رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) (٦)

كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينشىء في الليل بما وفقه الله إليه من العمل الصالح الذي شرعه له صورا عملية ليلية ، ولم تكن هذه الصور إلا الصلاة بالليل دون سائر الأعمال ، وفيها يقرأ القرآن ، ولذلك قال (أَشَدُّ وَطْئاً) أي أعظم تمهيدا ، لأنه قال (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وليس إلا القرآن الجامع ، وأشد ثباتا ، فإنه لا ينسخ كما نسخت سائر الكتب قبله به ، وإن ثبت ما ثبت منها مما ورد في القرآن ، ولهذا جاء بلفظة المفاضلة في الثبوت ، فهو أشد ثبوتا منها لاتصاله بالقيامة ، وفيه ما في الكتب وما ليس في الكتب ، ثم قال عن هذا العمل المنشأء (وَأَقْوَمُ قِيلاً) ولا أقوم قيلا من القرآن ، وإن كان القيل الإلهي كله قويما ، فإن الاستقامة سارية في الأقوال ، كما هي سارية في الجواهر والأعراض والأحوال ، ولكن فيه قويم وأقوم بالنسبة إلينا ، مثل قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) هذا من أقوم القيل ، فإنه ما من شيء يكون فيه كثرة لأمثال إلا ولابد فيه من التفاضل حتما ، فالقرآن أقوم قيلا ، وهو الحاوي على كل شيء أوتيناه وأهدى سبيلا :

نواشىء الليل فيها الخير أجمعه

فيها النزول من الرحمن بالكرم

يدنو إلينا بنا حتى يساعدنا

بما يدليه من طرائف الحكم

فالكل يعبده والكل يشكره

إلا الذي خص بالخسران والنقم

إن الولي تراه وقت غفلته

يبكي ويدعوه في داج من الظلم

يا رب يا رب لا يبغي به بدلا

خلقا عظيما كما قد جاء في القلم

وفي إنشاء هذه الصور العملية يستعين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وورثته من بعده بالله لإحيائها ـ حياة تقع بها الفائدة ـ وإنشائها على الشهود ، وهو قوله تعالى (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً). ـ رقيقة ـ من كان خلقه القرآن من ورثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنشأ صورة الأعمال في ليل طبيعته فقد بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبره ، فحياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد موته حياة سنّته ، ومن أحياه فكأنما أحيا الناس جميعا.

(إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) (٧)

٤٠١

سبحا أي فراغا لمعاشك ، وأمرنا بالتسبيح آناء الليل وأطراف النهار ، وما تعرض لذكر النهار في هذا الحكم ، فالنهار لك والليل له ، فإذا كنت له في الليل وأطراف النهار كان لك هو في النهار.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) (٨)

التبتل الانقطاع عما سوى الله تعالى ، ومنه فاطمة البتول :

يا من إليه تضرعي

كم ذا تريد تمنعي

كم ذا طلبت وصالكم

بتبتل وتخشع

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) (٩)

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ). ـ إشارة ـ إلى التصرف في الجهات ، وما ذكر منها إلا المشرق وهو الظاهر ، والمغرب وهو الباطن ، وبالعين الواحدة التي هي الشمس إذا طلعت أحدثت اسم المشرق ، وإذا غربت أحدثت اسم المغرب ، والإنسان ظاهر وباطن (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) في ظاهرك وباطنك ، فإنه رب المشرق والمغرب ، وبهذا الاسم في قوله تعالى (وَكِيلاً) ثبت الملك والملك للخلق ، فإنا ما وكلناه إلا في التصرف في أمورنا فيما هو لنا ، لعلمنا بكمال علمه فينا ، فإنه يعلم منا ما لا نعلمه من نفوسنا ، والوكيل بلا شك خليفة الموكل فيما وكله فيه ، فكونه إلها ما هو كونه وكيلا ، ومن هذه الحقيقة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل] فأمر الله العبد بأن يتخذه وكيلا بعد أن ملّكه جميع ما خلقه له من منافعه ، ليتفرغ الإنسان لما خلق له من عبادة ربه ، ولا تعارض بين ذلك وبين قوله تعالى (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) فجعل الإنفاق بيد العبد والملك لله ، وفي هذا القدر الذي أمرهم به من الإنفاق فيه ، أمرهم أن يتخذوه وكيلا ، فلا تنافي بين المقامين ، فالملك لله والإنفاق للعبد بحيث الأمر ، وما أطلق له في ذلك ، وفي الإنفاق أمر الله أن يوكل الله في ذلك ، لعلمه بمواضع الإنفاق والمصارف التي ترضي رب المال في الإنفاق ، فنزلت الشرائع أبانت له مصارف المال ، فأنفق على بصيرة بنظر الوكيل ، فمن أنفق فيما لم يأمره الوكيل بالإنفاق فيه ، فعلى المنفق قيمة ما استهلك من مال

٤٠٢

من استخلفه فيه ، ولا شيء له ، فإنه مفلس بحكم الأصل ، فلا حكم عليه ، وهذا هو آخر تهليل ورد في القرآن الذي وصل إلينا ، وهي ستة وثلاثون مقاما ، وهذا التوحيد السادس والثلاثون ، هو توحيد الوكالة ، وهو من توحيد الهوية ، وفي هذا التوحيد ملّك الله العالم الإنساني جميع ما خلقه له من منافعه ، وأمره أن يوكل الله في ذلك ، فأعطى هذا التوحيد الإنسان رفع الحكم عنه فيما أتلف من مال من استخلفه ، ـ تحقيق ـ الوكالة نيابة عن الموكل فيما وكله فيه أن يقوم مقامه ، فأثبت لك الشيء وسألك أن تستنيبه فيه بحكم الوكالة ، فمن كلّ وجه النيابة مشروعة ، وهل تصح من جهة الحقيقة أم لا؟ فمنا من يقول : إنها تصحّ من جهة الحقيقة ، فإن الأموال ما خلقت إلا لنا ، إذ لا حاجة لله إليها ، فهي لنا حقيقة ، ثم وكلنا الحق تعالى أن يتصرف لنا فيها ، لعلمنا أنه أعلم بالمصلحة ، فتصرف على وجه الحكمة التي تقتضي أن تعود على الموكل منه منفعة ، فأتلف ماله هذا الوكيل الحق تعالى ، بغرق أو حرق أو خسف ، أو ما شاء ، تجارة له ، ليكسبه بذلك في الدار الآخرة أكثر مما قيل إنه في ظاهر الأمر إتلاف ، وما هو إتلاف بل هي تجارة ، بيع بنسيئة ، يسمى مثل هذا تجارة رزء ، لكن ربحها عظيم ، وهذا علم يعرفه الوكيل لا الموكل ، وهو يحفظ عليه ماله لمصلحة أخرى يقتضيها علمه فيها ، ومنا من وكّل الله ، فاستخلفه الوكيل في التصرف على حدّ ما يرسمه الوكيل ، لعلم الوكيل بالمصلحة ، فصار الموكل وكيلا عن وكيله ، وهو الذي لا يتعدى الأمر المشروع في تصرفه ، فهو وإن كان المال له فالتصرف فيه بحكم وكيله ، وهذا نظر غريب ، ومنا من قال : لا تصح من جهة الحقيقة ، فإن الله ما خلق الأشياء ـ والأموال من الأشياء ـ إلا له تعالى ، لتسبيحه ، ووقعت المنفعة لنا بحكم التبعية ، فإذا خلق الأشياء من أجله لا من أجلنا ، فما لنا شيء نوكله فيه ، لكن نحن وكلاؤه في الأشياء ، فحدّ لنا حدودا فنتصرف فيها على ما حدّ لنا ، فإن زدنا على ما رسم لنا أو نقصنا عاقبنا ، فلو كانت الأموال لنا لكان تصرفنا فيها مطلقا ، وما وقع الأمر هكذا ، بل حجر علينا التصرف فيها ، فما هي وكالة مفوضة بل مقيدة بوجوه مخصوصة من رب المال الذي هو الحق الموكل ، وعلى كل وجه فالنيابة حاصلة ، إما منه تعالى ، وإما منا ، وقد ثبتت في أي طرف كان وفي هذه الآية أمر الله عبده بالسكون تحت مجاري الأقدار ، وما يأتي به الله إليه في الليل والنهار ، فيكون هو سبحانه الذي يتصرف في أمر عبده ، حتى يوفيه ما قدر له

٤٠٣

من كل ما يصيبه ، حتى إنّه لو كان مما يصيبه السفر والانتقال ، لنقله الحق بهذه الصفة التي هو عليها من السكون في محفة عناية إلهية ، لا يعرف الحركة المتعبة ، مستريحا مظللا عليه مخدوما ، والتوكل اعتماد القلب على الله تعالى ، مع عدم الاضطراب عند فقد الأسباب الموضوعة في العالم التي من شأن النفوس أن تركن إليها ، فإن اضطرب فليس بمتوكل ، وهو من صفات المؤمنين ، فالمؤمن العالم يتخذ الله وكيلا يسلم إليه أموره ، ويجعل زمامها بيده ، فهو أعلم بما يصلح له ، ونبه تعالى بهذا الأمر أنه لا ينبغي الوكالة إلا لمن هو إله ، لأنه عالم بالمصالح إذ هو خالقها ، فاتخاذه تعالى وكيلا إنما هو في المصلحة لنا لا في عين الأشياء ، فالعبد يتخذ الله وكيلا نائبا عنه فيما ملّكه إياه ، شكرا على ما أولاه ، والذين اتخذوه وكيلا صاروا أمواتا بين يديه ، فصاروا كالميت بين يدي الغاسل ، ولهذا أعطاهم صفة التقديس وهي الطهارة ـ إشارة ـ العجب ممّن اتخذ مستخلفه وكيلا ، فلو لا الأمر الرباني ، لرده الأدب الكياني ، فإنه ليس للعبد من الجرأة أن يوكل سيده ، فلما تبرع بذلك لعباده ، ونزل إليهم من كبريائه بلطفه الخفي ، اتخذوه وكيلا ، وأورثهم هذا النزول إدلالا ، كما أنه لو لا أن الحق أعطى العبد الاستقلال بالخلافة ما قال له عن نفسه تعالى آمرا (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) ولا قال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أنت الخليفة في الأهل والصاحب في السفر] وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم القائل [إن الله أدبني فأحسن أدبي] ـ شعر :

أنا صاحب الملك الذي قال إنني

أنا نائب فيه بأصدق قيل

ولو لم يكن ملكي لما صح أن أرى

موكله والحق فيه وكيلي

وعن أمرنا كانت وكالتنا له

وبرهان دعواي وعين دليلي

كتاب له حق وفيه اعترافه

بما قلت فيه فالسبيل سبيلي

يقول بأضداد الأمور وجوده

فقد حرت فيه وهو خير جليل

عجبت له من غائب وهو حاضر

بتنفيذ أخبار وبعث رسول

إلى من؟ وإن العين عين وجوده

وممن؟ فقد حرنا فكيف وصولي

إلى منزل ما فيه عين غريبة

ولا حيرة فيها شفاء غليل

يقول الشيخ الأكبر رضي الله عنه : خاطبني الحق في سري ، من اتخذني وكيلا فقد ولاني ، ومن ولاني فله مطالبتي وعليّ إقامة الحساب فيما ولاني فيه ، يقول الشيخ رضي

٤٠٤

الله عنه : فانعكس الأمر وتبدلت المراتب ، هذا صنع الله مع عباده الذين اصطفاهم وارتضاهم ، وما فوق هذا الامتنان امتنان ترقى الهمة إلى طلبه.

(وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) (١١)

كما أبطن الله رحمته في عذابه ونقمته ، مثل ما يقع بالمريض من عذابه بالمرض ، رحمته به فيما يكفر عنه من الذنوب ، وكذلك من انتقم منه في إقامة الحد ارتفعت عنه المطالبة في الدار الآخرة ، كذلك أبطن نقمته في نعمته ، فهو ينعم الآن بما به يتعذب ، لبطون العذاب في الدار الآخرة ، فسبحان من أبطن رحمته في عذابه وعذابه في رحمته ، ونعمته في نقمته ونقمته في نعمته.

(إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا (١٢) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (١٧) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (١٨) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ

٤٠٥

يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (٢٠)

والله يقدر الليل والنهار ، بالإيلاج والغشيان والتكوير ، لإيجاد ما سبق في علمه أن يظهر فيه ، من الأحكام والأعيان في العالم العنصري ، وأما قوله تعالى (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) اعلم أن التعوذ بالله من الشيطان الرجيم عند افتتاح قراءة القرآن في صلاة وفي غيرها فرض ، للأمر الإلهي الوارد في قوله تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) وقراءة البسملة في القراءة في الصلاة فرضا كانت الصلاة أو نفلا في الفاتحة والسورة أولى من تركها ، فإن الفرض على المصلي أن يقرأ ما تيسر من القرآن ، وقد عيّن الله الذي أراد من القرآن في الصلاة ، وهو الذي تيسر ، فقد عرّف بعد ما نكر ، وذلك هو الفاتحة ، فإن تيسر له قراءة البسملة قرأها ، وإن لم يتيسر قراءتها في الفاتحة وغيرها فلا حرج ، وأما الفاتحة فلابد منها في الصلاة ، وإن لم يقرأ الفاتحة فما هي الصلاة التي قسمها الحق بينه وبين عبده ، والبسملة عندنا آية من القرآن حيثما وردت من القرآن ، وهي آية إلا في سورة النمل في كتاب سليمان عليه‌السلام ، فإنها جزء من آية ما هي آية كاملة ، فقراءة الفاتحة فاتحة الكتاب في الصلاة واجبة ، وإن تركها لم تجزه صلاته ، وما عداها من القرآن ما فيه توقيت ، ويستحب القراءة في الصلاة كلها ، والعاقل الأديب مع الله إذا دخل في الصلاة لا يناجيه إلا بقراءة أم القرآن ، فهي الجامعة لكلامه ، فكان الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي رواه عن ربه تعالى ، مفسرا لما تيسر من القرآن ، وإذا ورد أمر مجمل من الشارع ، ثم ذكر الشارع وجها خاصا مما يكون تفسيرا لذلك المجمل ، كان الواجب عند الأدباء من العلماء أن لا يتعدوا في تفسير ذلك المجمل ما فسره به قائله وهو الله تعالى ، وأن يقفوا عنده ، وشرع المناجاة بالكلام الإلهي في حال القيام في الصلاة خاصة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [يقول

٤٠٦

الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : نصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، يقول العبد الحمد لله رب العالمين ، يقول الله : حمدني عبدي ـ الحديث ـ] (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) فالفاتحة قرآن من حيث ما اجتمع العبد والرب في الصلاة ، وهي فرقان من حيث ما تميز به العبد من الربّ مما اختص به في القراءة من الصلاة ، والعبد في الفاتحة قد أبان الحق بمنزلته فيها ، وأنه لا صلاة له إلا بها ، فإنها تعرفه بمنزلته من ربه ، وأنها منزلة مقسمة بين عبد ورب. كما ثبت ، فقال تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) الزكاة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع ، فلا خلاف في ذلك ، وهي واجبة على كل مسلم حر بالغ عاقل مالك للنصاب ملكا تاما ، والزكاة واجبة في المال لا على المكلف ، وإنما هو مكلف في إخراجها من المال ، والأولى أن يكون كل ناظر في المال هو المخاطب بإخراج الزكاة منه ، وعلى ذلك فإن الوصي على المحجور عليه يخرج عنه الزكاة وليس له فيه شيء ، ولهذا قلنا : إنها حق في المال ؛ فإن الصغير لا يجب عليه شيء ، وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتجارة في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة ، وعلى ذلك فإن الصدقة أي الزكاة واجبة في مال اليتيم يخرجها وليه ، وواجبة في مال المجنون والمحجور عليه يخرجها وليه ، وواجبة في مال العبد يخرجها العبد ، وأما أهل الذمة فالذي أذهب إليه أنه لا يجوز أخذ الزكاة من كافر ، وإن كانت واجبة عليه مع جميع الواجبات ، لأنه لا يقبل منه شيء مما كلف به إلا بعد حصول الإيمان به ، فإن كان من أهل الكتاب ففيه عندنا نظر ، فإن أخذ الجزية منهم قد يكون تقريرا من الشارع لهم على دينهم الذي هم عليه ، فهو مشروع لهم ، فيجب عليهم إقامة دينهم ، فإن كان فيه أداء زكاة وجاؤا بها. قبلت منهم ، وليس لنا طلب الزكاة من مشرك ، وإن جاء بها قبلناها ، والكافر هنا المشرك ليس الموحد ، فلا زكاة على أهل الذمة بمعنى أنها لا تجزي عنهم إذا أخرجوها ، مع كونها واجبة عليهم كسائر فروض الشريعة ، لعدم الشرط المصحح لها وهو الإيمان بجميع ما جاءت به الشريعة ، لا بها ولا ببعض ما جاء به الشرع ، فلو آمن بالزكاة وحدها أو بشيء من الفرائض أنها فريضة ، أو بشيء من النوافل أنها نافلة ، ولو ترك الإيمان بأمر واحد من فرض أو نفل لم يقبل منه إيمانه إلا أن يؤمن بالجميع ، ومع هذا فليس لنا أن نسأل ذميا زكاته ، فإن أتى بها من نفسه فليس لنا ردها ، لأنه جاء بها إلينا من غير مسئلة ، فيأخذها السلطان لبيت مال المسلمين ، لا يأخذها زكاة ولا يردها ، فإن ردها فقد عصى أمر

٤٠٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حكمة فرض الزكاة ـ الأصل الذي ظهرت عنه الأشياء من أسمائه الاسم القدوس ، وهو الطاهر لذاته من دنس المحدثات ، فلما ظهرت الأشياء في أعيانها وحصلت فيها دعاوي الملاك بالملكية ، طرأ عليها من نسبة الملك إلى غير منشئها ما أزالها عن الطهارة الأصلية ، التي كانت لها من إضافتها إلى منشئها قبل أن يلحقها هذا الدنس العرضي بملك الغير لها ، وكفى بالحدث حدثا ، فجعل الزكاة طهارة للأموال. واتفق العلماء على أن الزكاة تجب في ثمانية أشياء محصورة في المولدات ، من معدن ونبات وحيوان ، فالمعدن الذهب والفضة ، والنبات الحنطة والشعير والتمر ، والحيوان الإبل والبقر والغنم ، فكذلك من جهة الاعتبار في الإنسان ، جعل الله عليه زكاة جوارحه الثمانية ، وهي السمع والبصر واللسان واليد والرجل والبطن والفرج والقلب ، عيّن الله فيها نصيبا يرجع إلى الله عن أمر الله ، لينسبها إلى مالكها الأصلي ، فتكتسب الطهارة في كل عضو ، فزكاة البصر ما يجب لله تعالى فيه من الحق ، كالغضّ عن المحرمات ، والنظر فيما يؤدي النظر إليه من القربة عند الله كالنظر في المصحف ، وفي وجه العالم ، وفي وجه من يسرّ بنظرك إليه من أهل وولد وأمثالهم ، وكالنظر إلى الكعبة ، إلى غير ذلك ، وعلى هذا النحو تنظر في جميع الأعضاء المكلفة في الإنسان ، في تصريفها فيما ينبغي وكفها عما ينبغي (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) خاطب الحق أصحاب الجدة واختبر عباده بالمال ، ثم اختبرهم بالسؤال منه ، وأنزل الحق نفسه منزلة السائلين من عباده أهل الحاجة أهل الثروة منهم ، بقوله في الحديث [يا عبدي استطعمتك فلم تطعمني ، واستسقيتك فلم تسقني] أما العلماء فالتذوا بسماع هذا الخطاب حيث كانوا ، فإذا أقرضوه رأوا أن الصدقة تقع بيد الرحمن ، فحصل لهم بالمال وإعطائه مناولة الحق منهم ذلك ، فكانت لهم وصلة المناولة ، وعلمنا بتقييد القرض بالحسن أنه تعالى يريد أن نرى النعمة منه وأنها نعمته ، فالحسن في العمل أن تشهد الله فيه ، فإنه من الإحسان ، وهو أن تعبد الله كأنك تراه ، وذلك أن تعلم أن المال مال الله ، وأن ملكك إياه بتمليك الله ، وبعد التمليك نزل إليك في ألطافه إلى باب المقارضة. يقول لك : يغيب عنك طلبي منك القرض في هذا المال ، من أن تعرف أن هذا المال هو عين مالي ، ما هو لك ، فكما لا يعز عليك ولا يصعب إذا رأيت أحدا يتصرف في ماله كيف شاء ، كذلك لا يعز عليك ولا يصعب ما أطلبه منك مما جعلتك مستخلفا فيه ، لعلمك بأني ما طلبت منك إلا ما أمنتك

٤٠٨

عليه ، لأعطيه من أشاء من عبادي ، والزكاة معينة ، ما أعطيتها قط لك ، بل أمنتك عليها ، والأمين لا يصعب عليه أداء الأمانة إلى أهلها ، فإذا جاءك المصدق الذي هو رسول رب الأمانة ووكيلها ، أد إليه أمانته عن طيب نفس ، فإن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنك إذا رأيته علمت أن المال ماله والعبد عبده ، والتصرف له ولا مكره له ، وتعلم أن هذه الأشياء إن عملتها لا يعود على الله منها نفع ، وإذا أنت لم تعملها لا يتضرر بذلك ، وأن الكل يعود عليك ، فالزم الأحسن إليك تكن محسنا إلى نفسك ، وإذا كنت محسنا كنت متقيا أذى شح نفسك ، فجمع لك هذا الفعل الإحسان والتقوى ، ولما كان كل قرض جر نفعا فهو ربا ، والله لا ينهى عن الربا ويأخذه منا ، لذلك كان العبد المقرض أن لا يقرض لأجل التضاعف ، بل لأجل الأمر ، فلا يخطر له عند الإعطاء النفع ، وللمعطى الذي هو المقترض أن يحسن في الوفاء ، ويزيد فوق ذلك ما شاء من غير أن يكون شرطا في نفس القرض ، فإن الله قد وعد بتضاعف الأجر في القرض ، فالإحسان في الجزاء يوم القيامة لله تعالى على ذلك ، وهذا معنى قوله تعالى (حَسَناً) في وصف القرض ، فإن الله يعاملنا بما شرع لنا لا بغير ذلك ، والله تعالى أمر عباده هنا بهذه الثلاثة : الصلاة والزكاة والقرض الحسن ، والقرض هنا صدقة التطوع ، فورد الأمر بالقرض كما ورد بإعطاء الزكاة ، والفرق بينهما أن الزكاة موقتة بالزمان والنصاب وبالأصناف الذين تدفع إليهم ، والقرض ليس كذلك ، وقد تدخل الزكاة هنا في القرض ، فكأنه يقول (وَآتُوا الزَّكاةَ) قرضا لله بها فيضاعفها لكم ، فالقرض الذي لا يدخل في الزكاة غير موقّت لا في نفسه ولا في الزمان ولا بصنف من الأصناف ، والزكاة المشروعة والصدقة لفظتان بمعنى واحد ، قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وقال تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) فسماها صدقة ، فالواجب منها يسمى زكاة وصدقة ، وغير الواجب فيها تسمى صدقة التطوع ولا تسمى زكاة شرعا ، أي لم يطلق الشرع عليه هذه اللفظة ، مع وجود المعنى فيها من النمو والبركة والتطهير ، فإن الفرض قد عيّن الله أصنافه ورتبه على نصاب معين وزمان معين ، والتطوع من ذلك لا يقف عند شيء ، فإن التطوع إعطاء ربوبية فلا يتقيد ، والفرض إعطاء عبودية فهو بحسب ما يرسم له سيده ، وإعطاء العبودية أفضل ، فإن الفرض أفضل من النفل ، وأين عبودية الاضطرار من عبودية الاختيار؟ وسماها الله صدقة أي كلفة شديدة على النفس ،

٤٠٩

لخروجها عن طبعها في ذلك ، لأن النفس مجبولة على حب المال وجمعه ، ولهذا آنسها الحق تعالى بقول نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنفس [إن الصدقة تقع بيد الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله] وذلك لأمرين : أحدهما ليكون السائل يأخذها من يد الرحمن لا من يد المتصدق ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول [إنها تقع بيد الرحمن قبل أن تقع بيد السائل] فتكون المنة لله على السائل لا للمتصدق ، فإن الله طلب منه القرض ، والسائل ترجمان الحق في طلب هذا القرض ، فلا يخجل السائل إذا كان مؤمنا من المتصدق ، ولا يرى أن له فضلا عليه ، فإن المتصدق إنما أعطى الله القرض الذي سأل منه وليربيها له ، وهذا من الغيرة الإلهية والفضل الإلهي ، والأمر الآخر ، ليعلمه أنها مودعة في موضع تربو له فيه وتزيد ، هذا كله ليسخو بإخراجها ويتّقي شح نفسه ، وفي جبلة الإنسان طلب الأرباح في التجارة ونمو المال ، فلهذا جاء الخبر بأن الله يربي الصدقات ، ليكون العبد في إخراج المال من الحرص عليه الطبيعي لأجل المعاوضة والزيادة والبركة بكونه زكاة ، كما هو في جمع المال وشح النفس من الحرص عليه الطبيعي ، فرفق الله به حيث لم يخرجه عما جبله الله عليه ، فالبخيل بالصدقة بعد هذا التعريف الإلهي وما تعطيه جبلة النفوس من تضاعف الأموال ، دليل على قلة الإيمان عند هذا البخيل ، إذ لو كان مؤمنا على يقين من ربه ، مصدقا له فيما أخبر به عن نفسه في قرض عبده وتجارته ، لسارع بالطبع إلى ذلك كما يسارع به في الدنيا مع أشكاله ، عاجلا وآجلا ، ولهذا سماها الله صدقة ، أي هي أمر شديد على النفس ، تقول العرب : رمح صدق ؛ أي صلب شديد قوي ، أي تجد النفس لإخراج هذا المال لله شدة وحرجا ، كما قال ثعلبة ابن حاطب ، ولما كان القرض فيه سد الخلة ، قالت اليهود (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) أي من أجل فقره طلب القرض منا ، وغابوا عن الذي أراده الحق تعالى من ذلك ، من غاية وصلته بخلقه ، كما جاء في الصحيح [جعت فلم تطعمني] ثم قال تعالى (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) وإن كان الخير كل فعل مقرب إلى الله من صدقة وغيرها ، ولكن مع هذا فقد انطلق على المال خصوصا اسم الخير ، قال تعالى (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) وقال تعالى (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) يعني المال (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

٤١٠

(٧٤) سورة المدّثر مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٣)

ـ إشارة ـ في معنى قولك «الله أكبر».

أكبره في كل فعل على الذي

تجلى من الأسماء لناظري

فإن الذي يبدو إليّ هو الذي

أراه بذاك الفعل ربي وآمري

اعلم أن للجمع حضرتين ، فإن الوجود كله مبني على اثنين ، فالله وأعني به الاسم حضرة جامعة لجميع الأسماء الحسنى ، والذات التي لها الألوهية حضرة جامعة لجميع الصفات القدسية الذاتية ، والصفات الفاعلة في العالم الأبعد والأدنى ، والأرفع والأسفل ، فإذا كنت في حالة من الحالات ، من أحوال الأرض أو من أحوال السماء ، فلا شك أنك تحت اسم من الأسماء ، سواء عرفت ذلك أو لم تعرف ، أوقفت في مشاهدته أو لم تقف ، فإن ذلك الاسم الذي يحركك ويسكنك ، أو يكونك أو يمكنك ، يقول لك : أنا إلهك ؛ ويصدق في قوله ، فيجب عليك أن تقول : الله أكبر ، وأنت يا اسم سبب فعله ؛ تلك الرفعة السببية ، ولله الرفعة الإلهية ، ويصح فعل هذا على طريق المفاضلة ، فإنها في حضرة المماثلة ، قال الله تعالى (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) كذلك له الصفات العليا ، فإن الله هو الرحمن الرحيم ، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن ، العزيز الجبار المتكبر ، الخالق البارىء المصور ، الأول الآخر ، الظاهر الباطن ، الشاكر العليم ، القادر الرؤوف الرحيم الرزاق إلى ما يعلم منها ، وما لا يعلم ، وما يفهم من صفاته وما لا يفهم ، وعلى هذا يصح الله أكبر ، وبه تثبت المعارف الإلهية وتتقرر ، وهذا أمر مجمل ، تفصله أعمالك ، وسر مبهم توضحه أحوالك ، واعلم أن الذات لا تتجلى إليك أبدا من حيث هي ، وإنما تتجلى إليك من حيث صفة ما معتلية ، وكذلك اسم الله لا يعرف أبدا معناه ، ولا يسكن وقتا ما في مغناه ، وبهذا السر تميز الإله من المألوه ، والرب من المربوب ، ولو

٤١١

لم يكن كذلك لالتحق المهلك بالهالك ، فقد بانت الرتب ، وعرفت النسب ، وثبتت حقيقة السبب ، جعلنا الله وإياكم ممن شاهد محركه فكبر ، فتجلى له ما هو أكبر ـ راجع سورة العنكبوت آية ٤٥.

(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (٤)

قيل في تفسيره إنه أمر بتقصير ثيابه ، يقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في هذا المعنى :

تقصيرك الثوب حقا

أنقى وأبقى وأتقى

 ـ إشارة لا تفسير ـ الثوب في الاعتبار القلب ، وهو أن يطهر العبد قلبه ، وطهارته هو البراءة من نفسه ورد الأمر كله إلى الله ، فإن الله يقول (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ) فيا أيّها العقل طهّر ثوب سرك ، وبقعة قلبك لتجلي ربّك ، فإنّ سرّ الطهارة معقول ، كما أنّ فعلها منقول. ويا أيّها الحسّ طهّر ثوبك بالتقصير ، فإنّ الفائزين أهل التشمير ، وطهّر بقعتك النفيسة من عالم التخليط ، فإنك من عالم التخطيط ، عسى يفيض عليك شيء من العالم البسيط ، فإن فاض عليك منه شيء فهو نور أنت فيؤه ، وعود أنت بدؤه ، وظهور أنت خبؤه ، فلو لا ظهورك ما سرى إليك نوره فيك ، وبفيضه عليك وحاجتك إليه تعزّز ، فاعرف قدرك وقدره ، وتحقّق شمسه وبدره ، وأشرقت الأرض بنور ربها ، وذلك النور طهور تربها.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) (٦)

إن الله يمن على عباده بما يمتن عليهم من المنن الجسام ، ولذا سميت مننا ، وليس للعباد أن يمتنوا ، لأن النعم ليست إلا لمن خلقها ، فلهذا كان المن من الله محمودا ، لأنه ينبه عباده بما أنعم عليهم ليرجعوا إليه ، وكان مذموما من العباد لأنه كذب محض.

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) (٨)

٤١٢

الناقور هو الصور ، وهو الحضرة البرزخية التي ننتقل إليها بعد الموت ونشهد نفوسنا فيها ، وينقر في الناقور ، وينفخ في الصور ، وهو هو بعينه ، واختلفت عليه الأسماء لاختلاف الأحوال والصفات.

(فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) (١٨)

اعلم أن جميع الحواس لا تخطىء أبدا ، فإن إدراك الحواس الأشياء إدراك ذاتي ، ولا تؤثر العلل الظاهرة العارضة في الذاتيات ، وإدراك العقل على قسمين : إدراك ذاتي فهو فيه كالحواس لا يخطىء ، وإدراك غير ذاتي ، وهو ما يدركه بالآلة التي هي الفكر وبالآلة التي هي الحس ، فالخيال يقلد الحس فيما يعطيه ، والفكر ينظر في الخيال فيجد الأمور مفردات ، فيحب أن ينشىء منها صورة يحفظها العقل ، فينسب بعض المفردات إلى بعض ، فقد يخطىء في النسبة الأمر على ما هو عليه وقد يصيب ، فحكم العقل على ذلك الحد يخطىء ويصيب ، فالفكر يصيب العاقل به ويخطىء ، ولكن خطأه أكثر من إصابته ، لأن له حدا يقف عنده ، فمتى وقف عند حده أصاب ولابد ، ومتى جاوز حده إلى ما هو لحكم قوة أخرى قد يصيب ويخطىء.

(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) (٢٣)

إخبار بعجز من أراد معارضة القرآن ، وإقراره بأن الأمر عظيم ، فإن النظر الفكري ينقسم إلى صحيح وإلى فاسد ، فلا يتعدّى بالفكر محله.

٤١٣

(فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (٢٤)

السحر هو الذي يظهر فيه وجه إلى الحق وهو في نفس الأمر ليس حقا ، مشتق من السحر الزماني ، وهو اختلاط الضوء والظلمة ، فما هو بليل لما خالطه من ضوء الصبح ، وهو ليس بنهار لعدم طلوع الشمس للأبصار ، فكان هذا الذي يسمى سحرا ما هو باطل محقق فيكون عدما ، فإن العين أدركت أمرا لا تشك فيه ، وما هو حق محض فيكون له وجود في عينه ، فإنه ليس في نفسه كما تشهده العين ويظنه الرائي.

(إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (٢٧) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣٠)

وهم ملائكة العذاب ، فإذا لم يبق في النار إلا أهلها القاطنون بها ، الذين لا خروج لهم منها ، وأرادت ملائكة العذاب التسعة عشر عذاب أهل النار ، تجسد من الرحمة المركبة تسعة عشر ملكا ، فحالوا بين ملائكة العذاب. وأهل النار ، ووقفوا دونهم ، وعضدتهم الرحمة التي وسعت كل شيء ، فتجد ملائكة العذاب في نفوسهم رحمة بأهل النار ، فيشفعون لهم عند الله ، ويكونون لهم بعد ما كانوا عليهم ، فإذا شفعت التسعة عشر ملكا في أهل جهنم ـ للرحمة التي سبقت ـ قبل الله شفاعتهم وارتفعت الآلام ، فراحتهم ارتفاع الآلام لا وجود النعيم ، وهذا القدر هو نعيم أهل جهنم.

(وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ

٤١٤

رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) (٣١)

(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي ما يحصيهم عددا إلا هو ، فإذا كانت الجنود لا يعلمها إلا هو ، وليس للحق منازع يحتاج هؤلاء الجنود إلى مقابلته فاعجب! ، لذلك قال (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) فإن عالم الإنسان لما كان ملكا لله تعالى ، كان الحق تعالى ملكا لهذا الملك بالتدبير فيه وبالتفصيل ، ولهذا وصف تعالى بأن (لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وقال (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) فهو تعالى حافظ هذه المدينة الإنسانية لكونها حضرته التي وسعته ، وهي عين مملكته ، وما وصف نفسه بالجنود والقوة إلا وقد علم أنه تعالى قد سبقت مشيئته في خلقه أن يخلق له منازعا ينازعه في حضرته ، ويثور عليه في ملكه بنفوذ مشيئته فيه وسابق علمه وكلمته التي لا تتبدل ، سماه الحارث ، وجعل له خيلا ورجلا ، وسلطه على هذا الإنسان ، فأجلب هذا العدو على هذا الملك الإنساني بخيله ورجله ، ووعده بالغرور بسفراء خواطره التي تمشي بينه وبين الإنسان ، فجعل الله في مقابلة أجناده أجناد ملائكته ، فلما تراءى الجمعان ، وهو في قلب جيشه ، جعل له ميمنة وميسرة وتقدمة وساقة ، وعرفنا بذلك لنأخذ حذرنا منه من هذه الجهات ، فقال الله تعالى لنا إنه قال هذا العدو (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) وهو في قلب جيشه في باطن الإنسان ، فحفظ الله هذا الملك الإنساني بأن كان الله في قلب هذا الجيش ، وهذا العسكر الإنساني في مقابلة جيش الشيطان ، ولا يزال القتال يعمل على هذا الإنسان المؤمن خاصة ، فيقاتل الله عنه ليحفظ عليه إيمانه ، ويقاتل عليه إبليس ليرده إليه ويسلب عنه الإيمان ويخرجه عن طريق سعادته ، حسدا منه ، فإنه إذا أخرجه تبرأ منه وجثا بين يدي ربه ، وعرفنا الله بذلك كلّه لنعرف مكايده ، فهو يقول للإنسان بما يزين له : اكفر ، فإذا كفر يقول (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها).

(كَلَّا وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) (٣٤)

معناه أظهر إلى الأبصار المبصرات ، يقال : سفرت المرأة عن وجهها ، إذا أزالت برقعها

٤١٥

الذي يستر وجهها ، فبان للبصر ما هي عليه الصور من الحسن والقبح ، وسمى السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال ، معناه أنه يظهر ما ينطوي عليه كل إنسان من الأخلاق المذمومة والمحمودة.

(إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ (٣٦) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣٨)

أي قيدها كسبها ، فإن الله ما كلف أحدا إلا بحاله ووسعه ، ما كلف أحدا بحال أحد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إنما هي أعمالكم ترد عليكم] إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

(إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) (٣٩)

يريد يمين المبايعة التي بيدها الميثاق لا يمين الجارحة.

(فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ) (٤١)

ووصف تعالى أهل سقر إذا قيل لهم.

(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٤٦)

فيدخلون بهذه الصفات من باب سقر ، أحد أبواب جهنم السبعة.

(حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤٨)

قال تعالى (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) فإنهم في ذلك اليوم يعرفون ، بل عند موتهم ، أنهم ليسوا ممن يقبل كلامهم.

٤١٦

(فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ) (٥١)

القسورة الأسد.

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً (٥٢) كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (٥٥) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (٥٦)

(٧٥) سورة القيامة مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (١)

يوم القيامة هو يوم العدل في القضاء ، وهو يوم قيام الناس من قبورهم لرب العالمين لفصل القضاء.

(وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (٢)

لوامة نفسها إذا قبلت من الشيطان ما يأمرها به.

(أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (٥) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (٦) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ) (٨)

٤١٧

إن النفوس ما تنبعث وتهتز إلا للآيات الخارقة للعادة ، والآيات الإلهية منها معتاد وغير معتاد ، والقرآن قد ورد في الآيات المعتادة كثير في قوله (وَمِنْ آياتِهِ) (وَمِنْ آياتِهِ) ويذكر أمورا معتادة ثم يقول : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) ولكن لا ترفع العامة بها رأسا لجري العادة ، واستيلاء الغفلة ، وعدم الحضور. والكسوف آية من آيات الله يخوف الله به عباده ، وسبب كسوف الشمس والقمر معروف ، وقد جعل الله الكسوف آية على ما يريد أن يحدثه من الكوائن في العالم العنصري ، وفي العالم الذي يظهر فيه الكسوف وفي الزمان ، فإنه قد يكسف ليلا ، ويكون الحدث أيضا بحسب البرج الذي يقع الكسوف فيه ، وهو علم قطعي ، أعني علم وقوع الكسوف ، لا علم ما يحدث الله فيه أو عنده ، ويكون الكسوف في مكان أكثر منه في مكان آخر ، وفي مكان دون مكان ، ويبتدىء في مكان وفي مكان آخر ما ابتدأ ، بل هو على حاله ، وهذا كله يعرفه العلماء به ، فإنه راجع إلى حركات معلومة معدودة عند أهل هذا الشأن ، وسبب كسوف الشمس من القمر إذا كان في مسامتتها ، فعلى قدر ما يسامتها منه يغيب منها عن أبصارنا ، فذلك الظل الذي نراه في الشمس هو من جرم القمر ، وقد يحجبها كلها فيظلم الجو ، فيقع الإبصار على جرم القمر ، فتتخيل العامة أن ذلك المرئي هو ذات الشمس ، والشمس نيرة في ذاتها على عادتها إلى أن يشاء الله تكويرها ، ولذلك يعرف زمان كسوفها ومقداره عند العارفين بتسيير الكواكب ، ولا يكون أبدا إلا في آخر الشهر العربي ، فإن القمر في ذلك الزمان يكون في المحاق والاحتراق تحت الشعاع ، فإن أعطى الحساب ما يؤدي إلى المسامتة عندنا وقع الكسوف بلا شك. وكذلك كسوف القمر إنما هو أن يحول ظل الأرض بينه وبين الشمس ، فعلى قدر ما يحول بينهما يكون الكسوف في ذلك الموضع ، ولهذا يعرف ، والخطأ فيه قليل جدا ، ولو لم يكن الأمر على هذا ما علم ، فإن الأمور العوارض لا تعلم إلا بإعلام الله على لسان من شاء من عباده ، والأمور جارية على أصولها ثابتة لا تنخرم ، يعلمها العالم بتلك الأصول ، وهي معتادة موضوعة لله تعالى واضعها ، ما هي عقلية ، ولا سبب ذلك طبيعي ، ولهذا يجوز خرق العادة فيها ، وهكذا كل موضوع إلى أن يخرم الله ذلك الأصل ، فلله المشيئة في ذلك. فالكسوف لا يكون إلا عند الكمال في النيرين في القمر ليلة بدره ، وكسوف الشمس في ثمانية وعشرين يوما من سير القمر في جميع منازل الفلك. ولا يكون للكسوفات حكم في الأرض إلا في

٤١٨

الأماكن التي يظهر فيها الكسوف ، وأما الأماكن التي لا يظهر فيها الكسوف فلا حكم يظهر فيها له ولا أثر ، أي ما يفعل الله عند ذلك شيئا في العالم من الكوائن التي يفعلها عند ظهور الكسوف ، حتى أن الشمس إذا أعطى الحساب أنها تكسف ليلا لم يكن لذلك الكسوف حكم في ظاهر الأرض التي لم يظهر الكسوف فيها ، وكذلك كسوف القمر في الحكم ، سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكسوف فقال [ما تجلى الله لشيء إلا خشع له]. وهو ما يظهر لعين الرائي من التغيير في الشمس أو القمر وإن لم يتغيرا في أنفسهما ، فأبدى الحق لعين الرائي ما في نفس الشمس والقمر في ذلك الزمان من الخشوع لله في صورة ذهاب النور ، فما هلك من البدر إلا نوره لا عينه ، وبقيت ذاته وكونه ، فقد كان ذا نور فاظلم ، واستترت الأشياء حين أعتم ، فقال تعالى مع علمه بالخبر خسف القمر ، وعين القمر هو الظاهر في الكسوفين ، والمتجلي في الوجودين ، وهذا لا يمنع الأسباب المؤدية للكسوف المعلومة لدى العلماء بالفلك ، فإن الله من وراء الأسباب ، وكما لا يتعين للكسوف وقت ، لا يتعين للصلاة له ، لأن الصلاة تابعة للأحوال ، وقد ثبت الأمر بالصلاة لها ، وما خص وقتا من وقت ، وهي صلاة مأمور بها بخلاف النافلة ، فإن حملنا الصلاة على الدعاء ، دعونا في الوقت المنهي عن الصلاة فيه وصلينا في غيره من الأوقات ، فصلاة الكسوف سنّة ، والخلاف في صفتها وردت فيها روايات مختلفة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما بين ثابت وغير ثابت ، وما من رواية إلا وبها قائل ، فأي شخص صلاها على أي رواية كانت جاز له ذلك فإنه مخير ، والرواية التي هي أحب إليّ هي دعاء الله تعالى بتضرع وخشوع حتى تنجلي ، فإذا انجلى صلى الإنسان ركعتين شكرا لله تعالى وانصرف ، وهذه الرواية أحب إليّ لما فيها من احترام الجناب الإلهي ، والرحمة بالأمة المصلين لها ، فإنهم لاستيلاء الغفلات والبطالات عليهم لا يوفون بشروط ما تستحقه الصلاة من الحضور والآداب ، فربما يمقت المصلي ولا يشعر ، أو تثقل عليه تلك العبادة فيتبرم منها ، فلذلك جعلنا رواية الدعاء من غير صلاة أولى ، والصلاة في جماعة أولى إن قدر عليها ، والذي أذهب إليه أنه يستحب للإمام أن يخطب الناس ليذكرهم ويحذرهم ، فإن الكسوف من الآيات التي يخوف الله بها عباده ، وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الناس بعد الفراغ من الصلاة.

٤١٩

(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلَّا لَا وَزَرَ) (١١)

لا ملجأ ، فإن تيقنت النفس بورودها على تلك الأهوال ، سهل عليها عند ذلك ركوب شدائد الأعمال ، فراقب يا أخي الأوقات وخف الفوات ، واتق الأوقات ، وقدم ما تحبه بين يديك ، وثق به سبحانه وعول عليه ، فمن إليه الرجوع حتما ، ينبغي للعاقل أن يتخذ عنده يدا.

(إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) (١٢)

فثبت المقر وجعل إليه المفر إشارة : (كَلَّا لا وَزَرَ) لمن قال لا مفر (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) مستقر قلبك ، ومقر لبّك.

(يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (١٥)

انظر أيها الولي الحميم إلى ما يحوك في صدرك ، لا تنظر إلى العوارض ، فإنك بحسب ما يحوك ، فإن حاك الإيمان فأنت مؤمن ، وإن حاك صرف ما وجب به الإيمان إلى ما لا يقتضيه ظاهر الحكم فأنت بحسب ذلك ، وبه يختم لك ، ولا تنظر إلى ما يبدو للناس منك ، ولا تعول إلا على ما يحوك في صدرك ، فإنه لا يحوك في صدرك إلا ما سبق في الكتاب أن يختم به لك ، إلا أن الناس في غفلة عما نبهتهم عليه ، ولا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، وذلك الذي يحوك في صدرك ، وهو عين تجلي الأمر الذي لك ، وقسمك من الوجود الحق.

(لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (١٦)

وذلك أدبا مع أستاذه جبريل عليه‌السلام ، فإنه كان يعجل بالقرآن إعلاما بالحال أن الله تولى تعليمه بنفسه من الوجه الخاص الذي لا يشعر به الملك ، ولذلك قال مؤيدا :

٤٢٠