رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

بمشاورة أصحابه فيما لم يوح إليه فيه ، فإذا شاورهم تعين عليهم أن ينصحوه فيما شاورهم فيه على قدر علمهم ، وما يقتضيه نظرهم في ذلك أنه مصلحة ، كنزوله يوم بدر على غير ماء ، فنصحوه وأمروه أن يكون الماء في حيّزه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففعل ، ونصحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قتل أسارى بدر حين أشار بذلك ، وكحديث تأبير النخل. وأما بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تبق له نصيحة ، ولكن إذا كانت هذه اللام لام الأجلية بقيت النصيحة ، وأما النصيحة لأئمة المسلمين وهم ولاة الأمور منا ، القائمون بمصالح عباد الله الدينية ، والحكام وأهل الفتاوى في الدين من العلماء يدخلون في أئمة المسلمين أيضا ، فإن كان الحاكم عالما كان ، وإن لم يكن من العلماء بالمسئلة سأل من يعلم عن الحكم فيها ، فيتعين على المفتي أن ينصح ويفتيه بما يراه أنه حق عنده ، ويذكر له دليله على ما أفتاه به ، فيخلصه عند الله ، فهذه النصيحة لأئمة المسلمين ، ولما لم تفرض العصمة لأئمة المسلمين ، وعلم أنهم قد يخطئون ويتبعون أهواءهم ، تعين على أهل الدين من العلماء بالدين أن ينصحوا أئمة المسلمين ، ويردوهم عن اتباع أهوائهم في الناس ، فيؤلفون بين ما هو الدين عليه وبينهم ، فيعود على الناس نفع ذلك ؛ وأما النصيحة لعامتهم فمعلومة ، وهي أن يشير عليهم بما لهم فيه المصلحة التي لا تضرهم في دينهم ولا دنياهم ، فإن كان ولا بد من ضرر يقوم من ذلك إما في الدين أو في الدنيا ، فيرجحوا في النصيحة ضرر الدنيا على ضرر الدين ، فيشيرون عليهم بما يسلم لهم فيه دينهم ؛ ومهما قدروا على دفع الضرر في الدين والدنيا معا بوجه من الوجوه وعرفوه تعين عليهم في الدين أن ينصحوه في ذلك ويبينوه ، والمستفتي بالخيار في ذلك ، بحسب ما يوفقه الله إليه ، فالنصيحة تعم إذ هي عين الدين ، وهي صفة الناصح ، فتسري منفعتها في جميع العالم كله من الناصح الذي يستبرىء لدينه ، ويطلب معالي الأمور ، فيرى حيوانا قد أضر به العطش ، وقد حاد ذلك الحيوان عن طريق الماء ، فيتعين عليه أن يرده إلى طريق الماء ويسقيه إن قدر على ذلك ، وكذلك لو رأى من ليس على ملة الإسلام يفعل فعلا من سفساف الأخلاق تعين على الناصح أن يرده عن ذلك مهما قدر إلى مكارم الأخلاق ، وإن لم يقدر عليه تعين عليه أن يبين له عيب ذلك ، فربما انتفع بتلك النصيحة الشخص ، بما له في ذلك من الثناء الحسن ، وينتفع بتلك النصيحة من اندفع عنه ضرر هذا الذي أراد أن يضره ، وإن لم يكن مسلما ، ويحتاج الناصح إلى علم كثير من علم الشريعة ،

٥٤١

لأنه العلم العام الذي يعم جميع أحوال الناس ، وعلم زمانه ومكانه ، وما ثمّ إلا الحال والزمان والمكان ، وبقي للناصح علم الترجيح إذا تقابلت هذه الأمور ، فيكون ما يصلح الزمان يفسد الحال أو المكان ؛ وكذلك كل واحد منها ، فينظر في الترجيح فيفعل بحسب ما يترجح عنده ، وذلك على قدر إيمانه ، فإن الناصح في دين الله يحتاج إلى علم كثير ، وعقل وفكر صحيح ، وروية حسنة ، واعتدال مزاج وتؤدة ، وإن لم تكن فيه هذه الخصال كان الخطأ أسرع إليه من الإصابة. وما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة ، وكل إنسان يقبل النصح من غيره لا من نفسه ، والمؤمن مرآة أخيه ، لأن النفس عمياء عن عيوبها ، بصيرة بعيوب غيرها ، ولذلك يحتاج المؤمن إلى الإخوان لتبيين آفات نفسه ، فلسان حال الأخ في عقد الأخوة ، كل واحد منا بصير في عيوب أخيه لعماه عن عيوب نفسه ، واستيلاء رمسه ، فأخوك من صدقك لا من صدّقك ، ومن جرحك لا من مدحك ، وإليه ننظر قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من أرضى الناس بسخط الله صار مادحه منهم ذاما ، ومن أرضى الله بسخط الناس أرضى الله عنه الناس ويهبه العين الصحيحة] يرى الطالب معاديه بالعرف العام وليا ، والمسيء إليه محسنا ، إذ هو إنما يعادي عدوه ، فهو وليه من حيث لا يدري ، قال الشاعر :

ذهب الرجال المقتدى بفعالهم

والمنكرون لكل أمر منكر

وبقيت في خلف يزكي بعضهم

بعضا ليدفع معور عن معور

فمادحك إنما يتولى عدوك ، فاحذره ولا تأنس إليه ، فتميل في كل أحوالك إليه ، واعلم أنه من التزم النصح قل أولياؤه ، فإن الغالب على الناس اتباع الأهواء ، ولذلك يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ما ترك الحق لعمر من صديق] وكذلك قال أويس القرني : إن الموت وذكره لم يتركا لمؤمن فرحا ، وإن علم المؤمن بحقوق الله لم يترك في ماله فضة ولا ذهبا ، وإن قيامه لله بالحق لم يترك له صديقا ولنا في ذلك :

لما لزمت النصح والتحقيقا

لم يتركا لي في الوجود صديقا

أما من استشهد بقول القائل :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

كما أن عين السخط تبدي المساويا

٥٤٢

فذلك مقام من أحبك لنفسه ، وأما من أحبك لك فلا سبيل ، ولما كان حب الله إيانا لنا لا لنفسه نبهنا على معايبنا ، وأظهر لنا نقائصنا ، ودلنا على مكارم الأخلاق ، ومحامد الأفعال ، وأوضح لنا مناهجها ، ورفع لنا معارجها ، ولما أحببناه لأنفسنا ولم يتمكن في الحقيقة أن نحبه له تعالى عن ذلك ، رضينا بما يصدر منه مما لا يوافق أغراضنا ، وتمجه نفوسنا ، وتكرهه طباعنا ، والسعيد هو الذي رضي بذلك منه تعالى ، ومن سواه يضجر ويسخط ، فنسأل الله تعالى العفو والعافية في ذلك لنا وللمسلمين :

قسما بسورة العصر

إن الإنسان في خسر

غير من أوصوا نفوسهمو

بينهم بالحق والصبر

فهمو القوم الذين نجوا

من عذاب الله في القبر

ثم في يوم النشور إذا

جمعوا للعرض في الحشر

(١٠٤) سورة الهمزة مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ) (٢)

الاستكثار من المال هو الداء العضال.

(يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) (٣) فوصف الحق أهل الحطمة الداخلون فيها.

(كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (٤)

فيدخل جهنم من باب الحطمة ، وهو أحد الأبواب السبعة التي لجهنم.

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ) (٥) فوصف الحق تعالى ما أعدت له فقال :

٥٤٣

(نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ) (٦)

النار ناران نار كلها لهب

ونار معنى على الأرواح تطلع

وهي التي مالها سفع ولا لهب

لكن لها ألم في القلب ينطبع

(الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (٧)

فالنار ناران : نار تظهر حكمها في ظاهر الإنسان ، مثل قوله تعالى : (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) ونار لها حكم في الباطن وهي قوله تعالى : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) والأفئدة باطن الإنسان ، فهي تظهر في فؤاد الإنسان ، والعبد منشىء النارين في الحالين ، فلو لا المكلف أنشأ صورة النارين بعمله الظاهر والباطن ما تعذب بنار :

فالنار منك وبالأعمال توقدها

كما بصالحها في الحال تطفيها

فأنت بالطبع منها هارب أبدا

وأنت في كل حال فيك تنشيها

فنار جهنم لها نضج الجلود ، وحرق الأجسام ، ونار الله نار ممثلة مجسدة ، لأنها نتائج أعمال باطنة ، ونار جهنم نتائج أعمال حسية ظاهرة ، ليجمع من هذه صفته بين العذابين ، ولذلك فإن أبواب جهنم سبعة بحسب أعضاء التكليف الظاهرة ، لأن باب القلب مطبوع عليه لا يفتح من حين طبع الله عليه ، عندما أقر له بالربوبية ، وعلى نفسه بالعبودية ، فللنار على الأفئدة اطلاع لا دخول ، لغلق ذلك الباب ، والمنافق معذب بالنار التي تطلع على الأفئدة إذ أتى في الدنيا بصورة ظاهر الحكم المشروع من التلفظ بالشهادة ، وإظهار تصديق الرسل والأعمال الظاهرة ، والمنافقون ما عندهم في بواطنهم من الإيمان مثقال ذرة ، فبهذا القدر تميزوا من الكفار ، والمؤمن ليس للنار اطلاع على محل إيمانه البتة ، فما له نصيب في النار التي تطلع على الأفئدة.

(إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ) (٨)

٥٤٤

أي مسلطة ، ولا يقبل التسليط إلا من يعقل ، وأنها محرقة بالطبع ، فإنه لو لم تحرق بالطبع ما قبلت الإرسال على الكفار ، وهكذا كل جماد ونبات وحيوان خوطب ، لابد أن يكون حيا عاقلا قابلا لما يخاطب به ، من شأنه أن يعقل ما قيل له افعل قبولا ذاتيا تابعا لوجود عينه.

(فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ) (٩)

(١٠٥) سورة الفيل مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (٣) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ) (٥)

انظر أيها العاقل إلى الفيل وحبسه ، وامتناعه من القدوم على خراب بيت الله ، وانظر إلى ما فعلت الطير بأصحاب الفيل ، وما رمتهم به من الحجارة التي لها خاصية في القتل دون غيرها من الأحجار ، أترى يصدر ذلك منها من غير وحي إلهي إليها بذلك!!! فكم من فيل كان في العالم ، وكمن من أصحاب غزاة كانوا في العالم لما ظهر مثل هذا الأمر في هؤلاء ، وما ظهر في غيرهم؟ وهل يوحي الله إلى من لا يعقل عنه؟ تعلم منها أنه ما من حيوان أو شيء من غير الحيوان عصى أمر الله ، أو لم يقبل وحي الله.

٥٤٥

(١٠٦) سورة قريش مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) (١)

التقرش التقبض والاجتماع ، ولما كانت هذه القبيلة جمعت قبائل سميت قريشا ، أي مجموع قبائل ، ولما كان الغالب على قريش التجارة فإنهم كانوا تجارا دون غيرهم من الأعراب ، خاطبهم الله تعالى بقوله (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) (إِيلافِهِمْ).

(إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (٤)

اعلم أن الإنسان إذا أكل الطعام حتى يشبع فذلك ليس بغذاء ، ولا بأكل على الحقيقة ، وإنما هو كالجابي الجامع للمال في خزانته ، والمعدة خزانة لما جمعه هذا الآكل من الأطعمة والأشربة ، فإذا جعل فيها أعني في خزانة معدته ما اختزنه فيها ورفع يده ، حينئذ تتولاه الطبيعة بالتدبير ، وينتقل ذلك الطعام من حال إلى حال ، ويغذيه بها في كل نفس يخرج عنه دائما ، فهو لا يزال في غذاء دائم ، ولو لا ذلك لبطلت الحكمة في ترتيب نشأة كل متغذ ، والله حكيم فإذا خلت الخزانة حرك الطبع الجابي إلى تحصيل ما يملؤها به ، فلا يزال الأمر هكذا دائما أبدا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [الجوع بئس الضجيع] وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعوذ من الجوع ، وهو الجوع الذي يؤثر خبلا.

٥٤٦

(١٠٧) سورة الماعون مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) (٥)

من شرف الصلاة أن الله علّق الوعيد بمن سها عنها لا فيها ، لأنه ربما يسترسل المصلي بالتدبر في التلاوة فيؤثر ذلك شكا له في صلاته ، فلا يدري ما مضى من صلاته ، فشرع أن يسجد سجدتي سهو يرغم بهما الشيطان ، ويجبر بهما النقصان ، ويشفع بها الرجحان فتتضاعف صلاته ، فيتضاعف الأجر ، وذلك في النفل والفرض سواء ، وما توعد الله بمكروه من سها في صلاته ، وأما حديث ما يقبل الله من صلاة عبده إلا ما عقل ، عشرها تسعها ، ثمنها سبعها ، سدسها خمسها ، ربعها ثلثها نصفها ، فجعل أكثره النصف وأقله العشر ، وما ذكر النصف إلا في الفاتحة ، يريد أداء حق الله تعالى ، والفاتحة تسعة أقسام : القسم الأول بسم الله الرحمن الرحيم ، والثاني الحمد لله رب العالمين ، الثالث الرحمن الرحيم ، الرابع ملك يوم الدين ، الخامس إياك نعبد ، السادس إياك نستعين ، السابع اهدنا الصراط المستقيم ، الثامن صراط الذين أنعمت عليهم ، التاسع غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فالخاسر الساهي عن صلاته من لم يحضر مع الله في قسم واحد من هذه الأقسام التي ذكرناها في الفاتحة ، وهي التي ذكر الله في القبول من العشر إلى النصف ، وما زاد على التسعة فعقله في التلاوة حروف الكلمة ، فقد يعقل المصلي حرفا من حروف الكلمة ثم يغفل عن الباقي ، فهذا معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العام إنه لا يقبل إلا ما عقل منها ، فالعاقل من أتى بها كاملة ليقبلها الله كاملة ، ومن انتقص شيئا من صلاته جبرت له في قراءة الفاتحة في نوافله من الصلاة ،

٥٤٧

فليكثر من النوافل ، فإن لم تف قراءتها في النوافل بما نقصه من قراءة الفاتحة في الفريضة ، أكملت له من تلاوته بحضور في غير الصلاة المعينة ، وأما بالنسبة للخاصة فإن العبد في صلاته بين مناج ومشاهد ، فقد يسهو عن مناجاته لاستغراقه في مشاهدته ، وقد يسهو عن مشاهدته لاستغراقه في مناجاته مما يناجيه به من كلامه ، ولما كان كلامه سبحانه مخبرا عما يجب له من صفات التنزيه والثناء ، ومخبرا عما يتعلق بالأكوان من أحكام وقصص وحكايات ووعد ووعيد ، جال الخاطر في الأكوان لدلالة الكلام عليها ، وهو مأمور بالتدبر في التلاوة ، فربما استرسل في ذلك الكون لمشاهدته إياه ، فيخرج من كون ذلك الكون مذكورا في القرآن إلى عينه خاصة ، لا من كونه مذكورا لله على الحد الذي أخبر به عنه ، فإذا أثر مثل هذا شكا له في صلاته فيسجد سجدتي السهو يرغم بهما الشيطان.

(الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ) (٦)

فهم في بواطنهم على خلاف ما يبدو للناس ، فعلم الله ذلك منهم ، ومن الأمراض الفعلية ترك العمل من أجل الناس ، وهو الرياء عند الجماعة ، وأما العمل من أجل الناس فذلك شرك ، ما هو رياء عند السادة من أهل الله ، ودواؤه (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) وما أشبه هذه الآية.

(وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (٧)

(١٠٨) سورة الكوثر مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣)

يقول الله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الذي ألحق بك الشين هو الأبتر ، فلم يعقب أي لا عقب له ، أي لا يترك عقبا ينتفع به بعد موته ، كما قال عليه‌السلام [أو ولد صالح يدعو له].

٥٤٨

(١٠٩) سورة الكافرون مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذه السورة تقوم مقام أول تعدل ربع القرآن إذا قسم أرباعا.

(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (٤) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (٦)

اعلم أن كل مشرك كافر ، فإن المشرك باتباع هواه فيمن أشرك واتخذه إلها ، وعدوله عن أحدية الإله ، يستر نفسه عن النظر في الأدلة والآيات المؤدية إلى التوحيد ، فسمي كافرا لذلك الستر ظاهرا وباطنا ، وسمي مشركا لكونه نسب الألوهية إلى غير الله ، فجعل لها نسبتين ، فأشرك ، وأما الكافر الذي ليس بمشرك فهو موحد غير أنه كافر بالرسول وببعض كتابه ، وكفره على وجهين : الوجه الواحد أن يكون كفره بما جاء من عند الله ، مثل كفر المشرك في توحيد الله ، والوجه الآخر : أن يكون عالما برسول الله ، وبما جاء من عند الله أنه من عند الله ، ويستر ذلك عن العامة والمقلدة من أتباعه ، رغبة في الرياسة ، فهذا هو الفرق بين المشرك والكافر.

(١١٠) سورة النصر مدنيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذه السورة تقوم مقام أو تعدل ثلث القرآن ، قال تعالى آمرا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند انقضاء رسالته وما شرع له أن يشرع من الثناء عليه ، فإنه لما أكمل الله سبحانه الدين نعى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه في هذه الآية التي أنزلها عليه ، وأمره بقوله :

٥٤٩

(إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) (٣)

هذا أمر ، أي اشغل نفسك بتنزيه ربك والثناء عليه بما هو أهله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك] هذا هو التسبيح بحمده ، فإذا قام فضول بالإنسان واستنبط له ثناء لم يجىء بذلك اللفظ خطاب إلهي فما سبحه بحمده ، بل بما استنبطه من عنده ، فينقص عن درجة ما ينبغي ، فقل ما قاله عن نفسه ولا تزد في الرقم وإن كان حسنا ، فإذا عملت به كنت من أهل الحق ، قال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فاقتطعه بهذا الأمر من العالم لمّا كمّل ما أريد منه من تبليغ الرسالة ، وقال له تعالى (وَاسْتَغْفِرْهُ) من أيام التبليغ ، فطلب بالاستغفار أن يستره عن خلقه في حجاب صونه ، لينفرد به دون خلقه دائما ، فإنه كان في زمان التبليغ والإرشاد وشغله بأداء الرسالة ، فإن له وقتا لا يسعه فيه غير ربه ، وسائر أوقاته فيما أمر به من النظر في أمور الخلق ، فرده إلى ذلك الوقت الواحد الذي كان يختلسه من أوقات شغله بالخلق ، وإن كان عن أمر الحق (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) أي يرجع الحق إليك الرجوع الخاص الذي يربو على مقام التبليغ ، وهو المحادثة برفع الوسائط ، رجوعا مستصحبا لا يكون للخلق عندك فيه دخول بوجه من الوجوه ، ولما تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه السورة ، بكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه وحده دون من كان في ذلك المجلس ، وعلم أن الله تعالى نعى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه ، وهو كان أعلم الناس به ، وأخذ الحاضرون يتعجبون من بكائه ولا يعرفون سبب ذلك :

إذا رأيت وفود الله قد وصلوا

يأتون دين الإله الحق أفواجا

فاستغفر الله واطلب عفوه كرما

وكن فقيرا إلى الرحمن محتاجا

معاشر الناس إن الله أنبتكم

من أرضه نطفا في النشىء أمشاجا

وثم أولجكم لما أماتكمو

فيها لأمر أراد الحق إيلاجا

وقد علمت بأن الله يخرجكم

بعد الممات من الأجداث إخراجا

من بعد إنزاله من أجل نشأتكم

ماء كمثل منيّ الناس ثجاجا

٥٥٠

وصير الناس أقساما منوعة

ثلاثة في كتاب الله أزواجا

لو أن ما عندنا من علم صانعنا

يكون في رهج الأسواق ما راجا

(١١١) سورة المسد مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منذرا عشيرته الأقربين من فوق الصفا ، وكان أبو لهب حاضرا ، فنفخ في يده وقال : ما حصل بأيدينا مما قاله شيء ؛ وصدق أبو لهب فإنه ما نفعه الله بإنذاره ولا أدخل قلبه منه شيئا ، لما أراد به من الشقاء ، فأنزل الله فيه.

(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (٢)

فإنه كان معتمدا على ماله ، فمن اعتمد على غير الله في أموره خسر :

التب من صفة اليدين لأنها

جادت على الكفار بالإنفاق

وكلاهما عين الهلاك ونفسه

فالهلك في الأملاك والأرفاق

(سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (٤)

(فِي جِيدِها) أي عنقها (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).

(١١٢) سورة الإخلاص مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذه السورة تقوم مقام أو تعدل ثلث القرآن إذا قسّم أثلاثا ، والحسيب ذو الحسب الكريم والنسب الشريف ، ولا نسب أتم وأكمل في الشرف من شرف الشيء بذاته لذاته ،

٥٥١

ولهذا لما قالت اليهود لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انسب لنا ربك ؛ ما نسب الحق نفسه فيما أوحى إليه به إلا لنفسه ، وتبرأ أن يكون له نسب من غيره ، فأنزل عليه سورة الإخلاص نسبا له ، فعدد ومجد ، فكانت له عواقب الثناء بما له من التحميد ، ولم يقم لليهود من أدلة النظر دليلا واحدا ، فقال :

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١)

قال تعالى في أول سورة الإخلاص لنبيه عليه‌السلام فابتدأ بالضمير ، ولم يجر له ذكر متقدم يعود عليه في نفس القرآن ، لأنه ما تمّ موجود يصح أن يضمر قبل الذكر إلا من يستحق الغيب المطلق ، الذي لا يمكن أن يشهد بحال من الأحوال ، فيكون ضمير الغيب له كالاسم الجامد العلم للمسمى ، يدل عليه بأول وهلة ، من غير أن يحتاج إلى ذكر متقدم مقرر في نفس السامع يعود عليه هذا الضمير ، فلا يصح أن يقال هو إلا في الله خاصة ، فإذا أطلق على غير الله فلا يطلق إلا بعد ذكر متقدم معروف بأي وجه كان مما يعرف به ، ويصح الإضمار قبل الذكر في ضرورة الشعر مثل قول الشاعر [جزى ربه عني عدي بن حاتم] وإن كانت اليهود قد قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انسب لنا ربك ؛ فربما يتوهم صاحب اللسان أن هذا الضمير يعود على الرب الذي ذكرته اليهود ، ولتعلم أن هذا الضمير لا يراد به الرب الذي ذكرته اليهود ، لأن الله يتعالى أن يدرك معرفة ذاته خلقه ، ولذلك قال (قُلْ هُوَ اللهُ) فاختار الحق الاسم الله لنفسه ، وأقامه في الكلمات مقامه ، فهو الاسم الذي ينعت ولا ينعت به ، فجميع الأسماء نعته ، وهو لا يكون نعتا ، ولهذا يتكلف فيه الاشتقاق ، فهو اسم جامد علم ، موضوع للذات في عالم الكلمات والحروف ، لم يتسم به غيره جل وعلا ، فعصمه من الاشتراك ، كما دل أن لا يكون ثمّ إله غيره ، وما ذكر في السورة كلها شيئا يدل على الخلق ، بل أودع تلك السورة التبري من الخلق ، فلم يجعل المعرفة به نتيجة عن الخلق ، فقال تعالى (وَلَمْ يُولَدْ) ولم يجعل الخلق في وجوده نتيجة عنه كما يزعم بعضهم بأي نسبة كانت فقال تعالى (لَمْ يَلِدْ) ونفى التشبيه بأحدية كل أحد بقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وأثبت له أحدية لا تكون لغيره ، وأثبت

٥٥٢

له الصمدانية ، وهي صفة تنزيه وتبرئة ، فارتفع أن يكون الضمير يعود على الرب المذكور المضاف إلى الخلق في قولهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انسب لنا ربك ؛ فأضافوه إليه لا إليهم ، ولما نسبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أنزل عليه لم يضفه لا إليه ولا إليهم بل ذكره بما يستحقه جلاله ، فإذا ليس الضمير في (هُوَ اللهُ) يعود على من ذكر ، فإذا عرفت ما ذكرناه عرفت أن الإضمار قبل الذكر لا يصح إلا على الله ، وبعد الذكر تقع فيه المشاركة ، قال تعالى (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فأعاد الضمير على الله المذكور في أول الآية ، وهنا قال تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ) فأثبت الوجود (أَحَدٌ) فنفى العدد وأثبت الأحدية لله سبحانه ، أي لا يشارك في هذه الصفة ، صفة الأحدية ، فالأحدية لا تثبت إلا لله مطلقا ، وأما ما سوى الله فلا أحدية له مطلقا ، قال تعالى (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) أما الواحد فإنا نظرنا في القرآن ، هل أطلقه الحق على غيره كما أطلق الأحدية؟ فلم أجده ، وما أنا منه على يقين ، فإن كان لم يطلقه فهو أخص من الأحدية ، ويكون اسما للذات علما ، لا يكون صفة كالأحدية ، فإن الصفة محل الاشتراك ، ولهذا أطلقت الأحدية على كل ما سوى الله في القرآن ، ولا يعتبر كلام الناس واصطلاحهم ، وإنما ينظر ما ورد في القرآن الذي هو كلام الله ، فإن وجد في كلام الله لفظ الواحد ، كان حكمه حكم الأحدية ، للاشتراك اللفظي فيه ، وإن كان لا يوجد في كلام الله لفظ الواحد يطلق على الغير ، فيلحقه بخصائص ما تستحقه الذات ، ويكون كالاسم الله الذي لم يتسم به أحد سواه ، واعلم أن مشيئة الله تعالى وإرادته وعلمه وقدرته ذاته ، تعالى الله أن يتكثر في ذاته ، بل له الوحدة المطلقة ، وهو الواحد الأحد ، إذ العين واحدة لا متحدة ، وفي العبد متحدة لا واحدة ، فالأحدية لله ، والاتحاد للعبد لا الأحدية ، فإنه لا يعقل العبد إلا بغيره لا بنفسه ، فلا رائحة له في الأحدية أبدا ، والحق قد تعقل له الأحدية ، وقد تعقل بالإضافة ، لأن الكل له ، بل هو عين الكل ، لا كلية جمع ، بل حقيقة أحدية تكون عنها الكثرة ، ولا يصح هذا إلا في جناب الحق خاصة ، فلا يصدر عن الواحد أبدا في قضية العقل إلا واحد ، إلا أحدية الحق فإن الكثرة تصدر عنها ، لأن أحديته خارجة عن حكم العقل وطوره ، فأحدية حكم العقل هي التي لا يصدر عنها إلا واحد ، وأحدية الحق لا تدخل تحت حكم ، كيف يدخل تحت الحكم من خلق الحكم والحاكم؟ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ، فليس للحق من الصفات النفسية سوى واحدة لأحديته ، وهي عين ذاته ، فليس له فصل مقوم يتميز به عما وقع

٥٥٣

له من الاشتراك فيه مع غيره ، بل له الأحدية الذاتية التي لا تعلل ولا تكون علة ، فهي الوجود ، فهو سبحانه من حيث نفسه له أحدية الأحد ، ومن حيث أسماؤه له أحدية الكثرة.

(اللَّهُ الصَّمَدُ) (٢)

ـ الوجه الأول ـ نفى الجسم ، ولما كان الصوم صفة الصمدانية ، وهو التنزه عن التغذي ، وحقيقة المخلوق التغذي ، قال تعالى في الحديث القدسي [كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به] ـ الوجه الثاني ـ لما كان الاضطرار يردك إلى الله ، لهذا تسمى تعالى لنا بالصمد ، لأن الكون يلجأ إليه في جميع الأمور ، وهي الصمدية المقيدة ، وهي من صفة الكرم. ـ الوجه الثالث ـ الصمدية المطلقة عن التقييد هي التي تستحق أن تكون صفة تنزيه ، إذ لا تعلق لها بكون ، فبها يتعلق المتوكلون في حال توكلهم ، والحق تعالى لا يسلم من توكل عليه وفوض أمره إليه ، فإن الأسباب قد تخون من اعتمد عليها ولجأ إليها في أوقات ، فإن الجاهل يصمد إلى الأسباب صمدا ، ومن الغيرة الإلهية ما قال لك على لسان رسوله في الشيء الذي تستتر به عند الصلاة في قبلتك ، أن تميل به نحو اليمين أو الشمال قليلا ولا تصمد إليه صمدا ، فهذا من الغيرة الإلهية أن يصمد إلى غيره صمدا ، وفيه إثبات للصمدية في الكون بوجه ما ، فذلك القدر الذي أشار إليه الشارع يكون حظ المؤمن من الصمدية ، فما لا يظهر إلا بك ، فأنت الصمد فيما لا يظهر إلا بك ، والجاهل يصمد إلى الأسباب صمدا ، ويجعل حكم الميل إلى اليمين أو الشمال لصمدية الحق عكس القضية ، وإنما شرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السترة الميل إلى اليمين أو الشمال ينبه على السبب القوي باليمين ، وعلى السبب الضعيف بالشمال الخارج ، فالخارج عن الله بالكلية هو صاحب اليمين ، والذي لاح له بارقة من الحق ضعف اعتماده على السبب فجعله من الجانب الأضعف ، إذ لابد من إثبات السبب ، ولا يصمد إلا إلى الله صمدا.

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) (٣)

٥٥٤

ـ الوجه الأول ـ فنفى الوالد والولد ـ الوجه الثاني ـ من قوله تعالى (لَمْ يَلِدْ) فيه تنزيه الذات ، فلا يصح أن يكون علة لمعلول ، ولا شرطا لمشروط ، ولا حقيقة لمحقق ، ولا دليلا لمدلول ، ولا سيما وقد قال سبحانه (لَمْ يَلِدْ) مطلقا وما قيد ، فلو كان حقيقة لولد محققا ، ولو كان دليلا لولد مدلولا ، ولو كان علة لولد معلولا ، ولو كان شرطا لولد مشروطا (وَلَمْ يُولَدْ) فهو تعالى منزه عن أن يكون وجوده معلولا لعلة تتقدمه في الرتبة ، أو مشروطا بشرط متقدم ، أو محققا لحقيقة حاكمة ، أو مدلولا لدليل يربطه به وجه الدليل ، فهو تعالى عن المناسبة ، فالمناسبة بين الخلق والحق غير معقولة ولا موجودة ، فلا يكون عنه شيء من حيث ذاته ، ولا يكون عن شيء من حيث ذاته ، وكل ما دل عليه الشرع أو اتخذه العقل دليلا إنما متعلقة الألوهة لا الذات ، والله من كونه إلها هو الذي يستند إليه الممكن لإمكانه ، فهو سبحانه المستند المجهول ، الذي لا تدركه العقول ، ولا تفصل إجماله الفصول ، ولو وقف العاقل من المؤمنين على معنى قوله تعالى في كتابه (وَلَمْ يُولَدْ) وعلم أن ما أنتجه العقل من فكره بتركيب مقدمتيه أن تلك النتيجة للعقل عليها ولادة ، وأنها مولودة عنه ، وهو قد نفى أن يولد ، فأين الإيمان؟ وليس المولود إلا عينه ، بخلاف ما إذا أنتج العقل نسبة الأحدية له ، فما معقولية الأحدية للواحد عين من نسبت إليه الأحدية ، فللعقل على الأحدية ولادة ، وعلى الاستناد إليه ولادة ، وعلى كل لا يكون له على عينه ولادة ، فأما هويته وحقيقته فما للعقل عليها ولادة ، وقد نفى ذلك بقوله (وَلَمْ يُولَدْ) ومن هنا تعرف أن كل عاقل له في ذات الله مقالة إنما عبد ما ولده عقله ، فإن كان مؤمنا كان طعنا في إيمانه ، وإن لم يكن مؤمنا فيكفيه أنه ليس بمؤمن ، ولا سيما بعد بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم العامة ، وبلوغها إلى جميع الآفاق :

إنما الله إله واحد

ودليلي قل هو الله أحد

فإذا ما تهت في أسمائه

فاعلم أن التيه من أجل العدد

يرجع الكل إليه كلما

قرأ القارىء الله الصمد

لم يلد حقا ولم يولد ولم

يك كفوا للإله من أحد

فيحار العقل فيه عندما

يغلب الوهم عليه بالمدد

ثم يأتيه مشدا أزل

جاء في الشرع ويتلوه أبد

٥٥٥

وبنا كان له الحكم به

فإذا زلنا فكون ينفرد

فالحق تعالى له الوحدة المطلقة ، وهو الواحد الأحد ، الله الصمد ، لم يلد فيكون مقدمة ، ولم يولد فيكون نتيجة ، فإنه لو أن العقل يدرك الحق حقيقة بنظره ودليله ويعرف ذاته لكان مولدا عن عقله بنظره ، فلم يولد سبحانه للعقول كما لم يولد في الوجود ، ولم يلد بإيجاده الخلق لأن وجود الخلق لا مناسبة بينه وبين وجود الحق ، والمناسبة تعقل بين الوالد والولد ، إذ كل مقدمة لا تنتج غير مناسبها ، ولا مناسبة بين الله وبين خلقه إلا افتقار الخلق إليه في إيجادهم ، وهو الغني عن العالمين.

لذا منع الرحمن في وحيه على

لسان رسول الله في ذاته النظر

فقال ولا تقف الذي لست عالما

به فيكون الناظرون على خطر

فلم يولد الرحمن علما ولم يلد

وجودا فحقق من نهاك ومن أمر

فقوله تعالى (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) تنزيه الذات ، فلا تتعلق ولا يتعلق بها ، ولذلك قال تعالى :

(وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (٤)

فيكون به وجود العالم نتيجة عن مقدمتين ، عن الحق والكفوء ، تعالى الله ، وبهذا وصف نفسه سبحانه في كتابه لما سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صفة ربه ، فنزلت سورة الإخلاص تخلصت من الاشتراك مع غيره تعالى الله في تلك النعوت المقدسة والأوصاف ـ الوجه الثاني ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فنفى الصاحبة كما نفى الشريك بقوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) فنفى المماثل الذي لو ثبت صح أن يكون العالم بينهما ، فما هو لنا أب ولا نحن أبناء له ، بل هو الرب ونحن العبيد ، فيطلبنا عبيدا ونطلبه سيدا ، وربما يتوهم من لا معرفة له بالحقائق أنه لو وجدت الكفاءة جاز وقوع الولد بوجود الصاحبة التي هي كفؤ ، فليعلم أن الكفاءة مشروعة لا معقولة ، والشرع إنما لزمها من الطرف الواحد لا من الطرفين ، فمنع المرأة أن تنكح ما ليس لها بكفوء ، ولم يمنع الرجل أن ينكح ما ليس بكفؤ له ، ولهذا له أن ينكح أمته بملك اليمين ، وليس للمرأة أن ينكحها عبدها ، والحق ليس

٥٥٦

بمخلوق ، وهو الوالد لو كان له ولد ، والكفاءة من جهة الصاحبة لا تلزم ، فارتفع المانع لوجود الولد لعدم الكفاءة ، بل لما تستحقه الذات من ارتفاع النسب والنسب ، ولما تستحقه أحدية الألوهية ، إذ الولد شبيه بأبيه ، وبهذا يبطل مفهوم من حمل (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) على جواز ذلك إذا كان متخذا ، وكان المفهوم منه نفي الكفء والمثل ما ذكرناه ، وهذه السورة اختارها الحق تعالى لأنها مخصوصة به ، ليس فيها ذكر كون من الأكوان ، إلا أحدية كل أحد أنها لا تشبه أحديته تعالى خاصة ، فافتتح السورة بأحديته وختمها بأحدية المخلوقين ، فأعلم أن الكائنات مرتبطة به ارتباط الآخر بالأول لا ارتباط الأول بالآخر ، فإن الآخر يطلب الأول والأول لا يطلب الآخر ، فهو الغني عن العالمين من ذاته ، ويطلب الآخر من مسمى الله المنعوت بالأحدية ، وهذه هي الأحدية المتأخرة التي هي مع ارتباطها بالأول لا تماثلها ، لكونها تطلبه ولا يطلبها (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ولذلك سميت هذه السورة بسورة الإخلاص ، فإنها كلها نسب الله وصفته ، وهي عين مجموع العالم ، وإن العالم مع كونه هو الحق المبين من حيث مجموعه لا من حيث جزء جزء منه ، تخلص النسب لله من حيث ذاته ، فهذا المجموع هو في الحق عين واحدة ، وهو في العالم عين الحق المبين ، فهذه السورة خلصت الحق من التشبيه كما خلصته من التنزيه ، فإن سر الإخلاص هو سر القدر الذي أخفى الله علمه عن العالم ، لا بل عن أكثر العالم ، فميز الأشياء بحدودها ، فهذا معنى سر القدر ، فإنه التوقيف عينه ، وبه تميزت الأشياء ، وبه تميز الخالق من المخلوق ، والمحدث من القديم ، فتميز المحدث بنعت ثابت يعلم ويشهد ، وما تميز القديم من المحدث بنعت ثبوتي يعلم ، بل تميز بسلب ما تميز به المحدث عنه لا غير ، فهو المعلوم سبحانه المجهول ، فلا يعلم إلا هو ، ولا يجهل إلا هو ، فسبحان من كان العلم به عين الجهل به ، وكان الجهل به عين العلم به ، وأعظم من هذا التمييز لا يكون ، ولا أوضح منه لمن عقل واستبصر ، ولذلك لما قالت طائفة من الأمة اليهودية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [انسب لنا ربك] فنسبه لمجموع العالم بما نزل عليه من الله تعالى في ذلك ، فقيل له (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فنعته بالأحدية ، ولكل جزء من العالم أحدية تخصه لا يشارك فيها ، بها يتميز ويتعين عن كل ما سواه مع ما له من صفات الاشتراك ، ثم قيل له (اللهُ الصَّمَدُ) وهو الذي يصمد إليه في الأمور : أي يلجأ ، والأسباب الموضوعة كلها في العالم يلجأ إليها ، ولهذا سميت

٥٥٧

أسبابا لتوصل مسبباتها إلى الصمد الأول الذي إليه تلجأ الأسباب (لَمْ يَلِدْ) إذ العقيم الذي لا يولد له ، وبهذه الصفة نعت الريح العقيم ، لأنه من الرياح ما هي لواقح ومنها ما هي عقيم (وَلَمْ يُولَدْ) آدم عليه‌السلام ، فإن الولادة معلومة عند السائلين ، فخوطبوا بما هو معلوم عندهم (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أراد بالكفو هنا الصاحبة ، لأجل مقال من قال إن (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) و (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) والكفاءة المثل ، والمرأة لا تماثل الرجل أبدا ، فإن الله يقول (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) فليست له بكفو ، فإن المنفعل ما هو كفو لفاعله ، والعالم منفعل عن الله فما هو كفو لله ، وحواء منفعلة عن آدم ، فله عليها درجة الفاعلية فليست له بكفو من هذا الوجه ، ولذلك سميت هذه السورة سورة الإخلاص ، أي خلص الحق للعالم من التنزيه الذي يبرهن عليه العقل ، وخلصه من العالم بمجموع هذه الصفات في عين واحدة ، وهي أعني هذه الصفات مفرقة في العالم لا يجمعها عين واحد ، فإن آدم عليه‌السلام أكمل صورة ظهرت في العالم ومع هذا نقصه (لَمْ يَلِدْ) فإنه أحد صمد لم يولد ولم تكن له حواء كفوا ، فخلصت هذه السورة الحق من التشبيه كما خلصته من التنزيه ، فالحمد لله العظيم جلاله لظهور جماله ، القريب في دنوه ، الرقيب في سموه ، ذو العزة والسناء ، والعظمة والكبرياء ، الذي جلت ذاته أن تشبه الذوات ، وتعالت عن الحركات والسكنات ، والحيرة والالتفات ، وعن درك الإشارات والعبارات ، كما جلت عن التكييف والحدود ، وعن النزول بالحركة والصعود ، وعن الاستواء المماس للمستوى عليه والقعود ، وعن الهرولة لطلب المقصود ، وعن التبشش المعهود ، للقاء المفقود ، إذا صح منه المقصود ، كما جلت أن تفصّل أو تجمل ، أو يقوم بها ملل ، أو تتغير باختلاف الملل ، أو تلتذ أو تتألم بالعمل ، أو توصف بغير الأزل ، كما جلت عن التحيز والانقسام ، أو يجوز عليها ما تتصف به الأجسام ، أو تحيط بكنه حقيقتها الأفهام ، أو تكون كما تكيّفها الأوهام ، أو تدرك على ما هي عليه في اليقظة أو المنام ، أو تتقيد بالأماكن والأيام ، أو يكون استمرار وجودها بمرور الشهور عليها أو الأعوام ، أو يكون لها الفوق أو التحت أو اليمين أو الشمال أو الخلف أو الأمام ، أو تضبط جلالها النهى أو الأحلام ، كما جلت أن تدركها العقول بأفكارها ، أو أرباب المكاشفات بأذكارها ، أو حقائق العارفين بأسرارها ، والوجوه بأبصارها ، على ما يعطيه جلال مقدارها ، لأنها جلّت عن القصر خلف حجبها وأستارها ، فهي لا تدرك في

٥٥٨

غير أنوارها ، كما جلت أن تكون على صورة الإنسان ، أو تفقد من وجود الأعيان ، أو ترجع إليها حالة لم تكن عليها من خلقها الأكوان ، أو تكون في تقييد ظرفية السوداء الخرساء وإن ثبت لها بها الإيمان ، أو تتحيز بكونها تتجلى في العيان ، أو ينطلق عليها الماضي أو المستقبل أو الآن ، كما جلت أن تقوم بها الحواس ، أو يقوم بها الشك والالتباس ، أو تدرك بالمثال أو القياس ، أو تتنوع كالأجناس ، أو يوجد العالم طلبا للإيناس ، أو يكون ثالث ثلاثة للجلّاس ، كما جلت عن الصاحبة والولد ، أو يكون لها كفؤا أحد ، أو يسبق وجودها عدم ، أو توصف بجارحة اليد الذراع والقدم ، أو يكون معها غيرها في القدم ، كما جلت عن الضحك والفرح المعهودين بتوبة العباد ، وعن الغضب والتعجب المعتاد ، وعن التحول في الصور ، كما يكون في البشر ، فسبحانه من عزيز في كبريائه ، وعظيم في بهائه ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

(١١٣) سورة الفلق مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (٢) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (٣) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) (٤)

وهو السحر له وجه إلى الحق فيشبه الحق ، وله وجه إلى غير الحق فيشبه الباطل ، مشتق من السحر وهو اختلاط الضوء والظلمة ، فلا يتخلص لأحد الجانبين ، ولفظ السحر يطلق على الرئة ، وهي التي تعطي الهواء الحار الخارج والهواء البارد الداخل ، فسميت سحرا لقبولها النفس الحار والبارد ، وبها ينفث الساحر في العقد ، ولا يكون النفث إلا ريحا بريق ، لابد من ذلك حتى يعم ، فبما في الرئة من الرطوبة لا تحترق بقبول النفس الحار ، ولهذا يخرج النفس وفيه نداوة ، فذلك مثل الريق الذي يكون في النفث الذي ينفثه الساحر في العقدة ، وإذا أراد من أراد إبطال السحر ، ينظر إلى ما عقد الساحر فيعطي لكل عقدة كلمة يحلها

٥٥٩

بها ، كانت ما كانت ، فإن نقص عنها بالكلمات بقي الأمر عليه ، فإنه ما يزول عنه إلا بحل الكل.

(وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (٥)

الحاسد يطلب زوال الأمر من صاحبه ، ولا يتعرض في طلبه لنيله جملة واحدة ، وليس الشر في طلب نيل مثله ، وإنما الشر في طلب زواله ممن هو عنده ، والحسد وصف جبلي في الإنس والجان ، لا يزول بالمجاهدة ولا بالرياضة ، فاصرفه في الخير كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [لا حسد إلا في اثنتين] وإياك والحسد فإنه يخلق الحسنات ويأكلها كما تأكل النار الحطب ، وأول ما يعود وباله على صاحبه.

(١١٤) سورة النّاس مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلَهِ النَّاسِ) (٣)

من باب التحقيق لما سماهم الناس ، ولم يسمهم باسم يقتضي أن يكونوا حقا ، أضاف نفسه إليهم باسم الملك ، فإن عبوديتهم يستحيل رفعها وعتقها ، فإنها صفة ذاتية.

(إِلَهِ النَّاسِ (٣) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) (٤)

ـ إشارة ـ صلاة الخائف عند المسايفة ـ حال المسايفة هو حال العبد مع الشيطان في وسواسه ، وحين توسوس إليه نفسه ، والله في تلك الحالة أقرب إليه من حبل الوريد ، فهو مع قربه في حرب عظيم ، فإذا نظر العبد في هذه الحال إلى هذا القرب الإلهي منه ، فإنه يصلي ولابد من هذه حالته ، ولو قطع الصلاة كلها في محاربته ، فإنه إنما يحاربه بالله ، فإنه يؤدي الأركان المشروعة كما شرعت ، بالقدر الذي هو فيه من الحضور مع الله في باطنه في

٥٦٠