رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

هذا أن يكون هو الأفضل عند الله ، فذلك لله تعالى وحده فإن المخلوق لا يعلم ما في نفس الخالق إلا بإعلامه إياه ، ولكن ما تفطن الناس لقوله تعالى : (أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) من كونهم ناسا ، ولم يقل أكبر من خلق آدم ولا من الخلفاء ، فإنه ما خلق على الصورة من كونه من الناس ، إذ لو كان كذلك لما فضل الناس بعضهم بعضا ، ولا فضلت الرسل بعضهم بعضا ، ففضل الصورة لا يقاومه فضل ، فالإنسان عالم صغير ، والعالم إنسان كبير مختصره الإنسان الصغير ، لأنه موجود أودع الله فيه حقائق العالم الكبير كلها ، فخرج على صورة العالم ، فكان قليل من الناس يعلم ذلك ـ الوجه الثاني ـ هذه الآية تدل على شرف الجماد على الإنسان لمعنى خلقها الله عليه وخلقه فيها ، أترى هذا الكبر في الجرم وعظم الكمية؟ هيهات لا والله! فإن ذلك معلوم بالحس ، وإنما ذلك لمعنى أوجده فيها لم يكن ذلك للإنسان يعطيه العلم بالمراتب ومقادير الأشياء عند الله تعالى ، فنزل كل موجود منزلته التي أنزله الله فيها ، ومن هذا المعنى إبايتها لحمل الأمانة عندما عرضت عليها عرضا ، فكان خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس في المنزلة ، فإنهن كن أعلم بقدر الأمانة من الإنسان ، فبهذا أيضا كن أكبر من خلق الناس في المنزلة من العلم ، فإنهن ما وصفن بالجهل كما وصف الإنسان ، وكذلك لما أمرتا بالإتيان أمر وجوب ، فإن لم يجئن جيء بهن على كره ، قالتا (أَتَيْنا طائِعِينَ) لعلمهن بأن الذي أمرهن قادر على الإتيان بهن على كره منهن ـ إشارة لطيفة ـ إن خلق الإنسان وإن كان عن حركات فلكية هي أبوه ، وعن عناصر قابلة وهي أمه ، فإن له من جانب الحق أمرا ما هو في آبائه ولا أمهاته ، من ذلك الأمر وسع جلال الله تعالى ، إذ لو كان ذلك من قبل أبيه الذي هو السماء أو أمه التي هي الأرض أو منهما ، لكان السماء والأرض أولى بأن يسعا الحق ممن تولد عنهما ، فاختص الإنسان بأمر أعطاه هذه السعة التي ضاق عنها السماء والأرض ، فلم تكن له هذه السعة إلا من حيث أمر آخر من الله ، فضل به على السماء والأرض ، وهذا الأمر هو خلقه على الصورة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن الله خلق آدم على صورته] فكل واحد من العالم فاضل مفضول ، فقد فضل كل واحد من العالم من فضله ، لحكمة الافتقار والنقص الذي هو عليه كل ما سوى الله ، فإن الإنسان إذا زها بهذه السعة وافتخر على الأرض والسماء جاءه قوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) وإذا زهت السماء والأرض بهذه الآية على الإنسان جاء قوله : [ما

٢١

وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي] فأزال عنه هذا العلم ذلك الزهو والفخر وعنهما ، وافتقر الكل إلى ربه ، وانحجب عن زهوه ونفسه.

(وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ) (٥٨)

المسيء من أتى بما يسوء وإن كان جزاء ، فمسيء المسيء ، وجزاء سيئة سيئة مثلها ، إلا أن هذا الاسم مقصور على الخلق دون الحق أدبا أدبنا به الحق.

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (٦٠)

أمرنا الحق بهذه الآية أن ندعوه فقال : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي) ثم قال تعالى : (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) اعلم أن العبد لا يكون مجيبا للحق حتى يدعوه الحق إلى ما يدعوه إليه ، قال تعالى : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) كذلك رأيناه تعالى لا يستجيب إلا بعد دعاء العبد إياه كما شرع ، فقال تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فاشترك العبد والحق في القضية ، من كون الحق يجيب العبد إذا دعاه وسأله ، كما أن العبد يجيب أمر الله إذا أمره ، وإجابة الحق إيانا فيما دعونا به على ما يرى الإجابة فيه ، فهو أعلم بالمصالح منا ، فإنه تعالى لا ينظر لجهل الجاهل فيعامله بجهله ، وإنما الشخص يدعو والحق يجيب ، فإن اقتضت المصلحة البطء أبطأ عنه الجواب ، فإن المؤمن لا يتهم جانب الحق ، وإن اقتضت المصلحة السرعة أسرع في الجواب ، وإن اقتضت المصلحة الإجابة فيما عيّنه في دعائه أعطاه ذلك ، سواء أسرع به أو أبطأ ، وإن اقتضت المصلحة أن يعدل مما عيّنه الداعي إلى أمر آخر أعطاه أمرا آخر لا ما عينه ، فما جاز الله لمؤمن في شيء إلا كان له فيه خير ، فإياك أن تتهم جانب الحق فتكون من الجاهلين ، ثم قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) يعني بالعبادة هنا عين

٢٢

الدعاء ، والدعاء مخ العبادة ، أي من يستكبر عن الذلة إليّ والمسكنة ، فإن الدعاء سماه عبادة ، والعبادة ذلة وخضوع ومسكنة (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ) وهو البعد عن الله ، فإن جهنم سميت به لبعد قعرها ، (داخِرِينَ) أي أذلاء ، فوصفهم الحق بأنهم لا يخرجون عن العبودية ، وأن الذلة حقيقتهم ـ [إشارة : من لم ير أن يكون عبدا لي فإنه سيكون عبدا لطبيعته] ـ إشارة ـ من لم ير أن يكون عبدا لي كما هو في نفس الأمر ، فإنه سيكون عبدا لطبيعته التي هي جهنم ، ويذل تحت سلطانها ، كما هو ليس هو في نفس الأمر ، فترك العلم واتصف بالجهل ، فلو علم لكان عبدا لي وما دعا غيري ، كما هو في نفس الأمر عبد لي ، أحب أم كره ، وجهل أو علم ، وإذا كان عبدا لي بدعائه إياي ولم يتكبر في نفسه أن يكون عبدا لي عند نفسه ، أعطيته التصريف في الطبيعة ، فكان سيدا لها وعليها ، ومصرفا لها ومتصرفا فيها ، ومن استكبر عن عبادتي ولم يدعني في السراء وكشف الضر ، تعبدته الأسباب فكان من الجاهلين ، وأما إذا فعلوا ما أمروا به من دعاء الله جازاهم الله بدخول الجنة أعزاء ـ تحقيق ـ إن الله تعالى لما اتصف بالغيرة ، ورأى ما يستحقه من المرتبة قد نوزع فيها ، ورأى أن المنسوب إليهم هذا النعت وهذا الاسم لم يكن لهم فيه قصد ولا إرادة ، من فلك وملك ومعدن ونبات وحيوان وكوكب ، وأنهم يتبرؤون ممن عبدهم يوم القيامة ، قضى الله حوائج من عبدهم غيرة ، ليظهر سلطان هذه النسبة ، لأنهم ما عبدوه لكونه حجرا ولا شجرا ، بل عبدوه لكونه إلها في زعمهم ، فالإله عبدوا ، فما رأى معبودا إلا هو ، ولهذا يوم القيامة ما يأخذهم إلا بطلب المعبودين ، فإن ذلك من مظالم العباد ، فمن هناك يجازيهم الله بالشقاء لا من حيث عبادتهم ، فالعبادة مقبولة ، ولهذا يكون المآل إلى الرحمة مع التخليد في جهنم ، فإنهم أهلها ، وقد اجتمعوا معنا في كوننا ما عبدنا هذه الذات لكونها ذاتا بل لكونها إلها ، فوضعنا الاسم حقيقة على مسماه ، فهو الله حقا لا إله إلا هو ، فلما نسبنا ما ينبغي لمن ينبغي سمانا علماء سعداء ، وأولئك جهلاء أشقياء ، لأنهم وضعوا الاسم على غير المسمى فأخطؤوا ، فهم عباد الاسم ، فراعى الحق سبحانه قصدهم حيث أنهم ما عبدوا إلا الله لا الأعيان ، فصيرهم في العاقبة إلى شمول الرحمة بعد استيفاء حقوق المعبودين منهم ، ولذلك جعله من الكبائر التي لا تغفر ـ رقيقة ـ لما كان الحق له حضرة الإطلاق عن التقييد ، ففي موطن يقول سبحانه : (ادْعُونِي) ؛ وفي موطن يعرفنا بأنه قد قضى القضية ، وما يبدل القول لديه ، وما سبق العلم به فهو كائن ، ولا ينجي حذر من قدر ، قلت بيتين

٢٣

فيهما رمز حسن وهما :

إذا قلت يا الله قال لم تدعو؟

وإن أنا لم أدع يقول ألا تدعو؟

فقد فاز باللذات من كان أخرسا

وخصص بالراحات من لا له سمع

(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (٦١)

فعين الشكر عين النعم ، ومن النعم دفع النقم ، كم نعمة لله أخفاها شدة ظهورها ، واستصحاب كرورها على المنعم عليه ومرورها ، وهم في غفلة معرضون ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، بل لا يشعرون ، بل لا يشكرون.

(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٦٢)

هذا هو التوحيد التاسع والعشرون في القرآن وهو توحيد الفضل ، وهو من توحيد الهوية ، لأنه جاء بعد قوله (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) فيكون هذا التوحيد شكرا لما تفضل به الله على الناس ، فإن الخالق مع المخلوقين حيث كانوا لا يفارقهم ، لأنّ مستند الخلق إنما هو للاسم الخالق استنادا صحيحا لا شك فيه ، وإن كان هذا الاسم يستدعي عدة معان يطلبها ، أعني الاسم الخالق بذاته ، لكل معنى منها أثر في المخلوق لا في الخالق ، فالخالق لهذه المعاني كالجامع خاصة ، وأثرها في المخلوق لا فيه.

(كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٦٥)

٢٤

هذا هو التوحيد الثلاثون في القرآن وهو توحيد الحياة ، وهو توحيد الكل ، وهو من توحيد الهوية الخالصة ، والحياة شرط في كل مسبح ، وما من شيء من العالم إلا وهو مسبح بحمده ، فتوحيد الحياة توحيد الكل ، ولا ثناء أكمل من الثناء بالأحدية ، فإن فيها عدم المشاركة ، فالتوحيد أفضل الثناء ، وهو لا إله إلا الله ، فلهذا قلنا : إنه توحيد الحياة وتوحيد الكل ، وهو إخلاص التوحيد لله من الله ومن العالم.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦٧)

خلق الله الإنسان من تراب الأرض ، أنزل موجود خلق ، ليس وراءها وراء ، ولما أراد الله أن يخلقنا لعبادته قرب الطريق علينا ، فخلقنا من تراب في تراب ، وهو الأرض التي جعلها الله ذلولا ، والعبادة الذلّة ، فنحن الأذلاء بالأصل ، لا نشبه من خلق نورا من النور وأمر بالعبادة ، فبعدت عليهم الشقة لبعد الأصل مما دعاهم إليهم من عبادته ، فلو لا أن الله أشهدهم بأن خلقهم في مقاماتهم ابتداء لم ينزلوا منها ، فلم يكن لهم في عبادتهم ارتقاء كما لنا ، ما أطاقوا الوفاء بالعبادة ، فإن النور له العزة ما له الذلة ، فمن عناية الله بنا لما كان المطلوب من خلقنا عبادته أن قرّب إلينا الطريق بأن خلقنا من الأرض ، التي أمرنا أن نعبده فيها ، وجعل تعالى هذه الأرض محلا للخلافة ، فهي دار ملكه ، وموضع نائبه الظاهر بأحكام أسمائه ، فمنها خلقنا وفيها أسكننا أحياء وأمواتا ، ومنها يخرجنا بالبعث في النشأة الأخرى ، حتى لا تفارقنا العبادة حيث كنا دنيا وآخرة ، وإن كانت الآخرة ليست بدار تكليف ولكنها دار عبادة.

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٦٨)

٢٥

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (٧٤) ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم

٢٦

مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (٨٥)

إن الإنسان ولد على الفطرة ، وهو العلم بوجود الرب أنه ربنا ونحن عبيد له ، والإنسان لا يقبض حين يقبض إلا بعد كشف الغطاء ، فلا يقبض إلا مؤمنا ، ولا يحشر إلا مؤمنا ، فلا يموت أحد من أهل التكليف إلا مؤمنا عن علم وعيان محقق ، لا مرية فيه ولا شك ، من العلم بالله والإيمان به خاصة ، هذا هو الذي يعمّ ، غير أن الله تعالى لما قال : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) ولا بأس أشد من الموت ، فما بقي إلا هل ينفعه ذلك الإيمان أم لا؟ فما آمنوا إلا ليندفع عنهم ذلك البأس ، فما اندفع عنهم ، وأخذهم الله بذلك البأس ، فما رفع العقوبة عنهم إلا من اختصه الله ، وما ذكر أنه لا ينفعهم في الآخرة ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) حين رأوا البأس (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فهذا معنى قولنا (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) في رفع البأس عنهم في الحياة الدنيا كما نفع قوم يونس ، فما تعرض إلى الآخرة ، أما الاستثناء هنا فلا حكم على الله في خلقه ، وأما نفع ذلك الإيمان في المآل فإن ربك فعال لما يريد ، ومع هذا فإن الله يقيم حدوده على عباده حيث شاء ، ومتى شاء ، فقوله تعالى : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) هو موضع استشهادنا ، فحقت كلمة الله وجرت سنته في عباده ، أن الإيمان في ذلك الوقت لا يدفع عن المؤمن العذاب الذي أنزله بهم في ذلك الوقت ، إلا قوم يونس ، كما لا ينفع السارق توبته عند الحاكم فيرفع عنه حد القطع ، ولا الزاني مع توبته عند الحاكم ، مع علمنا بأنه تاب بقبول التوبة عند الله ، وحديث ماعز في ذلك صحيح أنه تاب توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم ؛ ومع هذا لم يدفع عنه الحد ، بل أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجمه ، كذلك كل من آمن بالله عند رؤية البأس من الكفار ، إن الإيمان لا يرفع البأس عنهم مع قبول الله إيمانهم في الدار الآخرة ، فيلقونه ولا ذنب لهم ، فإنهم ربما لو عاشوا بعد ذلك اكتسبوا أوزارا ، فالرجعة إلى الله عند رؤية البأس وحلول العذاب نافعة في الآخرة

٢٧

وإن لم يكشف عنهم العذاب في الدنيا ، وما اختص قوم يونس إلا بالكشف عنهم في الحياة الدنيا عند رجعتهم ، فيكون معنى قوله (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) يعني في الدنيا ، فإن الله يقول : (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فقول الله تعالى في هذه الآية كلام محقق في غاية الوضوح ، فإن النافع هو الله ، فما نفعهم إلا الله (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) يعني الإيمان عند رؤية البأس غير المعتاد ، وليس في الآية أن بأس الآخرة لا يرتفع ، ولا أن الإيمان لا يقبل ، وإنما في الآية أن بأس الدنيا لا يرتفع عمن نزل به إذا آمن في حال رؤيته ، إلا قوم يونس : (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) فثبت انتقال الناس في الدارين في أحوالهم من نعيم إلى نعيم ، ومن عذاب إلى عذاب ، ومن عذاب إلى نعيم من غير مدة معلومة لنا ، فإن الله ما عرفنا ، إلا أنا استروحنا من قوله تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أن هذا القدر مدة إقامة الحدود.

(٤١) سورة فصّلت مكيّة

بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم

(حم (١) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣)

لما جمع الله بالرحمة المركبة القرآن في الكتب لا في الصدور ، فإنه في الصدور قرآن ، وفي اللسان كلام ، وفي المصاحف كتاب ، وضع ذلك الاسم المفصل عن أمر المدبر ، فإنه متقدم عليه بالرتبة ، فلهذا له الحكم في التفصيل بالقوة وللمفصل بالفعل ، فإن الله تعالى جمع بالرحمة المركبة الكتب ، وأنزل كل كتاب سورا وآيات ، والرحمة المركبة من الرحمن الرحيم ، فإن الرحمن له عموم الرحمة ، والرحيم له الرحمة الخاصة الواجبة ، فهي مركبة من رحمة عامة وهي التي وسعت كل شيء ، ومن رحمة خاصة وهي الرحمة التي تميز بها من اصطفاه الله واصطنعه لنفسه من رسول ونبي وولي ، ثم قال : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) وجعله

٢٨

كتابا لضم حروفه بعضها إلى بعض ، وضم معانيه إلى حروفه ، مأخوذ من كتيبة الجيش ، وهو كتاب مبسوط للرحمة ، لأنه منها نزل كما قال تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وقد قال تعالى في ذلك (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وهنا قال تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإحكام الآيات وتفصيلها لا يعرفه إلا من آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وصورة الحكمة التي أعطاها الحكيم الخبير لأهل العناية ، علم مراتب الأمور وما تستحقه الموجودات والمعلومات من الحق الذي هو لها ، وهو إعطاء كل شيء خلقه إعطاء إليها ، ليعطي كلّ خلق حقه إعطاء كونيا بما آتانا الله ، فنعلم بالقوة ما يستحقه كل موجود في الحدود ، ونفصله بعد ذلك آيات بالفعل لمن يعقل كما أعطانيه الخبير الحكيم ، فننزل الأمور منازلها ونعطيها حقها ، ولا نتعدى بها مراتبها ، فتفصيل الآيات من المفصّل إذا جعلها في أماكنها بهذا الشرط ـ لأنه ما كل مفصّل حكيم ـ دليل على أنه قد أوتي الحكمة وعلم إحكام آياته ، ورحمته بالآيات والموجودات التي هي الكتاب الإلهي وليس إلا العالم ـ فإن العالم كله كتاب مسطور في رق منشور ، وهو الوجود ـ دليل على علمه بمن أنزله وليس إلا الرحمن الرحيم ، وخاتمة الأمر ليست سوى عين سابقتها ، وسوابقها الرحمن الرحيم ، فمن هنا تعلم مراتب العالم ومآله أنه إلى الرحمة المطلقة ، وإن تعب في الطريق وأدركه العناء والمشقة ، فمن الناس من ينال الرحمة والراحة بنفس ما يدخل المنزل الذي وصل إليه وهم أهل الجنة ، ومنهم من يبقى معه تعب الطريق ومشقته ونصبه بحسب مزاجه ، وربما مرض واعتل زمانا ثم انتقل من دائه واستراح وهم أهل النار الذين هم أهلها ، ما هم الذين خرجوا منها إلى الجنة فمستهم النار بقدر خطاياهم مع كونهم أماتهم الله فيها إماتة ، فإن أولئك ليست النار منزلا لهم يعمرونه ويقيمون فيه مع أهليهم ، وإنما النار لهؤلاء منهل من المناهل التي ينزلها المسافر في طريقه حتى يصل إلى منزله الذي فيه أهله ، فهذا معنى الحكمة والتفصيل ، فمن كشف التفصيل في عين الإجمال علما أو عينا أو حقا فذلك الذي أعطاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وليس إلا الرسل والورثة خاصة.

(بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) (٥)

٢٩

الكنّ بيت الطبيعة ، فالقلب مشغول بأمه ما عنده خبر بأبيه الذي هو روح الله ، فلا يزال في ظلمة الكنّ وهي حجاب الطبيعة ، فهو في حجابين كنّ وظلمة ، فهو يسمع ولا يفهم ، كما قال الله فيهم (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يفهمون فهنا قال الكفار (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) فكانت قلوبهم في أكنة مما يدعوها الرسول إليه خاصة ، لا أنها في كنّ ، ولكن تعلقت بغير ما تدعى إليه ، فعميت عن إدراك ما دعيت إليه فلا تبصر شيئا (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) فطابق ذلك قول الله : إنهم صم ، فلم يسمعوا ، والوقر هنا هو ثقل الأسباب الدنياوية التي تصرف عن الآخرة (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) إن كان الوقر طخأ ، فهو قساوة قلبه أن يؤثر فيه قبول ، ما يخطر له حديث النفس من النظر والإصغاء إلى هذا الداعي الذي هو الشارع ، قال بعضهم ذلك لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعنون بالحجاب هنا الأكنة (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) ـ الوجه الأول ـ أي اعمل في رفع ذلك إننا عاملون في رفع ذلك ، في حق من يحتمل صدقه عندهم ، فإنهم اعترفوا أن قلوبهم في أكنة مما يدعوهم إليه ، فما جحدوا قوله ولا ردوه كما اعتقد غيرهم ممن لم يقل ذلك ، ولا ندري ما آل إليه أمر هؤلاء ، فإنا نعلم قطعا أن الرسول يعمل في رفع الغطاء عن أعينهم بلا شك ، ولذا قال في الآية التالية (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) ولم يقل : وويل لكم ، فهذا يدل بقرينة الحال أنهم عاملون في رفع الحجاب وإخراج قلوبهم من الأكنة ، وإنما كثر الأكنة لاختلاف أسباب توقفهم في قبول ما أتاهم به ، فمنهم من كنّه الحسد ، وآخر الجهل ، وآخر شغل الوقت بما كان عنده أهم حتى يتفرغ منه ، والكل حجاب ـ الوجه الثاني ـ (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) أي هو منّا (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي هو منّا ، (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي هو منّا (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) فقال الله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو العمل الذي قالوه وطلبوه ـ إشارة وموعظة ـ اعلم أن القلب مرآة مصقولة ، كلها وجه لا تصدأ أبدا ، فإن أطلق يوما عليها أنها صدئت كما قال عليه‌السلام : [إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد ـ الحديث] وفيه أن جلاءها ذكر الله وتلاوة القرآن ، ولكن من كونه الذكر الحكيم ، فليس المراد بهذا الصدأ أنه طخأ طلع على وجه القلب ، ولكنه لما تعلق واشتغل بعلم الأسباب عن العلم بالله ، كان تعلقه بغير الله صدأ على وجه القلب ، لأنه المانع من تجلي الحق إلى هذا القلب ، لأن الحضرة الإلهية متجلية على الدوام ، لا يتصور في حقها

٣٠

حجاب عنا ، فلما لم يقبلها هذا القلب من جهة الخطاب الشرعي المحمود ، لأنه قبل غيرها ، عبّر عن قبول ذلك الغير بالصدأ والكن والقفل والعمى والران وغير ذلك ، وإلا فالحق يعطيك أن العلم عنده ، ولكن بغير الله في علمه وهو بالله في نفس الأمر عند العلماء بالله ، فالقلوب أبدا لم تزل مفطورة على الجلاء مصقولة صافية ، فكل قلب تجلت فيه الحضرة الإلهية من حيث هي ياقوت أحمر ، الذي هو التجلي الذاتي ، فذلك قلب المشاهد المكمل العالم ، الذي لا أحد فوقه في تجل من التجليات ، ودونه تجلي الصفات ، ودونهما تجلي الأفعال ، ولكن من كونها من الحضرة الإلهية ، ومن لم تتجل له من كونها من الحضرة الإلهية فذلك هو القلب الغافل عن الله تعالى ، المطرود من قرب الله تعالى ، فانظر وفقك الله في القلب على حد ما ذكرناه.

(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) (٧)

لا يجوز أخذ الزكاة من كافر ، وإن كانت واجبة عليه مع جميع الواجبات ، إلّا أنه لا يقبل منه شيء ممّا كلّف به إلا بعد حصول الإيمان به ، فإن كان من أهل الكتاب ففيه عندنا نظر ، فإنّ أخذ الجزية منهم قد يكون تقريرا من الشارع لهم دينهم الذي هم عليه ، فهو شرع لهم ، فيجب عليهم إقامة دينهم ، فإن كان فيه أداء زكاة وجاؤوا بها قبلت منهم ، وليس لنا طلب الزكاة من المشرك ، وإن جاء بها قبلناها ، وهي لا تجزي عن أهل الذمّة إذا أخرجوها ـ مع كونها واجبة عليهم كسائر جميع فروض الشريعة ـ لعدم الشرط المصحح لها ، وهو الإيمان بجميع ما جاءت به الشريعة ، لا بها ولا ببعض ما جاء به الشرع.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (٩)

فصل في خلق الأرض : الأرض أول مخلوق من الأركان ، ثم الماء ، ثم الهواء ، ثم النار ، ثم السموات ، وأخبر تعالى عنها بأمور تقضي أنها تعقل ، فوصفها بالقول والإباية ، وقال

٣١

لها وقالت له ، ونعتها بالطاعة والأخذ بالأحوط ليدل بذلك على علمها وعقلها ، وجعلها محلا لتكوين المعادن والنبات والحيوان والإنسان ، وجعلها حضرة الخلافة والتدبير ، فهي موضع نظر الحق ، وسخر في حقها جميع الأركان والأفلاك والأملاك ، وأنبت فيها من كل زوج بهيج ، من كل ذكر وأنثى ، وما جمع لمخلوق بين يديه سبحانه إلا لما خلق منها ، وهي طينة آدم عليه‌السلام خمرها بيديه ، وهو ليس كمثله شيء ، وأقامها مقام العبودية فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) وظهر عن هذه الأرض من العالم المولدات إلى مقعر فلك المنازل ، وهذا الركن لا يستحيل إلى شيء ، ولا يستحيل إليه شيء ، وإن كان بهذه المثابة بقية الأركان ، ولكنه في هذا الركن أظهر حكما منه في غيره ، فهي الذلول التي لا تقبل الاستحالة ، فيظهر فيها أحكام الأركان ولا يظهر لها حكم في شيء ، تعطي جميع المنافع من ذاتها ، هي محل كل خير ، فهي أعز الأجسام ، لا تزاحم المتحركات بحركتها ، لأنها لا تفارق حيّزها ، يظهر فيها كل ركن سلطانه ، وهي الصبور القابلة الثابة الراسية ، سكّن ميدها جبالها التي جعلها الله أوتادا لما تحركت من خشية الله ، آمنها الله بهذه الأوتاد فسكنت سكون الموقنين ، وهي الأم التي منها أخرجنا وإليها نعود ومنها نخرج تارة أخرى ، لها التسليم والتفويض ، هي ألطف الأركان معنى ، وما قبلت الكثافة والظلمة والصلابة إلا لستر ما أودع الله فيها من الكنوز ، لما جعل الله فيها من الغيرة ، فحار السعادة فيها فلم يخرقوها ، ولا بلغوا جبالها طولا ، أعطاها صفة التقديس فجعلها طهورا في أشرف الحالات ، وذلك عند الاضطرار ، لما أقامها مقامه ، مثل الظمآن يرى السراب فيحسبه ماء فإذا جاءه لم يجده شيئا ، يعني ماء ووجد الله عنده ، فما وجد الله إلا عند الضرورة ، كذلك طهارة الأرض لا تكون إلا لفاقد الماء على ما كان من الأحوال ، فانظر ما أشرف منزلها ، ثم أنزلها منزلة النقطة من المحيط ، فهي تقابل بذاتها كل جزء من المحيط ، وينظر إليها كل جزء من المحيط ، فكل خط منها يخرج إلى المحيط على السواء والاعتدال ، لأنها ما تعطي إلا بحسب صورتها ، وكل خط من المحيط إليها يقصد ، فلو زالت زال المحيط ، ولو زال المحيط لم يلزم زوالها ، فهي الدائمة الباقية في الدنيا والآخرة. واعلم أن الله تعالى قد جعل هذه الأرض بعد ما كانت رتقا كالجسم الواحد ـ كما كانت السماء ـ ففتق رتقها وجعلها سبعة أطباق ، كما فعل بالسموات ، وجعل لكل أرض استعداد انفعال لأثر حركة فلك من أفلاك السموات وشعاع

٣٢

كوكبها ، فالأرض الأولى وهي التي نحن عليها للفلك الأول من هناك ، ثم تنزل إلى أن تنتهي إلى الأرض السابعة والسماء الدنيا ، ولذلك قال عليه‌السلام فيمن غصب شبرا من الأرض [طوقه الله به من سبع أرضين] لأنه إذا غصب شيئا من الأرض ، كان ما تحت ذلك المغصوب مغصوبا إلى منتهى الأرض ، ولو لم تكن طباقا بعضها فوق بعض لبطل معقول هذا الخبر ، وكذلك الخبر الوارد في سجود العبد على الأرض : طهّر الله بسجدته إلى سبع أرضين ، وقال تعالى : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) ، أي كل واحدة منهما مرتوقة ، ثم قال : (فَفَتَقْناهُما) يعني فصل بعضها عن بعض حتى تميزت كل واحدة عن صاحبتها ، كما قال : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الظاهر يريد طباقا ثم قال : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أي بين السموات والأرض.

(وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ) (١٠)

(وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) قدّر الله في هذه الأرض الأولى أقواتها فجعلها ذات مقدار ، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، والأرزاق في تقديرها بوجهين : الوجه الواحد كمياتها ، والثاني أوقاتها ، فأعطى الحق مقادير أوقات الأقوات وموازينها ، فإن القوت لكل من لا يقوم له بقاء صورة في الوجود إلا به ، ومن هذه الأقوات عين الوحي الذي في السماء ، فالقوت في الأرض كالأمر في السماء ، وتقدير القوت في الأرض كالوحي في السماء ، وهو عينه لا غيره ، فأوحى في كل سماء أمرها ، وهو تقدير أقواتها ، وقدر في الأرض أقواتها ، فالرزق الذي في الأرض ما تقوم به الأجسام ، والذي في السماء ما تقوم به الأرواح ، وهو قوله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) وكل ذلك رزق ليصح الافتقار من كل مخلوق ، وينفرد الحق بالغنا (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي في أربعة آلاف سنة ، كل يوم من الأيام ألف سنة عنده ، وخلق الله الأرض وقدر فيها أقواتها علما ، لأنه قال بعد ذلك ، ثم استوى ، فجاء بثم التي تؤذن بالبعدية ، فبعد أن دارت السموات بكواكبها ، فتق الأرض بما أخرج فيها ومنها من معدن ونبات وحيوان ، فكان إيجادا عند دوران الأفلاك بعد تقدير.

٣٣

(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (١١)

جاء بكلمة ثم بعد خلق تؤذن غالبا أن الثاني بعد الأول بمهلة ، وهو زمان خلق الأرض وتقدير أقواتها في أربعة أيام من أيام الشأن ، يومان لشأنها في عينها وذاتها ، يوم لظهورها وشهادتها ، ويوم لبطونها وغيبتها ، ويومان لما أودع فيها من الأقوات الغيبية والشهادية ، ثم كان الاستواء الأقدس الذي هو القصد والتوجه إلى فتق السموات وفطرها ، فقال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) فالاستواء هنا بمعنى القصد ، فإن القصد هو الإرادة وهي من صفات الكمال (وَهِيَ دُخانٌ) أي أن أصلها الدخان ، وهي اليوم سموات ، كما أن آدم خلقه الله من تراب أي أصله ، وهو لحم ودم وعروق وأعصاب (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) ـ الوجه الأول ـ لأمر حدّ لهما ، أي أجيبا إذا دعيتما لما يراد منكما مما أمنتما عليه أن تبرزاه ، فإن الله تعالى ما خلق شيئا في الكون إلا حيا ناطقا ، جمادا كان أو نباتا أو حيوانا ، في العالم الأعلى والأسفل ، مصداق ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) ولما كان الأمر هكذا ، جاز بل وقع وصح أن يخاطب الحق جميع الموجودات ويوحي إليها ، من سماء وأرض وجبال وشجر وغير ذلك من الموجودات ، ووصفها بالطاعة لما أمرها به ، وبالإباية لقبول عرضه ، وأسجد له كل شيء ، لأنه تجلى لكل شيء ، وأوحى إلى كل شيء بما خاطب ذلك الشيء به ، فقال للسماء والأرض (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) لأنها علمت أنها إن لم تجب مختارة جبرت على الإتيان ، فجيء بها كما جيء بجهنم ، فالسماء والأرض آتيتان أبدا ، فلا يزالان متحركتين ، غير أن حركة الأرض خفيّة عندنا ، وحركتها حول الوسط لأنها أكر ، والسماء أتت طائعة عند أمر الله لها بالإتيان ، وأمر الأرض فأتت طائعة لما علمت نفسها مقهورة ، وأنه لا بد أن يؤتى بها بقوله (أَوْ كَرْهاً) فكانت المرادة بقوله تعالى : (أَوْ كَرْهاً) ـ الوجه الثاني ـ (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي تهيأ القبول ما يلقى فيكما (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) فإنه كان أمرا لا عرضا ، فتعين عليهم الإجابة طوعا ، أو كرها ، أي على مشقة ، لمعرفتهم بعظيم ما أوجب الله عليهم ، فأتوا طائعين ، فلما أتيا طائعين وتهيآا لقبول ما شاء الحق أن يجعل فيهما ،

٣٤

مستسلمين خائفين فقدّر في الأرض أقواتها وجعلها أمانة عندها ، حمّلها إياها جبرا لا اختيارا ، وأوحى في كل سماء أمرها وجعل ذلك أمانة بيدها تؤديها إلى أهلها ، حمّلها إياها جبرا لا اختيارا ـ الوجه الثالث ـ لما أمرت السماء والأرض بالإتيان أمر وجوب ، فإن لم يجئن جيء بهن على كره. فقالتا أتينا طائعين لعلمهن بأن الذي أمرهن قادر على الإتيان بهن على كره منهن ، فقلن أتينا طائعين ، فالإتيان حاصل ، والطوع في معرض الاحتمال إن يكن صدقن في دعواهن ، فإن كان الحق القائل فما كذبا بل صدقا ، وإن كان القول بالواسطة فيحتمل ما قلناه ـ الوجه الرابع ـ تدل هذه الآية أن الله تعالى ما أوجد كل ما عدا الثقلين ولا خاطبهم إلا بصفة القهر والجبروت ، فإن قوله (كَرْهاً) كلمة قهر حيث أتت ، لذا بادرتا (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).

(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١٢)

فلما قضاهن سبع سموات في يومين أوحى في كل سماء أمرها ، فإن الحق سبحانه جعل بين السماء والأرض التحاما معنويا وتوجها لما يريد سبحانه أن يوجده في هذه الأرض ، من المولدات من معدن ونبات وحيوان ، وجعل الأرض كالأهل ، وجعل السماء كالبعل ، والسماء تلقي إلى الأرض من الأمر الذي أوحى الله فيها كما يلقي الرجل الماء بالجماع في المرأة ، وتبرز الأرض عند الإلقاء ما خبأه الحق فيها من التكوينات على طبقاتها ، وقوله تعالى (فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) فذلك الأمر هو الذي ينزل إلى أرضه بما أوحى الله فيها ، فهو ينزل من كل سماء إلى أرضه في قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) فجعل في كل سماء ما يصلح تنفيذه في الأرض من هذا الخلق ، ومن أمرها ما أودع الله في حركات الكواكب واقترانها وهبوطها وصعودها في بيوت نحوسها وسعودها ، فعن حركاتها وحركات ما فوقها من الأفلاك حدثت المولدات ، فأودع الله في خزائن الكواكب التي في الأفلاك علوم ما يكون من الآثار في العالم العنصري من التقليب والتغيير ، والكواكب مسخرة من الله أمينة على ما يحدثه في العالم ، وهو قوله تعالى : (وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ)

٣٥

فكما سخّر الرياح والبحار ، هكذا سخّر الكواكب ، فالأمر هو ما تنتجه الحركات الكوكبية ، لأن الله ما جعل سباحتها في الأفلاك باطلا ، بل لأمور أودعها الله تعالى في المجموع ، فيها وفي حركاتها وفي قطعها في البروج المقدّرة في الفلك الأقصى ، فهي تؤدي في تلك السباحة ما أمنت عليه من الأمور التي يطلبها العالم العنصري والتي لها آثار فيه ، ولذلك فإن الفلك عندنا متحرك حركة إرادية كتحرك الإنسان في الجهات ، لأنه يعقل ويكلّف ويؤمر ، فهو متحرك بالإرادة ليعطي ما في سمائه من الأمر الإلهي الذي يحدث أشياء في الأركان والمولدات ، فحركة الفلك ما تعرف سوى ما تعطيه في الأركان من التحريك ، وشعاعات كواكبها بما أودع الله فيها من العقل والروح والعلم في أشخاص كل نوع من المولدات على التعيين ، من معدن ونبات وحيوان وجن ، وملك مخلوق من عمل أو نفس ، بقول من تسبيح وذكر أو تلاوة ، وذلك لعلمها بما أودع الله لديها مما ينفرد به الكوكب ومما لا ينفرد به ، فإن كل كوكب يعطى في الدرجة الفلكية على انفراده من الحكم ما لا يعطيه إذا اجتمع معه في تلك الدرجة كوكب آخر أو أكثر ، فذلك الذي يحدث من الاجتماع خارج عن الأمر الذي تنفرد به كل سماء ، والأمر هو ما يعطيه من الآثار في العالم ، كما تعطى كل آلة للصانع بها ما عملت له ، والصنعة مضافة للصانع لا للآلة. واعلم أن هذه النشأة الإنسانية قبل أخذ الميثاق كانت مبثوثة في العناصر ، ومراتبها إلى حين موتها التي يكون عليها في وجود أعيان أجسامها معلومة معينة في الأمر المودع في السموات ، لكل حالة من أحواله التي تتقلب فيها في الدنيا صورة في الفلك على تلك الحالة ، قد أخذ الله بأبصار الملائكة عن شهودها ، مكتنفة عند الله في غيبه ، معيّنة له سبحانه ، لا تعلم السموات بها مع كونها فيها ، وقد جعل الله وجود عينها في عالم الدنيا في حركات تلك الأفلاك ، فهذا من أمرها ، وشأنها حفظ هذه الصور إلى وصول وقتها ، فتعطيها مراتبها في الحياة الدنيا تلك الصورة الفلكية من غير أن تفقد منها ، ذلك تقدير العزيز العليم ، وهذه الصور كلها موجودة في الأفلاك التسعة ، وجود الصورة الواحدة في المرايا الكثيرة المختلفة الأشكال ، فمن أعطي في ذلك الموطن شهود نفسه ومرتبته حكم على نفسه بها ، وهنا شاهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبوته فقال : [كنت نبيا وآدم بين الماء والطين] فكان له التعريف في تلك الحالة ، وأعطى الحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم يعط غيره من وحي أمر السموات في طالع مولده ، فمن الأمر

٣٦

المخصوص بالسماء السابعة : لم يبدل حرف من القرآن ولا كلمة ، ولو ألقى الشيطان في تلاوته ما ليس منها بنقص أو زيادة لنسخ الله ذلك ، وهذا عصمة ، ومن ذلك الثبات ما نسخت شريعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغيرها ، بل ثبتت محفوظة ، واستقرت بكل عين ملحوظة ، ولذلك تستشهد بها كل طائفة ، ومن الأمر المخصوص بالسماء السادسة : خصّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلم الأولين الآخرين ، والتؤدة والرحمة والرفق ، وكان بالمؤمنين رحيما ، وما أظهر في وقت غلظة على أحد إلا عن أمر إلهي ، حين قيل له (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) ومن ذلك ما حلل الله له من الغنائم ، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا ، ومن الأمر المخصوص بالسماء الخامسة : السيف الذي بعث به والخلافة ، واختص بقتال الملائكة معه منها ، فإن ملائكة هذه السماء قاتلت معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، ومن هذه السماء أيضا بعث من قوم ليس لهم همة إلا في قرى الأضياف ، ونحر الجزر والحروب الدائمة وسفك الدماء ، ومن ذلك النصر بالرعب فهو من السماء الخامسة ، ومن الوحي المأمور به في السماء الرابعة : نسخه بشريعته جميع الشرائع ، وظهور دينه على جميع الأديان عند كل رسول ممن تقدمه وفي كل كتاب منزل ، فلم يبق لدين من الأديان حكم عند الله إلا ما قرر منه ، فبتقريره ثبت ، فهو من شرعه وعموم رسالته ، وإن كان بقي من ذلك حكم ، فليس هو من حكم الله إلا في أهل الجزية خاصة ، ومن هذا الأمر من هذه السماء بعث وحده إلى الناس كافة ، فعمت رسالته ، ومن الوحي المأمور به في السماء الثالثة المختص بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه ما ورد قط عن نبي من الأنبياء أنه حبّب إليه النساء إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كانوا قد رزقوا منهن كثيرا ، كسليمان عليه‌السلام وغيره ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبهن بكون الله حببهن إليه ، ومن هذه السماء حب الطيب ، وكان من سنته النكاح لا التبتل ، وجعل النكاح عبادة للسر الإلهي في الإنتاج ، فهذا الفضل زاد فيه بنكاح الهبة ، ومن الأمر الموحى في السماء الثانية : إعجاز القرآن ، والذي أعطيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جوامع الكلم من هذه السماء تنزل إليه ، ولم يعط ذلك نبي قبله ، ومن أمر هذه السماء ما خصه الله به من إعطائه إياه مفاتيح خزائن الأرض ، ومن الوحي المأمور به في السماء الأولى وهي الدنيا التي تلينا : كون الله خصه بصورة الكمال ، فكملت به الشرائع ، وكان خاتم النبيين ولم يكن ذلك لغيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبهذا وأمثاله انفرد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسيادة الجامعة للسيادات كلها ، والشرف المحيط الأعم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبهذا قد نبهنا على ما حصل له في مولده من بعض ما أوحى الله به في كل سماء من أمره.

٣٧

ألا بأبي من كان ملكا وسيدا

وآدم بين الماء والطين واقف

فذاك الرسول الأبطحي محمد

له في العلى مجد تليد وطارف

أتى بزمان السعد في آخر المدى

وكانت له في كل عصر مواقف

أتى لانكسار الدهر يجبر صدعه

فأثنت عليه ألسن وعوارف

إذا رام أمرا لا يكون خلافه

وليس لذاك الأمر في الكون صارف

ومن الأمر الموحى في السماء السابعة التي أسكنها الخليل عليه‌السلام من حيث العموم : عين الموت ومعدن الراحة ، وسرعة الحركة في ثبات وطرح الزينة ، ومن الأمر العام الموحى في السماء السادسة التي أسكنها الحق روحانية موسى عليه‌السلام : حياة قلوب العلماء بالعلم ، واللين والرفق ، وجميع مكارم الأخلاق ، ومن الأمر العام الموحى في السماء الخامسة مسكن هارون عليه‌السلام : إهراق الدماء والحميات ، وهو من أثر الاسم الإلهي القهار ، فإنه الممد لها ، ومن الأمر الموحى في السماء الرابعة التي أسكن فيها قطب الأرواح الإنسانية إدريس عليه‌السلام : تقسيم الحكم الإلهي في العالم ، ومن الأمر الموحى في السماء الثالثة التي أسكنها روحانية يوسف عليه‌السلام : إظهار صور الأرواح والأجسام والعلوم في العالم العنصري ، ومن الأمر الموحى في السماء الثانية التي أسكنها الحق عيسى عليه‌السلام : كل ما ظهر في العالم العنصري من الآثار الحسية والمعنوية ، وما يحصل للعارفين في قلوبهم من ذلك ، ومن الأمر الموحى في السماء الأولى التي أسكنها روحانية آدم عليه‌السلام ، وله كل حكم يظهر في العالم يوم الاثنين روحا وجسما ، وسرعة ظهور الأثر في الكون لسرعة حركة هذا الفلك وكوكبه ، ولذلك كان الإنسان سريع التغيير في باطنه ، كثير الخواطر ، يتقلب في باطنه في كل لحظة تقلبات مختلفة ، فإن الحق تعالى لما قضى السبع سموات في يومين من أيام الشأن أوحى في كل سماء أمرها ، فأودع فيها جميع ما تحتاج إليه المولدات من الأمور ، في تركيبها وتحليلها وتبديلها وتغييرها وانتقالها من حال إلى حال بالأدوار والأطوار فإنه من الأمر الإلهي المودع في السموات من الروحانيات العلية ، فبرز بالتحريكات الفلكية ليظهر التكوين في الأركان بحسب الأمر الذي يكون في تلك الحركة وفي ذلك الفلك ، فإن السموات كلها قد جعلها الله محلا للعلوم الغيبية المتعلقة بما يحدث الله في العالم من الكائنات ، جوهرها وعرضها ، صغيرها وكبيرها ، وأحوالها وانتقالها ، وما من سماء إلا وفيها علم

٣٨

مودع بيد أمينها ، وأودع الله نزول ذلك الأمر إلى الأرض في حركات أفلاكها وحلول كواكبها في منازل الفلك الثامن ، وجعل لكواكب هذه السموات السبع اجتماعات وافتراقات ، وصعودا وهبوطا ، وجعل آثارها مختلفة ، وجعل منها ما يكون بينه وبين كواكب أخر مناسبة ، وجعل منها ما يكون بينه وبين كواكب أخر منافرة ، لا أنهم أعداء ، وإنما ذلك لحقائق خلقهم الله تعالى عليها ، يقضي بذلك ويشغلهم بطاعة ربهم وتسبيحه ، لا يعصون الله ما أمرهم ، كما جاء في خلق مالك خازن النار أنه ما ضحك قط ، بخلاف رضوان الذي خلق من سرور وفرح ، وكلاهما عبدان صالحان مطيعان ليس بينهما عداوة ولا شحناء ، غير أن الآثار هنا في العالم الأسفل تنبعث عن تلك الحقائق ، وعندنا أغراضنا قائمة ، فيقع بيننا التحاسد والعداوة ، والأصل من ذلك ، وأما عدم المنافرة بين المتناسبين منها ، فهو أن أوجد الواحد على خلاف ما أوجد الآخر لا على ضده ، فكل ضد خلاف ، وما كل خلاف ضد ، فإن وكيل السماء السابعة يضاد وكيل السماء السادسة ، حتى أن ما يعمله صاحب السماء السادسة إذا صار وقت الحكم فيه للملك الموكل في السماء السابعة أفسد ما أصلحه صاحب السماء السادسة ، كما يفعل أيضا صاحب السادسة إذا أصلح ما يفسده صاحب السابعة ، وكل ملك ما عنده أنه يفسد ، وإنما يقول في فعله أنه أصلح ، من حيث أنه امتثل فيه أمر ربه ، وأدّى ما أمّن عليه ، وهو الأمر الذي ذكر الله تعالى أنه أوحى في السموات ، فإذا أنست بهذا القدر وعلمت أنه لا يطعن في العقد ، وإلا فأية فائدة كانت في قول الله تعالى : (وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) فبماذا سخرها يا أخي في هذا وأشباهه؟ أليس الله قد سخر العالم ببعضه لبعض؟ فقال : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) وقال : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فذكر أن في السماء أمورا مسخرة لنا مثل الأرض ، فلا يقدح في عقيدة مسلم كونه يعلم ما أوحى في السماء من أمرها وفيما ذا سخرها عالمها ، ولو كان ذلك لاطرد في الأرض وفي السماء ، ونحن في كل زمان نهرب إلى الأسباب التي نصبها الله لنا وعرفنا بها على جهة أنها مسخرة ، لا على أنها فاعلة ، نعوذ بالله ، لا أشرك به أحدا ، وإنما كفّر الشارع من يعتقد أن الفعل للكواكب لا لله ، وأن الله يفعل الأشياء بها ، هذا هو الكفر والشرك ، وأما من يراها مسخرة وأن الله أجراها حكمة فلا ، بل من جهل ما أودع الله فيها وما أوحى

٣٩

الله فيها من الأمور ورتب فيها من الحكم فقد فاته خير كثير وعلم كبير ، وماذا بعد الحق إلا الضلال. ولما فتق الله السموات من رتقها ودارت كانت شفافة في ذاتها وجرمها ، حتى لا تكون سترا لما وراءها ، أدركنا بالأبصار ما في الفلك الثامن من مصابيح النجوم ، فيتخيل أنها في السماء الدنيا ، والله يقول : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) ولا يلزم من زينة الشيء أن يكون فيه ، وأما قوله (وَحِفْظاً) فهي الرجوم التي تحدث في كرة الأثير لإحراق الذين يسترقون السمع من الشياطين فجعل الله لذلك شهابا رصدا وهي الكواكب ذوات الأذناب ، ويخترق البصر الجو حتى يصل إلى السماء الدنيا فلا يرى من فطور فينفذ فيه فينقلب خاسئا وهو حسير أي قد أعى ، وجعل في كل سماء من هذه السبعة كوكبا سابحا وهو قوله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) فتحدث الأفلاك بحركة الكواكب لا السموات ، فتشهد الحركات من السبعة السيارة أن المصابيح في الفلك الثامن وزينا السماء الدنيا لأن البصر لا يدركها إلا فيها فوقع الخطاب بحسب ما تعطيه الرؤية لهذا قال : (زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) ولم يقل خلقناها فيها وليس من شرط الزينة أن تكون في ذات المزين بها ولابد فإن الرجل والخيل من زينة السلطان وما هما قائمان بذاته (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) بالفتق والرتق فإن الله تعالى لما خلق الأفلاك وعمرها بالأملاك وقدر للكواكب السبعة السيارة فيها منازل تجري فيها إلى أجل مسمى تعين الزمان بجريانها وسباحتها وخلق المكانة قبل الأمكنة ومد منها رقائق إلى أمكنة مخصوصة في السموات السبع والأرض ثم أوجد المتمكنات في أمكنتها على قدر مكانتها وجعل إمضاء الأمور التي أودعها السموات في عالم الأركان عند سباحة الجواري وجعلهم نوابا متصرفين بأمر الحق لتنفيذ هذه الأمور التي أخذوها من خزائن البروج في السنة بكمالها وقدر لها المنازل المعلومة التي في الفلك المكوكب وجعل لها اقترانات وافتراقات كل ذلك بتقدير العزيز العليم ـ إشار ـ لما كملت البنية الإنسانية وصحت التسوية ، وكان التوجه الإلهي بالنفخ العلوي في حركة الفلك الرابع من السبعة ، وقبل هذا المسمى الذي هو الإنسان لكمال تسويته السر الإلهي الذي لم يقبله غيره ، وبهذا صح له المقامات ، مقام الصورة ومقام الخلافة ، فلما كملت الأرض البدنية ، وقدّر فيها أقواتها ، وحصل فيها قواها الخاصة بها من كونها حيوانا نباتا ، كالقوة الجاذبة والهاضمة والماسكة والدافعة والنامية والمغذية ، وفتقت طبقاتها السبعة ، من جلد ولحم وشحم وعرق وعصب

٤٠