رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

يعلم رزقه فذلك الذي خرج من الضيق إلى السعة ، وهو قوله تعالى :

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (٣)

من حكم الاسم الإلهي اللطيف إيصال أرزاق العباد المحسوسة والمعنوية المقطوعة الأسباب من حيث لا يشعر بها المرزوق ، وهو قوله تعالى (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) وكما أن الله ما خلق الإنسان إلا لعبادته سبحانه وتعالى ، فهو يرزقه من حيث شاء ، فلا يشغل نفسه برزقه ، كما لا يشغل نفسه بأجله ، فإن حكمهما واحد ، وما يختص بهما حيوان دون حيوان ؛ فيعيش هذا المتقي الذي يجيئه رزقه من حيث لا يحتسب ، طيب النفس في سعة الرجاء ، وسعة من أمله ، فإن من علامة التحقق بالتقوى أن يأتي رزق المتقي من حيث لا يحتسب ، وإذا آتاه من حيث يحتسب فما تحقق بالتقوى ولا اعتمد على الله ، فإن معنى التقوى في بعض وجوهه أن تتخذ الله وقاية من تأثير الأسباب في قلبك بالاعتماد عليها ، والإنسان أبصر بنفسه ، وهو يعلم من نفسه بمن هو أوثق ، وبما تسكن إليه نفسه ، ولا يقول : إن الله أمرني بالسعي على العيال وأوجب عليّ النفقة عليهم ، فلابد من الكد في الأسباب التي جرت العادة أن يرزقهم الله عندها ، فهذا لا يناقض ما قلناه ، وإنما نهينا عن الاعتماد على الأسباب بقلبك والسكون عندها ، وما قلنا لك : لا تعمل بها ، ومن معنى قوله : (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) هو أن الله وإن رزقك من السبب المعتاد الذي في خزانتك وتحت حكمك وتصريفك وأنت متق أنك مرزوق من حيث لا تحتسب ، فإنه ليس في حسبانك أن الله يرزقك ولابد مما بيدك ومن الحاصل عندك ، فما رزقك إلا من حيث لا تحتسب وإن أكلت وارتزقت من ذلك الذي بيدك ، فهذه الآية وصية الله عبده ، وإعلامه بما هو الأمر عليه (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي به تقع له الكفاية ، فلا يفتقر إلى أحد سواه ، يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ليس وراء الله مرمى] فلهذا كان حسبك لأنه الغاية التي إليها تنتهي ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال إنه أصبح ذات يوم وليس عندهم طعام ، وأصبح وقد عصب على بطنه حجرا من الجوع ، فقالت له امرأته : ائت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أتاه

٣٤١

فلان فأعطاه وفلان فأعطاه ، قال : فأتيته ألتمس شيئا فأطلبه ، فانتهيت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يخطب ويقول [من يستعف يعفه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن سألنا شيئا أعطيناه وواسيناه ، ومن استعف عنا واستغنى فهو أحب إلينا ممن سألنا] قال : فرجعت وما سألته ، فرزقني الله تعالى حتى ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا منا (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً).

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (٤)

فأقام الأشهر مقام الحيض.

(ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) (٦)

(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) هذا دليل الذي يقول إنه لا يجب على الوالدة إرضاع ولدها.

(لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (٧)

٣٤٢

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) من القوة على إقامة الدين ، فقد أعطاها الله أمرا وجوديا ، وهو التمكن الذي يجده الإنسان من نفسه ، وبذلك القدر صح أن يكون مكلفا ، فإن الشارع إنما يكلف العبد على حاله الذي يقدر عليه ، وخفف عليه أكثر من هذا بقوله تعالى (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) متصلا بقوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) وإن أعطاها وفعلته بمشقة هي عسر في حق المكلف ، فكان اليسر قوله (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فما أشد رفقه بعباده! وإن اجتهد الإنسان وأخطأ بعد الاجتهاد فلا بأس عليه ، وهو غير مؤاخذ ، فإن الله ما كلف نفسا إلا ما آتاها ، فقد وفت بقسمها الذي أعطاها الله.

(وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا (٨) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (٩) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (١٠) رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (١١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) (١٢)

فتق الله الأرض وجعلها سبعة أطباق كما فعل بالسموات ، وجعل لكل أرض استعداد انفعال لأثر حركة فلك من أفلاك السموات وشعاع كوكبها ، فالأرض الأولى التي نحن عليها للفلك الأول من هناك ، ثم تنزل إلى أن تنتهي إلى الأرض السابعة والسماء الدنيا ، وقوله

٣٤٣

تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الظاهر يريد طباقا ، ثم قال (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أي بين السموات والأراضين ، ولو كانت أرضا واحدة لقال بينهما ، هذا هو الظاهر ، والأمر النازل بينهن هو الذي أوحي في كل سماء ، وهذا الأمر الإلهي الذي يكون بين السماء الدنيا والأرض التي نحن عليها ينزل من السماء ثم يطلب أرضه ، وهو قوله تعالى : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) فذلك الأمر هو الذي ينزل إلى أرضه بما أوحى الله فيه على عامر تلك الأرض من الصور والأرواح ؛ والأرض وإن كانت سبعة أطباق فقد يعسر في الحس الفصل بينهن ، مع علمنا بأن كل واحدة منهن لا تكون بحيث الأخرى ، كما لا يكون الجوهر بحيث جوهر آخر. وفي هذا التنزل أسرار عظيمة ، وقد روي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : لو فسرتها لقلتم إني كافر ، وفي رواية لرجمتموني ؛ وإنها من أسرار آي القرآن. واعلم أن لله تعالى أرواحا من الملائكة الكرام مسخرة قد ولّاهم الله تعالى ، وجعل بأيديهم ما أوحى الله في السموات من الأمور التي شاء سبحانه أن يجريها في عالم العناصر ، وأن الله جعل من السماء إلى الأرض معارج على عدد الخلائق ، وجعل سبحانه معارج الملائكة من الكرسي إلى السموات ينزلون بالأوامر الإلهية المخصوصة بأهل السموات ، وهي أمور فرقانية ، وجعل من العرش إلى الكرسي معارج لملائكة ينزلون إلى الكرسي بالكلمة الواحدة غير منقسمة إلى الكرسي ، فإذا وصلت الكلمة واحدة العين إلى الكرسي انفرقت فرقا على قدر ما أراد الرحمن أن يجري منها في عالم الخلق والأمر ، ومن النفس رقائق ممتدة إلى العرش منقسمة إلى فرقتين للقوتين اللتين النفس عليهما ، وهو اللوح المحفوظ وهو ذو وجهين ، وتلك الرقائق التي بين اللوح والعرش بمنزلة المعارج للملائكة ، والمعاني النازلة في تلك الرقائق كالملائكة ، وينزل الأمر الإلهي من الكرسي على معراجه إلى السدرة إن كان لعالم السموات القصد ، وإن كان لعالم الجنان لم ينزل من ذلك الموضع وظهر سلطانه في الجنان بحسب ما نزل إليه ؛ ثم إن الأمر الإلهي يتفرع من السدرة كما تتفرع أغصان الشجرة ، ويظهر فيه صور الثمرات بحسب ما يمده من العالم الذي ينزل إليه وقد انصبغ بصورة السدرة ، فينزل على المعراج إلى السماء الأولى فيتلقاه أهلها بالترحيب وحسن القبول والفرح ، ويتلقاه من أرواح الأنبياء والخلق الذين قبضت أرواحهم بالموت وكان مقرها هنالك ، وتجد هنالك نهر الحياة يمشي إلى الجنة ، فإن كان له عنده أمانة ولابد منها في كل أمر إلهي ـ فإن الأمر الإلهي يعم جميع الموجودات ـ فيلقيه

٣٤٤

في ذلك النهر مثل ما أعطى السدرة ، فيجري به النهر إلى الجنان. وفي كل نهر يجده هنالك مما يمشي إلى الجنة ، وهنالك يجد النيل والفرات فيلقي إليهما ما أودع الله عنده من الأمانة التي ينبغي أن تكون لهما ، فتنزل تلك البركة في النهرين إلى الأرض فإنهما من أنهار الأرض ، ويأخذ أرواح الأنبياء وعمار السماء الأولى منه ما بيده مما نزل به إليهم ، ويدخل البيت المعمور فيبتهج به وتسطع الأنوار في جوانبه وتأتي الملائكة السبعون ألفا الذين يدخلونه كل يوم ولا يعودون إليه أبدا. ثم ينصب المعراج من السماء الأولى إلى السماء الثانية فينزل فيه الأمر الإلهي وهو على صورة السماء الأولى ، فينصبغ بصورة المعراج الذي ينزل فيه ، ومعه الملائكة الموكلون به من السماء الأولى ومعه أرواح البروج والكواكب الثابتة كلها ، وينزل معه ملك من قوة كيوان لابد من ذلك ، فإذا وصل إلى السماء الثانية تلقته ملائكتها وما فيها من أرواح الخلائق وقوة بهرام في السماء الثانية فيعطيهم ما بيده لهم ، وينزل إلى الثالثة وهو على صورة الثانية فينصبغ بصورة السلم الذي ينزل فيه ، والحال الحال مثل ما ذكرنا إلى أن ينتهي إلى السماء السابعة وهي السماء الدنيا ، فإذا أدّى إليهم ما بيده لهم ومعه قوة صاحب كل سماء فتحت أبواب السماء لنزوله ، ونزلت معه قوى جميع الكواكب الثوابت والسيارة ، وقوى الأفلاك وقوى الحركات الفلكية كلها ، وكل صورة انتقل عنها مبطونة فيه ؛ فكل أمر إلهي ينزل فهو اسم إلهي عقلي نفسي عرشي كرسي ، فهو مجموع صور كل ما مر عليه في طريقه ، فيخترق الكور ويؤثر في كل كرة بحسب ما تقبله طبيعتها إلى أن ينتهي إلى الأرض ، فيتجلى لقلوب الخلق فتقبله بحسب استعدادها وقبولها متنوع ، وذلك هو الخواطر التي تجدها الناس في قلوبهم ، فبها يسعون ، وبها يشتهون ، وبها يتحركون ، طاعة كانت تلك الحركة أو معصية أو مباحة ، فجميع حركات العالم من معدن ونبات وحيوان وإنسان وملك أرضي وسماوي فمن ذلك التجلي ، الذي يكون من هذا الأمر الإلهي النازل إلى الأرض ، فيجد الناس في قلوبهم خواطر لا يعرفون أصلها وهذا هو أصلها ، ورسله إلى جميع ما في العالم الذي نزل إليه ما نزل معه من قوى الكواكب وحركات الأفلاك ، فهؤلاء هم رسل هذا الأمر الإلهي إلى حقائق هؤلاء العالم ، فتنمو به الناميات ، وتحيي به أمور ، وتموت به أمور ، ويظهر التأثيرات العلوية والسفلية في كل عالم بتلك الرسل التي يرسلها في العالم هذا الأمر الإلهي ، فإنه كالملك فيهم ، ولا يزال يعقبه أمر آخر ، ويعقب الآخر

٣٤٥

آخر في كل نفس بتقدير العزيز العليم ، فإذا نفذ فيهم أمره وأراد الرجوع ، جاءته رسله من كل موجود بما ظهر من كل من بعثوا إليه صورا قائمة ، فيلبسها ذلك الأمر الإلهي من قبيح وحسن ، ويرجع على معراجه من حيث جاء إلى أن يقف بين يدي ربه اسما إليها ظاهرا بكل صورة ، فيقبل الحق ما شاء ويرد منها ما شاء على صاحبها من صور تناسبها ، فجعل مقر تلك الصور حيث شاء من علمه ، فلا يزال تتابع الرسل إلى الأرض على هذه المعارج كما ذكرنا ، والأمر الإلهي ينزل من السماء الدنيا إلى الأرض في ثلاث سنين ، فكل شيء يظهر في كل شيء في الأرض فعند انقضاء ثلاث سنين من نزوله من السماء في كل زمان فرد ، فالآثار في الأرض هي الأمر الإلهي الذي يتنزل بين السماء والأرض ، وهو في كل ما يتولد بينهما بين السماء بما ينزل منها وبين الأرض بما تقبل من هذا النزول للتكوين ، يدل على ذلك قوله تعالى (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إشارة إلى الصفة العملية فيهما ، فإن القدرة مالها تعلق إلا بالإيجاد ، فعلمنا أن المقصود بهذا التنزل إنما هو التكوين ، ثم تمم في الإخبار فقال : (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) إشارة إلى الصفة العلمية فيهما أي في القوتين العملية والعلمية ، فإن القدرة للإيجاد وهو العمل ، وهو العليم سبحانه بما يوجد ، القدير على إيجاد ما يريد إيجاده ، لا مانع له ، فجعل الأمر يتنزل بين السماء والأرض كالولد يظهر بين الأبوين ، وأحاط الله بكل شيء علما عند من رزقه الله فهما ، فلا تعم الإحاطة كل شيء إلا إذا كانت معنى ، ولا يعلم الشيء من جميع وجوهه إلا الله عزوجل الذي أحاط بكل شيء علما ، سواء كان الشيء ثابتا أو موجودا أو متناهيا أو غير متناه ، فالمعلوم لا يزال محصورا في العلم ، لهذا كان المعلوم محاطا به فقال تعالى : (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) من الواجبات والجائزات والمستحيلات ، وهو تعلق أعم من تعلق قوله تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) وإن كان بعض العلماء لا يسمي شيئا إلا الموجود ، فلا نبالي فإن الله قد أحاط بكل شيء علما ، وقد علم المحال ، ولو خصص صاحب هذا الاصطلاح العلم المحيط في هذه الآية بالموجودات ، فليس له دليل على ذلك إلا كونه اصطلح على أنه لا يسمي شيئا إلا الموجود ، فالإحاطة هنا على بابها في العموم ، والإحاطة عبارة عن تعلق العلم بالمعلومات الغير المتناهية هنا ، فيحيط بالمحال العلم أي معنى ، لعلمه من جميع الوجوه.

٣٤٦

(٦٦) سورة التحريم مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (٣)

لما خلق سبحانه من كل شيء زوجين خلق كتابين : كتابا سماه أمّا ، فيه ما كان قبل إيجاده وما يكون ، كتبه بحكم الاسم المقيت ، فهو كتاب ذو قدر معلوم ، فيه بعض أعيان الممكنات وما يتكون عنها ؛ وكتابا آخر ليس فيه سوى ما يتكون عن المكلفين خاصة ، فلا تزال الكتابة فيه ما دام التكليف ، وبه تقوم الحجة لله على المكلفين ، وبه يطالبهم لا بالأم ، من الكتاب الثاني يسمى الحق خبيرا ، ومن الأم يسمى عليما ، فهو العليم بالأول الخبير بالثاني.

(إن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (٤)

اعلم أنه ليس في العالم المخلوق أعظم قوة من المرأة ، لسر لا يعرفه إلا من عرف فيم وجد العالم؟ وبأي حركة أوجده الحق تعالى؟ وأنه عن مقدمتين فإنه نتيجة ، والناكح طالب ، والطالب مفتقر ، والمنكوح مطلوب ، والمطلوب له عزة الافتقار إليه ، والشهوة غالبة ، فقد

٣٤٧

بان لك محل المرأة من الموجودات ، وقد نبه الله على ما خصها به من القوة في قوله في حق عائشة وحفصة (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) أي تتعاونا عليه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) أي ناصره (وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) هذا كله في مقاومة امرأتين ، وما ذكر إلا الأقوياء الذين لهم الشدة والقوة ، فلو نظر الإنسان وتأمل العظمة التي جعل الله نفسه في مقابلتها وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة ، وذلك في حق امرأتين من نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لعلم الإنسان لمن استندتا ومن يقويهما ، وما أظن أن أحدا من خلق الله استند إلى ما استند هاتان المرأتان ، وقد عرفت عائشة وحفصة ، ولو علم الناس علم ما كانتا عليه لعرفوا معنى الآية ، ولو لا ما ذكر الله نفسه في النصرة ما استطاعت الملائكة والمؤمنون مقاومتهما ، فإنه لا يعلم قدر النساء إلا من علم وفهم عن الله ما قاله في حق زوجتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندما تعاونتا عليه وخرجتا عليه ، وجعل في مقابلة هاتين المرأتين في التعاون عليه من يعاون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهما وينصره ، وهو الله وجبريل وصالح المؤمنين ثم الملائكة بعد ذلك ، وليس ذلك إلا لاختلاف السبب الذي لأجله يقع التعاون ، فثمّ أمر لا يمكن إزالته إلا بالله لا بمخلوق ، ولذلك أمرنا أن نستعين بالله في أشياء ، وبالصبر في أشياء ، وبالصلاة في أشياء ، فثمّ أمر وإن كان بيد الله ، فإن الله قد أعطى جبريل اقتدارا على دفع ذلك الأمر ، فأعان محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دفعه إن تعاونتا عليه ، وإن رجعتا عنه وأعطتا الحق من نفوسهما سكت عنهما ، وكذلك صالح المؤمنين كان عندهما أمر نسبته في الإزالة بصالحي المؤمنين أقرب من نسبته إلى غيرهم ، فيكون صالح المؤمنين معينا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصالح المؤمنين يفعل بالهمة وهو أقوى الفعل ، ثم الملائكة بعد ذلك ، إذ لم يبق إلا ما يناسب عموم الملائكة التي خلقت مسخرة ، يدفع بها مالا يندفع في الترتيب الإلهي إلا بالملائكة ، مع انفراد الحق بالأمر كله في ذلك والقيام به ، ولكن للجواز العقلي أخبر الحق بالواقع لو وقع كيف كان يقع ، فما يقع إلا كما قاله ، وما قال إلا ما علم أنه يقع بهذه الصورة ، فأنزل الحق الملائكة بعد ذكر نفسه وجبريل وصالح المؤمنين منزلة المعينين ، فإن الظهير هو المعين ، ولا قوة إلا بالله ، فدل أن نظر الاسم القوي إلى الملائكة أقوى في وجود القوة فيهم من غيرهم ، فإنه منه أوجدهم ، فمن يستعان عليه فهو فيما يستعان فيه أقوى مما يستعان به ، فكل ملك خلقه الله من أنفاس النساء هو أقوى الملائكة ، فإنه من النفس الأقوى ، فتوجه الاسم الإلهي القوي

٣٤٨

في وجود القوة على إيجاد ملائكة أنفاس النساء أعطى للقوة فيهم من سائر الملائكة وإنما اختصت الملائكة بالقوة لأنها أنوار ، وأقوى من النور فلا يكون.

تعجبت من أنثى يقاوم مكرها

بخير عباد الله ناصره الأعلى

وجبريل أيضا ناصر ثم بعده

ملائكة بالعون من عنده تترى

ومن صلحاء المؤمنين عصابة

سمعناه قرآنا بآذاننا يتلى

وما ذاك إلا عن وجود تحققت

به المرأة الدنيا ومرتبة عليا

وقد صح عند الناس أن وجودها

من النفس في القرآن والضلع العوجا

فإن رمت تقويما لها قد كسرتها

وما كسرها إلا طلاق به تبلى

وإن شئت أن تبقى بها متمتعا

فمعوجها يبقى وراحتكم تفنى

فما أمها إلا الطبيعة وحدها

فكانت كعيسى حين أحيى بها الموتى

لقد أيد الرحمن بالروح روحه

وهذي تولاها الإله وما ثنّى

فإن كنت تدري ما أشرت به فقد

أبنت لكم عنها وعن سرها الأخفى

 ـ تحقيق ـ خلق آدم من الفردانية ، وخلقت حواء من الوحدانية ، فآدم فرد وحواء واحد ، والواحد في الفرد مبطون فيه ، فقوة المرأة من أجل الوحدانية أقوى من قوة الفردانية ، فإن الفرد لا يكون إلا بعد وجود الاثنين ، فضعف عن عزة الوحدانية ـ راجع سورة النساء آية ١.

(عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) (٥)

قال عليه الصلاة والسلام : [إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن رمت تقويمها كسرتها ، وكسرها طلاقها ، وإن استمتعت استمتعت وبها عوج].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ

٣٤٩

عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (٦)

لما كانت الملائكة نورا عمّت جميع الجهات ، فلا أثر للهواء في النور ، ألا ترى النور في الشمس والسراج وفي كل جسم مستنير ، نسبته إلى العلو والجنبات نسبة واحدة ، والملائكة مخلوقون من نور ، فلا أثر للهوى فيهم ، فلا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فعالم الغيب أمر بلا نهي ، ولهذا سموا عالم الأمر ، وذلك لأن عالم الغيب عقل مجرد لا شهوة لهم ، فلا نهي عندهم في مقام التكليف ، فإن الله فطر الملائكة على المعرفة والإرادة لا الشهوة ، وأمرهم وأخبر أنهم لا يعصونه لما خلق لهم من الإرادة ، ولو لا الإرادة ما أثنى عليهم بأنهم لا يعصونه ، فإن الملائكة لما أمرت بالسجود امتثلت وبادرت ، فأثنى الله عليهم بقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فهم كما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز ، فإن الأرواح الملكية لا نهي عندها ، ولهذا لم يذكر لهم نهي عن شيء لأن حقائقهم لا تقتضيه ، ولو لم تكن في قوة الملائكة ونشأتهم ما يقتضي رد أمر الله وما يقتضي قبوله ، ما أثنى الله عليهم بما أثنى به من نفي العصيان عنهم وفعلهم ما أمرهم به ، فإن المجبور لا ثناء عليه ، فالملك لا يتصور منه المخالفة ، وقد شهد الله له بذلك لتعريه عن لباس البشرية ، فلا يعصي الله ما أمره ، لأنه ما هو على حقائق متضادة تجذبه في أوقات ، وتغفله وتنسيه عما دعي إليه كما يوجد ذلك في النشأة العنصرية ، والإنسان نشأة عنصرية تطلبه حقائق متجاذبة بالفعل ، صاحب غفلة ونسيان ، يؤمر وينهى فيتصور منه المخالفة والموافقة ، فالملك أشد موافقة لله من الإنسان لما تعطيه نشأته ونشأة الإنسان ، فالملك أفضل في الموافقة لأمر الله ، والخليفة الإنسان أعلم بالأسماء الإلهية ، فالخليفة أتم في الجمعية وأفضل ، والملك أفضل من وجه خاص أو وجهين ، لكن ما له فضل الجمع ، والصورة لا تكون إلا بالمجموع ـ تحقيق ـ أثنى الله تعالى على الملائكة بقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) والحقيقة تنادي من خلف هذا الثناء : لا يعصون الله ما أراد منهم ؛ ثم قرن الأمر منه بإرادته فقال : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ولما لم تعص الملائكة أمر الله أجابها الله في كل ما سألته فيه ، حتى أن العبد إذا وافق في الصلاة تأمينه تأمين الملائكة غفر له ، فكما أمر الله عبده فعصاه ، كذلك دعاه عبده فلم يجبه فيما سأل فيه كما أمره فلم يطعه ، فلا يلومن العبد إلا نفسه إذا دعا الحق في أمر فلم يجبه.

٣٥٠

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٨)

اعلم أن يوم القيامة ليس له ضوء جملة واحدة ، والناس لا يسعون فيه إلا في أنوارهم ، ولا يمشي مع أحد منهم غيره في نوره ، فلكل مخلوق نور على قدره ينفهق منه ، وهو النور الذي يمشون فيه يوم القيامة ، قال تعالى في المؤمنين : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) يريد ما قدموه من الأعمال الصالحة عند الله ، فالمؤمن من كان قوله وفعله مطابقا لما يعتقده في ذلك الفعل ، ورد في الخبر أن الصراط يظهر يوم القيامة متنه للأبصار على قدر نور المارين عليه ، فيكون دقيقا في حق قوم عريضا في حق آخرين ، يصدق هذا الخبر قوله تعالى : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) والسعي مشي ، وما ثمّ طريق إلا الصراط ، وإنما قال (وَبِأَيْمانِهِمْ) لأن المؤمن في الآخرة لا شمال له ، كما أن أهل النار لا يمين لهم.

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٩)

كن جبارا ، على من تمرد واستكبر استكبارا ، والبس خلعة الحق وهو قوله : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).

(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠)

٣٥١

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١١)

شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لآسية امرأة فرعون بالكمال ، فقالت العارفة المشهود لها بالكمال (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) دار المآل ، فقدّمت الحق على البيت ، وقدمت الجار على الدار ، لما علمت أن بالدار يصح الجوار ، وهو الذي جرى به المثل في قولهم : الجار قبل الدار ؛ ولم تطلب مجاورة موسى ولا أحد من المخلوقين ، بل قدمت الحق ، وطلبت جواره والعصمة من أيدي عداته ، فقالت (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) حتى لا تنتهك الحرمة.

(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (١٢)

روح عيسى منفوخ بالجمع والكثرة ، ففيه قوى جميع الأسماء والأرواح ، فإنه قال : (فَنَفَخْنا فِيهِ) بنون الجمع (مِنْ رُوحِنا) فإن جبريل عليه‌السلام وهب لها بشرا سويا ، فتجلى في صورة إنسان كامل ، فنفخ وهو نفخ الحق ، كما قال على لسان عبده [سمع الله لمن حمده] (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) وما هو إلا عيسى عليه‌السلام ، وقد قال عنه تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) فجعله كلمات لها لأنه كثير من حيث نشأته الظاهرة والباطنة ، فكل جزء منه ظاهرا كان أو باطنا فهو كلمة ، فلهذا قال فيه : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) لان عيسى روح الله من حيث جملته ، ومن حيث أحدية كثرته هو قوله : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) ولذلك كان شرف مريم وكمالها الذي شهد لها به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنسبة عيسى عليه‌السلام إليها فقيل : عيسى ابن مريم.

٣٥٢

(٦٧) سورة الملك مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ورد أن هذه السورة تجادل عن قارئها في قبره.

تبارك ملك الملك جل جلاله

وعز فلم يدرك بفكر ولا ذكر

تعالى عن الأمثال علو مكانة

تبارك حتى ضمه القلب في صدري

ولم أدر ما هذا ولا ينجلي لنا

مقالته فيه وبالشفع والوتر

عرفناه لما أن تلونا كتابه

فللجهر ذاك الوتر والشفع للستر

(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١)

(تَبارَكَ) أي البركة والزيادة لله (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الملك والملكوت لهما الاسم الظاهر والباطن ، وهو عالم الغيب وعالم الشهادة ، وعالم الخلق وعالم الأمر ، وهو الملك المقهور ، فإن لم يكن مقهورا تحت سلطان الملك فليس بملك ، ومن كان باختيار ملكه لا باختيار نفسه في تصرفه فيه فليس ذلك بملك ولا ملك ، فالملك المجبور تحت سلطان الملك ، فإذا نفذ أمره في ظاهر ملكه وفي باطنه فذلك الملكوت ، وإن اقتصر في النفوذ على الظاهر وليس له على الباطن سبيل فذلك الملك ، وقد ظهرت هاتان الصفتان بوجود المؤمن والمنافق في اتباع الرسل صلوات الله عليهم ، فمنهم من اتبعه في ظاهره وباطنه وهو المؤمن المسلم ، ومنهم من اتبعه في ظاهره لا في باطنه وذلك المنافق ، ومنهم من اتبعه في باطنه لا في ظاهره فذلك المؤمن العاصي وهو تعالى على كل شيء قدير.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (٢)

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) الحياة لعين الجوهر ، والموت لتبدل الصور ، كل ذلك (لِيَبْلُوَكُمْ) أي ليختبركم ، فجعل ليبلوكم إلى جانب الحياة ، فإن الميت لا يختبر (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) الوجه الأول : أي ليختبركم بالتكليف ، وهو الابتلاء لما عليه الإنسان من الدعوى ،

٣٥٣

وأعظم الفتن والأختبار في النساء والمال والولد والجاه (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) لإقامة الحجة ، فإنه يعلم ما يكون قبل كونه ، لأنه علمه في ثبوته أزلا ، وأنه لا يقع في الكون إلا كما ثبت في العين ـ الوجه الثاني ـ لما كان للمحب رغبة في لقاء محبوبه ، وهو لقاء خاص عيّنه الحق ، إذ هو المشهود في كل حال ، ولكن لما عيّن ما شاء من المواطن وجعله محلا للقاء مخصوص ، رغبنا فيه ، ولا نناله إلا بالخروج من الدار التي تنافي هذا اللقاء ، وهي الدار الدنيا ، خيّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين البقاء في الدنيا والانتقال إلى الأخرى فقال [الرفيق الأعلى] وورد في الخبر أنه [من أحب لقاء الله] يعني بالموت [أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه] فلقيه في الموت بما يكرهه ، وهو أن حجبه عنه ، وتجلى لمن أحب لقاه من عباده ، ولقاء الحق بالموت له طعم لا يكون في لقائه في الحياة الدنيا بالحال ، فالموت فيه فراغ لأرواحنا من تدبير أجسامها ، وهذا الذوق لا يكون إلا بالخروج من الدار الدنيا بالموت لا بالحال ، وهو أن يفارق هذا الهيكل الذي وقعت له به هذه الألفة من حين ولد وظهر به ، بل كان السبب في ظهوره ، ففرّق الحق بينه وبين هذا الجسم لما ثبت من العلاقة بينهما ، وهو من حال الغيرة الإلهية على عبيده لحبه لهم ، فلا يريد أن يكون بينهم وبين غيره علاقة ، فخلق الموت وابتلاهم به تمحيصا لدعواهم في محبته ـ الوجه الثالث ـ اعلم أن الحياة للأرواح المدبرة للأجسام كلها النارية والترابية والنورية كالضوء للشمس سواء ، فالحياة لها وصف نفسي ، فما يظهرون على شيء إلا حيي ذلك الشيء ، وسرت فيه حياة ذلك الروح الظاهر له ، كما يسري ضوء الشمس في جسم الهواء ووجه الأرض وكل موضع تظهر عليه الشمس ، ولما كان كل ما سوى الله حيا ، فإنّ كل شيء مسبح بحمد ربه ولا يسبح إلا حي ، وقد وردت الأخبار بحياة كل رطب ويابس وجماد ونبات وأرض وسماء ، فكانت الحياة للأعيان والموت للنّسب ، فظهور الروح للجسم حياة ذلك الجسم ، كظهور الشمس لاستنارة الأجسام التي ظهرت لها ، وغيبة الروح عن الجسم زوال الحياة من ذلك الجسم وهو الموت ، فالاجتماع حياة والفرقة موت ، والاجتماع والافتراق نسب معقولة ، لها حكم ظاهر وإن كانت معدومة الأعيان ، فتركيب الروح والجسم ينتج عنه النفس الناطقة المدبرة للأجسام ، وهذا النوع من التركيب هو الذي يتصف بالموت ، فإذا فارق الروح الجسم انحلّ التركيب ، وجعل الروح مدبرا لجسد آخر برزخي ، وألحق الجسم بالتراب ، ثم ينشىء

٣٥٤

له نشأة أخرى يركبه فيها في الآخرة ، فقال تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ) أي يختبر عقولكم بالموت والحياة (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) بالخوض فيهما والنظر ، فيرى من يصيب منكم ومن يخطىء ؛ واعلم أن القوى كلها التي في الإنسان وفي كل حيوان ، ـ مثل قوة الحس وقوة الخيال وقوة الحفظ والقوة المصورة وسائر القوى كلها المنسوبة إلى جميع الأجسام علوا وسفلا ـ إنما هي للروح ، تكون بوجوده وإعطائه الحياة لذلك الجسم ، وينعدم فيها ما ينعدم بتوليه عن ذلك الجسم من ذلك الوجه الذي تكون عنه تلك القوة الخاصة ، فإذا أعرض الروح عن الجسم بالكلية زال بزواله جميع القوى والحياة ، وهو المعبر عنه بالموت ، كالليل بمغيب الشمس ، وأما بالنوم فليس بإعراض كلي ، وإنما هي حجب وأبخرة تحول بين القوى وبين مدركاتها الحسية مع وجود الحياة في النائم ، كالشمس إذا حالت السحب بينها وبين موضع خاص من الأرض ، يكون الضوء موجودا كالحياة ، وإن لم يقع إدراك الشمس لذلك الموضع الذي حال بينه وبينها السحاب المتراكم ، وكما أن الشمس إذا فارقت هذا الموضع من الأرض وجاء الليل بدلا منه ، ظهرت في موضع آخر بنوره أضاء به ذلك الموضع ، فكان النهار هنالك كما كان هنا ، كذلك الروح إذا أعرض عن هذا الجسم الذي كانت حياته به ، تجلى على صورة من الصور الذي هو البرزخ ـ وهو بالصاد جمع صورة ـ فحييت به تلك الصورة في البرزخ ، وكما تطلع الشمس في اليوم الثاني علينا فتستنير الموجودات بنورها ، كذلك الروح يطلع في يوم الآخرة على هذه الأجسام الميتة فتحيا به ، فذلك هو النشر والبعث ؛ واعلم أن الحياة في جميع الأشياء حياتان : حياة عن سبب وهي الحياة التي ذكرناها ونسبناها إلى الأرواح ، وحياة أخرى ذاتية للأجسام كلها كحياة الأرواح للأرواح ، غير أن حياة الأرواح يظهر لها أثر في الأجسام المدبرة بانتشار ضوئها فيها وظهور قواها التي ذكرناها ، وحياة الأجسام الذاتية لها ليست كذلك ، فإن الأجسام ما خلقت مدبرة ، فبحياتها الذاتية ـ التي لا يجوز زوالها عنها فإنها صفة نفسية لها ـ بها تسبح ربها دائما ، سواء كانت أرواحها فيها أو لم تكن ، وما تعطيها أرواحها إلا هيئة أخرى عرضية في التسبيح بوجودها خاصة ، وإذا فارقتها الروح فارقها ذلك الذكر الخاص ، وهو الكلام المتعارف بيننا المحسوس ، تسبيحا كان أو غيره ، ولكل صورة في العالم روح مدبرة وحياة ذاتية ، تزول الروح بزوال تلك الصورة ، وتزول الصورة بزوال ذلك الروح ، والحياة الذاتية لكل

٣٥٥

جوهر فيه غير زائلة ، وبتلك الحياة الذاتية ـ التي أخذ الله بأبصار بعض الخلق عنها ـ بها تشهد الجلود يوم القيامة على الناس والألسنة والأيدي والأرجل ، وبها تنطق فخذ الرجل في آخر الزمان فتخبر صاحبها بما فعل أهله ، وبها تنطق الشجرة في آخر الزمان إذا اختفى خلفها اليهود حين يطلبهم المسلمون للقتل ، فتقول للمسلم إذا رأته يطلب اليهودي [يا مسلم هذا يهودي خلفي فاقتله] وإنما كانت هذه الحياة في الأشياء ذاتية لأنها عن التجلي الإلهي للموجودات كلها ، لأنه خلقها لعبادته ومعرفته ، ولا أحد من خلقه يعرفه إلا أن يتجلى له فيعرفه بنفسه ، إذ لم يكن في طاقة المخلوق أن يعرف خالقه ، والتجلي دائم أبدا مشاهد لكل الموجودات ظاهرا ، ما عدا الملائكة والإنس والجن ، فإن التجلي لهم الدائم إنما هو فيما ليس له نطق ظاهر ، كسائر الجمادات والنباتات ، وأما التجلي لمن أعطي النطق والتعبير عما في نفسه وهم الملائكة والإنس والجن من حيث أرواحهم المدبرة لهم وقواها ، فإن التجلي لهم من خلف حجاب الغيب ، فالمعرفة للملائكة بالتعريف الإلهي لا بالتجلي ، والمعرفة للإنس والجن بالنظر والاستدلال ، والمعرفة لأجسامهم ومن دونهم من المخلوقات بالتجلي الإلهي ، وذلك لأن سائر المخلوقات فطروا على الكتمان فلم يعطوا عبارة التوصيل ، وأراد الحق ستر هذا المقام رحمة بالمكلفين ، إذ سبق في علمه أنهم يكلفون وقد قدّر عليهم المعاصي ، فلهذا وقع الستر عنهم ، لأنهم لو عصوه بالقضاء والقدر على التجلي والمشاهدة لكان عدم احترام عظيم وعدم حياء ، وكانت المؤاخذة عظيمة ، فكانت الرحمة لا تنالهم أبدا ، ولهذا كانت الغفلة والنسيان من الرحمة التي جعلها الله لعباده ، وما كلّف الله أحدا من خلقه إلا الملائكة والإنس والجن ، وما عداهم فإن دوام التجلي لهم أعطاهم الحياة الذاتية الدائمة ، وهم في تسبيحهم مثلنا في أنفاسنا (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فأحسن المؤمنون فسعدوا ، ولم يحسن الكفار فخسروا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) المنيع الحمى عن أن يدركه خلقه ، أو يحاط بشيء من علمه إلا بما شاء ، وهو (الْغَفُورُ) الذي ستر العقول عن إدراك كنهه أو كنه جلاله ، ولو كشف لكل أحد ما كشفه لبعض العالم لم يكن غفورا ، ولا كان فضل لأحد على أحد ، إذ لا فضل إلا بمزيد العلم.

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ

٣٥٦

فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ) (٣)

تدل هذه الآية على أن الله ما جعل في موجوداته من تفاوت في نفس الأمر ، فقال (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) فمنع أن يكون هناك تفاوت ، بل أراه الأمور على وضع الحكمة الإلهية ، فقال (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) ينبه على النظر في المقدمتين (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) يعني خللا يكون منه الدخل فيما يقيمه الدليل ، فيخترق البصر الجو حتى يصل إلى السماء الدنيا فلا يرى من فطور فينفذ فيه ، ومع ذلك فمن المحال أن يكون في الوجود أمر يوافق أغراض الجميع ، فإن الله خلق نظرهم متفاوتا.

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٤)

ـ الوجه الأول ـ (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ) وهو النظر (١) (خاسِئاً) بعيدا عن النفوذ فيه بدخل أو شبهة (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي قد عيي أي أدركه العيا ـ الوجه الثاني ـ فينقلب البصر خاسئا وهو حسير ، أي قد أعي ، فإن البصر لا يرى المحسوسات المبصرات ويحسر ، فينقلب خاسئا فإنه لا يجد فطرا ينفذ فيه.

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) (٥)

الكواكب عندنا كلها مستنيرة لا تستمد من الشمس كما يراه بعضهم ، والقمر على أصله لا نور له البتة ، قد محا الله نوره ، وذلك النور الذي ينسب إليه هو ما يتعلق به البصر من الشمس في مرآة القمر على حسب مواجهة الأبصار منه ، فالقمر مجلى الشمس ، وليس فيه من نور الشمس لا قليل ولا كثير ، وجعلت النجوم مصابيح لما بيدها من المفاتيح ، فالأنوار تظهر للأبصار ما سترته الأحلاك (وَجَعَلْناها) أي الكواكب ، فجعل الله الكواكب ذوات

__________________

(١) النظر هنا هو النظر العقلي.

٣٥٧

الأذناب من زمان بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) بالشهب ، فإن الشياطين ـ وهم كفار الجن ـ لهم عروج إلى السماء الدنيا يسترقون السمع ، فقعدت الشهب على النقب ، فرمت الشياطين من قبل وعن جنب (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) السعير أحد الأبواب السبعة لجهنّم ، وصف الحق في كتابه العزيز والسنة صفات من يدخلها ، وكذلك باقي الأبواب السبعة ، فإن الأبواب سميت بصفات ما وراءها مما أعدت له ، ووصف الداخلون فيها بما ذكر الله تعالى.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ) (٧)

فإن جهنم لها نفسان ، فما كان من سموم وحرور فهو من نفسها ، وما كان من برد وزمهرير فهو من نفسها ، وهي تأتي يوم القيامة بنفسها تسعى إلى الموقف تفور.

(تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) (٨)

(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) على أعداء الله (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) فمن كان من أهل الإيمان وقاه الله من شرها وسطوتها.

(قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤)

٣٥٨

اعلم أن الله تعالى لما خلق الخلق قدرهم منازل لا يتعدونها ، فخلق الملائكة ملائكة حين خلقهم ، وخلق الرسل رسلا والأنبياء أنبياء والأولياء أولياء والمؤمنين مؤمنين ، والمنافقين منافقين والكافرين كافرين ، كل ذلك مميز عنده سبحانه معيّن معلوم ، لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ، ولا يبدل أحد بأحد ، فليس لمخلوق كسب ولا تعمل في تحصيل مقام لم يخلق عليه ، بل قد وقع الفراغ من ذلك ، وذلك تقدير العزيز العليم ، فمنازل كل موجود وكل صنف لا يتعداها ، ولا يجري أحد في غير مجراه ، فكل موجود له طريق تخصه لا يسلك عليها أحد غيره ، روحا وطبعا ، فلا يجتمع اثنان في مزاج واحد أبدا ، ولا يجتمع اثنان في منزلة واحدة أبدا ، لاتساع فلك الأسماء الإلهية ، فجميع ما فيه خلقه خلقه تعالى ، وليس يخلق شيئا ليس يعلمه (وَهُوَ اللَّطِيفُ) ـ الوجه الأول ـ بسؤاله (الْخَبِيرُ) بما سأل عنه ، لأنه واقع ، فكل علم عنده عن وقوع فهو به خبير ، وتعلقه به قبل وقوعه هو به عليم ، فهو استفهام منه عزوجل عما هو به عالم ، مثل قوله تعالى للملائكة [كيف تركتم عبادي] والملائكة تعلم أنه تعالى أعلم بعباده منهم ـ الوجه الثاني ـ (وَهُوَ اللَّطِيفُ) لعلمه بالسر المتعلق بالإيجاد (الْخَبِيرُ) لعلمه بما هو أخفى.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (١٥)

جعل الله الأرض ذلولا ، ووصفها بأنها ذلول ببنية المبالغة مبالغة في الذلة ، لكون الأذلاء يطؤنها ، فإن أذل الأذلاء من وطئه الذليل ، والعبيد أذلاء ، فلا أذل ممن يطؤه الأذلاء ، ونحن وجميع الخلائق عبيد أذلاء نطؤها بالمشي في مناكبها ، أي عليها ، فهي تحت أقدامنا ، فلهذا سماها ببنية المبالغة فهي أعظم في الذلة منهم ، ولما كانت بهذه المنزلة ، أمرنا أن نضع عليها أشرف ما عندنا في ظاهرنا وهو الوجه ، وأن نمرغه في التراب ، فعل ذلك جبرا لانكسار الأرض بوطء الذليل عليها الذي هو العبد ، فاجتمع بالسجود وجه العبد ووجه الأرض فانجبر كسرها ، فإن الله عند المنكسرة قلوبهم ، فكان العبد في ذلك المقام بتلك الحالة أقرب إلى الله سبحانه من سائر أحوال الصلاة ، لأنه سعى في حق الغير لا في حق نفسه ، وهو جبر انكسار الأرض من ذلتها تحت وطء الذليل لها ، فانتبه لما أشرت إليك فإن الشرع ما ترك

٣٥٩

شيئا إلا وقد أشار إليه إيماء ، علمه من علمه وجهله من جهله ـ اعتبار ـ.

هي الأم سماها ذلولا لخلقه

وقد أعرضت عني كإعراض ذي ذنب

حياء وأعطتنا مناكب نظمها

فنمشي بها عن أمر خالقها الرب

إذا كان حال الأم هذا فإنني

لأولى به منها إلى انقضا نحبي

تمنيت منه أن أكون بحالها

مع الله في عيش هنيء بلا كرب

فيأتي وجودي للدعاوى بصورة

تنزله مني كمنزلة الرب

وهيهات أين الحق من حال خلقه

بذا جاءت الأرسال منه مع الكتب

(أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) (١٦)

قال تعالى (مَنْ فِي السَّماءِ) وإلا كيف يسأل صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بأين؟ ويقبل من المسؤول فاء الظرف ، ثم يشهد له بالإيمان الصرف ، وشهادته حقيقة لا مجاز ، ووجوب لا جواز ، فلو لا معرفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحقيقة ما ، ما قبل قولها مع كونها خرساء في السّماء.

(أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (١٩)

طيران الطير وإن كان بسبب ظاهر ، فإنه لا يمسكه إلا الله ، أي الله الذي وضع له أسباب الإمساك في الهواء.

(أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (٢٢)

٣٦٠