رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (١٩)

فما ذكر سوى نفسه ، وما أضافه إلا إليه ، ولم يجر لغير الله في هذا التعريف ذكر ، وبهذا جاء لفظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله [إن الله أدبني فأحسن أدبي] ولم يذكر إلا الله ، ما تعرض لواسطة ، ولا لملك ، وهذه الآية تؤيد أن القرآن أنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الألفاظ المخصوصة قال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا).

(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ) (٢٢)

وصف تعالى حال أهل السعادة بذلك وبقوله :

(إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (٢٣)

إثباتا لرؤيته في الدار الآخرة بظاهر قوله ، على أن تكون إلى حرف أداة غاية ، فإن الرؤية غاية البصر ، واللذة البصرية لا تشبهها لذة ، فإنها عين اليقين في المعبود ، فلا نشك أنا نرى ربنا بالأبصار عيانا على ما يليق بجلاله ، وهو مرئي لنا ، ولا نقول إنه محسوس لما يطلبه الحس من الحصر والتقييد ، فهي رؤية غير مكيفة ، فنراه منزها كما علمناه منزها ، لا نقول بالكيف والحصر والتقييد ، ومن وجه آخر (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) إلى نعم ربها مع تقدير محذوف ، فتكون إلى اسم جمع النعمة ، فإن ذلك في اللفظ يحتمل ، ولهذا ما هي هذه الآية نص في الرؤية يوم القيامة. واعلم أنه سبحانه نزل في جماله مباسطة معنا إلى أن ندركه بأبصارنا ، وينظر إلى هذا قوله عليه‌السلام [وترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر وكما ترون الشمس بالظهيرة ليس دونها سحاب لا تضارون في رؤيته] وقال تعالى في حق أصحاب الجحيم (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) والنظر ب : إلى في كلام العرب لا يكون إلا بالبصر ، وب : في يكون بالعقل وبالفكر ، وباللام يكون للرحمة ، وبغير أداة يكون للتقابل والمكافحة والتأخير ، والأبصار من صفات الوجوه ، وليس العقل منها ، فلابد

٤٢١

من رؤيته ، وقوله (لَنْ تَرانِي) لموسى عليه‌السلام حكم يرجع إلى حال ما علمه من سؤال موسى عليه‌السلام ، لا يسعنا التكلم فيه ، وقد أحاله على الجبل ودكّ الجبل ، وصعق موسى ، والإدراك لا يصعق ، وليس من شرطه بنية مخصوصة ولا البنية من شرطه ، وإنما من شرطه موجود يقوم به ، لأنه معنى ، والصعق قام بالبنية الكثيفة ، فلما أفاق سبح ، ولا فائدة للتسبيح عند القيام من ذلك الموطن إلا لمشاهدة ما ، ثم أعطته المعرفة التوبة من اشتراط البنية ، ثم أقر بأنه أول المؤمنين بما رآه في تلك الصعقة ، لأن الإيمان لا يتصور إلا بالرؤية في أي عالم كان ، ولهذا قال النبي عليه‌السلام لحارثة : [ما حقيقة إيمانك؟ قال : كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا] ـ الحديث ـ فأثبت الرؤية في عالم ما ، وبها صحت له حقيقة الإيمان وأقر له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها بالمعرفة. وما عدا هذا فهو الإيمان المجازي ، فلا فائدة للإيمان بالغيب إلا لحوقه بالمشاهدة ، ولهذا لا يدخله الريب. فموسى عليه‌السلام أول من أدرك بالبصر على وجه ما. واعلم أن الكثيب هو مسك أبيض في جنة عدن ، وجعل في هذا الكثيب منابر وأسرة وكراسي ومراتب ، لأن أهل الكثيب أربع طوائف : مؤمنون ، وأولياء ، وأنبياء ، ورسل ، وكل صنف ممن ذكرنا أشخاصه يفضل بعضهم بعضا ، فإذا أخذ الناس منازلهم في الجنة استدعاهم الحق إلى رؤيته ، فيسارعون على قدر مراكبهم ومشيهم هنا في طاعة ربهم ، فمنهم البطيء ، ومنهم السريع ، ومنهم المتوسط ، ويجتمعون في الكثيب ، وكل شخص يعرف مرتبته علما ضروريا ، يجري إليها ولا ينزل إلا فيها ، كما يجري الطفل إلى الثدي ، والحديد إلى المغناطيس ، لو رام أن ينزل في غير مرتبته لما قدر ، ولو رام أن يتعشق بغير منزلته ما استطاع ، بل يرى في منزلته أنه قد بلغ منتهى أمله وقصده ، فهو يتعشق بما هو فيه من النعيم تعشقا طبيعيا ذاتيا ، لا يقوم بنفسه ما هو عنده أحسن من حاله ، ولو لا ذلك لكانت دار ألم وتنغيص ، ولم تكن جنة ولا دار نعيم ، غير أن الأعلى له نعيم بما هو فيه في منزلته ، وعنده نعيم الأدنى. وأدنى الناس منزلة ـ على أنه ليس ثمّ من دني ـ من لا نعيم له إلا بمنزله خاصة ، وأعلاهم من لا أعلى منه له نعيم بالكل. فكل شخص مقصور عليه نعيمه ، فما أعجب هذا الحكم!! فإذا نزل الناس في الكثيب للرؤية ، وتجلى الحق تعالى تجليا عاما على صور الاعتقادات في ذلك التجلي الواحد ، فهو واحد من حيث هو تجل ، وهو كثير من حيث اختلاف الصور ، فإذا رأوه انصبغوا عن آخرهم بنور ذلك التجلي ،

٤٢٢

وظهر كل واحد منهم بنور صورة ما شاهده ، فمن علمه في كل معتقد فله نور كل معتقد ، ومن علمه في اعتقاد خاص معيّن لم يكن له سوى نور ذلك المعتقد المعيّن ، ومن اعتقد وجودا لا حكم له فيه بتنزيه ولا تشبيه بل كان اعتقاده أنه على ما هو عليه ، فلم ينزه ولم يشبه ، وآمن بما جاء من عنده تعالى على علمه فيه سبحانه ، فله نور الاختصاص لا يعلم إلا في ذلك الوقت ، فإنه في علم الله فلا يدرى ، هل هو أعلى ممن عمم الاعتقادات كلها علمه ، أو مساو له؟ وأما دونه فلا ، فإذا أراد الله رجوعهم إلى مشاهدة نعيمهم بتلك الرؤية في جناتهم ، قال لملائكته وزعة الكثيب : ردوهم إلى قصورهم ؛ فيرجعون بصورة ما رأوا ، ويجدون منازلهم وأهليهم منصبغين بتلك الصورة فيتلذذون بها ، فإنهم في وقت المشاهدة كانوا في حال فناء عنهم ، فلم تقع لهم لذة في زمان رؤيتهم ، بل اللذة عند أول التجلي ، حكم سلطانها عليهم فأفنتهم عنها وعن أنفسهم ، فهم في اللذة في حال فناء لعظيم سلطانها ؛ وإذا أبصروا تلك الصورة في منازلهم وأهليهم استمرت لهم اللذة ، وتنعموا بتلك المشاهدة ، فتنعموا في هذا الموطن بعين ما أفناهم في الكثيب ، ويزيدون في ذلك التجلي وفي تلك الرؤية علما بالله ـ أعطاهم إياه العيان ـ لم يكن عندهم ، فإن المعلوم إذا شوهد تعطي مشاهدته أمرا لا يمكن أن يحصل من غير مشاهدة ، ثم إنه إذا أراد الله أن يتجلى لعباده في الزور العام نادى منادي الحق في الجنات كلها : يا أهل الجنان حي على المنة العظمى ، والمكانة الزلفى ، والمنظر الأعلى ، هلموا إلى زيادة ربكم في جنة عدن ؛ فيبادرون إلى جنة عدن ، فيدخلونها وكل طائفة قد عرفت مرتبتها ومنزلتها فيجلسون ، ثم يؤمر بالموائد فتنصب بين أيديهم ، موائد الاختصاص ما رأوا مثلها ، ولا تخيلوه في حياتهم ولا في جناتهم جنات الأعمال ، وكذلك الطعام ما ذاقوا مثله في منازلهم ، وكذلك ما تناولوه من الشراب ، فإذا فرغوا من ذلك خلعت عليهم من الخلع ما لم يلبسوا مثلها فيما تقدم ، ومصداق ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجنة [فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر] فإذا فرغوا من ذلك قاموا إلى كثيب من المسك الأبيض ، فأخذوا منازلهم فيه على قدر علمهم بالله لا على قدر عملهم ، فإن العمل مخصوص بنعيم الجنان لا بمشاهدة الرحمن ، فبيناهم على ذلك إذا بنور قد بهرهم فيخرون سجدا ، فيسري ذلك النور في أبصارهم ظاهرا ، وفي بصائرهم باطنا ، وفي أجزاء أبدانهم كلها ، فهذا يعطيهم ذلك النور ، فبه يطيقون المشاهدة والرؤية ، وهي أتم من

٤٢٣

المشاهدة ، فيأتيهم رسول من الله يقول لهم : تأهبوا لرؤية ربكم جل جلاله ، فها هو يتجلى لكم ؛ فيتأهبون ، فيتجلى الحق جل جلاله وبينه وبين خلقه ثلاثة حجب : حجاب العزة ، وحجاب الكبرياء ، وحجاب العظمة ، فلا يستطيعون نظرا إلى تلك الحجب ، فيقول الله ، جل جلاله لأعظم الحجبة عنده. ارفعوا الحجب بيني وبين عبادي حتى يروني ، فترفع الحجب ، فيتجلى لهم الحق جل جلاله خلف حجاب واحد في اسمه الجميل اللطيف إلى أبصارهم ، وكلهم بصر واحد ، فينفهق عليهم نور يسري في ذواتهم فيكونون به سمعا كلهم ، وقد أبهرهم جمال الرب ، وأشرقت ذواتهم بنور ذلك الجمال الأقدس ؛ فيقول الله جل جلاله : سلام عليكم عبادي ومرحبا بكم ، حياكم الله ، سلام عليكم من الرحمن الرحيم الحي القيوم ، طبتم فادخلوها خالدين ، طابت لكم الجنة فطيبوا أنفسكم بالنعيم المقيم ، والثواب الكريم ، والخلود الدائم ، أنتم المؤمنون الآمنون ، وأنا الله المؤمن المهيمن ، شققت لكم اسما من أسمائي ، لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ، أنتم أوليائي وجيراني وأصفيائي وخاصتي وأهل محبتي وفي داري ، سلام عليكم يا معشر عبادي المسلمين ، أنتم المسلمون وأنا السلام وداري السلام ، سأريكم وجهي كما سمعتم كلامي ، فإذا تجليت لكم وكشفت عن وجهي الحجب فاحمدوني وادخلوا إلى داري غير محجوبين عني بسلام آمنين ، فردوا علي ، واجلسوا حولي ، حتى تنظروا إلىّ ، وتروني من قريب فاتحفكم بتحفي ، وأجيزكم بجوائزي ، وأخصكم بنوري ، وأغشيكم بجمالي ، وأهب لكم من ملكي وأفاكهكم بضحكي ، وأعلفكم بيدي وأشمكم روحي ، أنا ربكم الذي كنتم تعبدوني ولم تروني ، وتحبوني وتخافوني ، وعزتي وجلالي وعلوي وكبريائي وبهائي وسنائي إني عنكم راض ، وأحبكم وأحب ما تحبون ، ولكم عندي ما تشتهي أنفسكم ، وتلذ أعينكم ، ولكم عندي ما تدعون وما شئتم وكل ما شئتم فاسألوني ولا تحتشموا ، ولا تستحيوا ولا تستوحشوا ، وإني أنا الله الجواد الغني الملي الوفي الصادق ، وهذه داري قد أسكنتكموها ، وجنتي قد أبحتكموها ، ونفسي قد أريتكموها ، وهذه يدي ذات الندى والطل مبسوطة ممتدة عليكم لا أقبضها عنكم ، وأنا أنظر إليكم لا أصرف بصري عنكم ، فاسألوني ما شئتم واشتهيتم ، فقد آنستكم بنفسي ، وأنا لكم جليس وأنيس ، فلا حاجة ولا فاقة بعد هذا ، ولا بؤس ولا مسكنة ، ولا ضعف ولا هرم ، ولا سخط ولا حرج ، ولا تحويل أبدا سرمدا ، نعيمكم

٤٢٤

نعيم الأبد ، وأنتم الآمنون المقيمون الماكثون المكرمون المنعمون ، وأنتم السادة الأشراف الذين أطعتموني واجتنبتم محارمي ، فارفعوا إليّ حوائجكم أقضها لكم وكرامة ونعمة ، فيقولون : ربنا ما كان هذا أملنا ، ولا أمنيتنا ، ولكن حاجتنا إليك النظر إلى وجهك الكريم أبدا أبدا ، ورضى نفسك عنا ، فيقول لهم العلي الأعلى ، مالك الملك ، السخي الكريم ، تبارك وتعالى : فهذا وجهي بارز لكم أبدا سرمدا ، فانظروا إليه وأبشروا ، فإن نفسي عنكم راضية فتمتعوا ، وقوموا إلى أزواجكم فعانقوا وانكحوا ، وإلى ولائدكم ففاكهوا ، وإلى غرفكم فادخلوا ، وإلى بساتينكم فتنزهوا ، وإلى دوابكم فاركبوا ، وإلى فرشكم فاتكئوا ، وإلى جواريكم وسراريكم في الجنان فاستأنسوا ، وإلى هداياكم من ربكم فاقبلوا ، وإلى كسوتكم فالبسوا ، وإلى مجالسكم فتحدثوا ، ثم قيلوا قائلة ، لا نوم فيها ولا غائلة ، في ظل ظليل ، وأمن مقيل ، ومجاورة الجليل ، ثم روحوا إلى نهر الكوثر والكافور ، والماء المطهر والتسنيم ، والسلسبيل والزنجبيل فاغتسلوا ، وتنعموا ، طوبى لكم وحسن مآب ؛ ثم روحوا فاتكئوا على الرفارف الخضر والعبقري الحسان ، والفرش المرفوعة في الظل الممدود ، والماء المسكوب ، والفاكهة الكثيرة ، لا مقطوعة ولا ممنوعة ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ ، لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) ثم تلا هذه الآية (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) ـ انتهى حديث أبو بكر النقاش ـ ثم إن الحق تعالى بعد هذا الخطاب يرفع الحجاب ، ويتجلى لعباده ، فيخرون سجدا فيقول لهم : ارفعوا رؤوسكم فليس هذا موطن سجود ، يا عبادي ما دعوتكم إلا لتنعموا بمشاهدتي ، فيمسكهم في ذلك ما شاء الله ، فيقول لهم : هل بقي لكم شيء بعد هذا؟ فيقولون : يا ربنا واي شيء بقي وقد نجيتنا من النار ، وأدخلتنا دار رضوانك ، وأنزلتنا بجوارك ، وخلعت علينا ملابس كرمك ، وأريتنا وجهك ، فيقول الحق جل جلاله : بقي لكم ، فيقولون : يا ربنا وما ذاك الذي بقي؟ فيقول : دوام رضاي عنكم فلا أسخط عليكم أبدا ، فما أحلاها من كلمة وما ألذها من بشرى ؛ وتتفاضل الناس في رؤيته سبحانه ويتفاوتون تفاوتا عظيما على قدر علمهم ، فمنهم ومنهم ، ثم يقول سبحانه لملائكته : ردوهم إلى قصورهم فلا يهتدون لأمرين : لما طرأ عليهم من سكر الرؤية ، ولما زادهم من الخير في طريقهم فلم يعرفوها ، فلو لا أن الملائكة تدل بهم ما عرفوا منازلهم ،

٤٢٥

فإذا وصلوا منازلهم تلقاهم أهلهم من الحور والولدان ، فيرون جميع ملكهم قد كسي بهاء وجمالا ونورا ، من وجوههم أفاضوه إفاضة ذاتية على ملكهم ، فيقولون لهم : لقد زدتم نورا وبهاء وجمالا ما تركناكم عليه ، فيقول لهم أهلهم : وكذاكم أنتم قد زدتم من البهاء والجمال ما لم يكن فيكم عند مفارقتكم إيانا ، فينعم بعضهم ببعض ، قال تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ). فإن قلت : قال تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) وجاء في الحديث [لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره] فكان إرسال الحجب بين السبحات وبين الخلق رحمة بهم ، وإشفاقا على وجودهم ، وقد وعد بالرؤية في الدار الآخرة ، فكيف يكون البقاء هناك ، ولا فرق بين الدارين من كونهما مخلوقتين وممكنتين؟ قلنا : إذا فهمت معنى إضافة السبحات إلى وجهه ، وفرقت بين هذا القول وقوله [ترون ربكم] وقوله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فعلق الرؤية بالرب ، والإحراق بالوجه ، عرفت حينئذ الفرق بين الخبرين ، ثم عطف فقال في أهل الشقاء.

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ) (٢٤)

الوجه هنا هو حقيقة المسمى وعينه وذاته ، لأن الوجوه التي هي في مقدم الإنسان ليست توصف بالظنون ، وإنما الظن لحقيقة الإنسان ، فإنه تعالى قال :

(تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) (٢٥)

فالوجوه في هذه الآيات عبارة عن النفوس الإنسانية ، لأن وجه الشيء حقيقته وذاته وعينه ، لا الوجوه المقيدة بالأبصار ، فإنها لا تتصف بالظنون ، ومساق الآية يعطي أن الوجوه هنا هي ذوات المذكورين.

(كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) (٢٩)

٤٢٦

الوجه الأول ـ هو اجتماع أمر الدنيا والآخرة ، أي دخلت الأهوال والأمور العظام بعضها في بعض يوم القيامة فالتف أمر الدنيا بأمر الآخرة ـ الوجه الثاني : الخلق كله مرتبط بالله ارتباط ممكن بواجب ، سواء عدم أو وجد ، وسعد أو شقي ، والحق من حيث أسماؤه مرتبط بالخلق ، فإن الأسماء الإلهية تطلب العالم طلبا ذاتيا ، فالتفت الساق بالساق ، أي التف أمرنا بأمره وانعقد ، فهو التفاف فلا ننحل عن عقده أبدا ، ويوضح المعنى أنه تمم وهو الصادق.

(إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) (٣٠)

(إِلى رَبِّكَ) أثبت وجود رتبته بك (يَوْمَئِذٍ) يعني يوم يكشف عن الساق ، وأتى بالاسم الرب ومعناه الثابت والمصلح والمربي والسيد والمالك ، ولكل من ذلك معنى في هذه الآية (الْمَساقُ) رجوع الكل إليه من سعد أو من شقي ، أو من تعب أو من استراح ، فمن حيث أنه الثابت يعطي الثبات ، والأمر ملتف بالأمر ، وإلى الرب المساق ، فلابد من ثبات هذا الالتفاف في الدار الآخرة ، فعين أمر الدنيا عين أمر الآخرة ، غير أن موطن الآخرة لا يشبه موطن الدنيا لما في الآخرة من التخليص القائم بوجود الدارين ، فوقع التمييز بالدار ، والكل آخرة ، فلا تزال الناس في الآخرة ينتقلون بالأحوال كما كانوا في الدنيا ينتقلون بالأحوال ، والأعيان ثابتة ، فإن الرب يحفظها ـ الوجه الثاني ـ لما كان إلى ربك يومئذ المساق ، والرب المصلح ، فإن الله يصلح بين عباده يوم القيامة ، هكذا جاء في الخبر النبوي ، والكريم إذا كان من شأنه أن يصلح بين عباده بمثل هذا الصلح الوارد في الخبر حتى يسقط المظلوم حقه ، ويعفو عن أخيه ، فالله أولى بهذه الصفة من العبد في ترك المؤاخذة بحقوقه من عباده ، فيعاقب من شاء بظلم الغير لا بحقه المختص به ـ الوجه الثالث ـ الرب أيضا المغذي والمربي فهو يربي عباده ، والمربي من شأنه إصلاح حال من يربيه ، فمن التربية ما يقع بها الألم كمن يضرب ولده ليؤدبه ، وذلك من جملة تربيته وطلب المصلحة في حقه لينفعه ذلك في موطنه ، كذلك حدود الله تربية لعباده حيث أقامها الله عليهم ، فهو يربيهم بها لسعادة لهم في ذلك من حيث لا يشعرون ، كما لا يشعر الصغير بضرب من يربيه إياه ـ الوجه الرابع ـ والرب أيضا : السيد ، والسيد أشفق على عبده من العبد على نفسه ،

٤٢٧

فإنه أعلم بمصالحه ، ولن يسعى السيد في إتلاف عبده ، لأنه لا تصح له السيادة إلا بوجود العبد ، فعلى قدر ما يزول من المضاف يزول من حكم المضاف إليه ـ الوجه الخامس ـ وأما الرب الذي هو المالك فلشدة ما يعطيه هذا الاسم من النظر فيما تستحقه المرتبة فيوفيها حقها ، فقد بان لك في هذا المساق معنى اختصاص الاسم الرب الذي إليه المساق عند التفاف الساق بالساق ، فبه انتظم الأمران ، وثبت الانتقالان.

(فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) (٣١)

وهو نقيض الذاكر ربه ، لما جاءه ذكر ربه وهو القرآن يذكره بنفسه وبربه (فَلا صَدَّقَ) من أتى به أنه من عند ربه (وَلا صَلَّى) يقول : ولا تأخر عن دعواه وتكبره ، وقد سمع قول الله الحق ، ومن ردّ الحق فما صدق ذلك القول فيما دل عليه ، قاله من قاله ، فذمه الله وقال :

(وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٣٢)

(وَلكِنْ) استدراك لتمام القصة (كَذَّبَ) من أتى به إليه وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذب الحق إما بجهله فلم يعلم أنه الحق ، وإما بعناد وهو على يقين أنه حق في نفس الأمر فغالط نفسه ، ثم قال : (وَتَوَلَّى) بعد تكذيبه بالحق وبمن جاء به ، فتولى عن الحق.

(ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) (٣٣)

وهذا شغل المتكبر المشغول الخاطر المفكر الحائر الذي كسّله ما سمعه ، فإنه بالوجه الظاهر يعلم أنه الحق لأن المعجزة لم يأت بها الله إلا لمن يعلم أن في قوته قبولها بما ركب الله فيه من ذلك.

(أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) (٣٤)

لو لا لو لا ، ما ظهر الأولى ، ولا تزال أولى لك فأولى.

٤٢٨

(ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) (٣٦)

فلينظر الإنسان ويتفكر ويعتبر أن الله ما خلقه سدى ، وإن طال المدى ، ومن نظر واهتدى ، وباع الضلالة بالهدى ، عجّل بالفدا ، من أجل تحكم الأعدا ، ومن عرف الضلالة والهدى لم يطل عليه المدى ، وعلم أن الله لا يترك خلقه سدى ، كما لم يتركه ابتدا ، وإن لم ينزل منازل السعدا ، فإن الله برحمته التي وسعت كل شيء لا يسرمد عليه الردا ، وكيف يسرمده وهو عين الردا ، فهو في مقام الفدا ، وإشارة سهام العدا ، فله الرحمة آخرا خالدا مخلدا فيها أبدا.

(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (٣٩) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (٤٠)

(٧٦) سورة الإنسان مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) (١)

(هَلْ أَتى) أي قد أتى (عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) الدهر هنا الزمان ، والحين جزء منه (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) مذكورا هنا بمعنى موجودا ، يريد عدمه في عينه ، لأنه كان مذكورا لله تعالى ، أي قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا موجودا في عينه ، لأنه أتى على الإنسان أزمنة ودهور قبل أن يظهر في هذه الصورة الآدمية ، وهو في الصورة التي له في كل مقام وحضرة ، من فلك وسماء وغير ذلك ، مما تمر عليه الأزمان والدهور ،

٤٢٩

ولم يكن قط في صورة من تلك الصور مذكورا بهذه الصورة الآدمية العنصرية ، وهذه الآية من أصعب ما نزل في القرآن في حق نقصان الإنسان ، ومساق الآية يؤذن بتقرير النعم عليه ، وقوله تعالى (مَذْكُوراً) وإنما وقعت الصعوبة في هذا الذكر كونه نكرة ، والنكرة تعم في مساق النفي ، فالتنكير يؤذن بتعميم نفي الذكر عنه من كل ذاكر ، وهو دليل على أن الله ما ذكره لما أوجده قبله من الأعيان ، وإن كان مذكورا له في نفسه ، ويعني ذلك أن الإنسان في ذلك الحين موجود في عينه مع وجود الأعيان ، ولكن ما تعرفه حتى تذكره ، ولا هي ذات فكر حتى تجمعه في ذهنها تقديرا فتذكره ، فإن الفكر من القوى التي اختص بها الإنسان لا توجد في غيره ، ثم ذكره تعالى لملائكته برتبته التي خلق لها ، لا باسمه العلم الذي هو آدم ، فقوله تعالى في الإنسان (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) لأن الذكر له تعالى ، فحدث الإنسان لما حدث ذكره ـ إشارة ـ لو لا ما نحن ثابتون في العدم ، ما صح أن تحوى علينا خزائن الكرم ، فلنا في العدم شيئية ، غير مرئية ، فقوله (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) ، فذلك إذ لم يكن مأمورا ، فقيده بالذكر ، في محكم الذكر.

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (٣)

ـ الوجه الأول ـ (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) إلى النعم امتنانا إلهيا (إِمَّا شاكِراً) فنزيده منها (وَإِمَّا كَفُوراً) بنعمه فيسلبها عنه ويعذبه على ذلك ـ الوجه الثاني ـ لما تبينت طرق السعادة بالرسل قال تعالى (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي بينا له طريق السعادة والشقاء ، وخلقنا له الإرادة في محله ، فإذا وقع بالاختيار دون الاضطرار والكره نسب إلى من وقع منه نسبة صحيحة ، والتعلق نسبة لا تتصف بالوجود فتكون مخلوقة لأحد ، فتعلقت بأمر ما متعين ، مما يسمى به شاكرا أو كفورا ، فقال تعالى (إِمَّا شاكِراً) فيعمل في السبيل بمقتضاه ، إن كان نهيا انتهى وإن كان أمرا فعل ، (وَإِمَّا كَفُوراً) يقول يستر على نفسه فيخادعون أنفسهم ، فإنه ما ضل أحد إلا على علم ، فإن بيان الحق ليس بعده بيان ، ولا فائدة للبيان إلا حصول العلم ، ثم يستره العالم به عن نفسه لغرض يقوم له ، فتقوم الحجة لله عليه ، فقوله تعالى (إِمَّا شاكِراً

٤٣٠

وَإِمَّا كَفُوراً) راجع للمخاطب الملكف ، فإن نوى الخير أثمر خيرا ، وإن نوى الشر أثمر شرا ، فإن الله لما بين السبيل للعبد إلى سعادته جعله ذا اختيار في أفعاله ، ولهذا يصح منه القبول والرد ، ويعاقب ويثاب ، وعلى هذا قام أصل الجزاء من الله تعالى لعباده ، واعلم أن الله تعالى خلق جميع من خلق في مقام الذلة والافتقار ، وفي مقامه المعين له ، فلم يكن لأحد من خلق الله من هؤلاء ترقّ عن مقامه الذي خلق فيه إلا الثقلين ، فإن الله خلقهم في مقام العزة ، وفي غير مقامهم الذي ينتهون إليه عند انقطاع أنفاسهم التي لهم في الحياة الدنيا ، فلهم الترقي إلى مقاماتهم التي تورثهم الشهود ، والنزول إلى مقاماتهم التي تورثهم الوقوف خلف الحجاب ، فهم في برزخ النجدين (إِمَّا شاكِراً) فيعلو فله منزل السرور (وَإِمَّا كَفُوراً) فيسفل فله سوء المصير والثبور. قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فمن أراد طريق العلم والسعادة فلا يضع ميزان الشرع من يده نفسا واحدا ، فإن الله بيده الميزان لا يضعه ، وكذلك ينبغي للمكلف بل للإنسان أن لا يضع الميزان المشروع من يده ما دام مكلفا ، فإن كل حركة في المكلف ومن المكلف وسكون ، لميزان الشرع فيه حكم ، فلا يصح وضعه مع بقاء الشرع.

(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (٤) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) (٥)

أهل الجنة لا يظمؤون فيها ، وهم فيها يشربون شرب شهوة والتذاذ ، لا شرب ظمأ ، ولا دفع ألمه.

(عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) (٦)

وتفجيرهم إياها عين المزاج ، فلو جرت من غير تفجير ، من كونه على كل شيء قديرا ، لكان شراب المقربين ، الآتي من تسنيم ، على البار المنعم بالتنعيم ، فبين المقرب والبار ، ما بين الأعين والآثار.

٤٣١

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) (٧)

ـ نصيحة ـ لا تزد في العهود ويكفيك ما جبرت عليه ، ولهذا كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النذر وأوجب الوفاء به ، لأنه من فضول الإنسان ، فهو واجب في جميع المذاهب ، فما قرر الله وأوجبه على العبد مما أوجبه العبد على نفسه ، وهو النذر ، إلا لتحقق عبده أنه خلقه على صورته ، وقد أوجبه على نفسه ، وذكر ـ وهو الصادق ـ أنه يوفي به لمن أوجبه له ، فأوجب عليك الوفاء بما أوجبته على نفسك.

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا (٩) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (١٠) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (١١) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (١٣) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (١٤) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا) (١٧)

اعلم أن أهل الجنة بعد شربهم من الحوض عن ظمأ لا يظمؤون بعد ذلك أبدا ، فإن أهل الجنة لا يظمؤون فيها.

(عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (١٩) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (٢٠)

٤٣٢

عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (٢١) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) (٢٤)

الشريعة حكم الله في خلقه لا حكم المخلوق ، فالشرع حكم الله لا حكم العقل.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (٢٦) إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا) (٢٧)

ثقيلا ، من أجل المطالبة بما كلف الإنسان مما أتت به شرائعه.

(نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (٢٨) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٢٩) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (٣٠)

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن تشاؤوا ، فتلك على الحقيقة مشيئة الله لا مشيئتك ، وأنت تشاء بها ، ونحن نقول في النسبة الاختيارية : إن الله خلق للعبد مشيئة شاء بها ، حكم هذه النسبة وتلك المشيئة الحادثة عن مشيئة الله ، فأثبت سبحانه المشيئة له ولنا ، وجعل مشيئتنا موقوفة على مشيئته ، هذا في الحركة الاختيارية ، وأما في الاضطرارية ، كحركة المرتعش فالأمر عندنا واحد فالسبب الأول مشيئة الحق ، والسبب الثاني المشيئة التي وجدت عن مشيئة الحق ، فالله هو المشىء ، وإن وجد العبد في نفسه إرادة لذلك فالحق عين إرادته ، فحكم المشيئة التي يجدها في نفسه ليست سوى الحق ، فإذا شاء كان ما شاءه ، فهو عين

٤٣٣

مشيئة كل مشيء ، فإن مشيئة العبد إذا وقعت وتعلقت بالمشاء قد يكون المشاء وقد لا يكون ، ولهذا شرع الله لنا إذا قلنا نفعل كذا أن نقول : إن شاء الله ، حتى إذا وقع ذلك الفعل الذي علقناه على مشيئة الله كان عن مشيئة الله بحكم الأصل ، ولم يكن لمشيئتنا فيه أثر في كونه ، لكن لها فيه حكم ، وهو أنه ما شاء سبحانه تكوين ذلك الشيء إلا بوجود مشيئتنا ، إذ كان وجودها عن مشيئة الله ، فلابد من وجود عين مشيئتنا وتعلقها بذلك الفعل ، ومن عرف الأمور عرف حكم مقت الله بمن يقول مالا يعمل من غير أن يقرن به المشيئة الإلهية ، فإذا علق المشيئة الإلهية بقوله أن يعمل فلا يكون ذلك العمل ، لم يمقته الله ، فإنه غاب عن انفراد الحق في الأعمال كلها التي تظهر على أيدي المخلوقين بالتكوين ، وأنه لا أثر للمخلوق فيها من حيث تكوينها ، وإن كان للمخلوق فيها حكم لا أثر ، فالناس لا يفرقون بين الأثر والحكم ، فإن الله إذا أراد إيجاد حركة أو معنى من الأمور التي لا يصح وجودها إلا في مواد ، لأنها لا تقوم بأنفسها ، فلابد من وجود محل يظهر فيه تكوين هذا الذي لا يقوم بنفسه ، فللمحل حكم في الإيجاد لهذا الممكن ، وما له أثر فيه ، فهذا الفرق بين الأثر والحكم ، ولذلك شرع الحق الاستثناء الإلهي ليرتفع المقت الإلهي عنهم ، ولهذا لا يحنث من استثنى إذا حلف على فعل مستقبل ، فإنه أضافه إلى الله لا إلى نفسه ، وهذا لا ينافي إضافة الأفعال إلى المخلوقين ، فإنهم محل ظهور الأفعال الإلهية ، فقوله تعالى (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) عزاء أفاد علما ، ليثبت به العبد في القيامة حكما ، فهو تلقين حجة ، ورحمة من الله وفضل ، أي أن العبد مجبور في اختياره.

(يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (٣١)

لو كان الأمر كما يتوهمه من لا علم له ، من عدم مبالاة الحق بأهل الشقاء ما وقع الأخذ بالجرائم ، ولا وصف الله نفسه بالغضب ، ولا كان البطش الشديد ، فهذا كله من المبالاة والتهمم بالمأخوذ ، إذ لو لم يكن له قدر ما عذب ولا استعد له ، وقد قيل في أهل الشقاء (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) فلو لا المبالاة ما ظهر هذا الحكم.

٤٣٤

(٧٧) سورة المرسلات مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

جاء في نزول سورة المرسلات وغيرها أنها نزلت مرتين.

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) (١)

هذه أصناف من الملائكة المسخرات ، والوكلاء على ما يخلقه الله من التكوينات ،

(وَالْمُرْسَلاتِ) بالأنباء (عُرْفاً) ، تنبيه على التتابع والكثرة.

(فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (٢) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا) (٣)

بالترغيب والترحيب ، وهم الملائكة عمار الأرض ، وقد نبه الشارع عليها أن الملائكة تنشر أجنحتها لطالب العلم ، وهم هؤلاء ، فإن الأرض إنما هي لعباده الصالحين ، وهم العلماء بالله.

(فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا) (٤) وهم الملائكة عمار السماء الخامسة.

(فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) (٥)

بالإلهام واللمات ، وهم الملائكة عمار السماء السادسة ، وكل هؤلاء أنبياء ملكيون ، عبدوا الله بما وصفهم به ، فهم في مقامهم لا يبرحون ، إلا من أمر منهم بأمر يبلغه.

(عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (٦) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (٨)

الوجه الأول : إذا انشقت السماء وهوت طمست النجوم ، فلم يبق لها نور ، إلا أن سباحتها لا تزول في النار ، ووقع التغيير في الصور لا في الذوات ، فيبقى آثارها على أهل

٤٣٥

النار الذين هم أهلها ، بما أودع الله عليهم في الأفلاك وحركات الكواكب من الأمر الإلهي ، والنجوم هنا هي السبعة الدراري تكون مطموسة الأنوار ، فهي كواكب لكنها ليست بثواقب ـ الوجه الثاني ـ (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي نزع الله نورها في أعينهم ، طالعة على أهل النار وغاربة ، كما تطلع على أهل الدنيا في حال كسوفها ، فهي مطموسة في أعينهم ، فعلى ما هو الأمر في نفسه هم الذين طمس الله أعينهم إذا شاء عن إدراك الأنوار التي في المنيرات ، فالحجاب على أعينهم ، فيشهد أهل النار أجرام السيارة طالعة عليهم وغاربة ، ولا يشهدون لها نورا ، لما في الدخان من التطفيف ، فكما كانوا في الدنيا عميا عن إدراك أنوار ما جاءت به الشرائع من الحق ، كذلك هم في النار عمي عن إدراك أنوار هذه السيارة وغيرها من الكواكب ، فإذا طمست النجوم ، علم عند ذلك ما فات الناس من العلوم.

(وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ) (٢٠)

وإهانته ذلته.

(فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (٢١) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا) (٢٥) الكفت الضم.

(أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا) (٢٦) أي تضم الأحياء على ظهرها والأموات في بطنها.

(وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتًا (٢٧) وَيْلٌ يوْمَئِذٍ

٤٣٦

لِّلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (٣٠) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ (٣٥) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠)

(٧٨) سورة النّبا مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) (٦)

فهي مهاد موضوع ، والسماء سقف مرفوع.

٤٣٧

(وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) (٧)

فإنه بالجبال سكن ميد الأرض ، لما تحركت من خشية الله ، آمنها الله بالجبال التي جعلها الله أوتادها ، فهي مسكنة لكونها متمكنة ، فلها الرسوخ والشموخ ، ومع هذه العزة والمنع ، وقوة الردع والدفع ، فلابد من صيرورتها عهنا منفوشا ، وهباء منبثا مفروشا ، فتلحق بالأرض لاندكاكها ـ تفسير من باب الإشارة ـ صليت مع شيخي أبي جعفر أحمد العريبي في دار وليي وصفيي أبي عبد الله محمد الخياط المعروف بالعصاد وأخيه أبي العباس أحمد الحريري ، فقرأ الإمام (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) فلما وصل إلى قوله تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً) غبت عن قراءة الإمام ، وما سمعت شيئا ، ورأيت شيخنا أبا جعفر وهو يقول : المهاد العالم والأوتاد المؤمنون والمهاد المؤمنون والأوتاد العارفون ، والمهاد العارفون والأوتاد النبيون ، والمهاد النبيون والأوتاد المرسلون ، وذكر من الحقائق ما شاء الله أن يذكر ، فرددت إليّ والإمام يقرأ (وَقالَ صَواباً ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ) فلما فرغنا من الصلاة سألته فوجدته قد خطر له في تلك الآية ما شهدته.

(وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (٨) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا) (٩)

النوم برزخ ، والبرازخ موطن الراحات ، ولذلك جعل الله النوم سباتا أي راحة ، لأنه بين الضدين الموت والحياة ، فالنائم لا حي ولا ميت ، ولذلك قال تعالى (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) يقول : وجعل النوم لكم راحة تستريح به النفوس لأجل التعب الذي كانت عليه هذه النشأة في حال اليقظة من الحركة ، وإن كان في هواها ، والنوم على قسمين : قسم انتقال وفيه بعض راحة ، أو نيل غرض ، أو زيادة تعب ، والقسم الآخر قسم راحة خاصة ، وهو النوم الخالص الصحيح ، الذي ذكر الله أنه جعله راحة لما تعبت فيه هذه الآلات والجوارح والأعضاء البدنية حال اليقظة ، وجعل زمانه الليل وإن وقع بالنهار ، كما جعل النهار للمعاش وإن وقع بالليل ، ولكن الحكم للغالب ، فالنوم راحة بلا شك ، وهو بالليل أقوى ، فإنه فيه أشد استغراقا من نوم النهار ، وأما قسم الانتقال فهو النوم الذي يكون معه الرؤيا ، فتنتقل هذه الآلات من ظاهر الحس إلى باطنه ، ليرى ما تقرر في خزانة الخيال ، الذي رفعت

٤٣٨

إليه الحواس ما أخذته من المحسوسات ، وما صورته القوة المصورة ، وقسم الراحة هو النوم الذي لا يرى فيه رؤيا ، فهو لمجرد الراحة البدنية لا غير ـ إشاره ـ (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي راحة لأهل الليل إلهية ، كما هو راحة للناس طبيعية ، فإذا نام الناس استراح هؤلاء مع ربهم وخلوا به حسا ومعنى ، لأنه جعل النوم في أعين الرقباء ، فيسألونه من قبول توبة ، وإجابة دعوة ، ومغفرة حوبة وغير ذلك ، فنوم الناس راحة لهم ، فإن الله ينزل إليهم بالليل إلى السماء الدنيا ، فلا يبقى بينه وبينهم حجاب فلكي ، ونزوله إليهم رحمة بهم ، لذلك قال تعالى.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا) (١٠)

الليل محل الستر ، ولذلك جعل الليل لباسا ، والنهار محل الظهور والحركة ، ولذلك جعله معاشا ، فقال تعالى :

(وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) (١١)

لابتغاء الفضل ، يعني طلب الرزق هنا من وجهه ، فالفضل المبتغى فيه من الزيادة ومن الشرف هو زيادة الفضائل ، فإن الإنسان يجمع ما ليس له برزق ، فهو فضول لأنه يجمعه لوارثه أو لغيره ، فإن رزق الإنسان ما هو ما يجمعه ، وإنما هو ما يتغذى به ، وكما جعل النهار معاشا ، جعل الأعمال رياشا ، فعليك بالاشتغال ، والتزين بأحسن الأعمال ، واحذر من زينة الدنيا والشيطان ، وعليك بزينة الله المنصوص عليها في القرآن ، واغتنم حياة لست فيها بهالك ، ودارا أنت فيها مالك ، ميزانك فيها موضوع ، وكلامك مسموع ، وأذنك واعية ، ومواعظك داعية ، وأنفاسك باقية ، وأعمالك الخيرات واقية ، فنور بيتك المظلم ، وأوضح سرك المبهم ، ما دامت أركان بيتك غير واهية ، قبل أن تحصل في الهاوية.

(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (١٢) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (١٣) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا) (١٤)

٤٣٩

المطر للأرض ليس سوى بخارها ، صعد منها بخارا ، ثم نزل إليها ماء ، فتغيرت صورته لاختلاف المحل.

(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (١٧) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) (١٨)

الصور قرن من نور ، اتساعه في علين ، وفيه ما أعطى الله من الدرجات لأصحاب اليمين ، وضيقه في سجين في أسفل سافلين ، وفيه ما أودع الله من الدركات للمحجوبين.

(وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (٢١) لِلْطَّاغِينَ مَآبًا) (٢٢)

الطاغي المرتفع ، فمن ادعى الرفعة والارتفاع جعله الله في نقيض دعواه ، فرده إلى أصله من البعد في جهنم ، وهي من جهنام ، يقال : بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر ، فمرجع الطاغين إلى جهنم ، فينزلون إلى قعرها.

(لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) (٢٣)

أحقابا بوزن أفعال ، وهو من أوزان جمع القلة ، والحقبة السنة ، والعشرة آخر نهاية الأحقاب ، فأرجو أن يكون المآل إلى الرحمة في أي دار شاء ، فإن المراد أن تعم الرحمة الجميع حيث كانوا :

مراتب النار بالأعمال تمتاز

وليس فيها اختصاصات وأنجاز

بوزن أفعال قد جاء العذاب له

بشرى وإن عذبوا فيها بما حازوا

(لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (٢٤) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (٢٥) جَزَاء وِفَاقًا) (٢٦) لا ينقص ولا يزيد.

٤٤٠