رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

وأملاك وعناصر ومولدات وأحوال تعرض ، وما ثم إلا الله ـ الوجه الثالث ـ (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي له في كل شيء إحاطة بما في ذلك المعلوم عليه ، إذا كانت الباء بمعنى في.

(٤٢) سورة الشّورى مكيّة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

(حم (١) عسق (٢) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥)

(وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [كل أمر لا يبدأ فيه بحمد الله ـ أو قال بذكر الله ـ فهو أجذم] أي مقطوع عن الله ، وإذا كان مقطوعا عن الله فإن شاء قبله وإن شاء لم يقبله ، وإذا بدىء فيه بذكر الله فكان موصولا به غير مقطوع ، أي ليس بأجذم ، فذكر الله مقبول ، فالموصول به مقبول بلا شك ، فمن علم الملائكة أنهم يسبحون بحمد ربهم استفتاحا إيثارا لجناب الله ، والرب المصلح ، ولا يرد الإصلاح إلا على فساد ، وما ذكر عنهم أنهم يسبحون بحمد غيره من الأسماء الإلهية ، لعلمهم أن المتوجه على العالم إنما هو الاسم الرب ، إذ كان الغالب على عالم الأرض سلطان الهوى ، وهو الذي يورث الفساد ، ثم بعد تسبيحهم بحمد ربهم (يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) مطلقا ، من غير تعيين مؤمن من غيره ، فإن الأرض جامعة ، فدخل المؤمن وغيره في هذا الاستغفار ، فهذا الصنف من الملائكة أنزل المغفرة موضعها ، فإن الله ما علّق المغفرة إلا بالذنب حيث علقها ، ما قالوا مثل الصنف الآخر من الملائكة الذي حكى الله عنهم أنهم يستغفرون للذين تابوا ، فتنوعت مشارب الملائكة ، كما قالوا : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) فلله ملائكة يستغفرون لمن في الأرض ، ولله ملائكة يستغفرون للذين آمنوا ، وجعل الله الاضطرار في العباد ، فإذا

٦١

رجعوا إلى الحق في حوائجهم من غير توبة التقريب كما قال : (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) في القرب ، فعادوا كما قال ، فتعاين الملائكة ذلك الرجوع بالصورة ، فيستغفرون لمن في الأرض فيجاب الدعاء ، فإذا كان الرجوع بتوبة التقريب استغفر لهم الذين يستغفرون للذين آمنوا ، فما أعم الرحمة في الدنيا وما أخصها في الآخرة ، لله مائة رحمة جعل منها واحدة في الدنيا ، فعمت هذا العموم على الانفراد ، ورحم الناس بها بعضهم بعضا ، فإذا كان يوم القيامة أضاف هذه الرحمة إلى التسعة والتسعين ورحم بها الخلق ، ووقعت بها الشفاعة وما عمّت هذا التعميم ، فانظروا هذا المعنى وتحققوه ، وكل الناس يحار فيه إلا من عرف أن التصرف للرحمة ، وغيرها إنما هو بحكم الموطن لا بنفسها ، فهنا السر الذي يحصل به العلم ، ثم إن الله بشر أهل الأرض بقبول استغفار الملائكة بقوله : (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ولم يقل الفعال لما يريد ، ومن هذا استروحنا مآل عباد الله إلى الرحمة وإن سكنوا النار ، فلهم فيها رحمة لا يعلمها غيرهم ، وربما تعطيهم تلك الرحمة أن لو شموا رائحة من روائح الجنة تضرروا بها ، كما تضر رياح الورد والطيب بأمزجة المحرورين.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٧)

(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) الجمع ظهر في ثلاث مواطن ، في أخذ الميثاق ، وفي البرزخ بين الدنيا والآخرة ، والجمع في البعث بعد الموت ، وما ثمّ بعد هذا الجمع جمع يعم ، فإنه بعد القيامة كل دار تستقل بأهلها ، فلا يجتمع عالم الإنس والجن (١) بعد هذا الجمع أبدا ، فإذا ظهر الحق لعباده فتولى الفصل بينهم بحكمه بنفسه ـ وهو العزيز العليم ـ فإذا فصل وحكم وعدل وأفضل ، جعلهم في الفصل فريقين (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ) وهو الفريق السعيد في دار كرامته ، دار الثواب والنعمة ، وقيّم تلك الدار رضوان ، فإنها دار رضوان

__________________

(١) يعني مؤمنيهم وكافريهم.

٦٢

(وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) وهو سجن الرحمن ، دار العذاب والنقمة ، وقيّمها مالك ومعناه الشديد ، يقال ملكت العجين إذا شددت عجنه.

(وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٩)

(فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ) الولي هو الناصر. واعلم أن نعت الولاية لا ينسبها الله لنفسه إلا بتعلق خاص للمؤمنين خاصة والصالحين من عباده ، وذلك من حيث أنّها النصر ، ولكن الولاية من الله ـ من حيث هي ولاية ـ عامة في مخلوقاته من حيث ما هم عبيده ، وبهذه الولاية تولاهم في الإيجاد ، ومن ذلك المشركون ، فمن عموم ولايته أن تولاهم بالوجود في أعيانهم ، وبحفظ الوجود عليهم ، وبتمشية أغراضهم ، وتولاهم بما رزقهم مما فيه قوام عيشهم ومصالحهم عموما ، ووفق من وفق منهم بولايتهم لوضع نواميس جعلها في نفوسهم من غير تنزل ، الذي هو الشرع ، فوضعها حكماء زمانهم وذوو الرأي منهم العلماء بما يصلح العالم ، فتولاهم سبحانه بأن قرر في أنفسهم ما ينبغي أن تكون به المصلحة لهم ، مراعاة لكل جزء منهم ، فإن كل جزء من العالم مسبح لله تعالى من كافر وغير كافر ، فإن أعضاء الكافر كلها مسبحة لله ، ولهذا يشهد عليه يوم القيامة جلده وسمعه وبصره ويده ورجله ، غير أن العالم لا يفقهون هذا التسبيح ، وسريان هذه العبادة في الموجودات ، وهذا من توليه سبحانه ، ثم إنه تولاهم بإنزال الشرائع الصادقة المعرّفة بمصالح الدنيا والآخرة ، ثم تولاهم بما أوجد من الرحمة فيهم التي يتعاطفون بها بعضهم على بعض ، في الوالدين بأولادهم في تربيتهم ، وبالأولاد على والديهم من البر بهم والاعتماد عليهم ، وبما جعل من شفقة المالكين على مماليكهم ، وعلى ما يملكونه من الحيوانات ، وتولى الحيوان بما جعل فيهم من عطف الأمهات على أولادها في كل حيوان يحتاج الولد إلى تدبير أمه ، وتولاهم بالأغراض ليهون عليهم المشقات ، ويسمى مثل هذا تسخيرا ، فيخرج الشخص لنيل غرضه فيما يزعم ، وهو من حيث التولي الإلهي ما خرج إلا في حق الغير ، وهو يتوهم أنه في حق نفسه ، وذلك

٦٣

كله لأنه تعالى جعل الوجود كله ناطقا بتسبيحه ، عالما بصلاته ، فلم يتولّ الله إلا المؤمنين ، وما ثمّ إلا مؤمن ، والكفر عرض عرض للإنسان بمجيء الشرائع المنزلة من أجل التعريف بما هي الدار الآخرة عليه ـ نصيحة ـ الولي الله ، فلا تجالس غيره ، ولا تتحدث إلا معه ، فإنه يسمع عباده ، فأسمع الله ، فإنك إن أسمعت غيره فقد أسأت الأدب معه ، ألا ترى أن الإنسان إذا أقبل على كلامه جليسه فأسمع غيره أخجله؟ وإذا أخجله لم يأمن غائلته ، وأهون غائلته أن يقطع به في الموضع الذي يحتاج إليه فيه.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (١٠)

من رحمة الله بعباده أن جعل حكم ما اختلفوا فيه إلى الله ، من حيث أنّ الأسماء الإلهية هي سبب الاختلاف ، ولا سيما أسماء التقابل ، يؤيد ذلك قوله (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) لأنه ليس غير أسمائه فإنه القائل (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) ولم يقل بالله ولا بالرحمن ، فجعل الاسم عين المسمى هنا ، كما جعله في موضع آخر غير المسمى ، فلما قال (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) والإشارة بذا إلى الله المذكور في قوله (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) فلو لم يكن هنا الاسم عين المسمى في قوله الله لم يصح قوله ربي والخلاف ظهر في الأسماء الإلهية فظهر حكم الله في العالم به ، فيحكم على الخلاف الواقع في العالم بأنه عين حكم الله ، ظهر في صورة المخالفين.

(فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (١١)

اعلم أنه لما اختلفت الأمزجة كان في العالم العالم والأعلم ، والفاضل والأفضل ، فمنهم من عرف الله مطلقا من غير تقييد ، ومنهم من لا يقدر على تحصيل العلم بالله حتى يقيده بالصفات التي لا توهم الحدوث وتقتضي كمال الموصوف ، ومنهم من لا يقدر على العلم بالله حتى يقيده بصفات الحدوث ، فيدخله تحت حكم ظرفية الزمان وظرفية المكان والحد

٦٤

والمقدار ، ولما كان الأمر في العلم بالله في العالم في أصل خلقه وعلى هذا المزاج الطبيعي ، أنزل الله الشرائع على هذه المراتب ، حتى يعمّ الفضل الإلهي جميع الخلق كله ، فأنزل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وهو لأهل العلم بالله مطلقا من غير تقييد ، وأنزل قوله تعالى : (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) و (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) و (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وهذا كله في حق من قيده بصفات الكمال ، وأنزل تعالى من الشرائع (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) و (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) و (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) وهذا في حق من قيده بصفات الحدوث ، فعمت الشرائع ما تطلبه أمزجة العالم ، ولا يخلو المعتقد من أحد هذه الأقسام ، والكامل المزاج هو الذي يعم جميع هذه الاعتقادات ، ويعلم مصادرها ومواردها ولا يغيب عنه منها شيء ، فإن ذات الحق وإنّيته مجهولة عند الكون ، ولا سيما وقد أخبر جل جلاله عن نفسه بالنقيضين في الكتاب والسنة ، فشبّه في موضع ونزه في موضع ب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، وشبه بقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فتفرقت خواطر التشبيه وتشتت خواطر التنزيه ، فإن المنزه على الحقيقة قد قيده وحصره في تنزيهه وأخلى عنه التشبيه ، والمشبّه أيضا قيده وحصره في التشبيه وأخلى عنه التنزيه ، والحق في الجمع بالقول بحكم الطائفتين ، فلا ينزه تنزيها يخرج عن التشبيه ، ولا يشبّه تشبيها يخرج عن التنزيه ، فلا تطلق ولا تقيد ، لتميّزه عن التقييد ، ولو تميّز تقيّد في إطلاقه ، ولو تقيّد في إطلاقه لم يكن هو ، فهو المقيّد بما قيّد به نفسه من صفات الجلال ، وهو المطلق بما سمى به نفسه من أسماء الكمال ، وهو الواحد الحق الجلي الخفي ، لا إله إلا هو العلي العظيم ، وتميزه تعالى إنما هو بأنه لا يتصف بصفات المحدثات على الوجه الذي يتصف به المحدث الممكن ، لأنه ليس كمثله شيء ، فلا يعرف العبد ربه إلا بالسلوب ، فإن الله تعالى لا يتصف بالحصر ولا بالحد ، ولا يتميز بذلك عندنا ، فقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ثناء بالتنزيه للذات ، فهو كمال ذاتي ، فإن للذات الغنى المطلق عن العالمين ، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ثناء بالكمال الإلهي لطلب المسموع والمبصر ، فإن الكمال الإلهي بالفعل هو في نفوذ الاقتدار في المقدورات ، ونفوذ الإرادة في المرادات ، وظهور أحكام الأسماء الإلهية ، والكمال الذاتي للذات الغنى المطلق عن هذا كله ، يقول

٦٥

بعض العلماء في التوحيد : إن الحق يعطي المناسبة من وجه ولا يعطي المناسبة من وجه ، ويقول جماعة من العلماء بنفي المناسبة جملة واحدة ، ومذهبنا أنا بحسب ما يلقي إلينا في حق نفسه ، فإن خاطبنا بالمناسبة قلنا بها حيث خاطبنا ، لا نتعدى ذلك الموضع ونفتصر عليه ، وإن خاطبنا برفع المناسبة رفعناها في ذلك الموطن الذي رفعها فيه لا نتعداه ، فيكون الحكم له لا لنا ، هذا هو الذي نعتمد عليه ، فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على زيادة الكاف رفع للمناسبة الشيئية ، لأنه ما ثمّ موجود لا يغيب له عين ولا يحصره أين إلا الله ، وتمام الآية (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) إثبات للمناسبة ، والآية واحدة والكلمات مختلفة ، فلا نعدل عن هذه المحجة فهو أقوى حجة ، قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فنفى ، فإن الحقائق ترمي بالتشبيه ، لأن الجوهر ما هو عين الصورة ، فلا حكم للتشبيه عليه ، ثم قال : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فأثبت التشبيه إثباتا للصور ، والآية تقتضي عموم الإثبات في عين النفي وفيما بعده إذا جعلت الكاف للصفة ، ويؤيد هذا النظر الخبر ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : [إن الله خلق آدم على صورته] ونفى مماثلته في حال اتصافه بهذا الوصف ، فالحق سبحانه هو الواحد الكثير ، فأين التنزيه من التشبيه والآية واحدة؟ وهي كلامه عن نفسه على جهة التعريف لنا بما هو عليه في ذاته ، ففصل بليس وأثبت بهو ، فهو الواحد بذاته ، الكثير بأسمائه وصفاته ، وقد وصف الله نفسه بالتعجب والضحك والفرح والتبشبش وأشباه هذه الصفات الخلقية ، ووصف نفسه بليس كمثله شيء فيها ، فمن الأدب أن تنسب إليه تعالى ما نسبه إلى نفسه وإن ردّته الأدلة العقلية ، فإن الدليل العقلي أيضا قد علّمنا أن بعض الكون لا يعرفه على حد ما يعرف نفسه ، فهو المجهول المعروف ، لا إله إلا هو ، فإن النعوت التي أحالتها الأدلة العقلية ، وجاءت بصحتها الألفاظ النبوية والأخبار الإلهية ، يبطل اتصاف الحق بها من حيث حقيقة ذلك الوصف للممكن ، فلم يبق إلا الاشتراك في اللفظ ، إذ قد بطل الاشتراك في الحد والحقيقة ، فلا يجمع صفة الحق وصفة العبد حد واحد أصلا ، فبطل ما قالوه وطردوه شاهدا وغائبا ، فلم يكن قولنا في الله إنه عالم على حد ما نقول في الممكن الحادث إنه عالم ، من طريق حد العلم وحقيقته ، فإن نسبة العلم إلى الله تخالف نسبة العلم إلى الخلق الممكن ، ولو كان عين العلم القديم هو عين العلم المحدث لجمعهما حدّ واحد ذاتي ، أعني العلمين ، واستحال عليه ما يستحيل على مثله من حيث ذاته ، ووجدنا الأمر

٦٦

على خلاف ذلك ، وعلى ذلك نقول في هذه الآية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) إنها أصل في التنزيه لأهله ، وأصل في التشبيه لأهله ، من وجه التنزيه نزه سبحانه نفسه أن يشبهه شيء من المخلوقات ، أو يشبه شيئا بقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فأعلم بأنه لا يستوي الحق والخلق (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فأبهم ، فحيّر العقول والفهوم بين الإعلام والإبهام ، ففي هذه الآية نفى التشبيه المفهوم منه على زيادة الكاف أو فرض المثل ، إذ كان لا يستحيل فرض المحال ، فإن بعض العلماء يرى في ذلك أنه لو فرض له مثل لم يماثل ذلك المثل ، فأحرى أن يماثل هو في نفسه ، فما حظ العقل من الشرع مما يستقل به دليله إلا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على زيادة الكاف ، لا على إثباتها صفة ، ومن وجه التشبيه فإن الكاف كاف الصفة ما هي زائدة كما يرى بعضهم ، وتدل عند بعضهم على نفي المثل عن المثل المحقق ، وهو معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن الله خلق آدم على صورته] في بعض وجوه محتملات ، فجعله مثلا ثم نفى أن يماثل ذلك المثل فقال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي ليس مثل مثله شيء ، فالكاف في (كَمِثْلِهِ) على وجهين : وقتا على زيادة الكاف ، ووقتا على كونها صفة لفرض المثل ، وهو مذهبنا والحمد لله ، فإذا كان حرف الكاف زائدا كان المقصود منه نفي مثلية المرتبة ، قال الله عزوجل : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) فما له مثل ، إذ لو كان له مثل لم يصح نفيه ، فإنه ما نفى إلا المرتبة ، ما نفى مثلية الذات ، وما عيّن التفاضل في الأمثال إلا المراتب ، فلو زالت لزال التفاضل ، فمن ذاته يقبل الصور ، ومن مرتبته لا يقبل المثل ، وإذا كانت الكاف للصفة فمعناه ليس مثل مثله شيء ، فنفى وأثبت ، وهو قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن الله خلق آدم على صورته] فظهر في الوجود صورتان متماثلتان ، كصورة الناظر في المرآة ، ما هي عينه ولا هي غيره ، لكن حقيقة الجسم الصقيل مع النظر من الناظر أعطى ما ظهر من الصورة ، ولهذا تختلف باختلاف المرآة لا بالناظر ، فالحكم في الصورة الأكبر لحضرة المجلى لا للمتجلي ، كذلك الصورة الإنسانية في حضرة الإمكان ، لما قبلت الصورة الإلهية لم تظهر على حكم المتجلي من جميع الوجوه ، فحكم عليها حضرة المجلى وهي الإمكان ، بخلاف حكم حضرة الواجب الوجود لنفسه ، فهذا المقدار والشكل الذي لا يقبله الواجب ، وهو الناظر في هذه المرآة ، فهو من حيث حقائقه كلها هو هو ، ومن حيث مقداره وشكله ما هو هو ، وإنما هو من أثر حضرة الإمكان فيه ، الذي هو في

٦٧

المرآة تنوع شكلها ، في نفسها ومقدارها في الكبر والصغر ، فقال تعالى في حق الإنسان الكامل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي ليس مثل مثله شيء ، أي من هو مثل له بوجوده على صورته لا يقبل المثل ، أو لا يقبل الموجود على الصورة الإلهية المثال ، فعلى اعتبار الكاف زائدة يكون نفي المثلية عن الحق من جميع الوجوه ، لما أثر المحل المتجلى فيه في الصورة الكائنة ، من الشكل والمقدار الذي لا يقبله المتجلي من حيث ما هو عليه في ذاته وإن ظهر به ، فذلك حكم عين الممكن في وجوده ، وعلى اعتبار الكاف كاف التشبيه نفى المثلية عن الصورة التي ظهرت ، فلم يماثلها شيء من العالم من جميع وجوه المماثلة ، فإن المثلين اللغويين لا يلزم من وصف كل واحد منهما بالمثلية لصاحبه المماثل له الاشتراك في صفات النفس ، لأن المثلية لغوية وعقلية ، فالعقلية هي التي يشترك بها في صفات النفس ، واللغوية بأدنى شبه بأمر ما يكون مثلا له في ذلك الأمر ، فيكون للمثل حكم مثله من حيث ما هو مثله فيه وقابل له ، وما ثمّ بين العبد الإنسان الكامل والحق في (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) إلا قبول لجميع الأسماء الإلهية التي بأيدينا ، وبها صحت خلافته وفضل على الملائكة ، فالخليفة إن لم يظهر فيمن هو خليفة عليه بأحكام من استخلفه وصورته في التصرف فيه ، وإلا فما هو خليفة له ، فالمثلية الواردة في القرآن لغوية لا عقلية ، لأن المثلية العقلية تستحيل على الله تعالى ، إذ دل دليل الشرع على أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) من جميع الوجوه ، فكل ما تصورته أو مثّلته أو تخيلته فهو هالك ، والله بخلاف ذلك ، هذا عقد الجماعة إلى قيام الساعة ، وأما الدليل العقلي فلا يقول بالمثلية أصلا ، فقال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فأتى بكاف الصفة في نفي المماثلة عن المثل المفروض ، ولها عموم النفي حين تقترن بها حال مخصصة ، إذ قصارى الناظر في ذلك التوقف حتى يرى ما تعطيه قرائن الأحوال فيها ، وهذه آية صاحب الدليل العقلي ، لكنه جاء هذا النفي والإثبات للمثلية باللسان العربي ، والمماثلة في اللسان على غير المماثلة التي اصطلح على إطلاقها العقلاء أرباب النظر ، فيحتاج العاقل أن يتكلف دليلا على أن الحق أراد المماثلة العقلية ، ولا دليل يطلب من صاحب اللسان فيها ، فإنه بلسانه نزلت وعلى اصطلاحه ، ومثل هذا لا يدرك بالقياس ولا بالنظر ، فإنه يرجع إلى قصد المتكلم ، ولا يعرف ما في نفس المتكلم إلا بإفصاحه عما في نفسه ، وقد قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) والعربي لا يعرف المماثلة العقلية ولا ينكرها إذا

٦٨

سمعها ، وكل لفظ ورد في وصف الله تعالى معرى عن لفظة المثل وحرف كاف الصفة ، فقد تعرى عن أدوات التشبيه ، ولحق بالألفاظ المشتركة. واعلم أن كاف الصفة لا فرق بينها وبين لفظة المثل ، وإن كان لهذا الحرف مواطن من جملتها موطن الصفة ، فإذا وردت في موطن الصفة في اللسان وهو أن تقول : زيد كعمرو ، فإن العرب لا تريد إلا الإفادة ، فمن المحال أن تجيء بمثل هذا وتريد أنه يماثله في الإنسانية ـ وهي المماثلة العقلية ـ وإنما تريد أنه كعمرو في الكرم مثلا ، أو في الشجاعة أو في الفصاحة أو في العلم أو في الحسن وما أشبه ذلك ، مما دل عليه الحال بقرينته عند السامع ، لتقع له الفائدة ، فإذا قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فلابد أن يقول فيماذا؟ أو يدل عليه قرينة الحال في المجلس ، ولا سيما وقد أردف نفي المماثلة بقوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وهاتان صفتان محققتان في المخلوق ، فلابد أن تحقق ما نفى ، وأن يعلم هل هي كاف الصفات أو غيرها مما يطلبه اللسان منها بما وضعها له؟ فإن كانت كاف صفة هنا فما نفى إلا مماثلة المثل أن يماثل ، فأثبت المثل له بالهاء التي في (كَمِثْلِهِ) وهي ضمير يعود على الحق ، ومعلوم أن المثل ليس عين مماثله ، ولو كان عين من هو مثل له ما كان مثلا ، لا عقلا ولا شرعا ، فوجود المثل عين إثبات الغير بلا شك ، فإن عمت المماثلة فهي العقلية بلا شك ولا ينكرها اللسان ، وإن خصت فهي لما خصت له حقيقة لا مجازا ، مثل زيد كالبحر لاتساعه في العلم أو في الجود ، ومن العلماء من جعل الكاف في (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) زائدة ، فإن كانت جاءت لمعنى فما هي زائدة ، فإن ذلك المعنى الذي سيقت له لا يظهر ولا يحصل إلا بها في نفس المخاطب ، فانتفى أن تكون زائدة ، فإن الله ما خلق شيئا باطلا ولا عبثا ، والزائد لغير معنى إنما هو عبث ، والعرب من المحال أن تجيء بزائد لغير معنى ، فإذا جاءت بهذا الحرف جاءت به لمعنى ، فهو لما جاءت به ، فإن المتكلم لا يجيء بالكلمة فيما يقوله النحوي زائدة إلا لقصد التوكيد ، فإذا زالت زال التوكيد ، فإذا ما هي زائدة ، فإن الكلام المؤكد ما استقل دونها وما يقوم مقامها ، فإذا أكد تعالى نفي المثل فما هي زائدة ، فجعل تأكيد نفي المثل في مقابلة من أثبت المثل فرضا ووجودا في زعمه ، والصحيح في هذه الكاف أنها كاف الصفة بقرائن الأحوال ، أي لو فرض له مثل لم يماثل ذلك المثل ، فأحرى أن لا يماثل ، فهو أبلغ في المعنى في نفي المماثلة في اللسان ، ثم نقول في قولنا بقرائن الأحوال لكون الحق ما وصف الإنسان الكامل إلا بما

٦٩

وصف به نفسه ، فنفى مماثلة الإنسان الكامل أن يماثله شيء من العالم ، ويعضد هذا قوله إنه خلق آدم على صورته ، فهذا خبر يقع به الأنس للنفس ، فما في العالم زائد لغير معنى ، لأنه ما فيه عبث ولا باطل ، بل كل ما فيه مقصود لمعنى ، فأتى بكاف الصفة ـ ما هي الكاف زائدة كما ذهب إليه بعض الناس ممن لا معرفة له بالحقائق حذرا من التشبيه ـ فنفى أن يماثل المثل غير من هو مثله ، فنفي المثل عن مثل المماثل ، نفي المثل عن المماثل ، أي ليس مثل مثله شيء ، وما مثله إلا من خلق على صورته ، فنفى سبحانه أن يماثل المثل فهو أحق. واعلم أنه لا جامع بين العبودية والربوبية بوجه من الوجوه ، وأنهما أشد الأشياء في التقابل ، فإن المثلين وإن تقابلا فإنهما يشتركان في صفات النفس ، وكل ضدين أو مختلفين من العالم فلابد من جامع يجتمعان فيه إلا العبد والرب ، فإن كل واحد لا يجتمع مع الآخر في أمر ما من الأمور جملة واحدة ، فالعبد من لا يكون فيه من الربوبية وجه ، والرب من لا يكون فيه من العبودية وجه ، فلا يجتمع الرب والعبد أبدا ، فكما لا يكون العبد ربا لأنه لنفسه عبد ، فإن الرب لذاته هو رب ، فلا يتصف العبد بشيء من صفات الحق بالمعنى الذي اتصف بها الحق ، ولا الحق يتصف بما هو حقيقة للعبد ، وغاية صاحب الوهم أن يجمع بين الرب والعبد في الوجود ، وذلك ليس بجامع ، فإني لا أعني بالجامع إطلاق الألفاظ ، وإنما أعني بالجامع نسبة المعنى إلى كل واحد على حد نسبته إلى الآخر ، وهذا غير موجود في الوجود المنسوب إلى الرب والوجود المنسوب إلى العبد ، فإن وجود الرب عينه ، ووجود العبد حكم يحكم به على العبد ، ومن حيث عينه قد يكون موجودا وغير موجود ، والحد في الحالين على السواء في عينه ، فإذا ليس وجوده عينه ، ووجود الرب عينه ، فقال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على وجوه كثيرة ، قد علم الله ما يؤول إليه قول كل متأول في هذه الآية ، وأعلاها قولا ، أي ليس في الوجود شيء يماثل الحق ، أو هو مثل الحق ، إذ الوجود ليس غير عين الحق ، فما في الوجود شيء سواه يكون مثلا له أو خلافا ، هذا ما لا يتصور ، فإن الله هو عين الوجود ، وإن أعيان الممكنات على حالها ، ما تغير عليها وصف في عينها ، فإن قلت : فهذه الكثرة المشهودة؟ قلنا : هي نسب أحكام استعدادات الممكنات في عين الوجود الحق ، والنسب ليست أعيانا ولا أشياء ، وإنما هي أمور عدمية بالنظر إلى حقائق النسب ، فإذا لم يكن في الوجود شيء سواه فليس مثله شيء ، لأنه ليس

٧٠

ثمّ ، فإنّ أعيان الممكنات ما استفادت إلا الوجود ، والوجود ليس غير عين الحق ، لأنه يستحيل أن يكون أمرا زائدا ليس الحق ، لما يعطيه الدليل الواضح ، فما ظهر في الوجود بالوجود إلا الحق ، وهو واحد ، فليس ثم شيء هو له مثل ، لأنه لا يصح أن يكون ثمّ وجودان مختلفان أو متماثلان ، فإن الحق له التقدم على الخلق بالوجود من جميع الوجوه بالمكانة والرتبة ، فكان ولا مخلوق ، وهذا تقدم الوجود ، وقدّر وقضى وحكم وأمضى إمضاء لا يرد ولا يقضى عليه ، فهذا تقدم الرتبة ، فوجب التأخر عن رتبة الحق من جميع الوجوه ، فلا يجتمع الخلق والحق أبدا في وجه من الوجوه ، فالعبد عبد لنفسه ، والرب رب لنفسه ، فالعبودية لا تصح إلا لمن يعرفها ، فيعلم أنه ليس فيها من الربوبية شيء ، والربوبية لا تصح إلا لمن يعرفها ، فيعرف أنه ليس فيها من العبودية شيء ، ولما علمنا أنه من تأخر عن أمر فقد انقطع عنه ، علمنا أن كل واحد قد تميز في رتبته عن الآخر بلا شك ، وإن أطلق على كل واحد ما أطلق على الآخر ، فيتوهم الاشتراك وهو لا اشتراك فيه ، فإن الرتبة قد ميزته ، فيقبل كل واحد ذلك الإطلاق على ما تعطيه الرتبة التي تميز بها ، فإنا نعلم قطعا أن الأسماء الإلهية التي بأيدينا تطلق على الله وتطلق علينا ، ونعلم قطعا بعلمنا برتبتنا وبعلمنا برتبة الحق ، أن نسبة تلك الأسماء التي وقع في الظاهر الاشتراك في اللفظ بها إلى الله غير نسبتها إلينا ، فما انفصل عنا إلا بربوبيته ، وما انفصلنا عنه إلا بعبوديتنا ، فمن لزم رتبته منا فما جنى على نفسه ، بل أعطى الأمر حقه ، فينبغي للعبد أن لا يقوم في مقام يشم منه فيه رائحة ربوبية ، فإن ذلك زور وعين جهل ، وصاحبه ما حصل له مقام العبودة كما هو الأمر في نفسه ـ مسئلة ـ أمهات المطالب أربعة ، وهي : هل ، سؤال عن الوجود ، وما ، وهو سؤال عن الحقيقة التي يعبر عنها بالماهية ، وكيف ، وهو سؤال عن الحال ، ولم ، وهو سؤال عن العلة والسبب ، واختلف الناس فيما يصح منها أن يسأل بها عن الحق ، واتفقوا على كلمة هل ، فإنه يتصور أن يسأل بها عن الحق ، واختلفوا فيما بقي ، فمنهم من منع ومنهم من أجاز فيقال للجميع من المتشرعين المجوزين والمانعين : كلكم قال وما أصاب ، وما من شيء قلتموه من منع وجواز إلا وعليكم فيه دخل ، والأولى التوقف عن الحكم بالمنع أو بالجواز ، هذا مع المتشرعين ، وأما غير المتشرعين من الحكماء فالخوض معهم في ذلك لا يجوز ، إلا إن أباح الشرع ذلك أو أوجبه ، وأما إن لم يرد في الخوض فيه معهم نطق

٧١

من الشارع فلا سبيل إلى الخوض فيه معهم فعلا ، ويتوقف في الحكم في ذلك ، فلا يحكم على من خاض فيه أنه مصيب ولا مخطىء ، وكذلك فيمن ترك الخوض ، إذ لا حكم إلا للشرع فيما يجوز أن يتلفظ به أو لا يتلفظ به ، يكون ذلك طاعة أو غير طاعة ، وأما العلم النافع في ذلك أن نقول : كما أنه سبحانه لا يشبه شيئا كذلك لا تشبهه الأشياء ، وقد قام الدليل العقلي والشرعي على نفي التشبيه وإثبات التنزيه من طريق المعنى ، وما بقي الأمر إلا في إطلاق اللفظ عليه سبحانه ، الذي أباح لنا إطلاقه عليه في القرآن أو على لسان رسوله ، فأما إطلاقه عليه فلا يخلو إما أن يكون العبد مأمورا بذلك الإطلاق ، فيكون إطلاقه طاعة فرضا ، ويكون المتلفظ به مأجورا مطيعا ، وإما أن يكون مخيرا فيكون بحسب ما يقصده المتلفظ ، وبحسب حكم الله فيه ، وإذا أطلقناه فلا يخلو الإنسان إما أن يطلقه ويصحب نفسه في ذلك الإطلاق المعنى المفهوم في الوضع بذلك اللسان ، أو لا يطلقه إلا تعبدا شرعيا على مراد الله فيه ، من غير أن يتصور المعنى الذي وضع له في ذلك اللسان ، كالفارسي الذي لا يعلم اللسان العربي وهو يتلو القرآن ولا يعقل معناه وله أجر التلاوة ، كذلك العربي فيما تشابه من القرآن والسنة ، يتلوه أو يذكر ربه به تعبدا شرعيا على مراد الله فيه ، من غير ميل إلى جانب بعينه مخصوص ، فإن التنزيه ونفي التشبيه يطلبه ، فالأسلم والأولى في حق العبد أن يرد علم ذلك إلى الله في إرادته إطلاق تلك الألفاظ عليه ، ومن ذلك أن الحق تعالى لا يتقيد وجوده مع وجود العالم بقبلية ولا معية ولا بعدية زمانية ، فإن التقدم الزماني والمكاني في حق الله ترمي به الحقائق في وجه القائل به على التحديد ، اللهم إلا إن قال به من باب التوصيل ، كما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونطق به الكتاب ، فإذا تقرر ذلك لم يبق لنا أن نقول : إلا أنّ الحق تعالى موجود بذاته لذاته ، مطلق الوجود ، غير مقيد بغيره ، ولا معلول عن شيء ، ولا علة لشيء ، بل هو خالق المعلولات والعلل ، والملك القدوس الذي لم يزل ، والعالم موجود بالله تعالى لا بنفسه ، ولا لنفسه ، مقيد الوجود بوجود الحق في ذاته ، فلا يصح وجود العالم البتة إلا بوجود الحق ، وإذا انتفى الزمان عن وجود الحق وعن وجود مبدأ العالم ، فقد وجد العالم في غير زمان ، فلا نقول من جهة ما هو الأمر عليه : إن الله موجود قبل العالم ، إذ قد ثبت أن القبل من صيغ الزمان ولا زمان ، ولا إن العالم موجود بعد الحق ، إذ لا بعدية ، ولا مع وجود الحق فإن الحق هو الذي أوجده ، وهو فاعله ومخترعه

٧٢

ولم يكن شيئا ، ولكن كما قلنا ، الحق موجود بذاته ، والعالم موجود به ، فإن سأل سائل ذو وهم : متى كان وجود العالم من وجود الحق؟ قلنا : متى سؤال زماني ، والزمان من عالم النسب ، وهو مخلوق لله تعالى ، لأن عالم النسب له خلق التقدير لا خلق الإيجاد ، فهذا سؤال باطل ، فانظر كيف تسأل؟ فلم يبق إلا وجود صرف خالص لا عن عدم ، وهو وجود الحق تعالى ، ووجود عن عدم عين الموجود نفسه ، وهو وجود العالم ، ولا بينية بين الوجودين ، ولا امتداد إلا التوهم المقدر الذي يحيله العلم ولا يبقي منه شيئا ، ولكن وجود مطلق ومقيد ، وجود فاعل ووجود منفعل ، فارتفع بهذه الآية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الأشكال والأمثال ، ولم يتقيد أمر الإله ولا انضبط ، وجهل الأمر ، وتبين أنه لم يكن معلوما في وقت الاعتقاد بأنه كان معلوما لنا ، ولم يحصل في العلم به أمر ثبوتي ، بل سلب محقق ونسبة معقولة أعطتها الآثار الموجودة في الأعيان ، فلا كيف ولا أين ولا متى ، ولا وضع ولا إضافة ، ولا عرض ولا جوهر ، ولا كم وهو المقدار ، وما بقي من العشرة إلا انفعال محقق وفاعل معين ، أو فعل ظاهر من فاعل مجهول ، يرى أثره ولا يعرف خبره ، ولا يعلم عينه ولا يجهل كونه ، فالحق لا يضاهى لأنه ليس كمثله شيء ، أما صفات التشبيه فهي مضاهاة مشروعة ، فما أنت ضاهيته ، فالعقل ينافي المضاهاة ، والشرع يثبت وينفي ، والإيمان بما جاء به الشرع هو السعادة ، فلا يتعدى العاقل ما شرع الله له ، والعاقل من هجر عقله واتبع شرعه بعقله من كونه مؤمنا ، وأكمل العقول عقل ساوى إيمانه ، وهو عزيز ـ تحقيق ـ من هذه الحقيقة الإلهية حقيقة ليس كمثله شيء ، سرت الحقيقة في المخلوقات أن لا مثل في الأعيان الموجودة ، وأن المثلية أمر معقول متوهم ، فإنه لو كانت المثلية صحيحة ما امتاز شيء عن شيء مما يقال هو مثله ، فذلك الذي امتاز به الشيء عن الشيء هو عين ذلك الشيء ، فما ثمّ مثل أصلا ، ولا يقدر على إنكار الأمثال ، ولكن بالحدود لا غير ، ولهذا نطلق المثلية من الحقيقة الجامعة المعقولة لا الموجودة ، فالأمثال معقولة لا موجودة ، فما أدرك المدرك ـ أي شيء أدرك ـ إلا من حقيقة ليس كمثله شيء ، وذلك لأن الأصل الذي نرجع إليه في وجودنا وهو الله تعالى ليس كمثله شيء ، فلا يكون ما يوجد عنه إلا على حقيقته أنه لا مثل له ، ولو كان قبول المثل موجودا في العالم ، لاستند في وجوده من ذلك الوجه إلى غير حقيقة إلهية ، وما ثمّ موجد إلا الله ، ولا مثل له ، فما في الوجود شيء له مثل ،

٧٣

بل كل موجود متميز عن غيره بحقيقة هو عليها في ذاته ، فإذا أطلق المثل لا يطلق إلا عرفا ، فإذا كان كل محدث لا يقبل المثلية كما قررنا ، فالحق أولى بهذه الصفة ـ ومن وجوه التنزيه أن غنى الحق مطلق بالنظر إلى ذاته ، والخلق مفتقر على الإطلاق بالنظر أيضا إلى ذاته ، فتميز الحق من الخلق ، وهذا التمييز لا يرتفع أبدا ، لأنه تميز ذاتي في الموصوف به من حق وخلق ، فما ثمّ إلا شيئيتان ، شيئية حق وشيئية خلق ، فليس كمثل الخلق في افتقاره شيء ، لأنه ما ثمّ إلا الحق ، والحق لا يتصف بالافتقار ، فما هو مثل الخلق ، فليس مثل الخلق شيء ، وليس كمثل الحق في غناه شيء ، لأنه ما ثمّ إلا الخلق ، والخلق لا يتصف بالغنى لذاته ، فما هو مثل الحق ، فليس مثل الحق شيء ، لأنه كما قلنا ما ثمّ شيء إلا الخلق والحق ، فمن لم يعلم قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على ما قررناه فلا علم له بهذه الآية ، فإنه جاء بالكاف ، ثم نفى المثلية عن نفسه بزيادة الكاف للتأكيد في النفي ، ثم نفى المثلية عن العالم بجعل الكاف صفة ، فعلق النفي بالمماثل في النفي ، أي انتفت عن الخلق المثلية ، لأنه ما ثمّ إلا حق لا يماثل وانتفت المثلية عن الحق لأنه ما ثم إلا خلق لا يماثل ، فأعظم الثناء عندنا في حق الحق قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) سواء كانت كاف الصفة أو كانت زائدة ، وكونها للصفة أبلغ في الثناء على العالم ، باللسان الذي نزل به القرآن ، يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه وثنائه على ربه عزوجل [لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك] يريد قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقال الصديق الأكبر رضي الله عنه : العجز عن درك الإدراك إدراك ؛ والحق سبحانه ما أثنى على نفسه بأعظم من نفي المثل ، فلا مثل له سبحانه ، ولهذا قال في حق العالم من حيث ما هو ناطق (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) والتسبيح تنزيه ، وأما قوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فكون الإله سميعا بصيرا تعلق تفصيلي ، فهما حكمان للعلم ، ووقعت التثنية من أجل المتعلق الذي هو المسموع والمبصر. واعلم أن ضوء البدر كان في السرار من الشمس في الوجه الذي ينظر إلى الشمس في حين المسامتة ، والظاهر لا نور فيه ، وفي ليلة الإبدار ينعكس الأمر ، فيكون الظهور بالاسم الظاهر ، وكذلك فعل الحق مع عامة عباده ، احتجب عنهم غاية الحجاب كالسرار في القمر فلم يدركوه فقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) رحمة بهم ، فلم يجدوا في أذهانهم ولا في طبقات أحوالهم ما يذهلهم ، فجاء سرا في رحمة حجاب هذه الآية ، وهذا غاية نزول الحق إلى عباده في

٧٤

مقام الرحمة لهم ، ثم استدرجهم قليلا قليلا بمثل (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) وقوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) إلى أن تقوت أنوار بصائرهم بالمعرفة بالله ، وأنسوا به قليلا قليلا إلى أن يتجلى لهم في المعرفة التامة النزيهة ، التي لو تجلى لهم فيها في أول الحال لهلكوا من ساعتهم ، فقال عز من قائل (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) فقبلوه ولم ينفروا منه ، ونسوا حال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فكان بقاؤهم في ذلك المقام بقطع اليأس لرفع المناسبة من جميع الوجوه. واعلم أن أعلى المحامد بلا خلاف عقلا وشرعا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، ثم تمم الآية لنعرف المقصود ويصح أول الآية فقال (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، فلو لم يتمم لكان أول الآية يؤذن بأنا لسنا بعبيد وليس هو لنا بإله ، فلابد من رابط وليس إلا الاشتراك ، إلا أنه عين الأصل في ذلك ، ونحن فيه كنسبة الفرع إلى الأصل ، وإن كان على صورته فليس هو عينه ، ونسبتنا إليه أن الوجود له ، وهو الذي استفاده منه المحدث ، فالنسبة التي ورد بها السمع نسبة العبد إلى السيد ، والمخلوق إلى الخالق ، والرب إلى المربوب ، والمقدور إلى القادر ، والمصنوع إلى الصانع ، فهذه الآية له ولنا من أجل الكاف ، والاشتراك يؤذن بالتناسب ، ولو لا المناسبة التي بيننا وبينه تعالى ما وجدنا ولا قبلنا التخلق بالأسماء الإلهية ، وأعظم الحضرات الإلهية أنه لا يشبهه شيء ، فكما انتفت المثلية عنه انتفت المثلية عن العالم وهو كل ما سوى الله ، فلا مثل لله إلا أن يكون إله ، ولا إله إلا الله ، فلا مثل لله ، ولا مثل للعالم إلا أن يكون عالم ، ولا عالم إلا هذا العالم وهو الممكنات ، فلا مثل للعالم ، فصحت المناسبة لا يعلم الحق إلا العلم ، كما لا يحمده إلا الحمد ـ خلاصة التحقيق ـ لا يعلم الحق إلا العلم ، كما لا يحمده إلا الحمد ، وأما أنت فتعلمه بواسطة العلم ، وهو حجابك ، فإنك ما تشاهد إلا العلم القائم بك ، وإن كان مطابقا للمعلوم ، وعلمك قائم بك وهو مشهودك ومعبودك ، فإياك أن تقول إن جريت على أسلوب الحقائق : إنك علمت المعلوم ، وإنما علمت العلم ، والعلم هو العالم بالمعلوم ، وبين العلم والمعلوم بحور لا يدرك قعرها ، فإن سر التعلق بينهما مع تباين الحقائق بحر عسير مركبه ، بل لا تركبه العبارة أصلا ولا الإشارة ، ولكن يدركه الكشف من خلف حجب كثيرة دقيقة ، لا يحس بها أنها على عين بصيرته لرقتها ، وهي عسيرة المدرك ، فأحرى من خلفها ، فانظر أين هو من يقول : إني علمت الشيء من ذلك الشيء؟ محدثا كان أو قديما ، بل ذلك في المحدث ، وأما القديم فأبعد وأبعد ، إذ لا مثل له ، فمن أين يتوصل إلى

٧٥

العلم به؟ أو كيف يحصل؟ والذوق الذي يكون في مشاهدة الحق لا يقع عليه اصطلاح ، فإنه ذوق الأسرار ، وهو خارج عن الذوق النظري والحسي ، فإن الأشياء ـ أي كل ما سوى الله ـ لها أمثال وأشباه ، فيمكن الاصطلاح فيها للتفهيم ، عند كل ذائق له فيها طعم ذوق ، من أي نوع كان من أنواع الإدراكات ، والبارىء ليس كمثله شيء ، فمن المحال أن يضبطه اصطلاح ، فإن الذي يشهد منه شخص ما هو عين ما شهده شخص آخر جملة واحدة ، وبهذا يعرفه العارفون ، فلا يقدر عارف بأمر أن يوصل إلى عارف آخر ما يشهده من ربه ، لأن كل واحد من العارفين شهد من لا مثل له ، ولا يكون التوصيل إلا بالأمثال ، فلو اشتركا في صورة لاصطلحا عليها بما شاءا : وإذا قبل ذلك واحد جاز أن يقبل جميع العالم ، فلا يتجلى في صورة واحدة لشخصين من العارفين ، فلما علم العارفون أن الله لا يتجلى في صورة واحدة لشخصين ، ولا في صورة واحدة مرتين ، لم ينضبط لهم الأمر ، لما كان لكل شخص تجل يخصه ، ورآه الإنسان من نفسه ، فإنه إذا تجلى له في صورة ، ثم تجلى له في صورة غيرها فعلم من هذا التجلي ما لم يعلمه من هذا التجلي الآخر من الحق ، هكذا دائما في كل تجل ، علم أن الأمر في نفسه كذلك ، في حقه وحق غيره ، فلا يقدر أن يعيّن في ذلك اصطلاحا تقع به الفائدة بين المتخاطبين ، فهم يعلمون ولا ينقال ما يعلمون ، ولا في قوة أصحاب هذا المقام الأبهج الذي لا مقام في الممكنات أعلى منه ، أن يضع عليه لفظا يدل على ما علمه منه ، إلا ما أوقعه تعالى ، وهو قوله عزوجل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فنفى المماثلة ، فما صورة يتجلى فيها لأحد تماثل صورة أخرى.

فعزّ الأمر أن يدرى فيحكى

وجلّ فليس يضبطه اصطلاح

فتجهله العقول إذا تراه

تعبر عنه ألسنة فصاح

من أقوام مقلدة عقولا

لإمكان يكون به الصلاح

فهم بالفكر قد جمعوا عليه

على جهل فخانهم الفلاح

وقال العارفون بما رأوه

فما اصطلحوا فجاءهم النجاح

فليس كمثله في الكون شيء

وليس له بنا إلا السراح

فكل ما خطر في سرك ، أو تصور وحصر في وهمك ، أو حاك وتلجلج في صدرك ، أو دل عليه عقلك ، فالله بخلاف ذلك ، فإنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

٧٦

(لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٢)

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له الفتح بها (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فهي بيده ، وما كان بيده فليس يخرج عنه ، فهو المعطي والآخذ.

(شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) (١٣)

أمر الحق في هذه الآية بإقامة الدين ، وهو شرع الوقت في كل زمان وملة ، وأن يجتمع عليه ولا يتفرق فيه ، فهو أمر على الوجوب ، فإن يد الله مع الجماعة ، وإنما يأكل الذئب القاصية ، وهي البعيدة التي شردت وانفردت عما هي الجماعة عليه ، والقائمون بالدين إذا اجتمعوا على إقامة الدين ولم يتفرقوا فيه لم يقهرهم عدو ، وكذلك الإنسان في نفسه ، إذا اجتمع في نفسه على إقامة دين الله لم يغلبه شيطان من الإنس ولا من الجن بما يوسوس به إليه ، مع مساعدة الإيمان والملك بلمته له ، وما ثمّ من الأعمال السارية في كل نبوة إلا إقامة الدين والاجتماع عليه وكلمة التوحيد ، وهو قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) الآية ـ وهو الذي بوب عليه البخاري باب ما جاء أن الأنبياء دينهم واحد ، وجاء بالألف واللام في الدين للتعريف ، لأنه كله من عند الله وإن اختلفت بعض أحكامه ، فالكل مأمور بإقامته والاجتماع عليه ، فالأنبياء دينهم واحد ، وليس إلا التوحيد وإقامة الدين والعبادة ، ففي هذا اجتمعت الأنبياء عليهم‌السلام ، فدين الأنبياء واحد ما ثم أمر زائد (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي في القيام به ، فهذه الصفة هي الجامعة لكل ذي شرع ، وإن اختلفت الشرائع ، فثمّ أمر جامع (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من الوحدة ، فهو كثير بالأحكام ، فإن له الأسماء الحسنى ، وكل اسم علامة على حقيقة معقولة ليست هي

٧٧

الأخرى ، ووجوه العالم في خروجه من العدم إلى الوجود كثيرة تطلب تلك الأسماء ، أعني المسميات ، وإن كانت العين واحدة ، كما أن العالم من حيث هو عالم واحد ، وهو كثير بالأحكام والأشخاص (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) فما ذكر لشقي هنا نعتا ولا حالا ، بل ذكر الأمر بين اجتباء وهداية ، فمن علم الهداية والاجتباء علم ما جاءت به الأنبياء ، وكلا الأمرين إليه ، فمن اجتباه إليه جاء به إليه ولم يكله إلى نفسه ، ومن هداه إليه أبان له الطريق الموصلة إليه ليسعده ، وتركه ورأيه ، فإما شاكرا وإما كفورا ، فلما لم يذكر الحق في هذه الآية العامة للشقاء اسما ولا عينا ، وذكر الاجتباء والهداية ، وهو البيان ، وجعل الأمرين إليه ، علمنا أن الحكم للرحمة التي وسعت كل شيء ، وما ذكر في المشرك إلا كون هذا الذي دعي إليه كبر عليه ، لأنه دعي من وجه واحد ، وهو يشهد الكثرة من وجوده ، فما فهم عن الله مراد الله بذلك الخطاب ، فإنه تعالى جمع ووحد ، فقال : إني وإنا وأنا ، ولهذا كبر على المشركين ، فإن معقول نحن ما هو معقول إني ، وجاء الخطاب بإليه فوحد وما رأوا للجمع عينا ، فكبر ذلك عليهم ، فلما علم الحق أن ذلك كبر عليه رفق به وجعل الأمر إليه تعالى بين اجتباء وهداية ، ووحد بإليه في الأمرين رفقا به وأنسا له ، ليعلم أنه الغفور الرحيم بالمسرفين على أنفسهم ، ومن هذه الآية نعلم أن اتخاذ الإمام واجب شرعا مع كونه موجودا في فطرة العالم ، أعني طلب نصب الإمام ، فقد أمر الله تعالى بإقامة الدين بلا شك ، ولا سبيل إلى إقامته إلا بوجود الأمان في أنفس الناس على أنفسهم ، وأموالهم وأهليهم من تعدي بعضهم على بعض ، وذلك لا يكون أبدا ما لم يكن ثمّ من تخاف سطوته وترجى رحمته ، يرجع أمرهم إليه ويجتمعون عليه ، فإذا تفرغت قلوبهم من الخوف الذي كانوا يخافونه على أموالهم ونفوسهم وأهليهم ، تفرغوا إلى إقامة الدين الذي أوجب الله عليهم إقامته ، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ، فاتخاذ الإمام واجب ، ويجب أن يكون واحدا لئلا يختلفا ، فيؤدي إلى امتناع وقوع المصلحة وإلى الفساد.

(وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ

٧٨

لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٥)

(وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) لما كان المكلّف من جهة الحقيقة ملقى طريحا عند باب سيده ، تجري عليه تصاريف الأقدار ، وما أودع الله في حركات هذه الأكوار ، مما يجيء به الليل والنهار ، من تنوع الأطوار ، بين محو وإثبات ، لظهور آيات بعد آيات ، وقد جعل الله المكلّف محلا للحياة والحركات ، وطلب منه القيام من تلك الرقدة بما كلفه من القيام بحقه ، فكان أصعب ما يمر على العارفين قوله (اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) فلا يعرف هل وافق أمر الله إرادته فيهم أنهم يمتثلون أمره أو يخالفونه؟ وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [شيبتني هود] فإنها السورة التي نزل فيها (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [وأخواتها] مما فيها هذه الآية أو ما في معناها.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ) (١٩)

اللطف الإلهي هو الذي يدرج الراحة من حيث لا يعرف من لطف به ، ومن لطفه أنه الذي يأتيهم بكل ما هم فيه ولا تقع أبصار العباد إلا على الأسباب التي يشهدونها ،

٧٩

فيضيفون ما هم فيه إليها.

(مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) (٢٠)

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) وهو النصيب الأخروي وأجرها (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) فنوفقه للعمل الصالح ، فلا يزال ينتقل من خير إلى خير في خير ، فمن حسنة إلى حسنة ، فإذا كسب الآخرة نال ما اقتضاه العمل ، والزيادة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فينال في الآخرة جميع أغراضه كلها ، وزيادة ما لم يبلغه غرضه ، والآخرة هنا هي الجنة ومن دخلها ، والحسنة هي حرث الآخرة في الدنيا ، فإن الدنيا منزل لا يمكن أن ينال أحد فيه جميع أغراضه ، بل يؤتيه الله منها ، وأما الآخرة وهي الجنة فهي منزل ينال السعيد فيها جميع أغراضه كلها وزيادة من غير توقف (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) وهي فانية ، وفرح بها وآثر نصيب الدنيا على نصيب الآخرة لاستيلاء الغفلة عليه ، فمن أراد حرث الدنيا فما يجني إلا ثمرة غرسه لا غير ، فقال تعالى : (نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) ـ اعتبار ووصية ـ نزّه نفسك عن الدنيا وأوضارها ، واجعلها خادمة لك ولرعيتك ، أي جوارحك وقواك ، وما الدنيا إلى جانب منصبك الذي أهلك الله إليه ، المقدس عن تعلق الكونين به؟! فكيف عن الدنيا التي مقتها الله تعالى ، وما نظر إليها من حين خلقها؟! وناهيك من تشبيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياها بالجيفة والمزبلة ، مع إخباره أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة ، وأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان من ذكر الله ، فيجمل بهمة خليفة مثلك ، قد خلقه الله نورا ، جوهرة يتيمة ، أن يلحظ ببصره أو بطرفه إلى جيفة أو مزبلة أو يتكالب عليها؟! وقد قال تعالى : يا دنيا اخدمي من خدمني ، واستخدمي من خدمك ، فالدنيا وفقك الله تطلبك حتى توفيك ما قدّره لك من استخلفك ، من جاهك ورزقك وأرزاق رعيتك ، فأجمل في الطلب ، واسع في تخليص رعيتك وتخليص نفسك باشتغالك بما كلفك من استخدمك من الأوامر والنواهي والحدود ، فعليك بالإعراض عن الدنيا تأتيك خادمة راغمة ، والذي يصل إليك منها وأنت مقبل عليها ، هو الذي يصل إليك وأنت معرض عنها ، ذكر كعب الأحبار أن الله تعالى ذكر في التوراة : يا ابن آدم إن رضيت بما قسمت لك أرحت

٨٠