رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

وعضل وعظم ، استوى السر الإلهي الساري فيه ، فنفخ النفخ الروحي إلى العالم العلوي من البدن ، وهو بخارات تصعد كالدخان ، فتق فيها سبع سموات : السماء الدنيا وهي الحس ، وزينها بالنجوم والمصابيح مثل العينين ، وسماء الخيال ، وسماء الفكر ، وسماء العقل ، وسماء الذكر ، وسماء الحفظ ، وسماء الوهم ، وأوحى في كل سماء أمرها ، وهو ما أودع في الحس من إدراك المحسوسات ـ ولا نتعرض للكيفية في ذلك للخلاف الواقع فيها ، وإن كنا نعلم ذلك فإن علمنا لا يرفع الخلاف من العالم ـ وفي الخيال من متخيلات المستحيلات ، وفي العقل من المعقولات ، وهكذا في كل سماء ما يشاكلها من جنسها ، فإن أهل كل سماء مخلوقون منها ، فهم بحسب مزاج أماكنهم ، وخلق في كل سماء من هذه السبعة كوكبا سابحا في مقابلة الكواكب السيارة ، تسمى صفات ، وهي الحياة والسمع والبصر والقدرة والإرادة والعلم ، كل يجري إلى أجل مسمى ، فلا تدرك قوة إلا ما خلقت له خاصة ، فالبصر لا يرى سوى المحسوسات المبصرات ، وينحسر فينقلب خاسئا ، فإنه لا يجد قطرا ينفذ فيه ، والعقل يثبت هذا كله ، يشهد بذلك الحركات الفلكية التي في الإنسان ، وذلك بتقدير العزيز العليم.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) (١٣)

جاء الجبار من رؤساء الجاهلية إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : يا محمد اتل علي مما جئت به حتى أسمع ؛ فتلا عليه حم السجدة ، فلما وصل إلى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) وهما من العرب وحديثهما مشهور عندهم بالحجاز ، فلما سمع هذه الآية ارتعدت فرائصه واصفر لونه وضرط من شدة ما سمع ومعرفته بذلك ، وقال : هذا كلام جبار.

(إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ

٤١

هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (١٧)

إن الله ما جعل في العالم هدى لا يصح أن يعود عمى ، فإنه أبان لمن أوصله إليه ، فما اتصف بالعمى إلا من لم يصل إليه الهدى من ربه ، ومن قيل له : هذا هدى ؛ لا يقال إنه وصل إليه حتى يكون هو الذي أنزل عليه الهدى وحصل له العلم بذلك ، فإن هذا لا يكون عنده عمى أبدا ، فما استحب العمى على الهدى إلا من هو مقلد لأبناء جنسه ، فالعمى يوافق طبعه والهدى يخالف طبعه ، فلذلك يؤثره عليه.

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٠)

(شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ) وهما من النشأة الباطنة (وَجُلُودُهُمْ) من النشأة الظاهرة ، فما من شخص يروم مخالفة حق إلا ونشأتاه تقولان له : لا تفعل أيها الملك ، ولا تحوجنا أن نكون سببا في هلاكك ، فإن الله إن استشهدنا شهدنا ، ونحن رعيتك ولا حركة لنا إلا بك ، فلا تحركنا إلا في أمر يكون لك لا عليك ، فإن الأعضاء كالآلة للنفس الناطقة المخاطبة المكلّفة بتدبير هذا البدن ، وأنت المسؤول عن إقامة العدل فيهم ، فأنت تعلم من خطاب الشارع جميع ما يتعلق بكل عضو مكلف : وهي العين والأذن واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب.

٤٢

(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢١)

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ) إذا شهدت عليهم (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) فتقول الجلود (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فعمت ، فإن الدار الآخرة هي الحيوان ، ينطق فيها كل شيء ، فكانت الجلود أعلم بالأمر ممن جعل النطق فصلا مقوما للإنسان خاصة ، وعرّى غير الإنسان عن مجموع حده في الحيوانية والنطق ، وسميت الجلود بهذا الاسم لما هي عليه من الجلادة ، لأنها تتلقى بذاتها جميع المكاره من جراحة وضرب وحرق وحر وبرد ، وفيها الإحساس ، وهي مجنّ النفس الحيوانية لتلقي هذه المشاق ، فما في الإنسان أشد جلادة من جلده ، ولهذا غشاه الله به ، ولما كانت الجلود شهداء عدول فهي مقبولة القول عند الله ، وكانوا في الدنيا غير راضين بما كانت النفس الناطقة الحيوانية تصرفهم فيه ، زمان حكمها وإمارتها عليهم وعلى جميع جوارحهم ، من سمع وبصر ولسان ويد وبطن وفرج ورجل وقلب ، فأخبر تعالى عن بعض الناس المشهود عليهم أنهم يقولون لجلودهم (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ) يعني بالشهادة عليكم (الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فإن الأصل في الأعيان الصمت ، فكل عين سوى الله خاصة لا نطق لها ، وما من شيء ينطق إلا والله أنطقه ، واختلف المنطوق به ، فثمّ نطق ـ أي منطوق به ـ يتعلق به مديح ، وثمّ منطوق به يتعلق به ذم ، وثمّ منطوق به يتعلق به تجوز لتواطؤ جعله الله في العالم ، وثمّ منطوق به على ما هو المدلول عليه في نفسه ، فهو إخبار عن حقيقة ، وما ثمّ إلا ما ذكرنا ، فنطق المدح شهادة أولي العلم بتوحيد الله ، ونطق الذم قول القائل : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) ، ونطق الحقيقة (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) ونطق بالتجوز (وَما تَعْمَلُونَ) وما ثمّ قائل إلا الله ، ولا منطق إلا الله ، وما بقي إلا فتح عين الفهم لتنطيق الله ، من حيث أنه لا ينطق إلا بالصواب ، فكل كلام في العالم فهو إما من الحكمة أو من فصل الخطاب ، فالكلام كله معصوم من الخطأ والزلل ، إلا أن للكلام مواطن ومحال وميادين ، له فيها مجال رحب تتسع ميادينه ، بحيث أن تنبو عن إدراك غايتها عيون البصائر ، فيا ولي لا تكن الجلود أعلم بالأمر منك مع دعواك أنك من أهل العقل والاستبصار ، فهذه الجلود علمت نطق كل شيء ، وأن الله منطقه بما شاء ، والجلد من حيث

٤٣

هو شاهد لا يعذب بل متنعم.

(وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٢)

أي هذا لا يمكن الاستتار منه ، لأنكم ما تعملون الذي تأتونه من المنكرات إلا بالجوارح ، فإنها عين الآلة تصرفونها في طاعة الله أو معصيته ، فلا يتمكن لكم الاستتار عما لا يمكنكم العمل إلا به ، والجسد كله من حيث طبيعته طائع لله مشفق ، وما من جارحة منه إذا أرسلها العبد جبرا في مخالفة أمر إلهي إلا وهي تناديه : لا تفعل ، لا ترسلني فيما حرّم عليك إرسالي ، إني شاهدة عليك ، لا تتبع شهواتك ؛ وتبرأ إلى الله من فعله بها ، وكل قوة وجارحة فيه بهذه المثابة ، وهم مجبورون تحت قهر النفس المدبرة لهم وتسخيرها (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) فمن علم أن كل شيء ناطق ناظر إلى ربه لزمه الحياء من كل شيء حتى من نفسه وجوارحه ، ومن كان مشهده هذا استحى من الموجودات كل الحياء في خلوته كما يستحي في جلوته ، فإنه في جلوة أبدا ، لأنه لا يخلو عن مكان يقلّه وسماء تظلّه ، ولو لم يكن في مكان لاستحى من أعضائه ورعية بدنه ، فإنه لا يفعل إلا بها ، فإنها آلاته وإنه لابد أن تستشهد فتشهد ، ولا يستشهد الله إلا عدلا (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) هذا خطاب لمن يعتقد أن الله لا يعلم الجزئيات خاصة ثم قال :

(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ) (٢٣)

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ) أي يقينكم (الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) أي أهلككم ، لأنهم ظنوا أن الله لا يعلم كثيرا مما يعملون ، فعاد وبال ذلك عليهم ، فعذبهم الله بأعمالهم ، فظنهم أرداهم لأنهم ظنوا محالا ، وهو نفي العلم عن الله ببعض أعمال العباد (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) والخسران ضد الربح ، وهو نقص من رأس المال ، لما كان الأمر تجارة اتصف بالربح والخسران ، قال تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ويقول الله

٤٤

تعالى : [أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا] فحسن الظن إذا غلب على العبد أنتج له السعادة ، كما أن سوء الظن بالله يرديه ، ومن جمع همته على ربه أنه لا يغفر الذنب إلا هو ، وأن رحمته وسعت كل شيء ، كان مرحوما بلا شك ولا ريب.

(فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (٢٥) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦)

(وَالْغَوْا فِيهِ) حتى لا يسمعوا دعاء ، فلا يرجعون ولا يعقلون ، لأنه بلسانهم نزل.

(فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (٣١)

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا) من أي شرع كان إذا كان له الزمان والوقت (رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) على طريقهم الذي شرع الله لهم المشي عليها (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) وهذا التنزل هو النبوة العامة لا نبوة التشريع ، تتنزل عليهم بالبشرى (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) فإنكم في طريق

٤٥

الاستقامة (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) هذه الآية نص في نزول الملك على الأولياء ، وأن نزول الملك ليس من خصائص النبوة فقط ، فإن الله قال في أهل الاستقامة القائلين بربوبية الله إن الملائكة تنزل عليهم بالبشرى من الله بأنهم من أهل السعادة والفوز وبالأمان ، كل ذلك في الحياة الدنيا ، ومن هنا تنزل الأملاك على قلوب الأولياء ، وفيه أقول :

إذا نزل الروح الأمين على قلبي

تضعضع تركيبي وحنّ إلى الغيب

فأودعني منه علوما تقدست

عن الحدس والتخمين والظن والريب

ففصلت الإنسان نوعين إذ رأت

يقوم به الصفو النزيه مع الشوب

فنوع يرى الأرزاق من صاحب الغيب

ونوع يرى الأرزاق من صاحب الجيب

فيعبد هذا النوع أسباب ربه

ويعبد هذا خالق المنع والسّيب (١)

فهذا مع العقل المقدس وصفه

وهذا مع النفس الخسيسة بالعيب

ولعلك يا ولي ، إذا سمعتني أقول : تنزل الروح الأمين على القلب ، تنكر وتقول : أوحي بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟! لا تفعل أعاذنا الله وإياك من وحي كل شيطان غوي ، إنما هو عبارة في العامة عن اللمة الملكية ، وفي الخاصة عن الحديث ، كما ورد في صحيح الحديث ، وفي القديم والحديث ، قال خير البشر : [إن من أمتي محدّثين ، وإن منهم عمر] وقال أيضا عليه الصلاة والسلام في قلب العبد : إنه يتصرف بين لمة الملك ولمة الشيطان ؛ ثم كنّى عن هذا التصريف والتقليب بالإصبعين ، وأضافهما إلى الرحمن ؛ فما زالت الملائكة تتعاهد القلوب ، بأسرار الغيوب ، وهي التي تأمرك بالطاعة ، والتزام السنّة والجماعة ، حين تأمرك الشياطين بلمتها ، فإن لم تسمع لها ، أمرتك بالتسويف أو الموافقة ، وتتنوع تنزلات الغيوب ، بتنوع استعدادات القلوب ، ولا تظن أيها الخليل ، أنني أعني بالروح الأمين جبريل ، فإن الملائكة كلهم أرواح أمناء على ما أودعها الله من أصناف العلوم الموقوفة على التوصيل ، تارة بالإجمال وتارة بالتفصيل ، ولابد أن يكون صاحب التنزلات الغيبية عارفا بالمتنزلات وأصنافها (الخواطر وأجناسها) ، وعالما بالروائح وأنفاسها ، فلا يتصور إنكار بعد ما قررناه من اللمة والحديث ، إلا من معاند خبيث ، متعنا الله وإياكم بنتائج الأذكار ،

__________________

(١) السيب : العطاء.

٤٦

وعصمنا وإياكم من أغاليط الأفكار ، وقدّس قلوبنا من دنس التعصب والإنكار ، على ما يظهر من المتقين الأبرار ، من غوامض العلوم والأسرار. فقد قال لهم هؤلاء المبشرون من الملائكة.

(نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (٣١)

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي نحن كنا ننصركم في الحياة الدنيا ، في الوقت الذي كان الشيطان يلقي إليكم بلمته العدول عن الصراط الذي شرع لكم المشي عليه ، فكنا ننصركم عليه باللمة التي كنتم تجدونها في وقت التردد بين الخاطرين ، هل يفعل أو لا يفعل؟ نحن كنا الذين نلقي إليكم ذلك في مقابلة العدو ، ونحن أيضا أولياؤكم (وَفِي الْآخِرَةِ) بالشهادة لكم أنكم كنتم تأخذون بلمتنا وتدفعون بها عدوكم ، فهذه ولايتهم في الآخرة ، وولايتهم أيضا بالشفاعة فيهم فيما غلب عليهم الشيطان في لمته ، فيكون العبد من أهل التخليط فتشفع الملائكة فيه حتى لا يؤاخذ بعمل الشيطان ، فهذا معنى قوله (وَفِي الْآخِرَةِ) (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من شهادتنا لها وشفاعتنا فيها في هذا الموطن (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) من الدعة ، وتدل هذه الآية على أن نشأة الآخرة طبيعية مثل نشأة الدنيا ، لأن الشهوة لا تكون إلا في النفوس الطبيعية ، يقول الحق في الآخرة إن لأهل السعادة ما تشتهي نفوسهم ، ولم يقل ما تريد نفوسهم ، والشهوة إرادة ، لكن لما لم يكن كل مراد يشتهى ، لم تكن كل إرادة شهوة ، فإن الإرادة تتعلق بما يلتذ به وبما لا يلتذ به ، ولا تتعلق الشهوة إلا بالملذوذ خاصة ، فأخذوا الأعمال بالإرادة والقصد ، وأخذوا النتائج بالشهوة ، فإن الله تعالى كساهم حلة الصفة الربانية ، فأعطى كل واحد منهم أن يقول للشيء كن فيكون ، وهذا سر وجود الغنى في الفقر ، ولا يشعر به كل أحد ، فإنه لا يقول لشيء كن فيكون حتى يشتهيه ، ولهذا قال تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) فما طلب إلا ما ليس عنده ليكون عنده عن فقر لما طلب ، لأن شهوته أفقرته إليه ودعته إلى طلبه ، ليس ذلك المشتهى طلبه ، وعنده الصفة الربانية التي أوجبت له القوة على إيجاد هذا المشتهى والمطلوب ، فقال له : كن ؛ عن فقر بصفة إلهية ، فكان هذا المطلوب في عينه ، فتناول منه ما لأجله طلب

٤٧

وجوده ، وليس هو كذا في حق الحق ، لأن الله لم يطلب تكوين الموجودات لافتقاره إليها ، لأنها مشهودة له تعالى في حال عدمها ووجودها ، والعبد ليس كذلك ، فإنه فاقد لها حسا في حال عدمها.

(نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) (٣٢)

(نُزُلاً) بشهادتنا وشفاعتنا حيث قبلها ، فأسعدكم الله بها (مِنْ غَفُورٍ) فستركم في كنفه (رَحِيمٍ) وأدخلكم في رحمته.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٣)

إنما يدعى إلى الله من لم يكن عنده في الصفة التي يدعى إليها ، ولا أبعد من شياطين الإنس والجن ، فما يتقرب المتقرب إلى الله من أهل الدعاء إلى الله ، بأولى من رد من شرد عن باب الله وبعد إلى الله لينال رحمته ، فإن الرسل ما بعثت بالتوحيد إلا للمشركين وهم أبعد الخلق من الله ، ليردوهم إلى الله ويسوقوهم إلى محل القرب وحضرة الرحمة.

(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥)

يروى من الاخبار في سبب نزول هذه الآية ، أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المشركين من فصحاء العرب ، وقد سمع أن الله قد أنزل عليه قرآنا عجز عن معارضته فصحاء العرب ، فقال له : يا رسول الله هل فيما أنزل عليك ربك مثل ما قلته؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما قلت؟ فقال الأعرابي قلت :

وحيّ ذوي الأضغان تسبي عقولهم

تحيتك القربى فقد ترقع النفل (١)

وإن جهروا بالقول فاعف تكرما

وإن ستروا عنك الملامة لم تبل

__________________

(١) النفل : الأعطيات.

٤٨

فإن الذي يؤذيك منه استماعه

وإن الذي قد قيل خلفك لم يقل

فأنزل الله تعالى (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الآية فقال الأعرابي : هذا والله هو السحر الحلال ، والله ما تخيلت ولا كان في علمي أن يزاد أو يؤتى بأحسن مما قلته ، أشهد أنك رسول الله ، والله ما خرج هذا إلا من ذي إلّ. يقول الله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) من الإحسان يعني قوله (وَأَصْلَحَ) من قوله تعالى (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) السيئة (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٣٥)

(وَما يُلَقَّاها) يعني هذه الصفة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) وحبسوا أنفسهم عن أن يجازوا المسيء بإساءته إساءة ، ولو علم الناس قدر ما نبهنا عليه في هذه المسئلة ، ما جازى أحد من أساء إليه بإساءة ، فما كنت ترى في العالم إلا عفوا مصلحا ، لكن الحجب على أعين البصائر كثيفة ، وليست سوى الأغراض واستعجال التشفي والمؤاخذة ، ولو نظر هذا الناظر لمّا أساء هو على الله ، في رد ما كلفه به ، وركوبه الخطر في ذلك ، وإمهال الحق له وتجاوزه عنه في هذه الدار ، حتى يكون هو الذي يكشف نفسه ، حتى تقام عليه الحدود ويرمي نفسه في المهالك ، كما قال الصاحب : ستر الله عليه لو ستر على نفسه ؛ في المعترف بالزنا ، مثل هذا الأعرابي الذي سبق الإشارة إليه عرفوا إعجاز القرآن ، أترى يا ولي يكون هذا الأعرابي فيما وصف به نفسه بأكرم من الله في تحمل الأذى وإظهار البشر والمخالفات عن العقوبة ، والعفو مع القدرة ، وتهوين ما يقبح على النفس ، والتغافل عمن أراد التستر عنك بما يشينه لو ظهر به؟ بل الله أكرم منه ، وأكثر تجاوزا ، وعفوا وحلما وأصدق قيلا ، فإن هذا القول من العربي وإن كان حسنا ، فما يدري عند وقوع الفعل ما يكون منه ، والحق صادق القول بالدليل العقلي ، فما يأمر بمكرمة إلا وهي صفته التي يعامل بها عباده ، ولا ينهى عن صفة مذمومة لئيمة إلا وهو أنزه عنها :

إذا رأيت مسيئا يبتغي ضررا

فداره ثم لا تظهر له خبرا

وادفع أذاه بما توليه من حسن

وامنن عليه ولا تعلم به بشرا

فإن ذلك إكسير وقوته

أن تقلب العين والأجساد والصورا

٤٩

يرجع عدوك صديقا فتأمنه

ولا تخف منه إضرارا ولا ضررا

وما يلقاها إلا صابر وله

حظ من العلم لمّا أمعن النظرا

(وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٣٧)

لما كانت حاجة الخلق إلى الليل ليسكنوا فيه ويتخذوه لباسا يحول بينهم وبين عين الناظرين ، وإلى النهار ليتسببوا فيه في تحصيل أقواتهم ، ورأوا أن الشمس يكون النهار بطلوعها ويكون الليل بغروبها ، نسبوا وجود الليل والنهار إليها فعبدوها ، وهم الشمسية ، فقال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) الضمير يعود على الله (اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) وإن حدث عن الشمس فما هو من آياتها بل هو من آياتي ، ثم قال (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) فإذا كانت عبادتكم للشمس والقمر لما ظهر عنها من علل ، فأنا خالق هذه الآيات دلالات عليّ (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) فاسجدوا لله الذي خلقهن ، فجمع الليل والنهار والشمس والقمر في الضمير ، وغلب هنا التأنيث على التذكير ، لأن الليل والنهار والشمس والقمر منفعلون لا فاعلون ، وجمعهن جمع من يعقل من المؤنث ، ينبه بذلك أيضا على نقص الدرجة التي تنبغي للذكورية ، ولم يقل خلقهم حتى لا يعظم قدرهم بتغليب التذكير عليهم ، فإن العرب تغلب المذكر على المؤنث في كلامها ، تقول : زيد والفواطم خرجوا ، ولا تقول : خرجن ، فإن الله الذي خلقهن أولى بأن تعبدوه منهن ، لأن مرتبة الفاعل فوق مرتبة المنفعل ، فالحق أولى وأحق أن يعبد ممن له النقص من طريقين ، من كونه مخلوقا ومن كونه مؤنثا.

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) (٣٨)

٥٠

(فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني العلماء بالله من الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وهم أعلم بالله منكم ، فلو كان ما اتخذتموه من هؤلاء آلهة لكانت الملائكة أولى بالسجود لهن منكم ، لعلمكم أنهم أعلم ، فهم يسجدون لله (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) لا يملون من غير سآمة ولا فتور ، فإن حقيقة نشأتهم تعطي ذلك ، وهي العبادة الذاتية ، وهي عبادة سارية في كل ما سوى الله ، وقد خلق الله الملائكة وهم عمار السموات والأرض لعبادته ، فما في السماء والأرض موضع إلا وفيه ملك ، ولا يزال الحق يخلق من أنفاس العالم ملائكة ما داموا متنفسين ، فالملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون في غير ليل ولا نهار وهم لا يسأمون ، فكفى بالبشرية نقصا ـ وفي موضع هذه السجدة خلاف ، فقيل عند قوله : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) وقيل عند قوله : (لا يَسْأَمُونَ) فمن سجدها عند (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) جعلها سجدة شرط ، ومن سجدها عند قوله (لا يَسْأَمُونَ) جعلها سجدة نشاط ومحبة ، وهي سجدة الاجتهاد وبذل المجهود فيما ينبغي لجلال الله من التعظيم ، والالتذاذ به.

(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤٠)

هذا وعيد ، أي قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤٢)

(تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وانظر ما أحكم القرآن وما فيه من العلوم لمن رزق الفهم فيه ، فإنه الوحي المعصوم المقطوع بصدقه ،

٥١

الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) فتصدقه الكتب المنزلة قبله (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) ولا ينزل بعده ما يكذبه ويبطله ، فهو حق ثابت ، وكل تنزل سواه في هذه الأمة وقبلها في الأمم فيمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ، فيعثر صاحبه على آية أو خبر صحيح يبطل له ما كان يعتمد عليه من تنزيله ، ويأتيه من خلفه أي لا يعلم في الوقت بطلانه لكن قد يعلمه فيما بعد ، والأنبياء عليهم‌السلام ما قالت على الله ما لم يقل لها ، ولا أخرجت ذلك من نفوسها ، ولا تعملت فيه ، بل جاءت به من عند الله ، كما قال تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) بما هو حامد بلسان كل حامد وبنفسه ، وبما هو محمود بكل ما هو مثني عليه وعلى نفسه ، فإن عواقب الثناء تعود عليه.

(مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) (٤٤)

(ءَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) العجمي بالوضع بالأصل أقدم من العربية ، ويجمعهما الكلام ، والعبارة المعجمة متقدمة (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) أي بيان (وَشِفاءٌ) والشفاء من الرحمة ، وحضرة الشفاء هي التي تنيل أصحاب الأغراض أغراضهم ، وكونه شفاء فكفاتحة الكتاب وآيات الأدعية كلها.

(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) (٤٦)

٥٢

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) فنحن نطلب الحق لنا لا له ، فإن الله تعالى غني عن العالمين (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فلله الحجة البالغة.

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (٤٨) لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣)

هذه الآية جمعت الخلق والحق ، لأن كل حقيقة تعقل للحق لا تعقل مجردة عن الخلق ، فهي تطلب الخلق بذاتها ، فلابد من معقولية حق وخلق ، لأن تلك الحقيقة الإلهية من المحال أن يكون لها تعلق أثري في ذات الحق ، ومن المحال أن تبقى معطلة الحكم ، لأن الحكم لها ذاتي ، فلابد من معقولية الخلق سواء اتصف بالوجود أو العدم ، وعلى ذلك فللآية عدة

٥٣

وجوه ـ الوجه الأول ـ أحالنا الحق في العلم به على الآفاق وهو ما خرج عنا ، وعلى أنفسنا وهو ما نحن عليه وبه ، فإذا وقفنا على الأمرين معا ، حينئذ عرفناه وتبين لنا أنه الحق ، وذكر الحق الآفاق أولا حذرا عليك أن تتخيل أنه قد بقي في الآفاق ما يعطي من العلم ما لا تعطيه نفسك ، وحتى إذا عرفت عين الدلالة منه على الله ، نظرت في نفسك ، فوجدت ذلك بعينه الذي أعطاك النظر في الآفاق ، أعطاك النظر في نفسك من العلم بالله ، فلم تبق لك شبهة تدخل عليك ، لأنه ما ثمّ إلا الله وأنت وما خرج عنك ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من عرف نفسه عرف ربه] فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم أن النفس جامعة لحقائق العالم ، فجمعك عليك حرصا منه ، حتى تقرب الدلالة فتفوز معجلا بالعلم بالله فتسعد ، فإنه لو خرج الإنسان عن غيره ما خرج عن نفسه ، فمن خرج عن نفسه وعن العالم فقد خرج عن الحق ، ومن خرج عن الحق فقد خرج عن الإمكان والتحق بالمحال ، ومن حقيقته الإمكان لا يلحق بالمحال وذلك قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ـ الوجه الثاني ـ ذكر الله تعالى النشأتين بقوله (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) فذكر نشأة صورة العالم بالآفاق ، ونشأة روحه بقوله (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) ليعلموا أن الإنسان عالم وجيز من العالم ، يحوي على الآيات التي في العالم (راجع سورة الرعد الآية ـ ٣ ـ) وقدّم الله رؤية الآيات في العالم كالذي وقع في الوجود ، فإنه أقدم من الإنسان ، فالذي يريه الله الآيات يريه آيات العالم قبل آيات نفسه لأن العالم قبله ، ثم بعد هذا يريه الآيات التي أبصرها في العالم في نفسه ، فلو رآها أولا في نفسه ثم رآها في العالم ، ربما تخيل أن نفسه رأى في العالم ، فرفع الله عنه هذا الإشكال بأن قدم له رؤية الآيات في العالم (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) وتبين له ذلك ، والعالم على صورة الحق ، والإنسان على صورة الحق ، فالإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير ، والآيات هي الدلالات له على أنه الحق الظاهر في مظاهر أعيان العالم ، فظهور الحق فيه هو الذي تبين له بالآيات ، وهو عثورهم على وجه الدليل وحصول المدلول ، ولذلك ذكر تعالى أنه يريهم آيات ، ما جعل ذلك آية واحدة ، فهذه صفة أهل الاعتبار والنظر المأمور به شرعا ، فما يفرغون من نظر في دليل بعد إعطائه إياهم مدلوله ، إلا ويظهر الله لهم دليلا آخر ، فيشتغلون بالنظر فيه إلى أن يوفي لهم ما هو عليه من الدلالة ، فإذا حصلوا مدلوله أراهم الحق دليلا آخر ، هكذا دائما ، ولهذا تمم تعالى في

٥٤

التعريف (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الأعيان (شَهِيدٌ) على التجلي فيه والظهور ، يعني أن يكون دليلا على نفسه ، وأوضح الدلالات دلالة الشيء على نفسه بظهوره ، ولذلك ذكر الرؤية ، والآيات للتجلي ، فيتبين لهم أنه الحق ، يعني ذلك التجلي الذي رأوه علامة ، أنه علامة على نفسه ، فيتبين لهم أنه الحق المطلوب ـ الوجه الثالث ـ دليلك على الحق نفسك والعالم ، وهو قوله تعالى (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) أي الدلالة علينا (فِي الْآفاقِ) وهو ما خرج عنهم (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) وهو ما هم عليه ، وما كثّر الله لنا الآيات في العالم وفي أنفسنا ـ إذ نحن من العالم ـ إلا لنصرف نظرنا إليه ، ذكرا وفكرا وعقلا وإيمانا وعلما وسمعا وبصرا ونهى ولبا ، وما خلقنا إلا لنعبده ونعرفه ، وما أحالنا في ذلك على شيء إلا على النظر في العالم ، لجعله عين الآيات والدلالات على العلم به مشاهدة وعقلا ، فإن نظرنا فإليه ، وإن سمعنا فمنه ، وإن عقلنا فعنه ، وإن فكرنا ففيه ، وإن علمنا فإياه ، وإن آمنّا فبه ، فهو المتجلي في كل وجه ، والمطلوب من كل آية ، والمنظور إليه بكل عين ، والمعبود في كل معبود ، والمقصود في الغيب والشهود ، لا يفقده أحد من خلقه بفطرته وجبلته ، فجميع العالم له مصلّ ، وإليه ساجد ، وبحمده مسبّح ، فالألسنة به ناطقة ، والقلوب به هائمة عاشقة ، والألباب فيه حائرة ، يروم العارفون أن يفصلوه من العالم فلا يقدرون ، ويرومون أن يجعلوه عين العالم فلا يتحقق لهم ذلك ، فهم يعجزون ، فتكلّ أفهامهم ، وتتحير عقولهم ، وتتناقض عنه في التعبير ألسنتهم (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) فالعالم كله مرآة الحق ، وعندما يتحقق المتحققون بمحبة الله عزوجل ، ما يرون في العالم إلا صورة الحق ، ظهر فيه بأسمائه وصفاته وأفعاله ، فالآيات هنا دلالات أنها مظاهر الحق ، فما ألطف سريان الحق في الموجودات ، فجميع الأشياء مظهر الحق ومجلاه ـ الوجه الرابع ـ (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) وهي الدلالات وهو ما هم عليه (فِي الْآفاقِ) فما ترك شيئا من العالم ، فإن كل ما خرج من العالم عنك فهو عين الآفاق ، وهي نواحيك (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فأبان تعالى لنا في هذه الإحالة على أحسن الطرق في العلم به ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من عرف نفسه عرف ربه] وقال : [أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه] والنفس بحر لا ساحل له ، لا يتناهى النظر فيها دنيا وآخرة ، وهي الدليل الأقرب ، فكلما ازداد نظرا ازداد علما بها ، وكلما ازداد علما بها ازداد علما بربه (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) لا غيره ، فلو علمت نفسك علمت

٥٥

ربك ، كما أن ربك علمك وعلم العالم بعلمه بنفسه ، وأنت صورته ، فلابد أن تشاركه في هذا العلم ، فتعلمه من علمك بنفسك ، إذ كان الأمر في علم الحق بالعالم علمه بنفسه ، فمن رحمة الله تعالى بالإنسان أن أشهده أولا نفسه ، فرأى في نفسه قوى ينبغي أن لا تكون إلا لمن هو إله ، فلما حقق النظر بعقله ، ونظر إلى العوارض الطارئة عليه بغير إرادته ، ومخالفة أغراضه ، ووجد الافتقار في نفسه ، علم قطعا أن عين وجوده شبهة ، وأن هذه الصفات لا ينبغي أن تكون إلا لمن هو إله ، فنفى تلك الألوهة التي قامت له من نفسه ، ثم إنه لما أمعن النظر وجد نفسه قائما بغيره ، غير مستقل في وجوده ، فأوجب وأثبت بعد أن نفى ، فقال : لا إله إلا الله ؛ وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من عرف نفسه عرف ربه] فانظر ما ألطف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمته ، وما أحسن ما علمهم وما طرّق لهم ، فنعم المدرس والمطرق ، جعلنا الله ممن مشى على مدرجته حتى التحق بدرجته ، آمين بعزته ـ الوجه الخامس ـ اعلم أن الله لما سوّى جسم العالم ، وهو الجسم الكل الصوري ، في جوهر الهباء المعقول ، قبل فيض الروح الإلهي الذي لم يزل منتشرا غير معين ، إذ لم يكن ثمّ من يعيّنه ، فحيي جسم العالم به ، والعالم إنسان كبير ، وهو ليس كذلك إلا بوجود الإنسان الكامل الذي هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومرتبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العالم مرتبة النفس الناطقة من الإنسان الكامل ، الذي حاز درجة الكمال بتمام الصورة الإلهية في البقاء والتنوع في الصور وفي بقاء العالم به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من عرف نفسه عرف ربه] إذ كان الأمر في علم الحق بالعالم علمه بنفسه ، وهذا نظير قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فذكر النشأتين ، نشأة صورة العالم بالآفاق ونشأة روحه بقوله : (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فهو إنسان واحد ذو نشأتين (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ) للرائين (أَنَّهُ الْحَقُّ) أي أن الرائي فيما رآه الحق لا غيره ـ الوجه السادس ـ لما نصب الحق الأدلة عليه ، نصبها في الآفاق على وجوده خاصة ، فما نابت الآفاق في الدلالة عليه بما جعل فيها من الآيات منابه لو ظهر للعالم بذاته ، فخلق الإنسان الكامل على صورته ، ونصبه دليلا على نفسه لمن أراد أن يعرفه بطريق المشاهدة ، لا بطريق النظر الفكري الذي هو طريق الرؤية في الآفاق ، وهو قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) ثم لم يكتف بالتعريف حتى أحال على الإنسان الكامل حتى قال : (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) وهنا قال : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) أي أن ذلك المرئي هو الحق ، فالآيات دلالات عليه وعلينا ، وكذلك

٥٦

نحن أدلة عليه وعلينا ، فإن أعظم الدلالات وأوضحها دلالة الشيء على نفسه ، فالتدبر من الله عين التفكر من المفكرين منا ، وبالتدبر تميز العالم بعضه من بعضه ومن الله ، وبالتفكر عرف العالم ذلك ، ودليله الذي فكّر فيه هو عين ما شاهده من نفسه ومن غيره ، فإذا انكشفت الحقائق فلا ريب ولا مين ، وبان صبحها لذي عينين ، كان الاطلاع ، وارتفاع النزاع ، وحصل الاستماع ، ولكن بينك وبين هذه الحال مفاوز مهلكة ، وبيداء معطشة ، وطرق دارسة ، وآثار طامسة ، يحار فيها الخرّيت ، فلا يقطعها إلا من يحيي ويميت ، لا من يحيا ويموت ، فكيف حال من يقاسي هذه الشدائد ويسلك هذه المضايق؟ ولكن على قدر آلام المشقات يكون النعيم بالراحات ، وما ثم بيداء ولا مفازة سواك ، فأنت حجابك عنك ، فزل أنت وقد سهل الأمر ، فمن علم الخلق علم الحق ، ومن جهل البعض من هذا الشأن جهل الكل ، فإن البعض من الكل فيه عين الكل من حيث لا يدري ، فلو علم البعض من جميع وجوهه علم الكل ، فإن من وجوه كونه بعضا علم الكل ، ولذا كثرت الآيات واتضحت الدلالات ، ولكن الأبصار في حكم أغطيتها ، والقلوب في أكنتها ، والعقول مشغولة بمحاربة الأهواء ، فلا تتفرغ للنظر المطلوب منها (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) إشارة إلى ما خلق عليه الإنسان الكامل الذي نصبه دليلا أقرب على العلم من طريق الكشف والشهود ، فقال أهل الشهود كفانا ، فما عرف الحق إلا الإنسان الكامل ، فإنه بنفسه عرفه ، وأما الإنسان الحيوان فعرفه بعقله بعد ما استعمل فكره في النظر في آيات الآفاق ، بمشاهدة التنزيه دون التشبيه الذي أعطته المماثلة بالصورة ، وأما الأنبياء عليهم‌السلام فقد وصفوا الحق بما شهدوه ، وأنزل عليهم بصفات المخلوقين ، لوجود الكمال الذي هو عليه الحق ، وما وصل إلى هذه المعرفة بالله لا ملك ولا عقل إنسان حيواني ، فإن الله حجب الجميع عنه ، وما ظهر إلا للإنسان الكامل ، الذي هو ظله الممدود ، وعرشه المحدود ، وبيته المقصود ، الموصوف بكمال الوجود ، فلا أكمل منه ، لأنه لا أكمل من الحق تعالى ، فعلمه الإنسان الكامل من حيث عقله وشهوده ، فجمع بين العلم البصري الكشفي وبين العلم العقلي الفكري ، فمن رأى أو علم الإنسان الكامل الذي هو نائب الحق فقد علم من استخلفه ، فإنه بصورته ظهر ، وما أنكر الحق من أنكره في الآخرة أو حيث وقع الإنكار ، إلا لما تقدمهم من النظر العقلي ، وقيدوا الحق ، فلما لم يروا ما قيدوه به من الصفات ، عند ذلك أنكروه ،

٥٧

ألا تراهم إذا تجلى لهم بالعلامة التي قيدوه بها عند ذلك يقرون له بالربوبية ، فلو تجلى لهم ابتداء قبل هذا التقييد لما أنكره أحد من خلقه ، فإنه بتجليه ابتداء يكون دليلا على نفسه ، فلهذا قلنا في الإنسان الكامل : إنه نائب عن الحق في الظهور للخلق لحصول المعرفة به على الكمال الذي تطلبه الصورة الإلهية ، والله من حيث ذاته غني عن العالمين ـ الوجه السابع ـ (سَنُرِيهِمْ آياتِنا) يعني الآيات المنزلة (فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فكل آية منزلة لها وجهان : وجه يرى في النفس ووجه يرى فيما خرج عن النفس ، فالوجه الذي في النفس يسميه أهل المعرفة إشارة ، ولا يقولون في ذلك إنه تفسير ، فيقولون : تفسير من باب الإشارة ، وإن كان ذلك حقيقة وتفسيرا لمعانيه النافعة ، ويردون ذلك إلى نفوسهم ، مع تقريرهم التفسير في العموم وفيما نزل فيه من الوجه الثاني كما يعلمه أهل اللسان الذي نزل الكتاب بلسانهم ، فعم به سبحانه عند أهل المعرفة الوجهين فإن العوالم أربعة : العالم الأعلى وهو عالم البقاء ، ثم عالم الاستحالة وهو عالم الفناء ، ثم عالم التعمير وهو عالم البقاء والفناء ، ثم عالم النسب ، وهذه العوالم في موطنين ، في العالم الأكبر وهو ما خرج عن الإنسان ، وفي العالم الأصغر وهو الإنسان ، فأما العالم الأعلى ، فالحقيقة المحمدية وفلكها الحياة ، نظيرها في الإنسان اللطيفة والروح القدسي ، ومنهم العرش المحيط ونظيره من الإنسان الجسم ، ومن ذلك الكرسي ، ونظيره من الإنسان النفس ، ومن ذلك البيت المعمور ، ونظيره من الإنسان القلب ، ومن ذلك الملائكة ونظيرها من الإنسان الأرواح والقوى ، ومن ذلك زحل وفلكه ، ونظيره من الإنسان القوة العلمية والنفس ، ومن ذلك المشتري وفلكه ، نظيرهما القوة الذاكرة ومؤخر الدماغ ، ومن ذلك الأحمر وفلكه ، نظيرهما القوة العاقلة واليافوخ ، ومن ذلك الشمس وفلكها ، نظيرهما القوة المفكرة ووسط الدماغ ، ثم الزهرة وفلكها نظيرهما القوة الوهمية والروح الحيواني ، ثم الكاتب وفلكه نظيرهما القوة الخيالية ومقدم الدماغ ، ثم القمر وفلكه نظيرهما القوة الحسية والجوارح التي تحس ، فهذه طبقات العالم الأعلى ونظائره من الإنسان ـ وأما عالم الاستحالة ـ فمن ذلك كرة الأثير وروحها الحرارة واليبوسة ، وهي كرة النار ، ونظيرها الصفراء وروحها القوة الهاضمة ، ومن ذلك الهواء وروحه الحرارة والرطوبة ، ونظيره الدم وروحه القوة الجاذبة ، ومن ذلك الماء وروحه البرودة والرطوبة ، نظيره البلغم وروحه القوة الدافعة ، ومن ذلك التراب وروحه البرودة

٥٨

واليبوسة ، نظيره السوداء وروحها القوة الماسكة ، وأما الأرض فسبع طباق ، أرض سوداء ، وأرض غبراء ، وأرض حمراء ، وأرض صفراء ، وأرض بيضاء ، وأرض زرقاء ، وأرض خضراء ، نظير هذه السبعة من الإنسان في جسمه ، الجلد والشحم واللحم والعروق والعصب والعضلات والعظام ـ وأما عالم التعمير ـ فمنهم الروحانيون ، نظيرهم القوى التي في الإنسان ، ومنهم عالم الحيوان نظيره ما يحس من الإنسان ، ومنهم عالم النبات ، نظيره ما ينمو من الإنسان ، ومن ذلك عالم الجماد ، نظيره ما لا يحس من الإنسان ـ وأما عالم النسب ـ فمنهم العرض نظيره الأسود والأبيض والألوان والأكوان ، ثم الكيف نظيره الأحوال مثل الصحيح والسقيم ، ثم الكم نظيره الساق أطول من الذراع ، ثم الأين نظيره العنق مكان للرأس ، والساق مكان للفخذ ، ثم الزمان نظيره حركت رأسي وقت تحريك يدي ، ثم الإضافة نظيرها هذا أبي فأنا ابنه ، ثم الوضع نظيره لغتي ولحني ، ثم أن يفعل نظيره أكلت ، ثم أن ينفعل نظيره شبعت ، ومنهم اختلاف الصور في الأمهات كالفيل والحمار والأسد والصرصر ، نظير هذا القوة الإنسانية التي تقبل الصور المعنوية من مذموم ومحمود ، هذا فطن فهو فيل ، هذا بليد فهو حمار ، هذا شجاع فهو أسد ، هذا جبان فهو صرصر أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ، وهو إحسان الله ، فهو رؤية عباده في حركاتهم وتصرفاتهم ، فشهوده لكل شيء هو إحسانه ، فإنه بشهوده يحفظه من الهلاك ـ خلاصة وتحقيق ـ لما تحير العارفون فيه فيقولون في وقت : هو ، وفي وقت : ما هو. وفي وقت : هو ما هو ، فلا تستقر لهم فيه قدم ، ولا يتضح لهم إليه طريق أمم ، لأنهم يشهدونه عين الآية والطريق ، فتحول هذه المشاهدة بينهم وبين طلب غاية الطريق ، إذ لا تسلك الطريق إلا إلى غاياتها ، والمقصود معهم وهو الرفيق ، فلا سالك ولا سلوك ، فتذهب الإشارات وليست سواه ، وتطيح العبارات وما هي إلا إياه ، فلا ينكر على العارف ما يهيم فيه من العالم ، وما يتوهمه من المعالم ، ولو لا أن هذا الأمر كما ذكرناه ، ما أحب نبي ولا رسول أهلا ولا ولدا ، ولا آثر على أحد أحدا ، وذلك لتفاضل الآيات ، وتقلب العالم هو عين الآيات ، وليست غير شؤون الحق التي هو فيها ، وقد رفع بعضها فوق بعض درجات ، لأنه بتلك الصورة ظهر في أسمائه ، فعلمنا تفاضل بعضها على بعض بالعموم والخصوص ، فهو الغني عن العالمين ، وهو القائل (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فأين الخالق من الغني؟

٥٩

وأين القابض منه والمانع؟ وأين العالم في إحاطته من القادر والقاهر؟ فهل هذا كله إلا عين ما وقع في العالم ، فما تصرف رسول ولا عارف إلا فيه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وذلك لأن من الناس من في أذنه وقر وعلى بصره غشاوة ، وعلى قلبه قفل وفي فكره حيرة ، وفي علمه شبهة وبسمعه صمم ، وو الله ما هو هذا كله عند العارف إلا للقرب المفرط (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) ولهذا هام في العالم العارفون ، وتحقق بمحبته المتحققون ، ولهذا قلنا فيه في بعض عباراتنا : إنه مرآة الحق ، فما رأى العارفون فيه إلا صورة الحق ، وهو سبحانه الجميل ، والجمال محبوب لذاته ، والهيبة له في قلوب الناظرين إليه ذاتية ، فأورث المحبة والهيبة.

(أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ) (٥٤)

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) فإنه تعالى أبان لنا في هذه الإحالة عن أحسن الطرق في العلم به ، فتبين لنا أنه الحق ، وأنه على كل شيء شهيد ، وقال في حق من عدل عن هذا النظر بالنظر فيه تعالى ابتداء (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) فلو رجعوا إلى ما دعاهم إليه من النظر في نفوسهم ، لم يكونوا في مرية من لقاء ربهم [من عرف نفسه عرف ربه] ثم تمم وقال : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) ـ الوجه الأول ـ وأراد هنا شيئية الوجود لا شيئية الثبوت ، فإن الأمر هناك لا يتصف بالإحاطة ، فكل ما سوى الله لا يمكنه الخروج من قبضة الحق ، فهو موجدهم ، فارجع بالنظر والاستقبال إلى ما منه خرجت ، فإنه لا أين لك غيره ، وانظر فيه تجده محيطا بك مع كونه مستقبلك ، فقد جمع بين الإطلاق والتقييد ـ الوجه الثاني ـ لما كان ظهور الحق في الآيات وفي الأنفس هو الذي تبين له بالآيات تمم وقال : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من العالم (مُحِيطٌ) والإحاطة بالشيء تستر ذلك الشيء ، فيكون الظاهر المحيط لا ذلك الشيء ، وصار ذلك الشيء وهو العالم في المحيط كالروح للجسم ، والمحيط كالجسم للروح ، الواحد شهادة وهو المحيط الظاهر والآخر غيب وهو المستور بهذه الإحاطة وهو عين العالم ، ولما كان الحكم للموصوف بالغيب في الظاهر الذي هو الشهادة ، وكانت أعيان شيئيات العالم على استعدادات في أنفسها ، حكمت على الظاهر فيها بما تقتضيه حقائقها ، فظهرت صورها في المحيط وهو الحق ، فقيل عرش وكرسي وأفلاك

٦٠