رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

بلوغ الغاية التي في نفسه طلبها ، فلم تف الجوارح بذلك ، ولا ما عندنا من الأسماء الإلهية ، فإنه ما يثنى عليه عزوجل إلا بأسمائه الحسنى ، ولا يعلم منها إلا ما أظهر ، ولا يثنى عليه إلا بالكلام بتلك الأسماء وهو الذكر ، ولا يكون إلا منه ، لا بالوضع منا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) (٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) التأيه على نوعين ، تأيّه بالصفة مثل قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وتأيّه بالذات ، مثل قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وقد يؤيه بأمر ، وقد يؤيه بنهي ، والتأيه في هذه الآية تأيه إنكار ـ الوجه الأول ـ (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) وله وجه للأمر ووجه للنهي ، كأنه تعالى يقول في الأمر فيه (افعلوا ما تقولون) ؛ وفي النهي (لا تقولوا على الله ما لا تفعلون) فإنكم تمقتون نفوسكم عند الله في ذلك أكبر المقت. ـ الوجه الثاني ـ قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ولم يقل الحق : يا أولي الألباب ، ولا يا أولي العلم ، لأن درجات العقلاء تتفاوت (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) فإن العالم العاقل لا يقول ما لا يفعل إلا بالاستثناء ، لأنه يعلم أن الفعل لله لا له ، فكأن الحق يقول للمعتزلي الذي يقول بإضافة الفعل إلى نفسه في اعتقاده (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ) إن الفعل لكم وما هو كذلك ، فأضفتم إليكم (ما لا تَفْعَلُونَ) ، وكبر مقتا منكم عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.

(كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (٣)

وهذه حالة من أمر بالبر غيره ونسي نفسه ، والناس يأخذون في هذه الآية غير مأخذها ، فيقولون إن الله مقتهم ، وما يتحققون قوله تعالى (عِنْدَ اللهِ) أي تمقتون أنفسكم أكبر المقت عند الله إذا رجعتم إليه ، فتعلق المقت بمن قال خيرا يمكن له فعله فلا يفعله ، وذلك القول الخير لابد أن يجني ثمرته القائل به ، ولا سيما إن أعطى عملا في عامل من عباد الله إلا أنه محروم ، فما يكبر عند الله إلا لكون هذا القائل قال هذا القول ولم يفعل ما قاله إذا اطلع على ما حرم من الخير بترك الفعل ، فمقت نفسه أعظم المقت ، ولا سيما إذا رأى غيره قد انتفع به عملا ، فهو أكبر مقت عنده يمقت به نفسه عند الله في شهوده في الآخرة ، فهو

٣٢١

أكبر مقت عند الله من مقت آخر ، لا أن الله مقته ، بل هو يمقت نفسه عند الله إذا صار إليه ، وللمقت درجات بعضها أكبر من بعض ، وهذا من أكبرها عنده ، فإن قال القائل ما يعتقد صحته ولم يقل ذلك إيمانا فذلك المنافق ، وإن قال ذلك إيمانا ولم يفعل فذلك المفرط ، وهو الذي يكبر مقته عند الله ، لأن إيمانه يعطيه الفعل فلم يفعل.

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ) (٤)

يريد لا يدخله خلل ، فإن الخلل في الصفوف طرق الشيطان ، والتراص في سبيل الله يطلب الكثرة ، فلا يبقى خلل يدخل منه العدو.

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (٦)

(وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث كونه حامل لواء الحمد أحمد ، ومن حيث تكرار حمده محمد.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى

٣٢٢

الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (١٠)

لما كان الأمر تجارة تتصف بالربح والخسران ، مدح الله المؤمنين بالتجارة ، وهو البيع والشراء في أي شيء كان مما أمر الله بالتجارة فيه ، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) فسماها تجارة ، لأن التاجر يحمل إلى الناس ما يحتاجون إليه ، والأنبياء عليهم‌السلام جاؤوا من عند الله إلى عباد الله بما فيه سعادتهم ، فأجروا على ذلك الأجر التام ، فللمؤمن تجارة في نفس إيمانه ، وهي التجارة المنجية من العذاب الأليم ، قال تعالى (تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) فقيل : وما هي؟ فذكر ما هي التجارة فقال :

(تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (١١)

مع حصول المشقة في ذلك من مفارقة الأهل في دخوله في الإيمان دونهم ، ومفارقة الأوطان بالهجرة إلى دار الإسلام ، وإنما عدل في هذه الأمور إلى التجارة دون غيرها ، فإن القرآن نزل على قرشي بلغة قريش بالحجاز ، وكانوا تجارا دون غيرهم من الأعراب ، فلما كان الغالب عليهم التجارة كسى الله ذات الشرع والإيمان لفظ التجارة ، ليكون أقرب إلى أفهامهم ومناسبة أحوالهم ، فالمؤمن ممدوح في القرآن بالتجارة والبيع فيما ملك بيعه ، وما صرح الله فيه بأنه يشتري خاصة ، فإن التجارة معاوضة وقبض ثمن ، والبيع بيع ما تملكه ، والشراء شراء ما ليس عندك ، فلا تسلك من الطرق إلا ما تقع لك فيه المنفعة والربح فإنها تجارة ، وهكذا سماها الله.

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ

٣٢٣

قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (١٤)

أعلم أن من نصر دين الله فقد نصر الله وأدى واجبا في نصرته ، فله أجر النصر وأجر أداء الواجب ، بما نواه من امتثال أمر الله في ذلك وتعين عليه ذلك ، ولو كفاه غيره مؤنة ذلك فلا يتأخر عن أمر الله ، ونصرة الله قد تكون بما يعطي من العلم المظهر للحق الدافع للباطل ، فهو جهاد معنوي محسوس ، فكونه معنويا لأن الباطن يقبله ، فإن العلم متعلقه النفس ، وأما كونه محسوسا فما يتعلق بذلك من العبارة عنه باللسان أو الكتابة ، فيحصل للسامع ، أو الناظر بطريق السمع من المتكلم ، أو بطريق النظر من الكتابة. وجهاد العدو نصرة محسوسة ، ما هي معنوية ، فإنه ما نال العدو من المقاتل له شيئا في الباطن يرده عن اعتقاده ، كما ناله من العلم إذا علّمه وأصغى إليه ، ووفقه الله للقبول وفتح عين فهمه لما يورده عليه العالم في تعليمه ، وهي أعظم نصرة ، وهو أعظم أنصاري لله ، يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس] وقوله تعالى (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالغلبة والقهر ، وهو التأييد الإلهي الذي يقع به ظهورهم على الأعداء ، فأيدهم (عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) على المنازع.

(٦٢) سورة الجمعة مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)

٣٢٤

الاسم الملك هو المهيمن على الأجناد الأسمائية فإن أسماءه سبحانه وتعالى عساكره ، وهي التي يسلطها على من يشاء ويرحم بها من يشاء ، فهو تعالى (الْمَلِكِ) بنسبة ملك السموات والأرض إليه ، فإنه رب كل شيء ومليكه (الْقُدُّوسِ) أي الطاهر ، والتقديس الذاتي يطلب التبري من تنزيه المنزهين ، فإنهم ما نزهوا حتى تخيلوا وتوهموا ، وما ثمّ متخيل ولا متوهم يتعلق به أو يجوز أن يتعلق به فينزه عنه ، بل هو القدوس لذاته ، لذلك قال (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ـ إشارة ـ في التقديس ، كأنه تعالى يقول : عبدي أنا الواحد الذي لا تحيط بي الأفكار ، ولا تنتهي إليّ الأسرار ، ولا تدركني البصائر ولا الأبصار ، وأنا اللطيف الخبير ، الحكيم القدير ، أنا كما كنت ، عدمت أو وجدت ، ما طرأ حال كنت عدمته ، ولا فقدت شيئا ثم وجدته ، علمي محيط ببسيطك ، وقدرتي ظاهرة في تخطيطك ، تنزهت عن التنزيه ، فكيف عن التشبيه؟ في العجز معرفتي على الكمال ، وهي حضرة الجلال ، ليس لي مثل معقول ، ولا دلت عليه العقول ، الألباب حائرة في كبريائي ، والأسرار مطيفون بعرش ردائي ، أنت وأنا حرف ومعنى ، بل معنى ومعنى ، أنت المثل الخفي ، المنقول اللغوي (١) ، وأنا الواحد الجلي ، أنت الواحد وأنا الواحد ، والواحد في الواحد بالواحد ، فإذا ضرب الفرد في الفرد ، بقي الرب وفني العبد.

شرح بعض ما يوهم مما جاء مرموزا ، قوله (أنت وأنا حرف ومعنى) أي أن الحرف يتضمن المعنى ، وأنت لا تتضمن ربك ، فلذلك قال (بل معنى ومعنى) أي هو أشد بيانا ، وإن دللت عليه بحرفيتك فإنما تدل عليه من كونه موجدك فقط ، فما دللت إلا على نفسك ، أما قوله (أنت المثل الخفي) أي لكونك على الصورة ، وقوله (اللغوي) أي بأدنى ما يقع به التشبيه في مجرد اللفظ ، كقولك : عالم وعالم ، وقوله (وأنا الواحد الجلي) أي الذي لا يقبل التشبيه.

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (٢)

__________________

(١) راجع تفسير قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) سورة الشورى آية ١١.

٣٢٥

بحث في الأمية ـ الأمية لا تنافي حفظ القرآن ولا حفظ الأخبار النبوية ، ولكن الأمية عندنا من لم يتصرف بنظره الفكري وحكمه العقلي في استخراج ما تحوي عليه من المعاني والأسرار وما تعطيه من الأدلة العقلية في العلم بالإلهيات ، وما تعطيه للمجتهدين من الأدلة الفقهية والقياسات والتعليلات في الأحكام الشرعية ، فإذا سلم القلب من علم النظر الفكري شرعا وعقلا كان أميا ، وكان قابلا للفتح الإلهي على أكمل ما يكون بسرعة دون بطء ، ويرزق من العلم اللدني في كل شيء مالا يعرف قدر ذلك إلا نبي أو من ذاقه من الأولياء ، وبه تكمل درجة الإيمان ونشأته ، وتقف بهذا العلم على إصابة الأفكار وغلطاتها ، وبأي نسبة ينسب إليها الصحة والسقم ، وكل ذلك من الله ، فإن الموازين العقلية وظواهر الموازين الاجتهادية في الفقهاء ترد كثيرا من الأمور ، إذ كان جله ومعظمه فوق طور العقل ، وميزانه لا يعمل هنالك ، وفوق ميزان المجتهدين من الفقهاء لا فوق الفقه ، فإن ذلك عين الفقه الصحيح والعلم الصريح ، وفي قصة موسى والخضر دليل قوي على ما ذكرناه ، فكيف حال الفقيه؟ وأين الأينية وما شاكلها التي نسبها الشارع إلى الإله من الموازين النظرية والبراهين العقلية على زعم العقل وحكم المجتهد؟ فالرحمة التي يعطيها الله عبده أن يحول بينه وبين العلم النظري والحكم الاجتهادي من جهة نفسه ، حتى يكون الله يحابيه بذلك في الفتح الإلهي والعلم الذي يعطيه من لدنه ، فيعطي البصر حقه في حكمه وسائر الحواس ، ويعطي العقل حكمه وسائر القوى المعنوية ، ويعطي النسب الإلهية والفتح الإلهي حكمهم ، فبهذا يزيد العالم الإلهي على غيره ، وهو البصيرة التي نزل القرآن بها في قوله تعالى : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) وهو تتميم قوله تعالى : (بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) فهو النبي الأمي الذي يدعو على بصيرة مع أميته ، والأميون هم الذين يدعون معه إلى الله على بصيرة ، فهم التابعون له في الحكم إذ كان رأس الجماعة. والمجتهد وصاحب الفكر لا يكون أبدا على بصيرة فيما يحكم به ، فأما المجتهد فقد يحكم اليوم في نازلة شرعية بحكم ، فإذا كان في غد لاح له أمر آخر أبان له خطأ ما حكم به بالأمس في النازلة ، فرجع عنه وحكم اليوم بما ظهر له ، ويمضي حكمه في الأول والآخر ، ويحرم عليه الخروج عما أعطاه الدليل في اجتهاده في ذلك الوقت ، فلو كان على بصيرة لما حكم بالخطأ في النظر الأول ، بخلاف حكم النبي ، فإن ذلك صحيح ، أعني الحكم الأول ، ثم رفع الله ذلك الحكم بنقيضه

٣٢٦

وسمّي ذلك نسخا ، وأين النسخ من الخطأ؟ فالنسخ يكون مع البصيرة ، والخطأ لا يكون مع البصيرة ، وكذلك صاحب العقل ، وهو واقع من جماعة من العقلاء ، إذ نظروا واستوفوا في نظرهم الدليل وعثروا على وجه الدليل أعطاهم ذلك العلم بالمدلول ، ثم تراهم في زمان آخر أو يقوم له خصم من طائفة أخرى كمعتزلي أو أشعري أو برهمي أو فيلسوف بأمر آخر يناقض دليله الذي كان يقطع به ويقدح فيه ، فينظر فيه فيرى أن ذلك الأول كان خطأ ، وأنه ما استوفى أركان دليله وأنه أخل بالميزان في ذلك ولم يشعر ، وأين هذا من البصيرة؟

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٦) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (٩)

اعلم أن يوم الجمعة هو آخر أيام الخلق ، وفيه خلق من خلقه الله على الصورة وهو آدم ، فيه ظهر تمام الخلق وغايته ، وبه ظهر أكمل المخلوقات وهو الإنسان ، ولما جمع الله خلق الإنسان فيه بما أنشأه تعالى عليه من الجمع بين الصورتين ـ صورة الحق وصورة العالم ـ

٣٢٧

سماه الله بلسان الشرع يوم الجمعة ، ولما زينه الله بزينة الأسماء الإلهية وحلّاة بها وأقامه خليفة فيها بها فظهر بأحسن زينة إلهية في الكمال ، ـ ومن كان مجلى كمال الحق فلا زينة أعلى من زينة الله ـ أطلق الله عليه اسما على ألسنة العرب في الجاهلية ، وهو لفظ العروبة ، أي هو يوم الحسن والزينة ، فظهر الحق في أكمل الخلق وهو آدم ، فلم يكن في الأيام أكمل من يوم الجمعة ، فإن فيه ظهرت حكمة الاقتدار بخلق الإنسان فيه ، الذي خلقه الله على صورته ، فيوم الجمعة خير يوم طلعت فيه الشمس ، وما بيّنه الله لأحد إلا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمناسبته الكمالية ، فإنه أكمل الأنبياء ونحن أكمل الأمم ، وسائر الأمم وأنبيائها ما أبان الحق لهم عنه ، لأنهم لم يكونوا من المستعدين له لكونهم دون درجة الكمال ، أنبياؤهم دون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأممهم دوننا في الكمال ، فلما كان يوم الجمعة أكمل الأيام وخلق فيه أكمل الموجودات ، خصّه الله بالساعة التي ليست لغيره من الأيام ، والزمان كله ليس سوى هذه الأيام ، فلم تحصل هذه الساعة لشيء من الزمان إلا ليوم الجمعة ، وكان خلق الإنسان في هذه الساعة المذكورة المخصصة من يوم الجمعة ، فإنها أشرف ساعاته ، فالحمد لله الذي اصطفانا وهدانا إلى يوم الجمعة ، وخصّنا بساعته فإنه من أعظم الهداية التي هدى الله إليها هذه الأمة خاصة ، فإنه اليوم الذي اختلفوا فيه ، فيوم الجمعة أشرف أيام الاسبوع وشرفه ذاتي لعينه ، ولا يفاضل بيوم عرفة ولا غيره ، فإن فضل يوم عرفة وعاشوراء لأمور عرضت ، إذا وجدت في أي يوم كان من أيام الأسبوع كان الفضل لذلك اليوم لهذه الأحوال العوارض ، ولهذا شرع الغسل ـ وهو فرض عندنا ـ ليوم الجمعة لا لنفس الصلاة ، فإن اتفق أن يغتسل في ذلك اليوم لصلاة الجمعة ، فلا خلاف أنه أفضل بلا شك ، وصلاة الجمعة واجبة على من تجب عليه الصلوات المفروضة ، واتفق العلماء على أن من شروطها الذكورة والصحة ، وأنها لا تجب على المرأة والمريض ، وعندنا واجبة على المسافر ، وتجب على العبد ، فللعبد أن يتأهب فإن منعه سيده فيكون السيد من الذين يصدون عن سبيل الله ، وكل من ذكرناه ونذكر أنه لا تجب عليه الجمعة إذا حضرها صلاها ، وشروط الجمعة شروط الصلاة المفروضة ، ووقتها مخيّر فيه أن تكون قبل الزوال أو أن تكون وقت الزوال يعني وقت الظهر ، وهي لا تجوز للمنفرد ، فمن شروطها الجماعة وأقلها واحد مع الإمام ، حضرا وسفرا ، والذي أذهب إليه أن صلاتها قبل الزوال أولى لأنه وقت لم يشرع فيه فرض ، فينبغي أن يتوجه إلى

٣٢٨

الحق سبحانه بالفرضية في جميع الأوقات ، فكانت صلاتها قبل الزوال أولى ، والسعي إلى صلاة الجمعة من وقت النداء ، ويكون الثواب من البدنة إلى البيضة ، وهو حين يشرع الخطيب في خطبته ، ومن جاء من وقت طلوع الشمس إلى وقت النداء فله من الأجر بحسب بكوره ، فالبدنة من وقت تعيين السعي ، والأذان وقته إذا جلس الإمام على المنبر ، وهو كالأذان للصلوات المفروضة كلها ، ولا توقيت في عدد المؤذنين ، ولا يجوز أن يؤذن اثنان ولا جماعة معا ؛ بل واحد بعد واحد ، فإن ذلك خلاف السنة ، ومن حين الأذان يحرم البيع والشراء ، فالأذان إعلام وإعلان للإتيان والسعي ، ويجوز أن يقام جمعتان في مصر واحد إلا أن فيه مالا يثلج الصدر به ، والأولى أن لا يكون ، ولا يشترط المصر ولا المسجد ، فإنه لم يأت في هذه الأمور كلها نص من كتاب ولا سنة ، فإذا صحت الجماعة وجبت الجمعة لا غير ، والخطبة ليست بفرض وفي النفس من ذلك شيء ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما نص على وجوبها ولا على خلافه ، بل نقل بالتواتر أنه لم يزل يخطب فيها ، والوجوب حكم وتركه حكم ، ولا ينبغي لنا أن نشرع وجوبها ولا غير وجوبها ، فإن ذلك شرع لم يأذن به الله ، فمذهبنا التوقف في الحكم عليها مع العمل بها ولابد ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل يصليها بخطبة ، كما لم يزل يصلي العيدين بخطبة ، مع اجتماعنا على أن صلاة العيدين ليست من الفروض ولا خطبتها ، وما جاء عيد قط إلا وصلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العيد وخطب ، ولذلك يحتمل المعنى في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) أنه يريد هنا بالذكر الخطبة ، فإنها شرعت للموعظة ، والعبد مأمور بالإنصات في حال الخطبة ليسمع ما يقول الواعظ والمذكر ، وإنما قلنا إنه يريد بالسعي إلى ذكر الله الخطبة لأن الصلاة بذاتها تنهي عن الفحشاء والمنكر ، ولما لم يرد نص من الشارع بإيجاب الخطبة ولا بما يقال فيها إلا مجرد فعله ، لم يصح عندنا أن نقول يخطب شرعا ولا لغة ، إلا أنا ننظر ما فعل فنفعل مثله على طريق التأسي لا على طريق الوجوب ، ويقبله الله على ما يعلمه من ذلك ، ومن جاء والإمام يخطب يوم الجمعة عليه أن يركع ركعتين تحية المسجد قبل أن يجلس ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بهما ، وما ورد نهي برفع هذا الأمر ، غير أنه إذا ركع لا يجهر بتكبير ولا قراءة ، بل يسر ذلك جهد الطاقة ، ولا يزيد على التحية شيئا ولا سيما إن كان بحيث يسمع الإمام ، والداخل والإمام يخطب قد أبيح له أن يسلم وما خطأه أحد

٣٢٩

في ذلك ، ولا توقيت لما يقرأ به الإمام في صلاة الجمعة ، والاتباع أولى ، فقد ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى والمنافقين في الثانية ، وقد قرأ سورة الغاشية بدلا من المنافقين ، وقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى ، وفي الثانية بالغاشية ، وغسل الجمعة واجب على كل محتلم عندنا ، وهو لليوم ، وإن اغتسل فيه للصلاة فهو أفضل ، يعني أنه إذا اغتسل فيه قبل الصلاة للصلاة فهو أفضل ، وإلا فواجب عليه أن يغتسل لليوم ولو بعد الصلاة ، وإذا كان الإنسان على مسافة بحيث أنه إذا سمع النداء يقوم للطهارة فيتطهر ، ثم يخرج إلى المسجد ويمشي بالسكينة والوقار ، فإذا وصل أدرك الصلاة ، وجبت عليه الجمعة ، فإن علم أنه لا يلحق الصلاة فلا تجب عليه ، لأنه لبس بمأمور بالسعي إليها إلا بعد النداء ، وأما قبل النداء فلا ، وفضل الرواح إلى الجمعة من وقت النداء الأول إلى أن يبتدىء الإمام بالخطبة ، ومن بكر قبل ذلك فله من الأجر بحسب بكوره مما يزيد على البدنة مما لم يوقته الشارع ، فالسعي من أول النهار إلى وقت النداء سعي مندوب إليه ، ومن وقت النداء إلى أن يدرك الإمام راكعا من الركعة الثانية سعي واجب ، والأجر الموقت للساعي إلى أول الخطبة ، وما بعد ذلك فأجر غير موقت ، لأنه لم يرد في ذلك شرع ، فأمر الأجر الموقت وهو بدنة إلى بيضة ، وبينهما بقرة وهي تلي البدنة ، ويليها كبش ، وتلي الكبش دجاجة ، والبيضة تأتي بعد الدجاجة آخرا ، وليس بعدها أجر موقت ، وقصد من الحيوانات في التمثيل ما يؤكل لحمه دائما غالبا مما لا خلاف في أكله ، وبه تعظم قوة الحياة في الشخص المتغذي ، فكأن المتقرب به تقرب بحياته وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) وقال عليه‌السلام في الجهاد [إنه جهاد النفس] وهو الجهاد الأكبر ، وأحق بيع النفس من الله إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ، فيترك العبد جميع أغراضه ومراداته ، ويأتي إلى مثل هذا السوق فيبيع من الله نفسه ، لذلك قال تعالى (وَذَرُوا الْبَيْعَ) وهو مما لكم فيه أغراض (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وآداب الجمعة ثلاثة : وهو الطيب والسواك والزينة وهو اللباس الحسن ، ولا خلاف فيه بين أحد من العلماء.

(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠)

٣٣٠

(وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١)

(٦٣) سورة المنافقون مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (١)

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) على ما قررهم الشيطان ، فقال الله (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فأكذبهم الله في أنهم قالوا ذلك لقولك ، لا في قولهم : إنك رسول الله ، فهم كاذبون لا في قولهم ، فإنهم قالوا حقا ، ولا في بواطنهم فإنهم عالمون أنه رسول الله من كتابهم ، فلم يبق تكذيب الله لهم إلا أنهم أظهروا أنهم قالوها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن كذلك.

(اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ

٣٣١

وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (٥) سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (٦)

الذين لا يصدقون إما عنادا وجحدا ، وإما جهالة ، هم الذين جعل الله جزاءهم عدم المغفرة.

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (٨)

اعلم أن منزلة الناس هي الذلة والافتقار ، وذلك قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) وكل ما ورد في القرآن من وصف الإنسان بما ليس له بحقيقة ، فإنما هو في مقابلة أمر قد ادعاه من ليس من أهله ، فقوبل به من جنسه ليكون أنكى في حقه ، قال في ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) فنخرج منها محمدا وأصحابه ، فجاء ولده فأخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستأذنه في قتل أبيه لما سمع الله يقول (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ) وكان من المنافقين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ما أريد أن يتحدث بأن محمدا يقتل أصحابه] فأضاف الله العزة لرسوله وللمؤمنين في مقابلة دعوى المنافقين إياها ، فنزلت الآية وقال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فالعزة لله بالأصالة ، ولرسوله وللمؤمنين خلعة إلهية لا بالأصالة ، وأوقع الاشتراك في العزة وما قال : للناس ؛ بل ذكر الله تعالى العزة لهؤلاء الموصوفين بالرسالة المضافة إليه تعالى والإيمان ، فهؤلاء المذكورون لهم الإعزاز الإلهي ، فلا تخلعن ثوبا ألبسكه الله ، في دعائك عباد الله طمعا فيما بأيديهم من عرض الدنيا ولا فيما

٣٣٢

هم عليه من الجاه ، ثم قال تعالى (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) لمن ينسبون العزة وأن العزة للرسول وللمؤمنين ، وتتميز العزة في كل موطن عن الآخر ، فالعزة لله لذاته إذ لا إله إلا هو ، وعزة رسوله بالله ، وعزة المؤمنين بالله وبرسوله ، ولما سمع أولوا الألباب هذا الخطاب تنبهوا لما ذكر المؤمنين ، فلله العزة في المؤمنين ، فإنه المؤمن في المؤمنين ، فإن الحق إذا كان سمع العبد المؤمن وبصره كانت العزة لله بما كان للعبد به في هذا المقام عزيزا ، ألا تراه في هذا المقام لا يمتنع عليه رؤية كل مبصر ولا مسموع ولا شيء مما تطلبه قوة من قوى هذا العبد ، لأن قواه هوية الحق ، ولله العزة ، ويمتنع أن يدركه من ليست له هذه القوة من المخلوقين ، ولهذا ما ذكر الله العزة إلا للمؤمنين ، ثم إن عزة الرسول بالمؤمنين إذا كانوا هم الذين يذبون عن حوزته ، فلا عزة إلا عزة المؤمن ، فبالعزة يغلب ، وبالعزة يمتنع ، فهي الحصن المنيع ، وهي حمى الله وحرمه ، ولا يعرف حمى الله ويحترمه إلا المؤمن خاصة ، والمؤمن بالعزة يمتنع أن يؤثر فيه المخالف الذي يدعوه إلى الكفر بما هو به مؤمن ، واعلم أن إعزاز الله عبده أن لا يقوم به من نعوت الحق في العموم نعت أصلا ، فهو منيع الحمى من صفات ربه ، فإنه أعظم الاعتزاز من حمى نفسه من أن يقوم به وصف رباني ، وليس إلا العبد المحض ، فإن ظهر بأمر الله ، فأمر الله أظهره ، واعلم أن العزة إن أخذها العبد عن أمر الله ، ولكنه لما قام بها في الخلق وظهر بها اعتز في نفسه على أمثاله ، لحق بالأخسرين أعمالا ، وهم ملوك الإسلام وسلاطينهم وامراؤهم ، يفتخرون بالرياسة على المرؤوسين جهلا منهم ، ولذلك لا يكون أحد أذل منهم في نفوسهم وعند الناس إذا عزلوا عن هذه المرتبة ، ومن كان في ولايته حاله مع الخلق حاله دون هذه الولاية ثم عزل ، لم يجد في نفسه أمرا لم يكن عليه ، فبقي مشكورا عند الله وعند نفسه وعند المرؤوسين الذين كانوا تحت حكم رياسته ، وهذا هو المعتز بالله ، بل العزيز الذي منع حماه أن يتصف بما ليس له إلا بحكم الجعل ، فمن اعتز بالحق سعد ، ومن اعتز بغيره شقي وإن نصر في الوقت ـ إشارة ـ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فلا يتواضع إلا مؤمن ، فإن له الرفعة الإلهية بالإيمان.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٩) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ

٣٣٣

أحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (١١)

فإنها أنفاس معدودة وآجال مضروبة محدودة ، يبلغ الكتاب فيها أجله ، ويرى كل مؤمل ما أمله.

(٦٤) سورة التغابن مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٥) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (٧)

٣٣٤

ـ فائدة ـ

إذا كنت في شيء ولابد قائلا

فقل فيه علما لا تقل فيه بالزعم

فإن الذي قد قال بالزعم مخطىء

كذا جاء في القرآن إن كنت ذا فهم

ولا تك ذا فكر إذا كنت طالبا

مشاهدة الأعيان واحذر من الوهم

وكن مع حكم الله في كل حالة

فقد فاز بالإدراك من قام بالحكم

(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩)

(ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) فإنه غبن كله ، فهو يوم التغابن ، يريد عذاب النفوس ، فيقول : يا ويلتا على ما فرطت ، فإن العبد كان متمكنا من ذلك فلم يفعل وهو يوم كشف الغطاء ، وتتبين الأمور الواقعة في الدنيا ما أثمرت هنالك ، فيقول الكافر وهو الجاهل (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) لعلمه أنه كان متمكنا من ذلك فلم يفعل ، فعذابه ندمه ، وما غبن فيه نفسه أشد عليه من أسباب العذاب من خارج ، وهذا هو العذاب الأكبر. والتغابن يدرك في ذلك اليوم الكل الطائع والعاصي ، فالطائع يقول : يا ليتني بذلت جهدي ؛ والمخالف يقول : يا ليتني لم أخالف ربي ، فيوم القيامة يوم التغابن للكل ، فالسعيد فاعل الخير يقول : يا ويلتا ليتني زدت ؛ والشقي فاعل الشر يقول : يا حسرتا على ما فرطت يا ليتني فعلت خيرا ؛ وهو يوم التغابن للمعطي والمانع ، فيود المعطي المقبول لو أعطى جميع ما عنده ، ويود المانع لو أعطى ما منع ، ويود المعطي من غير وجهه أنه أعطى من الوجه الذي يليق ويكون معه القبول. ومن التغابن الذي في ذلك اليوم الانتقال الذي بين أهل السعادة وأهل الشقاء ، فإن المؤمن هنا في عبادة ، والعبادة تعطيه الخشوع والذلة ، والكافر في عزة وفرحة ، فإذا كان يوم القيامة يخلع عز الكافر وسروره وفرحه على المؤمن ، ويخلع ذل المؤمن وخشوعه

٣٣٥

الذي كان لباسه في عبادته في الدنيا على الكافر يوم القيامة ، فذلك يوم التغابن حيث يرى الإنسان صفة عزه وسروره وفرحه على غيره ، ويرى ذل غيره وغمه وحزنه على نفسه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣)

هذا هو التوحيد الخامس والثلاثون في القرآن ، وهو توحيد الرزايا والرجوع فيها إلى الله ، ليزول عنه ألمها إذ رأى ما أصيب فيه قد حصل بيد من يحفظ عليه وجوده ، ولهذا أثنى الله على من يقول إذا أصابته مصيبة (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فهم لله في حالهم ، وهم إليه راجعون عند مفارقة الحال ، فمن حفظ عليه وجوده ، وحفظ عليه ما ذهب عنه ، وكان ما حصل عنده أمانة إلى وقتها ، فما أصيب ولا رزىء. فتوحيد الرزايا أنفع دواء يستعمل ، ولذلك أخبر بما لهم منه تعالى في ذلك فقال (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (١٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) ومنهم الولد العاق ، لا يزال يطرد أباه ويهججه ليلا ونهارا على قدر ما يقدر عليه.

٣٣٦

(إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٥)

أعظم البلايا والمحن وقوع الفتن ، وأي فتنة أعظم عند الرجال من فتنة الولد والمال ، الولد مجهلة مجبنة مبخلة ؛ والمال مالك ، وصاحبه بكل وجه وإن فاز هالك ، إن أمسكه أهلكه ، وإن جاد به تركه ـ راجع سورة الأنفال آية ٢٨ ـ.

(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٦)

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وإن كان المؤمنون قد تقدم ذكرهم فأعاد الضمير عليهم ، ولكن مثل هذا لا يسمى تصريحا ولا تعيينا ، فينزل عن درجة التعيين ، مثل قوله (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) من كوننا مؤمنين ، فيحدث لذلك حكم آخر ، فقال (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ابتداء آية بفاء عطف وضمير جمع لمذكور متقدم قريب أو بعيد ، والمضمر صالح لكل معين ، لا يختص به واحد دون آخر فهو مطلق ، والمعين مقيد ، فالضمير الخطابي يعم كل مخاطب كائنا من كان ، من مؤمن وغير مؤمن وإنسان وغير إنسان ؛ واعلم أن الاستطاعة لو بذلها الإنسان وقع في الحرج ، لأنه يكون قد بذلها عن جهد ومشقة ، وقد رفع الله الحرج عن عباده في دينه ، فعلمنا أن المراد بالاستطاعة في مثل قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) و (ما آتاها) أن حدها أول درجات الحرج ، فإذا أحس به أو استشرف عليه قبل الإحساس به فذلك حد الاستطاعة المأمور بها شرعا ، ليجمع بين قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وبين قوله (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (ودين الله يسر) و (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) في قوله (مَا اسْتَطَعْتُمْ) ولما فهمت الصحابة من الاستطاعة ما ذكرناه لذلك كانت رخصة لعزمة قوله تعالى : (حَقَّ تُقاتِهِ) وتخيل الصحابة أن الله خفف عن عباده في قوله (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) بقوله (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وما علموا أنهم انتقلوا إلى الأشد ، فإن تقوى الله بالاستطاعة أعظم في التكليف ، فإنه عزيز أن يبذل الإنسان في عمله جهد استطاعته ، لابد من فضلة يبقيها ، وعلمنا أن الله أثبت العبد

٣٣٧

في الاستطاعة ، فلا ينبغي أن ننفيه عن الموضع الذي أثبته الحق فيه ، ولو لا ما ظهر العبد بالدعوى ما قيل له (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) بالقوة التي جعلتها لكم فيكم بين الضعفين ، فمن تنبه على أن قوته مجعولة ، وأنها لمن جعلها لم يدع فيها ، بل هي أمانة عنده ، لا يملكها ، والإنسان لا يكون غنيا إلا بما يملكه ، والأمانة عارية لا تملك ، مأمور من هي عنده بردها إلى أهلها ، وهو قوله [لا حول ولا قوة إلا بالله] أي القوة قائمة بالله لا بنا ، فالمدعون في القوة يجعلون (مَا) في قوله (مَا اسْتَطَعْتُمْ) مصدرية ؛ وأهل التبري يجعلونها للنفي في الآية ، فنفى عندهم الاستطاعة في التقوى ، وأثبتها عند من جعلها مصدرية ـ إشارة ـ لما فتح الله باب الرحمتين ، وبان الصبح لذي عينين ، أوقف الحق من عباده من شاء بين يديه ، وخاطبه مخبرا بما له وعليه ، وقال له : إن لم تتق الله جهلته ، وإن اتقيته كنت به أجهل ، ولابد لك من إحدى الخصلتين ، فلهذا خلقت لك الغفلة حتى تتعرى عن حكم الضدين ، وكذا النسيان ، لأنه بدون الغفلة يظهر حكم أحدهما ، فاشكر الله على الغفلة والنسيان. (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) الشح في الحيوان من أثر الطبيعة ، وأوفره في الإنسان لما ركبّه الله عليه في نشأته من وفور العقل وتحكيم القوى الروحانية والحسية ، وقد جبله الله على الحرص والطمع أن يكون كل شيء له وتحت حكمه ، فالإنسان مجبول على العجز والبخل ، قال تعالى : (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) من نظر في هذا الأصل زكت نفسه وتطهر من الدعوى (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ـ تحقيق ـ المخلوق ضعيف ، ولو لا المصالح ما شرع التكليف ، فخذ ما استطعت ، ولا يلزمك العمل بكل ما جمعت ، فإن الله ما كلف نفسا إلا ما آتاها ، وجعل لها بعد عسر يسرا لما تولاها ، وشرع في أحكامه المباح ، وجعله سببا للنفوس في السراح والاسترواح إلى الانفساح ، ما قال في الدين برفع الحرج ، إلا رحمة بالأعرج ، وعلى منهج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم درج ، دين الله يسر ، فما يمازجه عسر ، بعث بالحنيفية السمحا ، والسنة الفيحا ، فمن ضيق على هذه الأمة ، حشر يوم القيامة مع أهل الظلمة.

(إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨)

٣٣٨

(٦٥) سورة الطّلاق مدنيّة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) (١)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي لاستقبال عدتهن ، والطلاق المشروع لا يكون إلا في طهر لم تجامع فيه ، فإذا طلق فيه كانت الأطهار غير كاملة ، ولابد أن تكون الثلاثة قروء كاملة (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) حدود الله أحكامه في أفعال المكلفين ، وأحكام الله التي هي حدوده : وجوب وحظر وكراهة وندب وإباحة ، فكل متصرف بحركة وسكون فلابد أن يكون تصرفه في واجب أو محظور أو مندوب أو مكروه أو مباح ، لا يخلو من هذا ، فإن كان تصرفه في واجب عليه فعله بترك فقد تعدى حدود الله بتركه ما وجب عليه فعله ، فإن تركه على أنه ليس بواجب عليه فقد تعدى في ذلك تعدي كفر ، ولابد أن يحكم فيه بغير حكم الله ، وينتقل فيه إلى حكم آخر من حكم الله ، لكن في غير هذا العين ، فأباح ترك ما أوجب الله عليه فعله ، وترك ما حرم الله عليه تركه ، وإن قال بوجوب الترك فيما قال الشرع فيه بوجوب الفعل ، فهذا تعد عظيم فاحش واتباع هوى مضل عن سبيل الله ، فالتعدي بالفعل والترك معصية ، والتعدي بالاعتقاد كفر ، ومن قلب أحكام الله. فقد كفر وخسر. وثمّ تعد آخر لحدود الله وهو قلب الحقائق ، ويسمى المتعدي جاهلا وتعديه جهلا ، وهي الحدود الذاتية للأشياء ، فمن تعدى هذه الحدود فقد ظلم نفسه بظلم يسمى جهلا (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) لأن لنفسه حدا تقف

٣٣٩

عنده وهي عليه في نفسها ، وذلك الحد هو عين عبوديتها ، ومن ظلم نفسه كان لغيره أظلم ، وأما قوله تعالى (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) وذلك لأنا ما عرفنا من القوى الموجودة في الإنسان إلا قدر ما أوجد فيه ، وربما في علم الله عنده أو في الإمكان قوى لم يوجدها الله تعالى فينا اليوم ، ومنها قوى فوق طور العقل ، وهي قوة يوجدها الله في بعض عباده من رسول ونبي وولي ، تعطي خلاف ما أعطته قوة العقل ، وجاءت كلمة (لَعَلَّ) وهي كلمة ترج ـ وكل ترج إلهي فهو واقع لابد منه ـ وهذه القوة قد يحدثها الله في هذه النشأة الدنيا ، وأما في الأحكام فمعلوم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قرر حكم المجتهد لا يزال حكم الشرع ينزل من الله على قلوب المجتهدين إلى انقضاء الدنيا ، فقد يحكم اليوم مجتهد في أمر لم يتقدم فيه ذلك الحكم واقتضاه له دليل هذا المجتهد من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس جلي ، فهذا أمر قد حدث في الحكم إذا تعداه المجتهد أو المقلد له فقد ظلم نفسه.

(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) (٢)

(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) يقول مؤمنين لم تروا منهم ما يؤدي إلى تجريحهم ، وليس لكم أن تبحثوا عنهم إذ ليس في الآية ذلك ... (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً). وهو قوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) فيخرج مما كان فيه فيفارقه إلى أمر آخر ، فيخرج من الضيق إلى السعة ، ومن عدم الرضى بحاله إلى الرضى بحاله ، فمن اتخذ الله وقاية أخرجه من الضيق ، أي أزال الضيق عنه ، فاتسع في مدلول الاسم الله من غير تعيين ، ولذلك رزقه من حيث لا يحتسب ، لأنه لم يقيد فلم يتقيد ، فكل شيء أقامه الحق فيه فهو له ، فيرجع محيطا بما أعطاه الله فله السعة دائما أبدا ، فإن الانتقال يعم الجميع ، والرضا وعدم الرضا الموجب للضيق هو الذي يتفاضل فيه الخلق ؛ فمن اتقى الله خرج إلى سعة هذا الاسم ، فيتسع باتساع هذا الاسم اتساعا لا ضيق بعده ، ومن لم يتق الله خرج من ضيق إلى ضيق ، ومن أراد أن يجرب نفسه ويأتي إلى الأمر من فصه ، فلينظر في نفسه ، إلى علمه برزقه ما هو؟ فإن لم

٣٤٠