم العرض ثم الكيف ثم الكم ثم الأين ، ثم الزمان ، ثم الإضافة ، ثم الوضع ثم أن يفعل ثم أن ينفعل ، وكلها تنسب إلى الإنسان ، ومنهم اختلاف الصور في الأمهات كالفيل والحمار والأسد والصرصر ، نظير هذا القوة الإنسانية التي تقبل الصور المعنوية من مذموم ومحمود ، هذا فطن فهو فيل ، هذا بليد فهو حمار ، هذا شجاع فهو أسد ، هذا جبان فهو صرصر وعلم الرحمن الإنسان الأسماء ، والإفصاح عما علمه بقوله :

(عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (٤)

ـ الوجه الأول ـ أي القرآن ، وهو عين الهدى ، فإنه قال فيه : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ)

٢٣٥

وهو القرآن (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) فعلم القرآن قبل الإنسان أنه إذا خلق الإنسان لا ينزل إلا عليه ، فينزل على الإنسان القرآن ليترجم عنه بما علمه الحق من البيان ، الذي لم يقبله إلا هذا الإنسان ، فكان للقرآن علم التمييز ، فعلم أين محله الذي ينزل عليه من العالم ، وكذلك كان ، فإنه نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليبين للناس ما نزل إليهم ، ثم لا يزال ينزل على قلوب أمته إلى يوم القيامة ، فهو ينزل على كل قلب تال في حال تلاوته ، فنزوله في القلوب لا يبرح دائما ، جديد لا يبلى ـ الوجه الثاني ـ (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) بما بيّن له ، فعلم كيف يبين لغيره ، فأبان عن المراد الذي في الغيب ، وعلمه البيان وهو ما ينطق به اللسان ، وعرفه المواطن وكيف يكون فيها ـ الوجه الثالث ـ (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) وهو الفرقان ـ الوجه الرابع ـ (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) علّم القرآن تكن نائب الرحمن ، فإن الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ، فإنه قال فيه : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) وهو القرآن ، فعلم الله القرآن كما علم الإنسان القرآن ، فخيركم من علم القرآن وعلمه ـ إشارة ـ بهذه الآيات الأربع قطع الله حكم الأسباب ، فأضاف الكل إليه تعالى.

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) (٥)

ليجمع للإنسان بين ما يثبت على حالة واحدة وبين ما يقبل الزيادة والنقصان ، وذلك ميزان حركات الأفلاك.

(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) (٦)

لهذا الميزان ، أي من أجل هذا الميزان ، فالنجم والشجر يسجدان ، وهما ما ظهر وما قام على ساق فعلا ، حكمت بذلك القدمان ، فمنه ذو ساق وهو الشجر ، ومنه ما لا ساق له وهو النجم ، فاختلفت السجدتان ، فإن الشجر كل نبات قام على ساق والنجم هو كل نبات لم يقم على ساق ، بل له الطلوع والظهور على وجه الأرض خاصة.

(وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (٧)

٢٣٦

(وَالسَّماءَ) وهي قبة الميزان (رَفَعَها) في البنيان ، لما ها من الولاية والحكم في الأكوان ، فهي السقف المرفوع على الأركان (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) ـ الوجه الأول ـ وضع الميزان في سباحة الكواكب في أفلاكها ، التي هي طرق في السموات ، لتجري بالمقادير الكائنة في العالم ، على قدر معلوم لا تتعدّاه ، فهي تعطي وتمنع بذلك الميزان الذي وضع الحق لها ، لأنها تشاهد الميزان بيد الحق حين يخفض به ويرفع ، فإذا نظرت إلى من رفعه الحق بميزانه أعطته ما يستحقه مقام الرفع ، وإذا رأت الحق يضع بميزانه من شاء أعطته ما يستحقه مقام الوضع ، وذلك هو التسخير الذي ورد في القرآن أنها مسخرات بأمره ، فصاحب الشهود يقول : مطرنا بفضل الله ورحمته ؛ بالوزن الذي جعله في سباحة كوكب من الكواكب ، وما قدره الله له من المنازل التي ينزل فيها ، والمحجوب عن هذا المقام يقول : مطرنا بنوء كذا وكذا ؛ فيذكر الكوكب المجبور في ذلك ويضيف ما ظهر من المطر الصائب إليه ، كما يضيف أفعاله خلقا إلى نفسه ، فسمي عند ذلك كافرا بالله مؤمنا بمن رأى الفعل منه ، ويسمى الأول مؤمنا بالله كافرا بمن رأى الحسن الفعل صادرا منه ، من حيث ما هو محل ، ومن المكلفين من ليس له هذا الشهود ، ولا تركه الإيمان يقف مع الحجاب الذي على عينه ، فيقول مثل ما يقول صاحب الشهود : مطرنا بفضل الله ورحمته ، تقليدا لا علما ، حتى يتميز المؤمن من العالم ، فإن المؤمن يقول ذلك لورود الخبر الصادق به ، ويقوله صاحب النظر لما يعطيه دليل عقله مثل المؤمن سواء ، إلا أن له درجة زائدة ، وهذان الصنفان لا يبلغان مبلغ صاحب الشهود في الدرجة ، فإنه يزيد عليهما بالعين ـ الوجه الثاني ـ (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) في الأرض ، أي وضع ميزانا عندنا في الأرض ، وهو ميزان الشرع ، لنصرفه بحسب وضع الحق ، فلا يتعدى الميزان الذي يطلبه منه ، وهو الميزان الإلهي المشروع ، فمن عرفه ووقف عنده وتأدب بآداب الله التي أدب بها رسله فقد فاز ، وحاز درجة العلم بالله ، وعلم أن الله وضع الميزان ليظهر به إقامة العدل في العالم بصورة محسوسة ، ليرتفع النزاع بين المتنازعين ، لوجود الكفتين المماثلة للخصمين ، ولسان الميزان هو الحاكم ، فإلى أية جهة مال حكم لتلك الجهة بالحق ، وإن هو بقي في قبته من غير ميل إلى جهة إحدى الكفتين ، علم أن المتنازعين لكل واحد منهما حق فيما ينازع فيه ، فيقع له الإنصاف لما شهد له به حاكم لسان الميزان ، فارتفع الخصام والمنازعة ، فلو أن الله يفتح عين بصائر الخصماء لمشاهدة

٢٣٧

الحق ، ويعلمون أنه بالمرصاد ، وهو الحاكم وبيده الميزان يرفع ويخفض ، لم يصح نزاع في العالم ، فدل وقوعه أن الكل في حجاب عن الحاكم صاحب الوزن والميزان ، فإذا رأيت من ينازع في العالم فاعلم أنه في حجاب عن الله ، فإنه تعالى وضع الميزان للنقصان والرجحان ، ليزن به الثقلان.

(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) (٨)

لكم بالرجحان وعليكم بالنقصان ، فذلك الإفراط والتفريط من أجل الخسران.

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (٩)

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) فإن الله وضع لنا في العالم الموازين الشرعية لنقيم بها الوزن بالقسط ، وهو الاعتدال ، مثل لسان الميزان والكفتين ومثل اعتدال الإنسان ، إذ الإنسان لسان الميزان ، فلابد فيه من الميل إلى جانب داعي الحق ، فالواجب إقامة الوزن بالقسط ، فإن رجحت الوزن في القضاء فهو أفضل ، فإنك امتثلت أمر الله ، فإنه ما رجح الميزان حتى اتصف بالإقامة التي هي حد الواجب ثم رجح ، والذي يخسر الميزان ما بلغ بالوزن حد الإقامة حتى يحصل الواجب ، مثل ما فعل المرجح ، فما حمدنا المرجح إلا لحصول إقامة الوزن لا للترجيح ، ثم أثنينا عليه ثناء آخر بالترجيح ، فالمرجح محمود من وجهين ، وحمده من جهة الإقامة أعلى لأنه الحمد الوجوبي (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) وهو الموزون من الأعيان ، فلا تفرطوا بترجيح إحدى الكفتين إلا بالفضل ، فإنه إذا أقيمت موازين الشرع الإلهي في العالم سرى العدل في العالم. واعلم أنه ما من صنعة ولا مرتبة ولا حال ولا مقام إلا والوزن حاكم عليه علما وعملا ، فللمعاني ميزان بيد العقل يسمى المنطق ، يحوي على كفتين تسمى المقدمتين ، وللكلام ميزان يسمى النحو ، يوزن به الألفاظ ، لتحقيق المعاني التي تدل عليه ألفاظ ذلك اللسان ، ولكل ذي لسان ميزان ، فالأمر محصور في علم وعمل ، والعمل على قسمين : حسي وقلبي ، والعلم على قسمين : عقلي وشرعي ، وكل قسم على وزن معلوم عند الله في إعطائه ، وطلب من العبد لما كلفه أن يقيم الوزن بالقسط ، فلا يطغى فيه ولا يخسره ، وميزان العمل حسي وقلبي ، كل من جنسه ، فميزان العمل أن ينظر إلى

٢٣٨

الشرع ، وكيف أقام صور الأعمال على أكمل غاياتها ، قلبيا كان ذلك العمل أو حسيا ، أو مركبا من حس وقلب ، كالنية والصلاة من الحركات الحسية ، فقد أقام الشرع لها صورة روحانية يمسكها عقلك ، فإذا شرعت في العمل فلتكن عينك في ذلك المثال الذي أخذته من الشارع ، واعمل ما أمرت بعمله في إقامة تلك الصورة ، فإذا فرغت منها قابلها بتلك الصورة الروحانية ، المعبر عنها بالمثال الذي حصلته من الشارع ، عضوا عضوا ومفصلا مفصلا ظاهرا وباطنا ، فإن جاءت الصورة فيها بحكم المطابقة من غير نقصان ولا زيادة ، فقد أقمت الوزن بالقسط ولم تطغ فيه ولم تخسره ، فإن الزيادة في الحد عين النقص في المحدود ، وقد قال تعالى : (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) وهو معنى (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) وهو قوله : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) فطلب العدل من عباده في معاملتهم مع الله ، ومع كل ما سوى الله من أنفسهم وغيرهم ، فإذا وفق الله العبد لإقامة الوزن ، فما أبقى له خيرا إلا أعطاه إياه ، وترجيح الميزان في موطنه هو إقامته ، وخفة الميزان في موطنه إقامته ، فهو بحسب المقامات ، فالمحقق هو الذي يقيم الميزان في العلم والعمل ، على حسب ما يقتضيه الموطن ، من الرجحان والخفة في الموزون ، بالفضل في موضعه والاستحقاق ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ندب في قضاء الدين وقبض الثمن إلى الترجيح ، فقال : [أرجح له] حين وزن له ، فما أعطاه خارجا عن استحقاقه بعين الميزان ، فهو فضل لا يدخل الميزان ، إذ الوزن في أصل وضعه إنما وضع للعدل لا للترجيح ، وكل رجحان يدخله فإنما هو من باب الفضل ، وإن الله لم يشرع قط الترجيح في الشر جملة واحدة ، وإنما قال : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) وقال : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ولم يقل : أرجح منها ، وقال : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ولم يقل : بأرجح (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) فرجح في الإنعام ـ تنبيه وإشارة ـ جمع الله تعالى في هذه السورة قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) وقوله تعالى : (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) فقد خلق الإنسان على صورة الميزان ، وجعل كفتيه يمينه وشماله ، وجعل لسانه قائمة ذاته ، فهو لأي جانب مال ، وقرن الله السعادة باليمين وقرن الشقاء بالشّمال ، وأمرنا تعالى في قوله : (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أن نقيمه من غير طغيان ولا خسران ، ومن إقامته أن تعلم أن قول الله تعالى : [خلق الله آدم على صورته] فوازن بصورته حضرة موجده ذاتا وصفة وفعلا ، ولا يلزم من الوزن

٢٣٩

الاشتراك في حقيقة الموزونين ، فإن الذي يوزن به الذهب المسكوك هو صنجة حديد ، فليس يشبهه في ذاته ولا صفته ولا عدده ، فيعلم أنه لا يوزن بالصورة الإنسانية إلا ما تطلبه الصورة ، بجميع ما تحوي عليه ، بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاده وأظهرت آثارها فيه ، وكما لم تكن صنجة الذهب توازن الذهب في حد ولا حقيقة ولا صورة عين ، كذلك العبد وإن خلقه الله على صورته ، فلا يجتمع معه في حد ولا حقيقة ، إذ لا حد لذاته ، والإنسان محدود بحد ذاتي لا رسمي ولا لفظي ، وكل مخلوق على هذا الحد ، والإنسان أكمل المخلوقات وأجمعها من حيث نشأته ومرتبته ، فإذا وقفت على حقيقة هذا الميزان زال عنك ما توهمته في الصورة ، من أنه ذات وأنت ذات ، وأنك موصوف بالحي العالم وسائر الصفات وهو كذلك ، وتبين لك بهذا الميزان أن الصورة ليس المراد بها هذا ، ولهذا جمع في سورة واحدة (خَلَقَ الْإِنْسانَ) (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) وأمرك أن تقيمه من غير طغيان ولا خسران ، وما له إقامة إلا على هذا الحد ، فإن الله الخالق وأنت العبد المخلوق ، وكيف للصنعة أن تعلم صانعها؟ وإنما تطلب الصنعة من الصانع صورة علمه بها لا صورة ذاته ، وأنت صنعة خالقك ، فصورتك مطابقة لصورة علمه بك ، فاعلم بأي ميزان تزن نفسك مع ربك ، ولا تعجب بنفسك ، واعلم أنك صنجة حديد وزن بها ياقوتة يتيمة لا أخت لها ، وإن اجتمعت معها في المقدار فما اجتمعت معها في القدر ولا في الذات ولا في الخاصية ، تعالى الله ، فالزم عبوديتك والزم قدرك.

(وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) (١٠) من أجل المشي والمنام.

(فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ) (١١) لحصول المنافع ودفع الآلام.

(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) (١٢) وهو ما يقوت الإنسان والحيوان.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣)

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أيها الإنس والجان ، وقد غمر كما بالإنعام والإحسان ، ولما تلا

٢٤٠