رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

بما عناها ، و (الذي وما) من الأسماء النواقص ، وقد تكون أسماء الله عزوجل ، فما هنا ق د تكون مصدرية ، وقد تكون في بعض الوجوه في هذا الموضع بمعنى الذي ، فتكون اسما لله عزوجل ، فيكون قوله تعالى (وَالسَّماءِ وَما بَناها) أي وباني السماء.

(وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا) (٦) لما أدار رحاها ، أو وباسط الأرض.

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) (٧)

بما ألهمها من فجورها وتقواها ، وهي نفس كل مكلف ، وما ثم إلا مكلف ، ومن وجه آخر (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) من التسوية وهو الاعتدال في الشيء ، وهو جعل المباح للنفس ذاتيا لها لا يحتاج إلى إلهام ، فهو من خاصية النفس ، فلذلك لم يصفها بأنها ملهمة فيه ، ولما كانت النفس محل الفرقان ، ومحل التغيير والتطهير ، ومقر الأمر والنهي ، وهي بين أميرين قويين مطاعين ، العقل والهوى ، هذا يناديها وهذا يناديها ، والكل بإذن الله تعالى الأصلي قال تعالى في إثر (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها).

(فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٨)

لهذا جعلناها محل التطهير والتغيير ، فإن أجابت الهوى كان التغيير ، وحصل لها اسم الأمّارة بالسوء ، وإن أجابت العقل كان التطهير وصح لها اسم المطمئنة شرعا ، ووقوع هذا الأمر لحكمة لطيفة وسر عجيب ، وهو أن الله سبحانه لما أوجد الروح وهو الخليفة على الكمال ، أراد أن يعرّفه سبحانه مع ذلك أنه فقير لا حول ولا قوة إلا لسيده الرب تعالى ، فلهذا أوجد له منازعا ينازعه فيما قلّده ، فرجع الروح بالشكوى إلى الله القديم سبحانه ، فثبتت له في نفسه عبوديته بالافتقار والعجز والذلة ، وتحقق التميز وعرف قدره ، فذلك كان المراد ، فإن الإنسان لو نشأ على الخير والنعم طول عمره لم يعرف قدر ما هو فيه حتى يبتلى ، فإذا مسه الضر عرف قدر المنعم ، والإلهام ضرب من ضروب الوحي لا يخلو عنه موجود ، وهو خبر من الله للعبد على يد ملك مغيّب عن هذا الملهم ، وقد يلهم من الوجه الخاص ، فالرسول والنبي يشهد الملك ويراه عندما يوحي إليه ، وغير الرسول يحس بأثره

٥٠١

ولا يراه رؤية بصر ، فيلهمه الله به ما شاء أن يلهمه ، أو يعطيه من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط ، وهو أجلّ الإلقاء وأشرفه ، فالإلهام إعلام إلهي ، ما هو مثل وحي الكلام ، ولا وحي الإشارة والعبارة ، وهو الخاطر الخاطر ، فلا يعول إلا على الخاطر الأول ، فإنه الحق المبين ، والصادق الذي لا يمين ، ولهذا يصيب ولا يخطىء ، ويمضي ما يقول ولا يبطىء ، فدخل الملك بالتقوى في هذه الآية إذ لا نصيب له في الفجور ، وكذلك سائر نفوس ما عدا الإنس والجان ، فالإنس والجن ألهموا الفجور والتقوى ، وما ذكر سبحانه من الملهم لها بالفجور والتقوى ، فأضمر الفاعل ، فالظاهر أن الضمير المضمر يعود على المضمر في (سَوَّاها) وهو الله تعالى ، فإن سبيل الوحي قد انقطع بموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كان الوحي قبله ، ولم يجىء خبر إلهي أن بعده وحيا ، وإن لم يلزم هذا ، وقد جاء الخبر النبوي الصادق في عيسى عليه‌السلام ـ وقد كان ممن أوحي إليه قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه لا يؤمنا إلا منا ، أي بسنتنا ، فله الكشف إذا نزل والإلهام ، كما لهذه الأمة ، فالإلهام الإلهي أكثره لا واسطة فيه ، فمن عرفه عرف كيف يأخذه ، ومحله النفس ، قال تعالى (فَأَلْهَمَها) فالفاعل هويته ، فهو الملهم لا غيره (فُجُورَها) ليعلمه لا ليعمل به (وَتَقْواها) ليعلمه ويعمل به ، فهو إلهام إعلام لا كما يظنه من لا علم له ، فبين لها الفجور من التقوى إلهاما من الله لها ، لتتجنب الفجور وتعمل بالتقوى ، فألهمها فعلمت أن الفجور فجور فاجتنبته ، وعلمت أن التقوى تقوى فلزمته ، فتسلك طريق التقوى وتجانب طريق الفجور ، وكذلك ليفصل بين الفجور والتقوى ، إذ النفس محل لظهور الأمرين فيها ، فربما التبس عليها الأمر وتخيلت فيه أنه كله تقوى ، فعلمها الله فيما ألهمها ما يتميز به عندها الفجور من التقوى ، ولذا جاء بالإلهام ولم يجىء بالأمر ، فإن الله لا يأمر بالفحشاء ، والفجور فحشاء ، فله الإلهام فينا ، ولنا العمل بما ألهم ، ولذلك قال (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) والدس إلحاق خفي بازدحام ، فألحق العمل بالفجور بالعمل بالتقوى وما فرق في موضع التفريق ، فجمع بينهما في العلم والعمل ، والأمر ليس كذلك ، وسبب جهله بذلك أنه رمى ميزان الشرع من يده ، فلو لم يضع الميزان من يده لرأى أنه مأمور بالتقوى منهي عن الفجور ، مبيّن له الأمران معا ، ولما أضاف الله الفجور لها والتقوى ، علمنا أنه لابد من وقوعهما في الوجود من هذه النفس الملهمة ، وكما أن الله سبحانه لم يأمر بالفحشاء لم يلهم العبد العمل بالفحشاء كما يراه بعضهم ،

٥٠٢

ولو ألهمه العمل بالفحشاء لما قامت الحجة لله على العبد ، بل هذه الآية مثل قوله (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ـ.

لا تحكمن بإلهام تجده فقد

يكون في غير ما يرضاه واهبه

واجعل شريعتك المثلى مصححة

فإنها ثمر يجنيه كاسبه

له الإساءة والحسنى معا فكما

تعطي طرائفه تردي مذاهبه

فاحذره إن له في كل طائفة

حكما إذا جهلت فينا مكاسبه

لا تطلبن من الإلهام صورته

فإن وسواس إبليس يصاحبه

في شكله وعلى ترتيب صورته

وإن تميز فالمعنى يقاربه

فجعل الله النفس محلا قابلا لما تلهمه من الفجور والتقوى ، فتميز الفجور فتجتنبه ، والتقوى فتسلك طريقه ، ومن نظر قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إن للملك في الإنسان لمة ، وللشيطان لمة] يعني بالطاعة وهي التقوى ، والمعصية وهي الفجور ، فيكون الضمير في ألهمها للملك في التقوى ، وللشيطان في الفجور ، فيكون قوله تعالى (فَأَلْهَمَها فُجُورَها) عملا أو تركا ، لمجيئه على يد شيطان ، (وَتَقْواها) عملا أو تركا لمجيئه على يد ملك ، ولم يجمعهما في ضمير واحد لبعد المناسبة بينهما ، وكل بقضاء الله وقدره ، ولا يصح أن يقال في هذا الموضع : إن الله هو الملهم بالتقوى ، وإن الشيطان هو الملهم بالفجور ، لما في ذلك من الجهل وسوء الأدب ، لما في ذلك من غلبة أحد الخاطرين ، والفجور أغلب من التقوى ، فإنه في ذلك يجمع بين الله والشيطان في ضمير واحد ، وهو غاية سوء الأدب مع الله ، وما أحسن ما جاء بالواو العاطفة في قوله (وَتَقْواها) فتعالى الله الملك القدوس أن يجتمع مع المطرود من رحمة الله في ضمير ، مع احتمال الأمر في ذلك ، فالفاعل في ألهمها مضمر ، وكذلك لا يترجح أن ننسب الإلهام بالفجور إلى الله ، فلم يبق بعد هذا الاستقصاء إلا أن يكون الضمير في ألهمها بالفجور إلى الشيطان ، وبالواو بالتقوى إلى الملك ، فمقابلة مخلوق بمخلوق أولى من مقابلة مخلوق بخالق ، ومن وجه آخر تطلبه الآية ، وهو أنه بما ألهمها عرّاها أن يكون لها في الفجور والتقوى كسب أو تعمل ، وإنما هي محل لظهور الفعل ، فجورا كان أو تقوى شرعا ـ الفرق بين الإلهام والعلم اللدني ـ العلم بالطاعة إلهامي ، والعلم بنتائج الطاعة لدني ، فالإلهام عارض طارىء ، يزول ويجيء ، والعلم اللدني ثابت لا يبرح ،

٥٠٣

والإلهام هو ما يلهمه العبد من الأمور التي لم يكن يعرفها قبل ذلك ، والعلم اللدني الذي لا يكون في أصل الخلقة ، فهو العلم الذي تنتجه الأعمال ، فيرحم الله بعض عباده بأن يوفقه لعمل صالح ، فيعمل به فيورثه الله من ذلك علما من لدنه لم يكن يعلمه قبل ذلك ، ولا يلزم من العلم اللدني أن يكون في مادة ، والإلهام لا يكون إلا في مواد ، والعلم يصيب ولابد ، والإلهام قد يصيب وقد يخطىء ، فالمصيب منه يسمى علم الإلهام ، وما يخطىء منه يسمى إلهاما لا علما ، أي لا علم إلهام ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الله] فالإلهام هنا هو التقليب ، والأصابع للسرعة ، والاثنينية لها خاطر الحسن وخاطر القبيح ـ بشرى ـ قال تعالى (فَأَلْهَمَها فُجُورَها ، وَتَقْواها) قدم تعالى الفجور على التقوى عناية بنا إلى الخاتمة ، والغاية للخير ، فلو أخر الفجور على التقوى لكان من أصعب ما يمر علينا سماعه ، فالفجور يعرض للبلاء ، والتقوى محصل للرحمة ، وقد تأخر التقوى فلا يكون إلا خيرا.

(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) (٩)

يعني النفس التي سواها ، يريد قد أفلح من طهرها بامتثال أوامر الله ، فأنزل الله تعالى نفوسنا منا منزلة الأموال منا في الحكم ، فجعل فيها الزكاة كما جعلها في الأموال ، كما ألحقها بالأموال في البيع والشراء ، فتزكية النفس بتحليتها وتطهيرها من مذام الأخلاق وإتيان مكارمها ، فمن زكى نفسه بالتقوى فاتقى من الفجور ما ينبغي أن يتّقى منه ، وأخذ من الإلهام ما ينبغي أن يؤخذ منه فقد أفلح ، ومن دس نفسه في موضع قيل له لا تدخل منه فقد خاب ، ولذلك قال تعالى :

(وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠)

لما كان معنى الزكاة التطهير ، ولم يكن المال الذي يخرج في الصدقة من جملة مال المخاطب بالزكاة ، وكان بيده أمانة لأصحابه ، لم يستحقه غير صاحبه ، وإن كان عند هذا الآخر ، ولكنه هو عنده بطريق الأمانة إلى أن يؤديه إلى أهله ، كذلك في زكاة النفوس ، فإن النفوس لها صفات تستحقها ، وهي كل صفة يستحقها الممكن ، وقد يوصف الإنسان بصفات

٥٠٤

لا يستحقها الممكن من حيث ما هو ممكن ، ولكن يستحق تلك الصفات الله إذا وصف بها ، ليميزها عن صفاته التي يستحقها ، كما أن الحق سبحانه وصف نفسه بما هو حق للممكن تنزلا منه سبحانه ورحمة بعباده ، فزكاة نفسك إخراج حق الله منها ، فهو تطهيرها بذلك الإخراج من الصفات التي ليست بحق لها ، فتأخذ ما لك منه وتعطي ما له فيك ، فقد أفلح من زكاها فلم يتعد قدره والتزم عبوديته ، وقد خاب من دساها في صفات الربوبية ، والإمكان للممكن واجب لنفسه ، فلا يزال انسحاب هذه الحقيقة عليه لأنها عينه ، والله تعالى لا حق له في الإمكان ، يتعالى الله علوا كبيرا ، فإنه تعالى واجب الوجود لذاته ، غير ممكن بوجه من الوجوه ، وقد وجدنا هذه النفس قد اتصفت بالوجود ، فقلنا : هذا الوجود الذي اتصفت به النفس ، هل اتصفت به لذاتها أم لا؟ فرأينا أن وجودها ما هو عين ذاتها ، ولا اتصفت به لذاتها ، فنظرنا لمن هو ، فوجدناه لله ، كما وجدنا القدر المعين من مال زيد المسمى زكاة ليس هو بمال لزيد ، وإنما هو أمانة عنده ، كذلك الوجود الذي اتصفت به النفس ما هو لها ، إنما هو لله الذي أوجدها ، فالوجود لله لا لها ، ووجود الله لا وجودها ، فقلنا لهذه النفس : هذا الوجود الذي أنت متصفة به ما هو لك ، وإنما هو لله خلعه عليك ، فأخرجه لله وأضفه إلى صاحبه ، وابق أنت على إمكانك لا تبرح فيه ، فإنه لا ينقصك شيء مما هو لك ، وأنت إذا فعلت هذا كان لك من الثواب عند الله ثواب العلماء بالله ، ونلت منزلة لا يقدر قدرها إلا الله ، وهو الفلاح الذي هو البقاء ، فيبقي الله هذا الوجود لك لا يأخذه منك أبدا ، فهذا معنى قوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أي قد أبقاها موجودة من زكاها ، وجود فوز من الشر ، أي من علم أن وجوده لله أبقى الله عليه هذه الخلعة يتزين بها منعما دائما ، وهو بقاء خاص ببقاء الله ، فإن الخائب الذي دساها هو أيضا باق ، ولكن بإبقاء الله لا ببقاء الله ، فإن المشرك الذي هو من أهل النار ما يرى تخليص وجوده لله تعالى من أجل الشريك ، وكذلك المعطل ، وإنما قلنا ذلك لئلا يتخيل من لا علم له أن المشرك والمعطل قد أبقى الله الوجود عليهما ، فبينا أن إبقاء الوجود على المفلحين ليس على وجه إبقائه على أهل النار ، ولهذا وصف الله أهل النار بأنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، بخلاف صفة أهل السعادة ، فإنهم في الحياة الدائمة ، وكم بين من هو باق ببقاء الله وموجود بوجود الله وبين من هو باق بإبقاء الله وموجود بالإيجاد لا بالوجود ،

٥٠٥

وبهذا فاز العارفون ، لأنهم عرفوا من هو المستحق لنعت الوجود ، وهو الذي استفادوه من الحق ، فهذا معنى قوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) فوجبت الزكاة في النفوس كما وجبت في الأموال ، ووقع فيها البيع والشراء كما وقع في الأموال ، والزكاة في النفوس آكد منها في الأموال ، ولهذا قدمها الله في الشراء فقال (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) ثم قال (وَأَمْوالَهُمْ) واعلم أن النفوس لا تزكو إلا بربها ، فبه تشرف وتعظم في ذاتها ، لأن الزكاة ربو ، فمن كان الحق سمعه وبصره وجميع قواه ، والصورة في الشاهد صورة خلق فقد زكت نفس من هذا نعته ، ولذلك قال (قَدْ أَفْلَحَ) ففرض له البقاء والبقاء ليس إلا لله (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) لأنه جهل أنه هكذا في نفس الأمر ، فإن الخلق كله بهذا النعت في نفس الأمر ، وإلا ما صح لصورة الخلق ظهور ولا وجود ، فوصف بالخيبة حيث لم يعلم هذا ، فهو محروم من نيل غرضه بهذا العلم ، وما ثمّ في الآخرة إلا داران ، جنة ولها أهل ، وهم الموحدون بأي وجه وحدوا ، وهم الذين زكوا أنفسهم ، والدار الثانية النار ولها أهل ، وهم الذين لم يوحدوا الله ، وهم الدّاسون أنفسهم فخابوا ، ومن وجه آخر (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) بالأعمال الصالحة ، (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) فأدخلها في الصالحين وليست منهم ، فإن من أمراض الأحوال صحبة الصالحين حتى يشتهر في الناس أنه منهم ، وهو في نفسه مع شهوته ، فإن حضروا سماعا ، وهو قد تعشق بجارية أو غلام ـ والجماعة لا تعلم بذلك ـ فأصابه وجد وغلب عليه الحال لتعلقه بذلك الشخص الذي في نفسه ، فيتحرك ويصيح ويتنفس الصعداء ، ويقول : الله الله ؛ أو : هو هو ؛ ويشير بإشارات أهل الله ، والجماعة تعتقد في حاله أنه حال إلهي ، مع كونه ذا وجد صحيح وحال صحيحة ، ولكن فيمن؟! دواؤه (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) وما أشبه هذه الآية من الأخبار ، فمن أراد طريق العلم والسعادة فلا يضع ميزان الشرع من يده نفسا واحدا ما دام مكلفا ، لأنه إن وضعه من يده نفسا واحدا فني الشرع ، فإن كل حركة في المكلف ومن المكلف وسكون لميزان الشرع فيه حكم ، فلا يصح وضعه مع بقاء الشرع.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (١١) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا

٥٠٦

(١٤) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) (١٥)

إذا نهيت النفس عن هواها

كانت لها جناته مأواها

بها حباها الله إذ حباها

وكان في فردوسه مثواها

أقسمت بالشمس التي أجراها

قسما وبالبدر إذا تلاها

وليله المظلم إذ يغشاها

وبالنهار حين ما جلاها

وحكمة الله التي أخفاها

عن العيون حين ما أبداها

وبالسموات ومن بناها

وفوق أرض فرشه علّاها

لتبلغن اليوم منتهاها

حتى نراها بلغت مناها

حين رأت ما قدمت يداها

من كل خير منه قد أتاها

بأطعمة قد بلغت إناها

ما كان أحلاها وما أشهاها

(٩٢) سورة اليل مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى) (٣)

اعلم أن الذكورة والأنوثة ليست من خصائص النوع الإنساني ، وقد يدخل الخنثى تحت هذا الخطاب ، فإنه مخلوق ينسب إليه الأمران.

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) (٦)

ولا يكون هذا إلا بعد السماع والعقل ممن خلق للنعيم ، فقال تعالى :

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (٧)

٥٠٧

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من خلق للنعيم فسييسر لليسرى] وأما من خلق للجحيم ويسرّ للعسرى ، فهو الذي قال فيه :

(وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) (٨)

(بَخِلَ) بنفسه على ربه ، حيث طلب منه قلبه ليتخذه بيتا له بالإيمان أو التوحيد ، (وَاسْتَغْنى) بنفسه عن ربه في زعمه.

(وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) (٩) وهي أحكام الأسماء الحسنى.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (١٠)

وهو تيسير التعسير ـ إشارة ـ اترك الوجود على ما هو عليه ، فكل ميسر لما يسر إليه ، فإذا كان الأمر في غيرك فدع حكمة الله تسري في عباده ، واشتغل بنفسك ، وأما إذا كان في نفسك فاجعل الأصنام جذاذا.

(وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (١٢) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (١٣) فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (١٤) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى) (١٥)

فهو أشقى ما دام يصلى النار الكبرى ـ راجع سورة الأعلى آية ١١ ـ.

(الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضَى) (٢١)

٥٠٨

(٩٣) سورة الضّحى مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (٢)

أي أظلم ، فقد يكون الليل ولا ظلمة ، فإنه ليس من شرط وجود الليل وجود الظلمة ، إنما عين الليل غروب الشمس إلى حين طلوعها ، سواء أعقب المحل نور آخر سوى نور الشمس أو ظلمة ، فلو كان عين الليل عين الظلمة ما نعته بأنه أظلم.

(مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى) (٤)

الأولى هي الدار الدنيا ، والدار الآخرة هي الآخرة ، فكان بين خلق الدنيا والآخرة تسع آلاف سنة مما تعدون ، ولهذا سميت الآخرة آخرة لتأخر خلقها عن خلق الدنيا ، وسميت الدنيا الأولى لأنها خلقت قبلها ، وقد جعل الله للدار الدنيا أمدا معلوما تنتهي إليه ، وتنقضي صورتها وتستحيل من كونها دارا لنا ، ولم يجعل للآخرة مدة ينتهي إليها بقاؤها ، فلها البقاء الدائم ، وإنما قال الله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) لأن الآخر ما وراءه مرمى ، فهو الغاية فمن حصل في درجته فإنه لا ينتقل ، فله الثبوت والبقاء والدوام ، والأول ليس كذلك ، فإنه ينتقل في المراتب حتى ينتهي إلى الآخر وهو الغاية فيقف عنده ، فلهذا قال له (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) فإن مآل الناس في الآخرة إلى رفع التحجير ، ومن وجه آخر فإن الماضي والحال قد حصلا ، والمستقبل آت فلابد منه ، فتعلق الهمة به أولى ، فإنه إذا ورد عن همة متعلقة به كان لها لا عليها ، وإذا ورد عن غير همة متعلقة به كان إما لها وإما عليها ، وإنما أثّر فيه تعلق الهمة أن يكون لها لا عليها ، لما يتعلق من صاحب الهمة من حسن الظن بالآتي ، والهمم مؤثرة ، فلو كان إتيانه عليه لا له لعاد له لا عليه ، وهذه فائدة من حافظ عليها حاز كل نعيم ،

٥٠٩

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) (٥).

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) هناك (فَتَرْضى) وهو عطاء كن في ظاهر العين ، كما هو له في الباطن ، فإن الإنسان له في باطنه قوة كن ، وما له منها في ظاهره إلا الانفعال ، وفي الآخرة يكون حكم كن منه في الظاهر ، وأعطاه صفة البقاء والدوام والنعيم الدائم الذي لا انتقال عنه ولا زوال ، وتميز صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا المقام عمن قال (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) فمن عناية الله بالرسول المبجل تخليص الاستقبال في قوله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) ، حتى لا يعجل ، فمن علم أنه لابد من يومه ، فلا يعجل عن قومه ، ومما أعطى الحق لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا ليرضيه استقبال الكعبة ، قال تعالى (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها).

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) (٦) فلم يذلّك ولا طردك بالقهر ليتمك وكسرك.

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧)

يقول الله تعالى في معرض الامتنان على عبده (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) أي حائرا ، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان (فَهَدى) فأبان لك عن الأمر ، وبين لك طريق الهدى من طريق الضلالة ، والهدى هنا هو معرفة ما خلقك من أجله حتى تكون على ذلك ، فتكون على بينة من ربك.

(وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) (٨)

أول درجة الغنى القناعة ، والاكتفاء بالموجود ، فلا غنى إلا غنى النفس ، ولا غني إلا من أعطاه الله غنى النفس ، فليس الغنى ما تراه من كثرة المال مع وجود طلب الزيادة من رب المال ، فالفقر حاكم عليه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس].

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) (٩)

٥١٠

وذلك في حق الإنسان ، فإنه قال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) ولذلك قال له (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) ، إذا وجدته فلا تقهره والطف به وآوه وأحسن إليه ، فإن القهر لا يأتي بالرحمة والمودة في قلب المقهور.

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (١٠)

سواء كان في القوت المحسوس أو المعنوي ، فإن العلم من هذا الباب ويدخل فيه ، والإفادة ، فإن الضال يطلب الهداية ، والجائع يطلب الطعام ، والعاري يطلب الكسوة التي تقيه برد الهواء وحره وتستر عورته ، والجاني العالم بأنك قادر على مؤاخذته يطلب منك العفو عن جنايته ، فاهد الحيران ، وأطعم الجائع ، واسق الظمآن ، واكس العريان ، فعمم بقوله (وَأَمَّا السَّائِلَ) وإن كان المقصود في سبب نزولها السؤال في العلم ، لأنه تعليم لحال سابق كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قوله (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) فقال له (وَأَمَّا السَّائِلَ) إذا جاءك يسألك فإنما هو بمنزلتك حين كنت ضالا (فَلا تَنْهَرْ) فلا تنهره كما لم أنهرك ، وبيّن له كما بينت لك ، ولقد علمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا الباب في تأديب الصحابة ما يتأدب به في ذلك ، وذلك أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بين ظهراني أصحابه ، فقال [يا رسول الله إني أسألك عن ثياب أهل الجنة ، أخلق تخلق أم نسيج تنسج؟ فضحك الحاضرون من سؤاله ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : (أتضحكون أن جاهلا سأل عالما ، يا هذا الرجل إنها تشقق عنها ثمر الجنة) فأجابه بما أرضاه ، وعلّم أصحابه الأدب مع السائل ، فأزال خجله وانقلب عالما فرحا ، فقد جرت العادة عند العلماء القاصرين عما ذكرناه أن المتعلم السائل إذا جاء ليسأل العالم عن أمر لا يعلمه ، فإن كانت المسألة بالنظر إلى حالة السائل عظيمة قال له : لا تسأل عما لا يعنيك ، وهذا ليس قدرك ، وتقصر عن فهم الجواب على هذا السؤال ، وليس الأمر كذلك ، ولا في نفس الأمر ، وإنما القصور في المسئول حيث لم يعلم الوجه الذي تحتمله المسألة بالنظر إلى هذا السائل ، فيعلمه به ليحصل له الفائدة فيما سأل عنه ، ويستر عنه الوجوه التي فيها مما لا يحتمله عقله ، ولا يبلغ إليه فهمه ، فيسر السائل بجواب العالم ويصير عالما بتلك المسئلة من ذلك الوجه ، وهو وجه صحيح ، فما سأل سائل قط في مسئلة ليس فيه أهلية لقبول جواب عنها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إن الله أدبني فأحسن

٥١١

تأديبي] فينبغي لنا أن نتبع الآداب الإلهية التي أدب الله سبحانه بها أنبياءه ، فإن الحائر إذا سأل يسأل إما بحاله وإما بقوله ، والعالم بما حار فيه يجب عليه أن يبيّن له ما حار فيه ، فإن كان المسئول فيه مما تكون حقيقته الحيرة فيه أبان له هذا العالم أن العلم به أنّه يحار فيه ، فأزال عنه الحيرة في الحيرة ، وإن كانت من العلوم التي إذا بينت زالت الحيرة فيه وبان بيان الصبح لذي عينين أبانه له فعلمه ، فأزال عنه الحيرة ، ولا يرده ، ولا يقول له : ليس هذا عشك فادرج ، ولا سألت ما لا يعطيه مقامك ، فإن الإنسان إذا قال مثل هذا القول لمن سأله عن علم ما فليس بعالم ، وهو جاهل المسئلة وبالوجه الذي ينبغي من هذه المسألة أن يقابل به هذا السائل ، والعلم وسوء الخلق لا يجتمعان في موفق ، فكل عالم فهو واسع المغفرة والرحمة ، وسوء الخلق إنما هو من الضيق والحرج ، وأما إذا كان السؤال خطأ فلا يلزم الجواب عنه ، فإن سأل سائل ذو وهم : متى كان وجود العالم من وجود الحق؟ قلنا : متى سؤال زماني ، والزمان من عالم النسب ، وهو مخلوق لله تعالى ، لأن عالم النسب له خلق التقدير لا الإيجاد ، فهذا سؤال باطل ، فانظر كيف تسأل فنهى الله نبيه عن انتهار سائل العلم ، تعليما لنا ، فقال (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) لأنه قال له (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) أي حائرا (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) وقد ورد في الخبر [استوصوا بطالب العلم خيرا ، ومن سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار] ، ومن هذه الآية كان سؤال الرجل السلطان أولى من سؤال غير السلطان ، لأن وجود الحق أظهر فيه من غيره من السوقة والعامة ، ولهذا رفعت الكدية عن الذين يسألون الملوك ، فإنهم نواب الله ، وهم موضع حاجة الخلق ، وهم المأمورون أن لا ينهروا السائل ، يقول الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو النائب الأكبر (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) ولهذا يسأل الله تعالى يوم القيامة النواب وهم الرعاة عمن استرعاهم عليه ، ويسأل الرعايا ما فعلوا فيهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [المسائل كدوح يكدح بها الرجل في وجهه ، فمن شاء أبقى على وجهه ، ومن شاء ترك ، إلا أن يسأل ذا سلطان في أمر لا يجد منه بدا].

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١)

حتى تبلغ القاصي والداني ، لأنه لما كانت النعم محبوبة لذاتها وكان الغالب حب المنعم

٥١٢

حتى قالت طائفة : إن شكر المنعم واجب عقلا ، جعل الله التحدث بالنعم شكرا ، فإذا سمع المحتاج ذكر المنعم مال إليه بالطبع وأحبه ، فلذلك أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتحدث بنعم الله عليه ، لأن التحدث بنعم الله شكر لفظي ، لما فيه من الثناء على الله ، لما يكون منه وبما أنعم به عليه من النعم المعلومة في العرف ، من المال والعلم ، فإظهار النعم عين الشكر وحقه ، وبمثل هذا يكون المزيد ، كما يكون بالكفران لها زوال النعم ، والكفران سترها ، فإن الكفر معناه ستر ، وإذا ذكر العبد ما أنعم الله به عليه من النّعم المعروفة في العرف من المال والعلم فقد عرض نفسه ليقصد في ذلك ، فيجود به على القاصد ، فيدخل بذلك في الشكر العملي ، لأن من النعم ما يكون مستورا لا يعرف صاحبها أنه صاحب نعمة فلا يقصد ، فإذا حدث بما أعطاه الله وأنعم عليه به قصد في ذلك ، فلهذا أمر بالحديث بالنعم ، والتحدث بالنعم شكر ، والإعطاء منها شكر ، فيجمع بين الذكر والعمل ، ومن هذا نعلم أن الله لا يحب من عباده من يستر نعمه ، كانت النعم ما كانت ، فما تحدث به لم يستر ، وقال [التحدث بالنعم شكر] وإذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن ترى عليه ، ونعمه التي أسبغها على عباده ظاهرة وباطنة ، ومن ستر النعمة فقد كفر بها ، ومن كفر بها أذاقه الله لباس الجوع والخوف لستر النعم وجحدها والأشر والبطر بها ، وفي هذه الآية نص لمن قام الدليل على عصمته ، فله أن يثني على نفسه بما أعلمه الله أنه عليه من الصفات المحمودة ، فإنها من أعظم النعم الإلهية على عبده. قال يوسف عليه‌السلام (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ـ نصيحة ـ إذ ولابد من الحديث فلا تتحدث إلا بنعمة ربك ، وأعظم النعم ما أعطيت الأنبياء والرسل فبنعمهم تحدث.

(٩٤) سورة الشّرح مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

لقد حاز صلى‌الله‌عليه‌وسلم المقام الأدنى في الآخرة والأولى فالعالي يقول (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) والأعلى يقال له (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) العالي يقول (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) والأعلى تقرر عليه النعم.

٥١٣

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ) (٣)

العالي يدعو (اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) والأعلى يقال له.

(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (٤)

يعني في المقربين ـ نصيحة ـ ما أثقل الظهر سوى الوزر فلا تضف إلى أثقالك أثقالا ، وكن لرحى ما يراد منك ثقّالا ، هنا تحط الأثقال ، أثقال الأفعال والأقوال.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (٦)

ـ الوجه الأول ـ المعية هنا امتزاج لا معية مقارنة ولا تعاقب ، ولذلك كررها ، فلو لا وجود اليسر مع العسر لم يكن عسر العموم الهلاك ، ولو لا وجود العسر في اليسر لم يكن يسرا ، وبضدها تتبين الأشياء ، ثم إن العسر يؤول كله إلى اليسر ، فقد سبقت الرحمة الغضب وذلك عناية من الله تعالى ـ الوجه الثاني ـ اليسر الذي ذكره الله تعالى في قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) فعرف بالألف واللام يشير به إلى اليسر المنكر في هذه السورة ، أي ذلك اليسر الذي أردت بكم هو قوله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) في عسر المرض يسر الإفطار (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) عسر السفر (يُسْراً) يسر الإفطار أيضا (فَإِذا فَرَغْتَ) من المرض أو السفر (فَانْصَبْ) نفسك للعبادة وهو الصوم ، يقول : اقضه (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) في المعونة ، فأتى بعسر واحد بين يسرين ، فلا يكن الحق يراعي اليسر في الدين ورفع الحرج ويفتي المفتي بخلاف ذلك ، قال بعضهم في يسرين بينهما عسر :

إذا ضاق عليك الأمر

ففكر في ألم نشرح

فعسر بين يسرين

إذا ذكرته فافرح

لأنه سبحانه نكرّ اليسر وأدخل الألف واللام اللتين للعهد والتعريف على العسر ، أي العسر الثاني هو عين الأول ، وليس ذلك في اليسر ، فمن سلك هنا ما توعر تيسر له في آخرته ما تعسّر ، إن مع العسر في الدنيا يسرا فيها ، ثم إن مع العسر في الدنيا يسرا في الآخرة

٥١٤

لمن فهم معانيها بما يعانيها.

(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) (٧)

فالعبد مطلوب بالاجتهاد والجد ، ما هذه الدار دار راحة (فَإِذا فَرَغْتَ) من أمر أنت فيه (فَانْصَبْ) في أمر يأتيك في كل نفس ، فأين الفراغ؟ وأين الراحة في دار التكليف؟

(وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨)

فإنه من قنع بالجهل وأساء الأدب ، فلا يزهد في الطلب ، ومن هنا أمره الحق أمرا حتما ، أن يقول : رب زدني علما ، فإن الله ما أراد منك في هذا الأمر إلا دوام الافتقار ، ووجود الاضطرار ، فلا تقطع المعاملة ، وعليك باستعمال المراسلة في طلب المواصلة ، مواصلة لا أمد لانقضائها ولا راد لقضائها ـ إشارة ـ كان شيخنا أبو مدين رحمه‌الله يقول في هذه الآية (فَإِذا فَرَغْتَ) من الأكوان (فَانْصَبْ) قلبك لمشاهدة الرحمن (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) في الدوام فإذا دخلت في عبادة فلا تحدث نفسك بالخروج منها ، وقل يا ليتها كانت القاضية ـ إشارة ـ إذا أردت أيها المصلي أن يقبل كلامك ، ويتلقى بالترحيب سلامك ، فلا تدخل مصلاك ، حتى تعرف من تولاك ، وتتفرغ عن أهلك ودكانك ، وعمادك وسلطانك ، فإذا فرغت من الأكوان ، فانصب ذاتك لمشاهدة الرحمن ، وإلى ربك فارغب في الدوام ، إن أردت أن تفوز بلذة السلام.

(٩٥) سورة التّين مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (٣)

وصف الحق البلد بالأمانة فسماه أمينا ، وهو أرض ذو جدران وأسوار وتراب وطين ولبن ، وأقسم به كما أقسم بغيره تعظيما لمخلوقات الله ، وتعليما لنا أن نعظم خالقها ، ونعظمها

٥١٥

بتعظيم الله إياها لا من جهة القسم بها ؛ فإنه لا يجوز لنا أن نقسم بها ، ومن أقسم بغير الله كان مخالفا أمر الله.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٤)

أي التقويم الذي خلقه عليه أفضل من كل تقويم ، فكلّ موجود على التقويم الذي يعطيه خلقه بقوله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) وما صحت هذه الصفة التي فضل بها على غيره إلا بكونه خلقه الله على صورته التي خصّه بها ، وهي التي أعطته هذه المنزلة ، فكان أحسن تقويم في حقه لا عن مفاضلة أفعل من كذا ، بل مثل قوله (الله أكبر) لا عن مفاضلة ، بل الحسن المطلق للعبد الكامل كالكبرياء المطلق الذي للحق ، فهو أحسن تقويم لا من كذا كما هو الحق أكبر لا من كذا ، فالإنسان هو أكمل المكلفين وجودا وأعمه وأتمه خلقا وأقومه ، فما فضّل القديم إلا المخلوق في أحسن تقويم ، فهو العالم لا بل هو العلّام ، مصباح الظلام ، معيّن الأيام ، الإمام ابن الإمام ، المؤتى جوامع الكلم وجميع الأسماء والكلام ، فافصح وأبان لما علمه البيان ، ووضع له الميزان ، فأدخله في الأوزان ، وزان وما شان ، فبالصورة علا وفضل ، ونزل وسفل إذ جار وما عدل ، الأسفل في أسفل سافلين بالطين والماء المهين ، وإن تساووا في النشأة العنصرية بالقرار المكين ، والتنقل في الأطوار ، والانحصار خلف الأسوار ، بالكل والبعض ، والإبرام والنقض ، والتقويض والبناء ، والقالة بالثناء ، فمحمد ومذمّم ، ومؤخر ومقدّم ، فالعبد هو المصمت في عبوديته ، فإن حاد العبد عن هذه المرتبة بوصف ما رباني ، وإن كان محمودا من صفة رحمانية وأمثالها ، فقد زال عن المرتبة التي خلق لها ، وحرم الكمال والمعرفة بالله على قدر ما اتصف به من صفات الحق ، فليقلل أو يكثر ، واعلم أن للإنسان حالتين : حالة عقلية نفسية مجردة عن المادة ، وحالة عقلية مدبرة للمادة ، فإذا كان في حال تجريده عن نفسه ، وإن كان متلبسا بها حسا فهو على حالته في أحسن تقويم ، فإذا قال : الله ؛ نطق بنطقه جميع العالم من كل ماسوى الله ، فقامت تسبيحته مقام تسبيح ما ذكرته ، فأجره غير ممنون ، وفيه قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أبرزه نسخة كاملة جامعة لصور حقائق المحدث وأسماء القديم ، أقامه سبحانه معنى رابطا للحقيقتين ، وأنشأه برزخا جامعا للطرفين والرقيقتين ، أحكم بيديه صنعته ، وحسّن

٥١٦

بعنايته صبغته ، فكانت مضاهاته للأسماء الإلهية بخلقه ، ومضاهاته للأكوان العلوية والسفلية بخلقه ، فتميز عن جميع الخلائق بالخلقة المستقيمة والخلائق ، عيّن سبحانه سره مثالا في حضرة الأسرار ، وميز نوره من بين سائر الأنوار ، ونصب له كرسي العناية بين حضرتيه ، وصرف نظر الولاية والنيابة فيه وإليه ، فلو لا ما صح لهذا الإنسان أحسن تقويم ، وفطر على صورة القديم ، لما صح عنه وجود خلق ، ولا دان له الملأ الأعلى ، ولا ظهر بالموقف الأجلى ، ولا عنت له وجوه الأملاك ، ولا دارت بنفسه أجرام الأفلاك ، فاشكر الله يا أيها الإنسان على ما خصك به الجواد الرحمن من كمال هذه النصبة ، وأوقفك على حقائق هذه النسبة فإن الإنسان ذو نسبتين كاملتين : نسبة يدخل بها إلى الحضرة الإلهية ، ونسبة يدخل بها إلى الحضرة الكيانية ، فيقال فيه : عبد من حيث أنه مكلّف ولم يكن ثم كان كالعالم ، ويقال فيه : رب من حيث أنه خليفة ومن حيث الصورة ومن حيث أحسن تقويم ، فله الكمال المطلق في الحدوث والقدم ، والحق له الكمال المطلق في القدم ، وليس له في الحدوث مدخل يتعالى عن ذلك ، والعالم له الكمال في الحدوث وليس له في القدم مدخل ، فصار الإنسان جامعا ، لله الحمد على ذلك ، فما أشرفها من حقيقة ، وما أظهره من موجود ، وما أخسها وما أدنسها في الوجود ، إذا قد كان منها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو جهل ، وموسى عليه‌السلام وفرعون ، فتحقق أحسن تقويم واجعله مركز الطائعين المقربين ، وتحقق أسفل سافلين واجعله مركز الكافرين الجاحدين ، لذلك قال تعالى : (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فما بعده أحسن منه.

إشارة ـ إلى الإنسان الكامل الخليفة بقوله (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فقال في معرض التشريف والتنزيه ، والتعريف والتنبيه ، على التقويم الأكمل الأحسن ، والخلق الأجمل الأتقن (١) ، المحفوظ المصون ، في آلم تنزيل والتين والزيتون ، كأنه يقول عبدي أنت حمدي ، وحامل أمانتي وعهدي ، أنت طولي وعرضي ، وخليفتي في أرضي ، والقائم بقسطاس حقي والمبعوث إلى جميع خلقي ، عالمك الأدنى ، بالعدوة الدنيا والعدوة القصوى ، أنت مرآتي ، ومجلى صفاتي ، ومفصل أسمائي ، وفاطر سمائي ، أنت موضع نظري من خلقي ، ومجتمع جمعي وفرقي ، أنت ردائي ، وأنت أرضي وسمائي ، وأنت عرشي

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى في سورة آلم تنزيل (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

٥١٧

وكبريائي ، أنت الدرة البيضاء ، والزبرجدة الخضراء ، بك ترديت ، وعليك استويت ، وإليك أتيت ، وبك إلى خلقي تجليت ، فسبحانك ما أعظم شانك ، سلطانك سلطاني ، فكيف لا يكون عظيما؟ ويدك يدي ، فكيف لا يكون عطاؤك جسيما؟ لا مثل لك يوازيك ، ولا عديل يحاذيك ، أنت سر الماء ، وسر نجوم السماء ، وحياة روح الحياة ، وباعث الأموات ، أنت جنة العارفين ، وغاية السالكين ، وريحان المقربين ، وسلام أصحاب اليمين ، ومراد الطالبين ، وأنس المعتزلين المتفردين المنقطعين ، وراحة المشتاقين ، وأمن الخائفين ، وخشية العالمين ، وميراث الوارثين ، وقرة عين المحبين ، وتحفة الواصلين ، وعصمة اللائذين ، ونزهة الناظرين ، وريّا المستنشقين ، وحمد الحامدين ، أنت درر الأصداف ، وبحر الأوصاف ، وصاحب الاتصاف ، ومحل الإنصاف ، وموقف الوصاف ، ومشرف الأشراف ، وسر الأنعام والأعراف ، طوبى لسر وصل إليك ، وخر ساجدا بين يديك ، له عندي ما خبأته وراء حدي ، وقد ناجيتك به في مشهد المطلع ، عند ارتقائك عن المحل الأرفع ، عبدي أنت سري ، وموضع أمري ، هذا موقف تعريفك ، بعلوك على كل الموجودات وتشريفك ، أنت روضة الأزهار ، وأزهار الروضات ، ومغرب الأسرار ، وأسرار المغرب ، ومشرق الأنوار ، وأنوار المشرق ، لولاك ما ظهرت المقامات والمشاهد ، ولا وجد المشهود ولا الشاهد ، ولا حدّت المعالم والمحامد ، ولا ميّز بين ملك وملكوت ، ولا تدرع لاهوت بناسوت ، بك ظهرت الموجودات وترتبت ، وبك تزخرفت أرضها وتزينت ، عبدي لولاك ما كان سلوك ولا سفر ، ولا عين ولا أثر ، ولا وصول ولا انصراف ، ولا كشف ولا إشراف ، ولا مكان ولا تمكين ، ولا حال ولا تلوين ، ولا ذوق ولا شرب ، ولا قشر ولا لب ، ولا عبد ولا رب ، ولا ذهاب ولا نفس ، ولا هيبة ولا أنس ، ولا نفس ولا قبس ، ولا فرس ولا جرس ، ولا جناح ولا رفرف ، ولا رياح ولا موقف ، ولا معراج ولا انزعاج ، ولا تحلي ولا تجلي ، ولا وجد ولا وجود ، ولا حمد ولا محمود ، ولا تداني ولا ترقي ، ولا تدلي ولا تلقي ، ولا هين ولا لين ، ولا غان ولا رين ، ولا كيف ولا أين ، ولا فتق ولا رتق ، ولا ختم ولا ختام ، ولا وحي ولا كلام ، ولا وميض ولا برق ، ولا جمع ولا فرق ، ولا إصاخة ولا استماع ، ولا لذة ولا استمتاع ، ولا سلخ ولا انخلاع ، ولا صدق ولا يقين ، ولا خفي ولا مبين ، ولا مشكاة ولا نور ،

٥١٨

ولا ورود ولا صدور ، ولا ظهر لصفاتي عين ، ولا تحقق وصل ولا بين ، ولا كان عرش ، ولا مهّد فرش ، ولا رفع غمام ، ولا أحرق اصطلام ، ولا كان فناء ولا بقاء ، ولا قبض ولا عطاء ، إلى غير ذلك من الأسرار ، ولا أشرقت الأنوار على الأسرار ، ولا جرت بحار الخلق على الأطوار ، لولاك ما عبدت ، ولا وحدت ، ولا علمت ، ولا دعوت ولا أجبت ، ولا دعيت ولا أجبت ، ولا شكرت ولا كفرت ، ولا بطنت ولا ظهرت ، ولا قدمت ولا أخرت ، ولا نهيت ولا أمرت ، ولا أعلنت ولا أسررت ، ولا أخبرت ولا أوضحت ، ولا أشرت ، أنت قطب الفلك ، ومعلم الملك ، رهين المحبس ، وسلطان المقام الأقدس ، أنت كيميائي ، وأنت سيميائي ، أنت إكسير القلوب ، وحياض روض الغيوب ، بك تنقلب الأعيان ، أيها الإنسان ، أنت الذي أردت ، وأنت الذي اعتقدت ، ربك منك إليك ، ومعبودك بين عينيك ، ومعارفك مردودة عليك ، ما عرفت سواك ، ولا ناجيت إلا إياك. هذا كله في شرف الإنسان الكامل وإليه يشير ما جاء في الخبر [ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي] ـ يراجع الشرح في كتاب النجاة شرح كتاب الإسراء.

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) (٥)

ـ الوجه الأول ـ فما بعده أسفل منه. ـ الوجه الثاني ـ (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي هوى به مركب أعماله إلى أسفل سافلين إذا كان عمله فاسدا ، وقد كان في أحسن تقويم ـ الوجه الثالث ـ (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) ليجمع له كمال الصورة بالأوصاف كما ذكر عن نفسه أنه عليه ، فأين اتصافه بنفي المثل عن نفسه ، من اتصافه بالحد والمقدار ، من استواء ونزول واستعطاف وتلطف في خطاب وغضب ورضا ، وكلها نعوت المخلوق؟ فنحن بينه وبين معقولية الطبيعة التي أنشأ منها الأجسام الطبيعية ، وأنشأ من نسبة توجهه عليها الأرواح المدبرة ، والإنسان ما ذكره الله في كتابه في موضع إلا وذكر عند ذكره صفة نقص تدل على خلاف ما خلق له ، لأن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وهو أنه خلقه له ، ثم رده إلى أسفل سافلين ليكون له الرقي إلى ما خلقه الله له ، ليقع الثناء عليه بما ظهر منه من رقيه ، فمن الناس من بقي في أسفل سافلين الذي ردّ إليه ، وإنما ردّ إليه لأنه منه خلق ، ولو لا ذلك لما صح رده ، وليس أريد بأسفل سافلين إلا حكم الطبيعة التي منها

٥١٩

نشأ عندما أنشأ الله صورة جسده وروحه المدبرة له ، فرده إلى أصل ما خلقه منه ، فلم ينظر ابتداء إلا إلى طبيعته وما يصلح ، وأين هو من قوله : بلى ، عن معرفة صحيحة. فما أشرف الإنسان من حيث هو مجتمع الموجودات ومحل المضاهاة ومرآة المؤمن في الذات والصفات ، وما أوضعه حيث عمي عن معاينة ما أخفي له من قرة أعين ، يا أسفاه ما أشقاه ، إذا فاز بلذة سواه.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٦)

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإن عمله يصعد به إلى عليين (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فيكون له أجر غير ممنون ، وهو الأجر المكتسب ، ولا يكون الأجر إلا مكتسبا ، فإن أعطى ما هو خارج عن الكسب لا يقال فيه أجر ، بل هو نور وهبات ، إذا فهمت ذلك علمت أن الإنسان سر الوجود وروحه ومعناه ، وهو البداية والنهاية وهو المقصد الأقصى والعمد الذي لا يرى ، الممسوك لأجله السموات العلى أن تقع على الأرض ، وهو الختم الحافظ للدنيا ، وبفكه منها يكون ختما على الآخرة ، فقد جمعت صورته من العوالم مالا يحصى ، ومن الرقائق والدقائق والحقائق مالا يستقصى ، فبه دارت الأفلاك ، وله سجدت الأملاك ، فما أشرفه إن عرف نفسه ، هكذا ، فيعرف ربه الغفار ، فهو إذا في أحسن تقويم وله أجر غير ممنون ، وما أسخفه إن جهلها فيدعى الظالم الكفار ، في لسان الأغيار ، ويرد إلى أسفل سافلين ، فو الله ما سبق مقصر مجدا أبدا.

(فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (٨)

(٩٦) سورة العلق مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣)

٥٢٠