رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

الْإِنْسانُ) حدث اسم الإنسان باجتماع النفس والجسم ، وتعلق التكليف وظهرت الطاعات والمخالفات ، فالإنسان العاقل البالغ هو المكلف لا غير ، ومن زالت عنه هذه الشروط من هذا النوع ، فليس بمكلّف ولا مذموم على ترك فعل أو فعل منهي عنه ، ولما أنس الإنسان برتبة الكمال فوقع بما رآه الأنس له سماه إنسانا ، فالألف والنون فيه زائدتان في اللسان العربي ، ولما كان الإنسان مخلوقا على الصورة الإلهية سمي باسم ينصرف ، ليعلم في صورته الإلهية أنه مقهور ممنوع عبد ذليل مفتقر ، إذ كانت الصورة الإلهية تعطيه التصرف في جميع المراتب ، ولهذا سمي بإنسان فرفع وخفض ونصب ، فهو إنسان من حيث الصورة ، ومنها يتصرف في المراتب كلها ، ومنع الصرف من حيث هو في قبضة موجده ، ملك يبقيه ما شاء ويعدمه إن شاء ، فبالصورة تنال الخلافة والتصريف واسم الإنسانية ، فمن إنسانيته ثبت أنه غير يؤنس به ، ومن الخلافة ثبت أنه عبد فقير ماله قوة من استخلفه ، بل الخلافة خلعت عليه ، يزيلها متى شاء ، ويجعلها على غيره ، فقال تعالى معلما ومنبها ينبه الإنسان (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) وما يعني بالإنسان هنا إلا المسيء صاحب الكبيرة ، فنبه الله المسيء أن يقول : بكرم الحق ، لكونه يحكم بالكرم في حقه ، فنبهه بهذه الآية ليقول : كرمك ؛ فإنه لا يقاوم كبير كرمه إلا بأكبر الكبائر ، وهناك يظهر عموم الكرم الإلهي ، فلا يعرف الكريم إلا المسيء ، ولا أكرم من الله ، فيقول تعالى لهذا الإنسان (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) فهذه الآية من باب تعليم الخصم الحجة خصمه ، ليحاجه بذلك إن كان محبوبا ، ليقول : كرمك ، وتنبيه من الله لعبده ، كما يفعله الحاكم المؤمن العالم ، إذ يقول للسارق والزاني : قل لا زنيت أو قل لا سرقت أو قل لا ، لعلمه أنه إذا اعترف أقام عليه الحد ، فربما يكون الزاني يدهش بين يدي الحاكم فينبهه ، فيقول بهذه المقالة : لا ، فيدرأ عنه الحد بذلك ، وجاء بلفظة الإنسان بالألف واللام والإغرار ليعم جميع الناس ، فلقد فزت بحظ عظيم (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) والكريم هو الذي يترك ما له ويؤدي ما أوجبه على نفسه من الحقوق ، كرما منه قبل أن يسألها ، ثم إنه يمنع وقتا ويطالب وقتا ، لتظهر بذلك منزلة الشافع عنده في مثل هذا ، وكرمه بالسائل فيما سأله فيه بإجابته ، فقوله تعالى هذا ذكّر العبد بالحجة ، وأبان له عن المحجة ، ليقول : كرمك غرني ، والكريم لا يضرني وهو الغيور على اسمه ، والمبقي في قلب عبده رسمه لسابق علمه ، فمن رحمة الله تعالى تلقين عبده حجته ، فلو قال : الشديد

٤٦١

العقاب ، ذهل وتحير ، وهذا مما يدل على أن إرادة الحق بالناس السعادة في المآل ، ولو نالهم ما نالهم مما يناقضها ، فإن الحق لم يخص شخصا من شخص ، بل الظاهر أنه يريد من خالف أمره وعصاه مطلقا لا من أطاعه ، فنبه الغافل عن صفة الحق التي هي كرمه ، فإنه من كرمه أوجده ، ليقول له العبد : يا رب كرمك غرني ؛ فقد يقولها لبعض الناس هنا في خاطره وفي تدبره عند التلاوة ، فيكون سبب توبته ، وقد يقولها في حشره ، وقد يقولها له وهو في جهنم ، فتكون سببا في نعيمه حيث كان ، فإنه ما يقولها له إلا في الوقت الذي قد شاء أن يعامله بصفة الكرم والجود ، فإن رحمته سبقت غضبه.

(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (٧)

(الَّذِي خَلَقَكَ) وهو ما ذكره في التفصيل من التقلب في الأطوار (فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) وهي هذه النشأة الظاهرة ، والتسوية هي الاعتدال في الشيء ، فقال تعالى (فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) يمتن بذلك على الإنسان ، فسواه بخلقه بيديه ، وعدله وهو التهيؤ والاستعداد للتركيب والحمل ، ولم يذكر في غير نشأة الإنسان قط تسوية ولا تعديلا ، وإن كان قد جاء (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) فقد يعني خلق الإنسان ، لأن التسوية والتعديل لا يكونان معا إلا للإنسان ، ولم يكن ذلك لغيره من المخلوقين من العناصر ، ثم قال له بعد ذلك.

(فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) (٨)

قد يعني قوله تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أو سواه وعدله على مزاج يقبل كل صورة إذا شاء الحق ، وجعل التركيب لله لا له ، فهذه النشأة المسواة المعدلة قابلة لجميع الصور ، في أي صورة من صور الأكوان ما شاء ركبك ، ـ ومن باب الإشارة ـ في أي صورة من صور التجلي ، ما شاء ركبك في المعارف ، فأعلمنا أن هذه النشأة تعطي القبول لأي صورة كانت ، وهذا يعرفه ذوقا من اختصه الله من عباده بالتشكل في حضرة الغيب والشهادة والخيال ، فإذا فتح له فيه ظهر في عالم الشهادة في أي صورة من صور عالم الشهادة ، وظهر في عالم الغيب والملكوت في أي صورة من صوره شاء ، فلو لا قبولك عند

٤٦٢

تسويتك وتعديلك لكل صورة ما ثبت قوله (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) ووجه آخر ـ (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) إذا سوى الله الصور الجسمية ، إن شاء ركبك في صورة الكمال فيجعلك خليفة عنه في العالم ، أو في صورة الحيوان فتكون من جملة الحيوان بفصلك المقوم لذاتك ، الذي لا يكون إلا لمن ينطلق عليه اسم الإنسان ، فالصورة الجسمية في أي صورة ما شاء من الصور الروحية ركبها ، إن شاء في صورة خنزير ، أو كلب ، أو إنسان ، أو فرس ، على ما قدّره العزيز العليم ، فثمّ شخص الغالب عليه البلادة والبهيمية ، فروحه روح حمار وبه يدعى إذا ظهر حكم ذلك الروح ، فيقال : فلان حمار ، وكذلك كل صفة تدعى إلى كتابها ، فيقال : فلان كلب ، وفلان أسد ، وفلان إنسان ، وهو أكمل الصفات ، وأكمل الأرواح ، فقوله تعالى (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) وتمت النشأة الظاهرة للبصر (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) من صور الأرواح فتنسب إليها كما ذكرنا ، وقرن التركيب بالمشيئة ، فالظاهر أنه لو اقتضى المزاج روحا معينا خاصا ما قال (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ) وأي حرف نكرة ، مثل حرف ما ، فإنه حرف يقع على كل شيء ، فأبان لك أن المزاج لا يطلب صورة بعينها ، ولكن بعد حصولها تحتاج إلى هذا المزاج وترجع به ، فإنه بما فيه من القوى التي لا تدبره إلا بها ، فإنه بقواه لها كالآلات لصانع النجارة أو البناء مثلا إذا هيئت وأتقنت وفرغ منها ، تطلب بذاتها وحالها صانعا يعمل بها ما صنعت له ، وما تعيّن ، زيدا ، لا عمروا ولا خالدا ولا واحدا بعينه ، فإذا جاء من جاء من أهل الصنعة مكّنته الآلة من نفسها تمكينا ذاتيا ، لا تتصف بالاختيار فيه ، فجعل يعمل بها صنعته بصرف كلّ آلة لما هيئت له ، فمنها مكمّلة وهي المخلّقة يعني التامة الخلقة ، ومنها غير مكمّلة وهي غير المخلّقة ، فينقص العامل من العمل على قدر ما نقص من جودة الآلة ، وذلك ليعلم أنّ الكمال الذاتي لله سبحانه ، فأجمل خلق النفس الناطقة الذي هو بها إنسان في هذه الآية ، وبيّن لك الحق مرتبة جسدك بقوله (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) ، وروحك بقوله (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) ، لتنظر وتتفكر فتعتبر أن الله ما خلقك سدى ، وإن طال المدى.

(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) (١٠)

ليس هؤلاء من حفظة الوجود ، وإنما هؤلاء هم المراقبون أفعال العباد.

٤٦٣

(كِرَامًا كَاتِبِينَ) (١١)

ورد في الحديث أن الملائكة ـ وهم المذكورون في هذه الآية ـ تقول : ذاك عبدك فلان يريد أن يعمل سيئة ، وهو أبصر به ، فيقول الحق لهم : ارقبوه ، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة ، إنما تركها من جرائي ، أي من أجلي ، فأعطتهم المرتبة والتولية أن يتكلموا بما تكلموا به ، فلهم كتابة الحسن من غير تعريف ، بما تقدم الله إليهم به في ذلك ، ويتكلمون في السيئة لما يعلمونه من فضل الله وتجاوزه ، ولو لا ما تكلموا في ذلك ما عرفنا ما هو الأمر فيه عند الله ، فكلامهم عليهم‌السلام تعليم ورحمة ، وإن كان ظاهره ما يسبق إلى الأفهام القاصرة ، فكن نعم الجليس للملك القرين الموكل بك ، وأصغ إليه واحذر من الجليس الثاني الذي هو الشيطان ، ولا تنصر الشيطان على الملك بقبولك منه ما يأمرك به ، واخذله ، واستعن بقبولك من الملك ، وأكرم جلساءك من الملائكة الكرام الكاتبين الحافظين عليك ، فلا تمل عليهم إلا خيرا ، فإنك لابد لك أن تقرأ ما أمليته عليهم ، فإن من علم أن عليه حافظا يكتب ما يعلمه من أفعاله ، حفظ ما يملي عليه ، قال تعالى :

(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (١٢)

الحفظة تعلم ما يفعل العبد ، ولكنها ما تكتب له عملا حتى يتلفظ به ، فإذا تلفظ كتبت ، فهم شهود إقرار ، وسبب ذلك عدم اطلاعهم على ما نواه العبد في ذلك الفعل ، ولهذا ملائكة العروج بالأعمال تصعد بعمل العبد وهي تستقله فيقبل منها ويكتب في عليين ، وتصعد بالعمل وهي تستكثره فيقال لها : اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ، فإنه ما أراد به وجهي (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ) فلو علمت الحفظة ما في نية العبد عند العمل ما ورد مثل هذا الخبر ، فالنية في الأعمال لا تكون من العبد إلا من الوجه الخاص ، ولهذا لا يعلمه من العامل إلا الله والعامل الذي نوى فيه ما نوى.

(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) (١٣) بما غمرهم به من إحسانه.

٤٦٤

(وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (١٦) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩)

(٨٣) سورة المطفّفين مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

للقراء في مثل هذه السورة مذهب مستحسن فيمن يثبت البسملة من القراء ، وفيمن يتركها كقراءة حمزة ، وفيمن يخيّر فيها كقراءة ورش ، والبسملة إثباتها عنده أرجح ، فأثبتناها عند قراءتنا بحرف حمزة لما فيه من قبح الوصل بالقراءة ، وهو أن يقول (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (وَيْلٌ) فبسملوا هنا ، وأما مذهبنا فيه فهو أن يقف على آخر السورة ، ويقف على آخر البسملة ، ويبتدىء بالسورة من غير وصل.

(وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (٦)

سمي يوم القيامة بالقيامة لقيام الناس فيه من قبورهم لرب العالمين في النشأة الآخرة ، ولقيامهم أيضا إذا جاء الحق للفصل والقضاء والملك صفا صفا ، قال الله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) من قبورهم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي من أجل رب العالمين ، حين يأتي بالاسم الرب ، إذ كان الرب المالك ، فله صفة القهر وله صفة الرحمة ، ولم يأت بالاسم الرحمن لأنه لابد

٤٦٥

من الغضب في ذلك اليوم ، غير أنه سبحانه أتى باسم إلهي تكون الرحمة فيه أغلب ، وهو الاسم الرب ، فإنه من الإصلاح والتربية ، فتقوى ما في المالك والسيد من فضل الرحمة على ما فيه من صفة القهر ، فتسبق رحمته غضبه ويكثر التجاوز عن سيئات أكثر الناس ، ـ إشارة ـ قيام الناس يوم عرفه يذكرهم قيامهم يوم القيامة لرب العالمين.

(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (٧)

كتاب أعمال الفجار لا تفتح له أبواب السماء ، ومحل وصولها فلك الأثير ، فتودع في سجين ، وفيه أصول السدرة التي هي شجرة الزقوم.

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ) (٨)

سجين من السجن ، فهناك تنتهي أعمال الفجار في أسفل سافلين.

(كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) (٩)

الأعين لا تكون ناظرة إلا إلى موضع كتابها ، فمن كان كتابه في عليين فنظره في عليين ، ومن كان كتابه في سجين فعينه مصروفة إلى سجين ، فالكتاب يقيده بالخاصية.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ) (١٠) ثم وصف تعالى أهل الجحيم فقال :

(الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) (١٢)

فوصفه بالإثم والاعتداء.

(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (١٧)

٤٦٦

الران هو صدأ وطخاء ، وليس إلا ما تجلى في مرآة القلب من صور ما لم يدعه الله إلى رؤيتها ، وجلاؤها من ذلك بالذكر والتلاوة ، فمن كان على قلبه ران فإن الله قد حال بينه وبين الفهم عن الله تعالى وإن تأوله ، ولهذا يتخذ آيات الله هزوا ودينه لهوا ولعبا ، لعدم فهمه عن الله ما خاطب به عباده.

(كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) (١٥)

قال تعالى ذلك في معرض الذم ، فأهل النار محجوبون عن ربهم ، والرب هو المربي والمصلح ، فالحق لا يتجلى لأهل الشقاء في اسم الرب المضاف إليهم ، لا في إطلاق الاسم ، فهم في الحجاب في زمان مختص من اسم مضاف خاص بهم ، فلا يمنع تجليه في هذا الاسم الخاص لهم في غير ذلك الزمان ، وفي اسم الرب المطلق وفي غيره من الأسماء ، فقال تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ) فأضافه إليهم ، وهي النسبة التي يرجونها منه لم يجدوها ، لأنهم طلبوها من غير جهة ما تكون فيه ، فكانوا كمن يقصد الشرق بنيته وهو يمشي إلى المغرب بجسمه ، ويتخيل أن حركته إلى جهة قصده ، وهو قوله تعالى (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (يَوْمَئِذٍ) فجعله زمانا معينا (لَمَحْجُوبُونَ). ـ الوجه الأول ـ ليعرفوا ذوقا عذاب الحجاب فيزيد في عذابهم ، فإنهم لما استيقظوا من نوم غفلتهم ووصلوا إلى منزل وحطوا عن رحالهم ، طلبوا ما قصدوه ، فقيل لهم : من أول قدم فارقتموه ، فما ازددتم منه إلا بعدا ؛ فيقولون : يا ليتنا نرد ؛ ولا سبيل إلى ذلك ، فلهذا وصفوا بالحجاب عن ربهم الذي قصدوه بالتوجه على غير الطريق الذي شرع لهم ، وذلك قبل انقضاء أجل العذاب وعموم الرحمة الشاملة ، وأما بعد عموم الرحمة فلهم رؤية على قدر ما اتصفوا به في الدنيا من مكارم الأخلاق ـ الوجه الثاني ـ لما كانت الرؤية لأهل الجنان ، جعل الحجاب في مقابلته لأهل النار ، وحجابهم مدة عذابهم حتى لا تزيدهم الرؤية عذابا ، فإذا انقضت المدة بقي الحجاب دونهم مسدلا لينعموا ، فإنه لو تجلى لهم هنالك مع ما تقدم لهم من الإساءة واستحقاق العقوبة ، أورثهم ذلك التجلي الإحساني حياء من الله مما جرى منهم ، والحياء عذاب وقد انقضت مدته ، وهم لا يعلمون لذة الشهود والرؤية ، فلهم نعيم بالحجاب ، والغرض النعيم وقد حصل ولكن بمن؟ فأين النعيم برؤية الله من النعيم بالحجاب؟ فهم عن ربهم يومئذ محجوبون ـ الوجه

٤٦٧

الثالث ـ في قوله تعالى (لَمَحْجُوبُونَ) عن علمهم بما يرونه ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول [إن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت] فإذا ماتوا رأوا الحق غير أنهم محجوبون عن العلم به أنه هو ، مثل إذا كان في نفسك لقاء شخص لست تعرفه بعينه وأنت طالب له من اسمه وحاجتك إليه ، فلقيته وسلمت عليه من جملة من لقيت ، ولم يتعرف إليك ، فقد رأيته وما رأيته ، فلا تزال طالبا له وهو بحيث تراه ، فلا معول إلا على العلم ، فما هو محجوب ، هو مرئي للجميع لكنه لا يعلم ، فلأهل الجنة الرؤية متى شاؤوا ، ولأهل النار في أحيان مخصوصة الرؤية ، فإن الله ما أرسل الحجاب عليهم مطلقا ، وإنما قال (يَوْمَئِذٍ) في قوله (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) لما تعود عليهم وأغلظ في حال الغضب ، والربوبية لها الشفقة ، فإن المربى ضعيف يتعين اللطف به ، فلذلك كان في حال الغضب عن ربه محجوبا ، فأورثه ذلك الحجاب أن جعله يصلى الجحيم ، لأنه قال بعد قوله (لَمَحْجُوبُونَ) الآية. ـ تحقيق ـ (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) مع قوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) فالكافر والمؤمن كلهم يرجعون إلى الله ، غير أنه ما كل من يرجع إليه يلقاه ، لذلك قال تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ).

(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ) (١٦)

فأتى بقوله (ثُمَّ) فما صلى الجحيم إلا بعد وقوع الحجاب ، ولذلك قيده بيومئذ ، فيدخلون من باب الجحيم أحد أبواب النار السبعة.

(ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (١٨)

في سدرة المنتهى حيث ترفع أعمال الأبرار ، ويدخل فيهم العصاة أهل الكبائر والصغائر.

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢١)

إن المقرب من كانت سجيته

سجية البر والأبرار تجهله

٤٦٨

(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) (٢٢) بما غمرهم به من إحسانه.

(عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢٤)

أي أن الله خلقهم على هذه الصفة ، فأنشأهم نشأة نعماء.

(يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (٢٦)

أصحاب الهمم يتنافسون في السباق إلى أسماء الكرم والجود الإلهي ليقاموا بها فيدعون بها ، ولا يكون التنافس إلا في النفائس ، ولا نفائس إلا الأنفس ، ولا أنفس من الأنفس إلا الأنفاس ، فمن تقاعس عن التنافس فيما ينبغي أن يتنافس فيه ، فهو كسلان مهين لا همة له.

(وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ) (٢٧)

فهو منزل لذة ونعيم ، يسقى فيه من عين مزاجها من تسنيم ، فهو نهر أعلى ، ينزل من العلى إلى عين أدنى ، فله علو المرتبة.

(عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨)

وهم الأكابر من عباد الله الذين هم في زمانهم بمنزلة الأنبياء في زمان النبوة ، وهي النبوة العامة ، فهو مقام عند الله يناله البشر ، وهو مختص بالأكابر من البشر ، يعطى للنبي المشرع ويعطى للتابع لهذا النبي المشرع ، الجاري على سنته.

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ

٤٦٩

يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (٣١) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ (٣٢) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ) (٣٣) الصورة بالصورة.

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) (٣٤)

(عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦)

فعمّ بالألف واللام ، ورد الفعل عليهم ، وهو قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) فانتقلت صفات هؤلاء إلى هؤلاء ، وهؤلاء إلى هؤلاء ، انتقل ذل الأولياء وتعبهم ونصبهم ومكابدتهم وكدهم في الدنيا في طاعة ربهم إلى الأشقياء من الجبابرة في النار ، وانتقل سرور الجبابرة وراحة أهل الثروة في الدنيا إلى أهل السعادة أهل الجنة في الآخرة.

(٨٤) سورة الانشقاق مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) (٣)

أي زيد في سعتها ما شاء ، فإن الجبال ما كانت أرضا ثم صارت أرضا ، ففي يوم القيامة تصير الجبال دكا دكا لتجلي الحق ، فما كان منها في العلو في الجو إذا انبسط زاد في بسط الأرض ، ولهذا جاء في الخبر [إن الله يمد الأرض يوم القيامة مد الأديم] فشبه مدها بمد الأديم ، وإذا مد الإنسان الأديم فإنه يطول من غير أن يزيد فيه شيء لم يكن في عينه ، وإنما كان فيه تقبض ونتوء ، فلما مد انبسط عن قبضه ، وفرش ذلك النتوء الذي كان فيه ، فزاد في سعة الأرض ، ورفع المنخفض منها حتى بسطه ، فزاد فيها ما كان من طول سطحها إلى

٤٧٠

القاع منها ، كما يكون في الجلد سواء ، فلا ترى في الأرض عوجا ولا أمتا ، فيأخذ البصر جميع من في الموقف بلا حجاب من ارتفاع وانخفاض ، ليرى الخلق بعضهم بعضا ، فيشهدوا حكم الله بالفصل والقضاء في عباده.

(وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (٥) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) (٧)

وهم أهل السعادة.

(فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) (٨)

القيامة الكبرى هي قيامة البعث والحشر الأعظم الذي يجمع الناس فيه ، والإنسان في القيامة الكبرى ما بين مسؤول ومحاسب ، ومناقش في حسابه وغير مناقش ، وهو الحساب اليسير ، وهو عرض الأعمال على العبد من غير مناقشة ، والمناقشة السؤال عن العلل في الأعمال ، فالسؤال عام في الجميع حتى في الرسل ، سألت عائشة أم المؤمنين عن قوله تعالى (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ذلك العرض يا عائشة من نوقش الحساب عذب].

(وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ) (١٠)

يوم القيامة تتطاير الكتب فتتميز المراتب ، فمن الناس من يأخذ كتابه بيمينه لقوة يقينه ، ومنهم الآخذ بشماله لإهماله ، ومنهم من يأخذه من وراء ظهره لجهله بأمره ، لأنهم حين أتاهم به الرسول نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا في الدنيا ، فبئس ما يشترون في الأخرى (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ). ـ الوجه الأول ـ وليس أولئك إلا الأئمة الضلال المضلون ، الذين ضلوا وأضلوا ، باعوا العالي بالدون ، وابتاعوا الحقير بالعظيم ، فهم المغبونون ، فإذا كان يوم القيامة قيل له : خذ كتابك من وراء ظهرك ؛ أي الموضع

٤٧١

الذي نبذته فيه في حياتك الدنيا ، فهو كتابهم المنزل عليهم لا كتاب الأعمال ، فإنه حين نبذه وراء ظهره ظن أنه لن يحور أي تيقن ـ الوجه الثاني ـ هم المنافقون ، يعطى المنافق كتابه بشماله من وراء ظهره يضرب به في صدره فينفذ إلى ظهره.

(فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (١١) وَيَصْلَى سَعِيرًا (١٢) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ) (١٤)

ظن أي تيقن ، قال الشاعر : فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ؛ أي تيقنوا ، ورد في الصحيح يقول الله له يوم القيامة [أظننت أنك ملاقي] (يَحُورَ) حار يحور وهو الرجوع.

(بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (١٥) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ) (١٩)

فما ثمّ إلا تغير أحوال ، في أفعال وأقوال.

(فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢١) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ) (٢١)

(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ) الذي هو جامع صفات الله من التنزيه والتقديس (لا يَسْجُدُونَ) فهذه سجدة الجمع ، لأنه سجود عند القرآن ، فيسجد لمن له جميع صفات التنزيه ، وفي السجدة هنا خلاف ، وسجدها أبو هريرة خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (٢٤)

كل خبر يؤثر وروده في بشرة الإنسان الظاهرة فهو خبر بشرى ، فالبشرى لا تختص بالسعداء في الظاهر وإن كانت مختصة بالخير ، والكلام على هذه البشرى لغة وعرفا ، فأما البشرى من طريق العرف فالمفهوم منها الخير ولابد ، ولما كان هذا الشقي ينتظر البشرى

٤٧٢

في زعمه ، لكونه يتخيل أنه على الحق قيل : بشره ؛ لانتظاره البشرى ، ولكن كانت البشرى له بعذاب أليم ، وأما من طريق اللغة فهو أن يقال له ما يؤثر في بشرته ، فإنه إذا قيل له خير أثر في بشرته بسط وجه وضحكا وفرحا واهتزازا وطربا ، وإذا قيل له شر أثر في بشرته قبضا وبكاء وحزنا وكمدا واغبرارا وتعبيسا ، فلهذا كانت البشرى تنطلق على الخير والشر لغة ، وأما في العرف فلا ، ومن عينته الرسل بالبشرى أنه شقي فقد تميز بالشقاء.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٢٥)

(٨٥) سورة البروج مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ) (١)

خلق الله في جوف الكرسي جسما شفافا مستديرا قسمه اثني عشر قسما ، سمى الأقسام بروجا ، وهي التي أقسم بها لنا في كتابه فقال (وَالسَّماءِ) لعلوها علينا ، وهي الفلك الأدنى ، خلقه الله وقسمّه اثني عشر قسما سماها البروج ، فجعل كل قسم برجا (ذاتِ الْبُرُوجِ) وتسمى هذه السماء الفلك الأطلس ، قسمّه الحق على اثنى عشر مقدارا ، فعمت المقادير ، وإنما كانت الفروض المقدرة في الفلك الأطلس اثني عشر فرضا لأن منتهى أسماء العدد إلى اثنى عشر اسما ، وهو من الواحد إلى العشرة ، إلى المائة وهو الحادي عشر ، إلى الألف وهو الثاني عشر ، وليس وراءه مرتبة أخرى ، ويكون التركيب فيها بالتضعيف إلى ما لا نهاية له بهذه الأسماء الخاصة ، وجعل سبحانه البروج محلات لسكنى اثنى عشر ملكا ، أنزلهم الله فيها فهي بروج لأرواح ملكية على طبائع مختلفة ، سمى كل برج باسم ذلك الملك الذي جعل ذلك المقدار برجا له يسكنه ، كالأبراج الدائرة بسور البلد ، وكمراتب الولاة في الملك ، وهي البروج المعلومة عند أهل التعاليم ، وجعل الله لكل وال ساكن في هذا البرج أحكاما معلومة عن دورات مخصوصة ، وأسماء هذه الملائكة التي تسمت بها البروج هي :

٤٧٣

الميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت والحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة ، وجعل الله لهؤلاء الملائكة مراتب في الفلك المحيط ، وجعل بيد كل ملك ما شاء أن يجعله مما يبرزه فيمن هو دونهم إلى الأرض حكمة ، ورفع الله الحجاب الذي بين هؤلاء الملائكة وبين اللوح المحفوظ ، فرأوا ما فيه مسطرا أسماءهم ومراتبهم وما شاء الحق أن يجريه على أيديهم في عالم الخلق إلى يوم القيامة ، وجعل الله لكل واحد من هؤلاء الملائكة حاجبين ينفذان أوامرهم ، فمجموعهم أربع وعشرون ملكا ، وجعل بين كل حاجبين سفيرا يمشي بينهما بما يلقي إليه كل واحد منهما ، وعيّن الله لهؤلاء الذين جعلهم الله حجّابا لهؤلاء الولاة في الفلك الثاني منازل يسكنونها ، وأنزلهم إليها وهي الثمانية والعشرون منزلة التي تسمى المنازل التي ذكرها الله في كتابه ، فقال (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) يعني في سيره ، وقد أوحى الله في سماء البروج أمرها ، فلكل برج فيها أمر يتميز به عن غيره من البروج ، وجعل لهذه البروج أثرا من أمر الله الموحى به فيها فيما دون هذه السماء ، من عالم التركيب والإنسان من حيث جسمه وطبيعته ، وذلك بأن جعل الله البروج ترجع إلى أربعة من الطبيعة ، ثم كرر كل واحد من الأربعة في ثلاثة مواضع منه ، وجعل هذه الأقسام كالمنازل والمناهل التي ينزل فيها المسافرون ويسير فيها السائرون في حال سيرهم وسفرهم ، لينزل في هذه الأقسام عند سير الكواكب فيها وسباحتهم ما يحدث الله في جوف هذا الفلك من الكواكب التي تقطع بسيرها في هذه البروج ، ليحدث الله عند قطعها وسيرها ما شاء أن يحدث من العالم الطبيعي والعنصري ، وجعلها علامات على أثر حركة فلك البروج ، فقسم من هذه الأربعة طبيعته الحرارة واليبوسة ، والثاني البرودة واليبوسة ، والثالث الحرارة والرطوبة ، والرابع البرودة والرطوبة ، وجعل الخامس والتاسع مثل الأول ، وجعل السادس والعاشر مثل الثاني ، وجعل السابع والحادي عشر مثل الثالث ، وجعل الثامن والثاني عشر مثل الرابع ، أعني في الطبيعة ، ولما خلق الله هذا الفلك الأول دار دورة غير معلومة الانتهاء إلا لله تعالى ، لأنه ليس فوقه شيء محدود من الأجرام يقطع فيه ـ فإنه أول الأجرام الشفافة ـ فتتعدد الحركات وتتميز ، ولا كان قد خلق الله في جوفه شيئا فتتميز الحركات وتنتهي عند من يكون في جوفه ، ولو كان لم تتميز أيضا لأنه أطلس لا كوكب فيه ، متشابه الأجزاء ، فلا يعرف مقدار الحركة الواحدة منه ولا تتعين ، فلو كان فيه جزء مخالف لسائر الأجزاء عدّ به حركاته بلا شك ،

٤٧٤

ولكن علم الله قدرها وانتهاءها وكرورها ، فحدث عن تلك الحركة اليوم ، ولم يكن ثمّ ليل ولا نهار في هذا اليوم ، ثم استمرت حركات هذا الفلك ، فخلق الله ما شاء من الأملاك والأفلاك والدار الدنيا والدار الآخرة ، وخلق الجان من النار والطير والدواب البرية والبحرية والحشرات ، ولما استوت المملكة وتهيأت ما عرف أحد من هذه المخلوقات كلها من أي جنس يكون الخليفة الذي مهّد الله هذه المملكة لوجوده. واعلم أن هؤلاء الاثني عشر ملكا هم لأهل الجنة كالعناصر لأهل الدنيا ، جعل لكل نائب من هؤلاء الأملاك الاثني عشر في كل برج ملكه إياه ثلاثين خزانة ، تحتوي كل خزانة منها على علوم شتى ، يهبون منها لمن نزل بهم على قدر ما تعطيه رتبة هذا النازل ، وهذه الخزائن تسمى عند أهل التعاليم درجات الفلك ، والنازلون بها هم الجواري ، والمنازل وعيوقاتها من الثوابت ، والعلوم الحاصلة من هذه الخزائن الإلهية هي ما يظهر في عالم الأركان من التأثيرات ، بل ما يظهر من مقعر فلك الكواكب الثابتة إلى الأرض ، وسميت ثابتة لبطئها عن سرعة الجواري السبعة ، وجعل لهؤلاء الاثني عشر نظرا في الجنات وأهلها وما فيها مخلصا من غير حجاب ، فما يظهر في الجنان من حكم فهو عن تولي هؤلاء الاثني عشر بنفوسهم ، تشريفا لأهل الجنان ، وأما أهل الدنيا وأهل النار فما يباشرون ما لهم فيها من الحكم إلا بالنواب ، وهم النازلون عليهم ، فكل ما يظهر في الجنات من تكوين وأكل وشرب ونكاح وحركة وسكون وعلوم واستحالة ومأكول وشهوة ، فعلى أيدي هؤلاء النواب الاثني عشر من تلك الخزائن بإذن الله عزوجل الذي استخلفهم ، ولهذا كان بين ما يحصل عنهم بمباشرتهم وبين ما يحصل عنهم بغير مباشرتهم ـ بل بواسطة النازلين بهم الذين هم لهم في الدنيا والنار كالحجاب والنواب ـ بون عظيم وفرقان كبير ، فهؤلاء النواب الاثنا عشر هم الذين تولوا بناء الجنات كلها إلا جنة عدن ، فإن الله خلقها بيده ، وجعل بأيديهم غراس الجنات إلا شجرة طوبى ، فإن الحق تعالى غرسها بيده في جنة عدن ، وأما البروج فهي الفروض المؤقتة الاثنا عشر شهرا ، وبقطع الشمس الفروض تسمى الشهر ، وسمي قطع الفروض كلّها السنة الشمسية.

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) (٣)

الحق تعالى لا يصح أن يقسم بما ليس هو ، لأن المقسوم به هو الذي ينبغي له العظمة ،

٤٧٥

فما أقسم بشيء ليس هو ، فهو تعالى الشاهد من كل كون ، وهو المشهود في كل عين ، فهو الشاهد والمشهود ، لأنه عين الوجود (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ). ألا كل شيء ما خلا الله باطل.

(قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ) (٤)

صاحب الأخدود أعطي حروف الاسم الأعظم دون معناه ، فإنه تلقاه من الراهب كلمات وفي رواية من حديث ابن إسحق قال : كان أهل نجران أهل شرك ، يعبدون الأوثان ، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران ، فإن نجران هي القرية العظمى ، يأتي إليها ـ جماعة أهل تلك البلاد ـ ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر ، فلما نزلها ميمون ، قالوا : رجل ابتنى خيمة بين نجران وبين ملك القرية التي بها الساحر ، فبعث الثامر ابنه عبد الله بن ثامر ، مع غلمان أهل نجران ، فكان إذ مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته ، فجعل يجلس إليه ، ويسمع منه حتى أسلم ، فوحّد الله وعبده ، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام ، حتى إذا فقه فيهم ، جعل يسأله عن الاسم الأعظم ، وكان يعلمه ، فكتمه إياه ، وقال له : يا ابن أخي ، إنك إن تحمله أخشى ضعفك عنه ، والثامر أبو عبد الله يظن أن ابنه يختلف إلى الساحر كما تختلف الغلمان ، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضنّ به عليه ، وتخوف ضعفه عنه ، عمد إلى قداح فجمعها ، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه على قدح ، لكل اسم قدح ، حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا ، فجعل يقذفها فيها قدحا قدحا ، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه ، فوثب القدح حتى خرج منها لم يضره شيء ، فأخذه ثم أتى صاحبه ، فأخبره أنه قد علم الاسم الذي كتمه ، فقال : وما هو؟ قال : هو كذا وكذا ، قال : وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع ، قال : أي ابن أخي ، قد أصبته ، فأمسك على نفسك ، وما أظن أن تفعل ، فجعل عبد الله بن ثامر إذا دخل نجران لم يبق أحد به ضرر إلا قال له عبد الله : أتوحد الله ، وتدخل في ديني ، وأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول : نعم ، فيوحد الله ويسلم ، ويدعو له فيشفى ، حتى لم يبق بنجران أحد به ضرر إلّا أتاه ، فاتّبعه على أمره ودعا له فعوفي ، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران ، فدعاه فقال له : أفسدت عليّ أهل قريتي ، وخالفت ديني ودين

٤٧٦

آبائي ، لأمثلن بك. قال : لا تقدر على ذلك ، قال : فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل ، فيطرح على رأسه ، فيقع على الأرض ليس به بأس ، وجعل يبعث به إلى مياه نجران ، بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك ، فيلقى فيها ، فيخرج ليس به بأس ، فلما غلبه ، قال له عبد الله ابن الثامر : إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله ، فتؤمن بما آمنت به ، فإنك إن فعلت سلّطت عليّ فقتلتني. قال : فوحد الله ذلك الملك ، وشهد شهادة عبد الله بن الثامر ، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة ، فقتله ، وهلك الملك مكانه ، فاجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر ، وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام من الإنجيل وحكمه ، فسار إليهم ذو نواس ذرعة بن شنار بجنوده ، فدعاهم إلى اليهودية ، وخيرهم بين ذلك والقتل ، فاختاروا القتل ، فخذلهم ، فحرق بالنار وقتل بالسيف ، ومثّل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا ، وفيه نزل قوله تعالى (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) والأخدود الحفر الطويل في الأرض كالخندق ، والجمع أخاديد.

(النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (١٠)

العذاب عذاب نفوس روحاني وعذاب محسوس جسماني ، ولا يكون إلا لمن حاد عن الطريق المشروع في ظاهره وباطنه ، فإذا وفق للاستقامة وسبقت له العناية عصم من ذلك ، وتنعم بنار المجاهدة لجنة المشاهدة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) (١١)

٤٧٧

إن الإيمان لا يكون إلا بالخبر لا بالعيان ، فليس المؤمن إلا من يؤمن بالغيب وهو الخبر الذي جاء من عند ربه ، فإن الخبر بما هو خبر يقبل الصدق والكذب.

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (١٢)

ليس لله وعيد وبطش مطلق شديد ليس فيه شيء من الرحمة واللطف ، فبطش الله تعالى وإن كان شديدا فإنه للاتساع الإلهي في بطشه رحمة بالمبطوش به ، لأنه تعالى يبطش بمن خلق ، فالرحمة مندرجة في بطشه حيث كان ، وبطشه تعالى لسبق العلم ، يأخذ هذا المبطوش به للسبب الموجب لا غير ، والمنتقم لغيره ما هو كالمنتقم لنفسه.

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) (١٣)

فهو تعالى المبدىء ، ولا يزال حكم البدء في كل عين عين من أعيان الممكنات ، فلا يزال المبدىء دائما ، لأنه يحفظ الوجود علينا بما يوجده فينا لبقاء وجودنا مما لا يصح بقاء إلا به ، فهو تعالى في حق كل ما يوجده دائما مبدىء له ، والبدء والإعادة حكمان لله تعالى ، فإنه ما أعاد شيئا بعد ذهابه ، إلا أنه في إيجاده الأمثال عاد إلى الإيجاد ، فهو معيد لا أنه يعيد عين ما ذهب فإنه لا يكون ، لأنه أوسع من ذلك ، فهو المعيد للحال الذي كان يوصف به ، فما من موجود يوجده الحق إلا وقد فرغ من إيجاده ، ثم ينظر ذلك الموجود إلى الله تعالى قد عاد إلى إيجاد عين أخرى ، هكذا دائما أبدا ، فهو المبدىء المعيد ، المبدىء لكل شيء والمعيد لشأنه ، فهو يبدىء كل شيء خلقا ، ثم يعيده أي يرجع الحكم إليه بأن يخلق.

(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) (١٤)

الودود أي الثابت المحبة ، فلم يزل يحبنا فلم يزل ودودا ، وكيف لا يحب الصانع صنعته؟ ونحن مصنوعاته بلا شك ، فإنه خالقنا وخالق أرزاقنا ومصالحنا ، فهو يوجد دائما في حقنا ، فهو كل يوم في شأن ، ولا معنى للوداد إلا هذا ، فهو تعالى الثابت المحبة في غيبه ، فإنه عزوجل يرانا فيرى محبوبه فله الابتهاج به ، والعالم كله إنسان واحد هو المحبوب ، وأشخاص

٤٧٨

العالم أعضاء ذلك الإنسان ، وما وصف المحبوب بمحبة محبه ، وإنما جعله محبوبا لا غير ، وأتى مع الاسم الودود الغفور لأجل الستر ، فإن الأمر مستور بين الحق والخلق بالخلق والحق ، ومن هذه الحقيقة لو لا عابد الوثن ما اعتقد فيه الألوهة بوجه ما عبده ، إلا أنه بالستر المسدل في قوله تعالى (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) لم يعرفه ، وليس إلا الأسماء ، فعبد المخلوق هنا ما عبده ، وما عبد إلا الله.

(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) (١٥)

بخفض الدال على قراءة حمزة والكسائي ، وصف العرش بأنه مجيد لأنه تنزه أن يحيط به غير من الأجسام ، فكان له الشرف ، وهو العرش الذي استوى عليه بالاسم الرحمن ، فإنه ما رحم إلا صبابة المحب ، وهو رقة الشوق إلى لقاء المحبوب ، ولا يلقاه إلا بصفته ، وصفته الوجود ، فأعطاه الوجود ، ولو كان عنده أكمل من ذلك ما بخل به عليه ، ولو كان وادخره لكان بخلا ينافي الجود ، وعجزا يناقض القدرة.

(فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) (١٦)

فهو الودود المحب ، وهو فعال لما يريد فهو المحبوب ، لأن المحبوب فعال لما يريد بمحبه ، والمحب سامع مطيع مهيأ لما يريد به محبوبه ، لأنه المحب الودود أي الثابت على لوازم المحبة وشروطها ، فالودود هنا هو الفعال لما يريد ، فهو المحب المحبوب ـ تحقيق ـ ولما كانت إرادة الحق مجهولة التعلق لا يعرف مرادها إلا بتعريف إلهي ، فإذا أكده بالقسم والإيلاء كان أرفع للحرج في نفس المقسوم له ، لذلك نفّس الله عن المقسوم له ما كان يجده من الحرج والضيق الذي يعطيه في الموجودات قوله (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) بالأقسام الإلهية الواردة في القرآن والسنة ، فإنه تعالى لو رحم العالم كله لكان ، ولو عذب العالم كله لكان ، ولو رحم بعضه وعذب بعضه لكان ، ولو عذبه إلى أجل مسمى لكان ، فإن الواجب الوجود لا يمتنع عنه ما هو ممكن لنفسه ، ولا مكره له على ما ينفذه في خلقه ، بل هو الفعال لما يريد ، فهو المطلق في أفعاله وأنت المقيد ، وهو تعالى فعّال لما يريد ، وما يريد إلا ما هو عليه العلم ، والعلم تابع للمعلوم ، ولا يظهر في الوجود إلا ما هو المعلوم عليه ، فلله الحجة البالغة ، فما وقع

٤٧٩

ما وقع إلا بعلم الله ، وما علم الله إلا ما كان عليه المعلوم ، وهذا هو عين سر القدر لمن فهمه ، وكم منع الناس من كشفه لما يطرأ على النفوس الضعيفة الإيمان من ذلك ، فليس سر القدر الذي يخفى عن العالم عينه إلا اتباع العلم للمعلوم ، فلا شيء أبين منه ، ولا أقرب مع هذا البعد.

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨)

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ) (٢٠)

جعل الله الإحاطة هنا بالوراء للحفظ الإلهي ، وذلك لما جعل للإنسان عينين وجعلهما في وجهه الذي هو الأمام منه والجنبات ، وجعلهما لحفظ الإنسان من الأمام والجنبات ، ولم يكن للوراء سبب يقع به الحفظ لهذا المذكور ، فحفظه الله بذاته ولم يجعل له سببا يحفظه به سواه ، فالإنسان من أمامه محفوظ بنفسه ، ومن خلفه محفوظ بربه ، ولو لم يكن الحق من ورائهم محيط لأخذ الإنسان من ورائه ، فأمن مما يحذره ، واعتمد على حفظه بما شاهده من أمامه ، فحصل له الأمان من أمامه غيبا وشهادة ، وحصل له الأمان من ورائه إيمانا ، فالله من ورائنا محيط لأنه الوجود ، فلو لم يكن من ورائنا لكان انتهاؤنا إلى العدم ، ولو وقعنا في العدم ما ظهر لنا عين ، فمن المحال وقوعنا في العدم لأنّ الله وهو الوجود المحض من ورائنا محيط بنا ، إليه ننتهي فيحول وجوده وإحاطته بيننا وبين العدم ، فلا يزال العدم سابحا في فلك الوجود دائما إلى غير نهاية ، إذ لا نهاية هناك ، فليس وراء الله مرمى لرام ، ووراء العالم الله فهو المنتهى وما له انتهاء ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ) (٢١)

أضرب بأداة (بَلْ) (هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أي جمع شريف ، فالقرآن أحق بالتعظيم من السلطان ، لأنه الكلام المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

(فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ) (٢٢)

٤٨٠