رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) وهو الذي سقط على وجهه في النار من الصراط وهو من الموحدين (أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ) (٣٠)

وما عجبي من ماء مزن وإنما

عجبت لماء سال من يابس الصخر

كضربة موسى بالعصا الحجر الذي

تفجر ماء في أناس له تجري

(٦٨) سورة القلم مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

من هذه السورة علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم الأولين والآخرين ، وأنزل عليه الكتاب المكنون بحسن شيمه وتنزيهه عن الآفات وتقديسه ، فقال تعالى في سورة (ن).

(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (١)

٣٦١

اعلم أن الله لما تسمى بالملك ، رتب العالم ترتيب المملكة ، فجعل له خواص من عباده هم الملائكة المهيمة ، جلساء الحق تعالى بالذكر ، ثم اتخذ حاجبا من الكروبيين واحدا ، أعطاه علمه في خلقه وهو علم مفصل في إجمال ، فعلمه سبحانه كان فيه مجلى له ، وسمى ذلك الملك نونا ، فلا يزال معتكفا في حضرة علمه عزوجل ، وهو رأس الديوان الإلهي ، والحق من كونه عليما لا يحتجب عنه ، ثم عين من ملائكته ملكا آخر دونه في المرتبة سماه القلم ، وجعل منزلته دون النون ، واتخذه كاتبا ، فيعلمه الله سبحانه من علمه ما شاء في خلقه بوساطة النون ، ولكن من العلم الإجمالي ، ومما يحوي عليه العلم الإجمالي علم التفصيل ، وهو من بعض علوم الإجمال ، لأن العلوم لها مراتب من جملتها علم التفصيل ، فما عند القلم الإلهي من مراتب العلوم المجملة إلا علم التفصيل مطلقا ، وبعض العلوم المفصلة لا غير ، واتخذ هذا الملك كاتب ديوانه ، وتجلى له من اسمه القادر ، فأمده من هذا التجلي الإلهي ، وجعل نظره إلى جهة عالم التدوين والتسطير ، فخلق له لوحا وأمره أن يكتب فيه جميع ما شاء سبحانه أن يجريه في خلقه إلى يوم القيامة خاصة ، وأنزله منزلة التلميذ من الأستاذ ، فتوجهت عليه هنا الإرادة الإلهية فخصصت له هذا القدر من العلوم المفصلة ، وأمر الله النون أن يمد القلم بعلوم من علوم الإجمال ، تحت كل علم تفاصيل ولكن معينة منحصرة لم يعطه غيرها ـ ومن وجه آخر إن الله لما خلق الملائكة وهي العقول المخلوقة ، وكان القلم أول مخلوق منها ، اصطفاه الله وقدمه وولاه على ديوان إيجاد العالم كله ، وقلده النّظر في مصالحه ، وجعل ذلك عبادة تكليفه التي تقربه من الله ، فما له نظر إلا في ذلك ، وجعله بسيطا حتى لا يغفل ولا ينام ولا ينسى ، فهو أحفظ الموجودات المحدثة ، وأضبطه لما علمه الله من ضروب العلوم ، وقد كتبها كلها مسطرة في اللوح المحفوظ عن التبديل والتحريف ، ومما كتبه فيه فأثبته علم التبديل ، أي علم ما يبدل وما يحرف في عالم التغيير والإحالة ، فهو على صورة علم الله لا يقبل التبديل ، فقال تعالى للقلم [اكتب علمي في خلقي إلى يوم القيامة] وذلك أن الحق لما سوى الصورة العقلية بأمره ، أي صورة العقل الأول أو القلم كيفما شئت فسمّه ، نفخ فيه روحا من أمره ، فحملت صورة القلم في تلك النفخة بجميع علوم الكون إلى يوم القيامة ، وجعلها أصلا لوجود العالم ، وأعطاها الأولية في الوجود الإمكاني ، فكان من علم القلم الذي علمه أن قال للحق أدبا مع المعلم : ما أكتب؟

٣٦٢

هل ما علمتني أو ما تمليه علي؟ فهذا من أدب المتعلم إذا قال له المعلم قولا مجملا يطلب التفصيل ، فقال له [اكتب ما كان وما قد علمته ، وما يكون مما أمليه عليك ، وهو علمي في خلقي إلى يوم القيامة لا غير] فكتب ما في علمه مما كان ، فكتب العماء الذي كان فيه الحق قبل أن يخلق خلقه وما يحوي عليه ذلك العماء من الحقائق ، وكتب وجود الأرواح المهيمة وما هيمهم وأحوالهم وما هم عليه ، وذلك كله ليعلمه ، وكتب تأثير أسمائه فيهم ، وكتب نفسه ووجوده وصورة وجوده ، وما يحوي عليه من العلوم ، وكتب اللوح ، فلما فرغ من هذا كله ، أملى عليه الحق ما يكون منه إلى يوم القيامة ، لأن دخول ما لا يتناهى في الوجود محال ، فلا يكتب ، فإن الكتابة أمر وجودي ، فلابد أن يكون متناهيا ، وكتب القلم منكوس الرأس أدبا مع المعلم ، لأن الإملاء لا تعلق للبصر به ، بل متعلق البصر الشيء الذي يكتب فيه ، والسمع من القلم هو المتعلق بما يمليه الحق عليه ، فأول استاذ من العالم هو العقل الأول ، وأول متعلم أخذ عن أستاذ مخلوق هو اللوح المحفوظ ، والمعلم على الحقيقة هو الله تعالى ، والعالم كله مستفيد ، طالب مفتقر ذو حاجة ، وهو كماله ، واعلم أن في نفس النون الرقمية (ن) ـ التي هي شطر الفلك ـ من العجائب ما لا يقدر على سماعها إلا من شد عليه مئزر التسليم ، وتحقق بروح الموت الذي لا يتصور ممن قام به اعتراض ولا تطلع ، وكذلك في نفس نقطة النون أول دلالة النون الروحانية المعقولة فوق شكل النون السفلية ، التي هي النصف من الدائرة ، والنقطة الموصولة بالنون المرقومة الموضوعة ، أول الشكل التي هي مركز الألف المعقولة ، التي بها يتميز قطر الدائرة ، والنقطة الأخيرة التي ينقطع بها شكل النون وينتهي بها هي رأس هذا الألف المعقولة المتوهمة ، فتقدر قيامها من رقدتها فترتكز لك على النون فيظهر من ذلك حرف اللام ، والنون نصفها زاي مع وجود الألف المذكورة ، فتكون النون بهذا الاعتبار تعطيك الأزل الإنساني ، كما أعطاك الألف والزاي واللام في الحق ، غير أنه في الحق ظاهر ، لأنه بذاته أزلي لا أول له ، ولا مفتتح لوجوده في ذاته بلا ريب ، والإنسان أزلي خفي فيه الأزل فجهل ، لأن الأزل ليس ظاهرا في ذاته ، وإنما صح فيه الأزل لوجه ما من وجوه وجوده ، منها وجوده على صورته التي وجد عليها في عينه في العلم القديم الأزلي المتعلق به في حال ثبوته ، فهو موجود أزلا ، كما أن حقائقه مجردة عن الصورة المعينة معقولة أزلية تقبل القدم والحدوث.

٣٦٣

إذا جاء بالإجمال نون فإنه

يفصله العلّام بالقلم الأعلى

فيلقيه في اللوح الحفيظ مفصلا

حروفا وأشكالا وآياته تتلى

وما فصل الإجمال منه بعلمه

وما كان إلا كاتبا حين ما يتلى

عليه الذي ألقاه فيه مسطر

لتبلى به أكوانه وهو لا يبلى

هو العقل حقا حين يعقل ذاته

له الكشف والتحقيق بالمشهد الأجلى

فالقلم واللوح أول عالم التدوين والتسطير ، وحقيقتهما ساريتان في جميع الموجودات علوا وسفلا ، ومعنى وحسا ، وبهما حفظ الله العلم على العالم ، ولهذا ورد في الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم [قيدوا العلم بالكتابة] ومن هنا كتب الله التوراة بيده ، ومن هذه الحضرة اتخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتّاب الوحي.

(مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) (٣)

فإنه الإنسان الكامل ، فإنه أكمل من عين مجموع العالم ، إذ كان نسخة من العالم حرفا بحرف ويزيد ، فإذا قال : الله ؛ نطق بنطقه جميع العالم من كل ما سوى الله ، ونطقت بنطقه أسماء الله كلها ، المخزونة في علم غيبه ، والمستأثرة التي يخص الله تعالى بمعرفتها بعض عباده ، والمعلومة بأعيانها في جميع عباده ، فقامت تسبيحته مقام تسبيح ما ذكرته ، فأجره غير ممنون.

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤)

أثنى الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ولما سئلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : كان خلقه القرآن ؛ تريد هذه الآية ، يحمد ما حمد الله ويذم ما ذم الله بلسان حق ، وإنما قالت ذلك لأنه أفرد الخلق ، ولابد أن يكون ذلك الخلق المفرد جامعا لمكارم الأخلاق كلها ، ووصف الله ذلك الخلق بالعظمة كما وصف القرآن في قوله (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) فكان القرآن خلقه ، فمن أراد أن يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممّن لم يدركه من أمته فلينظر إلى القرآن ، فإذا نظر فيه فلا فرق بين النظر إليه وبين النظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكأن القرآن انتشأ صورة حسية يقال لها محمد بن عبد الله بن

٣٦٤

عبد المطلب ، والقرآن كلام الله وهو صفته ، فكان محمد صفة الحق تعالى بجملته ، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، فهو لسان حق ، فيكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فقد من الدار الدنيا ، لأنه صورة القرآن العظيم ؛ واعلم أن الأخلاق على ثلاثة أنواع : خلق متعد وخلق غير متعد وخلق مشترك ، فالمتعدي على قسمين : متعد بمنفعة كالجود والفتوة ، ومتعد بدفع مضرة كالعفو والصفح واحتمال الأذى مع القدرة على الجزاء والتمكن منه ، وغير المتعدي كالورع والزهد والتوكل ، وأما المشترك فالصبر على الأذى من الخلق وبسط الوجه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إن لله تعالى ثلاثمائة وستين خلقا من لقيه بخلق منها مع التوحيد دخل الجنة] قال أبو بكر : هل فيّ خلق منها يا رسول الله؟ قال : كلها فيك يا أبا بكر ، وأحبها إلى الله تعالى السخاء ، وكل شيء عظمه الله يتعين تعظيمه على كل مؤمن ، ووصفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فينظر المؤمن في القرآن ، فكل نعت فيه قد مدحه الله ومدح طائفة من عباده ـ كانوا ما كانوا ـ فيعلم أن ذلك صفة مدح إلهي ، فليعمل على الاتصاف بتلك الصفات ، وإذا ذكر الله في القرآن صفة ذم بها طائفة من عباده ـ كانوا ما كانوا ـ تعين عليه اجتنابها ، فيأخذ القرآن منزلا فيه ، كأن الحق ما خاطب به غيره ، فإذا فعل مثل هذا كان خلقه القرآن ، وعظمه الحق فعظم حيث تنفع العظمة ، ومكارم الأخلاق معلومة عقلا وشرعا وعرفا ، والتصرف بها وفيها معلوم شرعا ، فمن اتصف بها على الوجه المشروع ، وزاد تتميم مكارم الأخلاق وهو إلحاق سفسافها بها ، فتكون كلها مكارم أخلاق بالتصرف المشروع والمعقول ، مثل الكذب في الإصلاح بين ذات البين ، والحرص في الدين ، والخداع في الحرب ، فقد اتصف بكل ثناء إلهي ، فأثنى تعالى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ثم وصف لنا تعالى من خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الله تعالى (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فللعبد أن يتخلق بالأسماء الإلهية حتى يرجع منها حقائق يدعى بها وينسب إليها ، سواء كان في حضرة الأفعال أو حضرة الصفات أو حضرة الذات.

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٩)

٣٦٥

مراعاة حق الله أولى من مراعاة الخلق ، إذ مراعاة الخلق إن لم تكن عن مراعاة أمر الحق بها وإلا فهي مداهنة ، والمداهنة نعت مذموم.

(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ) (١١)

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا يدخل الجنة قتات] أي نمام ، وقد ثبت أن المجالس بالأمانة ، فلا تبلغ ذا سلطان حديثا بشرّ ، فإن ذلك نميمة ، ولا تنقل مجلسا.

(مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) (١٣)

فإنه بصورته دخل في الألوهية وليس بإله ، فكان زنيما.

(أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) (١٤)

والمال يوجب الغنى فله صفة الغنى بما هو عليه من الصورة.

(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (١٧) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (٢٢) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (٢٣) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا

٣٦٦

ظَالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (٣٠) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (٣١) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (٣٢) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥)

المسلم هو المنقاد إلى ما يراد منه.

(مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) (٤٢)

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) أي عن أمر فظيع ، وهو الأمر الذي يقوم عليه بيان أمر الآخرة ، تقول العرب : كشفت الحرب عن ساقها ؛ وهو إذا حمي وطيسها واشتد الحرب وعظم الخطب ، وكشف الساق كما يؤذن بالشدة كذلك يؤذن بسرعة انقضاء المدة ، فمع كل زعزع رخاء ، وعند انتهاء الشدائد يكون الرخاء ، يقال : كشفت الحرب عن ساقها ، وعقدت عليها أزرة أطواقها ، فاشتد اللزام ، وكانت نزالا لما عظم القيام ، وجاء ربك في ظلل من الغمام ، والملائكة للفصل والقضاء والنقض والإبرام ، وعظم الخطب واشتد الكرب ، وماج الجمع بحكم الصدع ، ففي الموقف ترفع الحجب بين الله وبين عباده ، وهو كشف الساق ، ويأمرهم داعي الحق عن أمر الله بالسجود ، فلا يبقى أحد سجد لله خالصا على أي دين كان إلا سجد السجود المعهود ، ومن سجد اتقاء ورياء جعل الله ظهره طبقة نحاس ، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ، فهذا قوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) فقوله تعالى :

٣٦٧

(يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) هو دعاء تمييز لا دعاء تكليف ، فإن الآخرة ليست بمحل تكليف إلا في يوم القيامة في موطن التمييز ، حين يدعون إلى السجود ، إلا الحديث الذي أخرجه الحميدي في كتاب الموازنة ولم يثبت ، ولما اقترن به الأمر أشبه التكليف ، فجوزوا بالسجود جزاء المكلفين ، فالتشريع لا يكون في الآخرة إلا في موطن واحد حين يدعون إلى السجود ، ليرجح بتلك السجدة ميزان أصحاب الأعراف ، فيقال بهذه السجدة يوم القيامة يرجح ميزان أهل الأعراف لأنها سجدة تكليف ، فيسعدون فينصرفون إلى الجنة بعدما كان منزلهم في سور الأعراف ، ليس لهم ما يدخلهم النار ولا ما يدخلهم الجنة ، وإن شئت قلت سجود تمييز لا سجود ابتلاء ، فيتميز في دعاء الآخرة إلى السجود من سجد لله ممّن سجد اتقاء ورياء ، وفي الدنيا لم يتميز لاختلاط الصور.

(خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٤٥)

اعلم أن المكر الإلهي إنما أخفاه الله عن الممكور به خاصة لا عن غير الممكور به ، ولهذا قال : (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) فأعاد الضمير على المضمر في سنستدرجهم.

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) (٥٢)

٣٦٨

(٦٩) سورة الحاقة مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (٨) وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً) (١٠)

فإنهم نازعوا الحق في صفاته ، فمن ظهر بصفته لم يؤاخذه الله ، فلما عصوا بالظهور بما ليس حقا لهم أهلكهم ، واعلم أن الله ما ذكر أخبار القرون الماضية إلا لنكون على حذر من الأسباب التي أخذهم الله بها أخذته الرابية ، وبطش بهم البطش الشديد.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) (١١)

طغى الماء إذا ارتفع ، قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي علا وارتفع ، فنسب الارتفاع وأضافه إلى الماء ، وما أضافه إلى نفسه ، فلما أضاف الحق العلو هنا للماء وارتفع ، حمل الله من أراد نجاته من سطوة ارتفاع الماء في أخشاب ضم بعضها إلى بعض حتى كانت سفينة ، فدخل فيها كل من أراد الله نجاته من المؤمنين ، وأبطل الله هذه الرفعة بأن حمل نوحا وأتباعه في السفينة على ظهر الماء ، فكانت السفينة ونوح عليه‌السلام أرفع من الماء ، وعلت السفينة بمن فيها على علو الماء ، وصار الماء تحتها ، وزال في حق السفينة طغيان الماء ، فانكسر في نفسه ، وسبب ذلك إضافة العلو له ، وإن كان من عند الله وبأمر الله ، ولكن ما أضاف

٣٦٩

الله العلو إلا للماء ، فلو أضاف علو الماء إلى الله تعالى لحفظ عليه علوه فلم تكن تعلو عليه سفينة ولا يطفو على وجه الماء شىء أبدا ، فهذا شؤم الدعوى.

(لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) (١٢)

يا صاحب الأذن إن الإذن ناداكا

رفع الخطاب إذا الرحمن ناجاكا

فإن وعيت الذي يلقيه من حكم

عليك كانت لك الأسرار أفلاكا

وإن تصاممت عن إدراك ما نثرت

لديك كانت لك الأكوان أشراكا

فحقيقة السمع الفهم عن الله فيما يتلوه عليك سبحانه وتعالى ، فاستمع وتأهّب لخطاب مولاك إليك ، في أي مقام كنت ، وتحفظ من الوقر والصمم ، فالصمم آفة تمنعك من إدراك تلاوته عليك ، طوبى لمن كانت له أذن واعية لما يورده الحق في خطابه ، فيتأهب لقبول ما خاطبه به ، وينظر ما حكمه عند الله الذي قرره شرعا ، فيأخذه على ذلك الحد ، ومن لم يكن له أذن واعية ، ما سمع وإن سمع داعيه ، فمن أجاب الداعي فهو صاحب السمع الواعي.

(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ) (١٣) الصور قرن من نور.

(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) (١٤)

وذلك في القيامة ، تصير الجبال دكا دكا لتجلي الحق ، كما اندك جبل موسى لتجلي الحق ، فتصير كالعهن المنفوش ، وتصير الجبال بهذا الدك أرضا ، فمد الأرض إنما هو مزيد امتداد الجبال وتصييرها أرضا ، فما كان منها في العلو في الجو إذا انبسط زاد في بسط الأرض ، ولهذا جاء الخبر : [إن الله يمد الأرض مد الأديم] فشبه مدها بمد الأديم ، وإذا مد الإنسان الأديم فإنه يطول من غير أن يزيد فيه شيء لم يكن في عينه ، وإنما كان فيه تقبض ونتوء ، فلما مد انبسط عن قبضه ، وفرش ذلك النتوء الذي كان فيه فزاد في سعة الأرض ، ورفع المنخفض منها حتى بسطه ، فزاد فيها ما كان من طول من سطحها إلى القاع منها كما يكون الجلد سواء.

٣٧٠

(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١٥) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) (١٦)

إذا زال الإنسان الكامل الذي هو العمد الذي من أجله أمسك الله السماء أن تقع على الأرض وانتقل إلى البرزخ هوت السماء ، وهو قوله تعالى : (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أي واقعة ساقطة إلى الأرض ، والسماء جسم شفاف صلب ، فإذا هوت حلل جسمها حر النار ، فعادت دخانا أحمر كالدهان السائل ، مثل شعلة نار كما كانت أول مرة.

(وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) (١٧)

تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ثم قال : [وهم اليوم أربعة] وأما قوله (يَوْمَئِذٍ) يعني يوم الآخرة ، كذا ورد الخبر ، وغدا يكونون ثمانية ، فإن الآخرة فيها حكم الدنيا والآخرة ، فلذلك تكون غدا ثمانية فيظهر في الآخرة حكم سلطان الآخر ، واعلم أن العرش في لسان العرب يطلق ويراد به الملك ، يقال : ثل عرش الملك إذا دخل في ملكه خلل ، ويطلق ويراد به السرير ، فإذا كان العرش عبارة عن الملك فتكون حملته هم القائمون به ، وإذا كان العرش السرير فتكون حملته ما يقوم عليه من القوائم ، أو من يحمله على كواهلهم ، والعدد يدخل في حملة العرش.

العرش والله بالرحمن محمول

وحاملوه وهذا القول معقول

وأي حول لمخلوق ومقدرة

لولاه جاء به عقل وتنزيل

جسم وروح وأقوات ومرتبة

ما ثمّ غير الذي رتبت تفصيل

فهذا هو العرش إن حققت سورته

والمستوي باسمه الرحمن مأمول

وهم ثمانية والله يعلمهم

واليوم أربعة ما فيه تعليل

محمد ثم رضوان ومالكهم

وآدم وخليل ثم جبريل

وألحق بميكال إسرافيل ليس هنا

سوى ثمانية غرّ بها ليل

فالعرش بمعنى الملك ، وحملته القائمون بتدبيره عبارة عن : صورة عنصرية ، أو صورة نورية ، وروح مدبر لصورة عنصرية ، وروح مدبر مسخر لصورة نورية ، وغذاء لصورة عنصرية ، وغذاء علوم ومعارف لأرواح ، ومرتبة حسية من سعادة بدخول الجنة أو مرتبة

٣٧١

حسية من شقاوة بدخول جهنم ، ومرتبة روحية علمية ، فتكون ثمانية ، وهم حملة عرش الملك ، أي إذا ظهرت الثمانية قام الملك وظهر واستوى عليه مليكه ، وانحصر الملك في ثمانية ، فالظاهر منها في الدنيا أربعة الصورة والغذاء والمرتبتان ، ويوم القيامة تظهر الثمانية بجميعها للعيان ، ففي الآخرة الامتياز والخلوص ، وهو قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) وأما العرش الذي هو سرير ، فإن لله ملائكة يحملونه على كواهلهم ، هم اليوم أربعة وغدا يوم القيامة يكونون ثمانية ، لأجل الحمل إلى أرض المحشر ، فالعرش محمول وهو حمل كرامة بالحاملين ، فإن لا حول ولا قوة إلا بالله ، مما اختص به الحملة ، والعرش قوائمه على الماء الجامد ، والحملة التي له إنما هي خدمة له تعظيما وإجلالا.

العرش يحمله من كان يحمله

العرش فاعجب له من حامل محمول

إن كان عرش سرير كان حامله

ملائك كالذي جاء في المنقول

أو كان ملكا فإن الحاملين له

خمس ملائكة أدناهمو جبريل

ومن أناس ثلاث لا خفاء بهم

أئمة روضهم بعلمهم مطلول

للصور والروح والأرزاق أجمعها

والوعد ثم وعيد سيفه مسلول

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ) (١٩)

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) وهو المؤمن السعيد وإن لم يبذل الاستطاعة ، لكنه مع الجماعة (فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ).

(إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ) (٢٠) فيقول الرقيب وهو القول العجيب.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) (٢٣)

فإذا النداء من سميع الدعاء.

٣٧٢

(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) (٢٤)

يعني الماضية ، أيام الصوم في الدنيا في زمان التكليف.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ) (٢٥)

وهو المنافق فإن الكافر لا كتاب له ـ وجه آخر ـ هو الكافر والمنافق يؤتى كتابه وراء ظهره.

(وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (٢٦) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) (٣٣)

معناه لا يصدق بالله ، والذين لا يصدقون بالله هم طائفتان : طائفة لا تصدق بوجود الله وهم المعطلة وطائفة لا تصدق بتوحيد الله وهم المشركون ، وقوله (الْعَظِيمِ) في هذه الآية يدخل فيها المتكبر على الله ، فإنه لو اعتقد عظمة الله التي يستحقها من تسمى بالله لم يتكبر عليه ، والمنافق ـ فإن الآية لم تتعرض للإسلام ـ فإن المنافق ينقاد ظاهرا ليحفظ ماله وأهله ودمه ، ويكون باطنه واحدا من هؤلاء الثلاثة ، وهؤلاء الطوائف الأربع المعطل والمشرك والمتكبر على الله والمنافق هم أهل النار الذين هم أهلها.

(وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ) (٣٧)

فاعلم أن الله تعالى إذا نفخ في الصور ، وبعث ما في القبور ، وحشر الناس والوحوش ، وأخرجت الأرض أثقالها ، ولم يبق في بطنها سوى عينها ، إخراجا لا نباتا ، وهو الفرق بين

٣٧٣

نشأة الدنيا الظاهرة وبين نشأة الآخرة الظاهرة ، فإذا أخرجت الأرض أثقالها وحدثت أنها ما بقي فيها مما اختزنته شيء ، جيء بالعالم إلى الظلمة التي دون الجسر ، فألقوا فيها حتى لا يرى بعضهم بعضا ، ولا يبصرون كيف التبديل في السماء والأرض حتى تقع ، فتمد الأرض أولا مد الأديم وتبسط ، فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، وهي الساهرة فلا نوم فيها ، فإنه لا نوم لأحد بعد الدنيا ، ويرجع ما تحت مقعر الفلك المكوكب جهنم ، ولهذا سميت بهذا الاسم لبعد قعرها ، فأين المقعر من الأرض؟ ويوضع الصراط من الأرض علوا على استقامته إلى سطح الفلك المكوكب ، فيكون منتهاه إلى المرج الذي خارج سور الجنة ، وأول جنة يدخلها الناس هي جنة النعيم ، وفي ذلك المرج المأدبة ، وهي درمكة بيضاء نقية منها يأكل أهل المأدبة ، ووضع الموازين في أرض الحشر لكل مكلّف ميزان يخصه ، وضرب بسور يسمى الأعراف بين الجنة والنار ، وجعله مكانا لمن اعتدلت كفتا ميزانه ، فلم ترجح إحداهما على الأخرى ، ووقفت الحفظة بأيديهم الكتب التي كتبوها في الدنيا من أعمال المكلفين وأقوالهم ، ليس فيها شيء من اعتقادات قلوبهم إلا ما شهدوا به على أنفسهم بما تلفظوا به من ذلك ، فعلقوها في أعناقهم بأيديهم ، فمنهم من أخذ كتابه بيمينه ، ومنهم من أخذه بشماله ، ومنهم من أخذه من وراء ظهره ، وهم الذين نبذوا الكتاب في الدنيا وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا ، وليس أولئك إلا الأئمة الضلال المضلون الذين ضلوا وأضلوا ، وجيء بالحوض يتدفق ماء ، عليه من الأواني على عدد الشاربين منه لا تزيد ولا تنقص ، ترمي فيه أنبوبان أنبوب ذهب وأنبوب فضة ، وهو لزيق بالسور ، ومن السور تنبعث هذان الأنبوبان ، فيشرب منه المؤمنون ، ويؤتى بمنابر من نور مختلفة الإضاءة واللون فتنصب في تلك الأرض ، ويؤتى بقوم فيقعدون عليها قد غشيتهم الأنوار لا يعرفهم أحد ، في رحمة الأبد ، عليهم من الخلع الإلهية ما تقر به أعينهم ، ويأتي مع كل إنسان قرينه من الشياطين والملائكة ، وتنشر الألوية في ذلك اليوم للسعداء والأشقياء بأيدي أئمتهم الذين كانوا يدعونهم إلى ما كانوا يدعونهم إليه من حق وباطل ، وتجتمع كل أمة إلى رسولها ، من آمن منهم به ومن كفر ، وتحشر الأفراد والأنبياء بمعزل من الناس بخلاف الرسل ، فإنهم أصحاب العساكر فلهم مقام يخصهم ، وقد عيّن الله في هذه الأرض بين يدي عرش الفصل والقضاء مرتبة عظمى ، امتدت من الوسيلة التي في الجنة ، يسمى ذلك المقام المحمود وهو لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٧٤

خاصة ، وتأتي الملائكة ملائكة السموات ، ملائكة كل سماء على حدة متميزة عن غيرها ، فيكونون سبعة صفوف ، أهل كل سماء صف ، والروح قائم مقدّم الجماعة ، وهو الملك الذي نزل بالشرائع على الرسل ، ثم يجاء بالكتب المنزلة والصحف ، وكل طائفة ممن نزلت من أجلها خلفها ، فيمتازون عن أصحاب الفترات وعمن تعبد نفسه بكتاب لم ينزل من أجله ، وإنما دخل فيه وترك ناموسه لكونه من عند الله ، وكان ناموسه عن نظر عقلي من عاقل مهدي ، ثم يأتي الله عزوجل على عرشه والملائكة الثمانية تحمل ذلك العرش فيضعونه في تلك الأرض ، والجنة عن يمين العرش والنار من الجانب الآخر وقد علت الهيبة الإلهية وغلبت على قلوب أهل الموقف من إنسان وملك وجان ووحش ، فلا يتكلمون إلا همسا ، بإشارة عين وخفي صوت ، وترفع الحجب بين الله وبين عباده ، وهو كشف الساق ، ويأمرهم داعي الحق عن أمر الله بالسجود ، فلا يبقى أحد سجد لله خالصا على أي دين كان إلا سجد السجود المعهود ، ومن سجد اتقاء ورياء خر على قفاه ، وبهذه السجدة يرجح ميزان أصحاب الأعراف ـ لأنها سجدة تكليف ـ فيسعدون ويدخلون الجنة ، ويشرع الحق في الفصل والحكم بين عباده فيما كان بينهم ، وأما ما كان بينهم وبين الله فإن الكرم الإلهي قد أسقطه ، فلا يؤاخذ الله أحدا من عباد الله فيما لم يتعلق به حق للغير ، وقد ورد في أخبار الأنبياء عليهم‌السلام في ذلك اليوم ما قد ورد على ألسنة الرسل ، ثم تقع الشفاعة الأولى من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل شافع أن يشفع ، فيشفع الشافعون ، ويقبل الله من شفاعتهم ما شاء ويرد من شفاعتهم ما شاء ، لأن الرحمة في ذلك اليوم يبسطها الله في قلوب الشفعاء ، فمن ردّ الله شفاعته من الشافعين لم يردها انتقاصا بهم ، ولا عدم رحمة بالمشفوع فيه ، وإنما أراد بذلك إظهار المنة الإلهية على بعض عباده ، فيتولى الله سعادتهم ورفع الشقاوة عنهم ، فمنهم من يرفع ذلك عنه بإخراجهم من النار إلى الجنان ، وقد ورد شفاعته بشفاعة أرحم الراحمين عند المنتقم الجبار ، فهي مراتب أسماء إلهية لا شفاعة محققة ، فإن الله يقول في ذلك اليوم [شفعت الملائكة والنبيون والمؤمنون وبقي أرحم الراحمين] فدل بالمفهوم أنه لم يشفع ، فيتولى بنفسه إخراج من يشاء من النار إلى الجنة ، ونقل حال من هو من أهل النار من شقاء الآلام إلى سعادة إزالتها ، فذلك قدر نعيمه ، وقد يشاء ويملأ الله جهنم بغضبه المشوب وقضائه والجنة برضاه ، فتعم الرحمة وتنبسط النعمة.

٣٧٥

ولما كان لجميع الموجودات عند الله قدر وحظ ، لذلك أقسم بالكل دلالة على شرفهم ، فراع حظهم عند الحق من هذا الوجه ، ولا تقل فيمن ليس من جنسك من جماد ونبات وحيوان ليس من جنسي ، بل كل من أطاع الله فهو من جنسك إن كنت طائعا ، قال تعالى :

(فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ) (٣٩)

وهو ما ظهر لنا ، وهو ما خفي عنا ، والظاهر هو ما أدركه الحس ، وما استتر هو مالا يدركه الحس من المعاني ، وما استتر عن الأبصار من الملائكة والجن ، وأقسم الحق هنا بالوجود والعدم ، لأن الشرف عمّ إظهارا لعلو المقسم به ، ولكن لا تشعرون ، فإن القسم عند العلماء تعظيم المقسوم به ، إذ لا يكون القسم إلا بمن له مرتبة في العظمة ، فعظّم الله بالقسم جميع العالم الموجود منه والمعدوم ، إذ كانت أشخاصه لا تتناهى ، فإنه أقسم به كله في قوله (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) وما لا تبصرون هو الموجود الغائب عن البصر والمعدوم ، ودخل في هذا القسم المحدث والقديم ، ويؤيد تعظيم المحدثات المقسوم بها قوله تعالى : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) وهي محدثات (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) غير أنه لما علم الله عظمته في قلوب عباده موحدهم ومشركهم ومؤمنهم وكافرهم ، وقد أقسم لهم بالمحدثات وبغير نفسه ، وعلم أنه قد تقرر عندهم أنه لا يكون القسم إلا بعظيم عند المقسم ، فبالضرورة يعتقد العالم تعظيم المحدثات ، ومن صفات الحق الغيرة ، حجّر من كونه غيورا علينا أن نقسم بغيره ، مع اعتقادنا عظمة الغير بتعظيم الله ، فليس لمخلوق أن يقسم بمخلوق ، وإن أقسم بمخلوق فهو عاص ، ولا كفارة عليه إذا حنث ، وعليه التوبة مما وقع فيه لا غير ، فإن قلت : أقسم تعالى بكل معلوم من موجود ومعدوم ، فأقسم بنفسه وبجميع المعلومات ، فهل لنا أن نقسم بما أقسم الله تعالى به أو محجور علينا ذلك؟ قلنا : قد يقسم بالأمر مضافا أو مفردا ، فالمفرد : والله لأفعلن كذا ؛ والمضاف مثل قول عائشة رضي الله عنها في قسمها : ورب محمد ؛ فدخل المضاف في المضاف إليه في الذكر بالقسم ، فعلى هذا الحد يقسم الإنسان الكامل بكل معلوم ، سواء ذكر الاسم أو لم يذكره ، وهو بعض تأويلات وجوه قسم الله بالأشياء في مثل قوله تعالى (وَالشَّمْسِ وَالضُّحى) (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) يريد ورب الشمس ، ورب

٣٧٦

الضحى ، ورب التين ، فما أقسم إلا بنفسه ، فلا قسم إلا بالله ، وما عدا ذلك من الأقسام فهو ساقط ما ينعقد به يمين في المقسوم عليه ، وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النهي عن اليمين بغير الله ، فإن قلت : لم أقسم الله؟ قلنا : سبب القسم بالأشياء طلب التعظيم من الخلق للأشياء ، حتى لا يهملوا شيئا من الأشياء الدالة على الحق ، سواء كان ذلك الدليل عدما أو وجودا ، وقلنا : القسم نتيجة التهمة ، والحق يعامل الخلق من حيث ما هم عليه لا من حيث ما هو عليه ، ولهذا لم يول الحق تعالى للملائكة ، لأنهم ليسوا من عالم التهمة ، وأقسم الحق بنفسه حين أقسم بذكر المخلوقات ، وحذف الاسم يدل على إظهار الاسم في مواضع من الكتاب العزيز ، مثل قوله (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فكان ذلك إعلاما في المواضع التي لم يجر للاسم ذكر ظاهر ، أنه غيب هنالك لأمر أراده سبحانه في ذلك ، والقسم دليل على تعظيم المقسم به ، ولا شك أنه قد ذكر في القسم من يبصر ومن لا يبصر ، فدخل في ذلك الرضيع والوضيع والموجود والمعدوم ، فهو القسم العام ، فإنه دخل في هذا القسم من الموجودات جميع الأشياء ، ودخل فيه العدم والمعدومات ، وهو قوله (وَما لا تُبْصِرُونَ) وما تبصرونه في الحال والمستقبل ، والمستقبل معدوم ، فللأشياء نسبة إلى الشرف والتعظيم ، وكذلك العدم المطلق فإنه يدل على الوجود المطلق ، فعظم من حيث الدلالة ، وأما شرف العدم المقيد فإنه على صفة يقبل الوجود ، والوجود في نفسه شريف ، ولهذا هو من أوصاف الحق ، فقد شرف على العدم المطلق بوجه قبوله للوجود ، فله دلالتان على الحق ، دلالة من حيث عدمه ودلالة من حيث وجوده ، وشرف العدم المطلق على المقيد بوجه وهو أنه من تعظيمه لله وقوة دلالته أنه ما قبل الوجود ، وبقي على أصله في عينه ، غيرة على الجناب الإلهي أن يشركه في صفة الوجود.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (٤٠)

فأقسم تعالى (إِنَّهُ) يعني القرآن وهو كلام الله (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فأضاف الكلام إلى الواسطة والمترجم.

٣٧٧

(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (٤٥)

فإن اليمين محل الاقتدار والقوة.

(ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٤٦)

توعد الله عباده أشد الوعيد إذا هم افتروا على الله الكذب ، وهذا الحكم سار في كل من كذب على الله ، قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيزني المؤمن؟ قال : نعم ؛ قيل : أيشرب المؤمن؟ قال : نعم ؛ قيل أيسرق المؤمن؟ قال : نعم ، قيل له : أيكذب المؤمن؟ قال : لا ؛ وقد ورد فيمن يكذب في حلمه أنه يكلف أن يعقد بين شعيرتين من نار وما هو بقادر.

(فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) (٥١)

العلم الذي هو حق اليقين هو الذي لا يتطرق إليه تهمة ، فحق اليقين هو حق استقراره في القلب ، أي لا يزلزله شيء عن مقره ، وحق استقراره هو حكمه الذي أوجبه على العلم وعلى العين ، فلا يتصرف العلم إلا فيما يجب له التصرف فيه ، ولا تنظر العين إلا فيما يجب لها النظر إليه وفيه ، فذلك هو حق اليقين.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢)

٣٧٨

(٧٠) سورة المعارج مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (٢) مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤)

قيل في يوم القيامة إن مقداره خمسون ألف سنة لهول المطلع ، وما يرى الخلق فيه من الشدة ، وهو عند الآمنين الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر في الامتداد كركعتي الفجر ، وأين زمان ركعتي الفجر من زمان خمسين ألف سنة ، واعلم أن للملائكة مدارج ومعارج يعرجون عليها ، ولا يعرج من الملائكة إلا من نزل ، فيكون عروجه رجوعا إلّا أن يشاء الحق تعالى ، فلا تحجير عليه ، وإنما سمي النزول من الملائكة إلينا عروجا ، والعروج إنما هو لطالب العلو ، لأن لله في كل موجود تجليا ووجها خاصا به يحفظه ، ولا سيما وقد ذكر أنه سبحانه وسعه قلب عبده المؤمن ، ولما كان للحق سبحانه صفة العلو على الإطلاق ، سواء تجلى في السفل أو في العلو ، فالعلو له ، والملائكة أعطاهم الله من العلم بجلاله بحيث إذا توجهوا من مقامهم لا يتوجهون إلا لله لا لغيره ، فلهم نظر إلى الحق في كل شيء ينزلون إليه ، فمن حيث نظرهم إلى ما ينزلون إليه يقال تتنزل الملائكة ، ومن حيث إنهم ينظرون إلى الحق سبحانه عند ذلك الأمر الذي إليه ـ وله سبحانه مرتبة العلو ـ يقال تعرج الملائكة ، فهم في نزولهم أصحاب عروج ، فنزولهم إلى الخلق عروج إلى الحق ، وإذا رجعوا منا إلى مقاماتهم يقال إنهم عرجوا بالنسبة إلينا ، وإلى كونهم يرجعون إلى الحق لعرض ما بأيديهم مما نزلوا إليه ، فكل نظر إلى الكون ممن كان فهو نزول ، وكل نظر ممّن كان إلى الحق فهو عروج ، وإذا عرج الملك عرج بذاته لأنه رجوع إلى أصله ، وإذا عرج الرسول ركب البراق فعرج به البراق بذاته ، وعرج الرسول لعروج البراق بحكم التبعية والحركة القسرية ، فكان محمولا في عروجه ، حمله من عروجه ذاتي ، فتميز عروج الرسول من عروج الملك.

٣٧٩

(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (١٣) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (١٤) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى) (١٥)

لجهنم باب يسمى لظى ، فإن الأبواب السبعة لجهنم سميت بصفات ما وراءها مما أعدت له ، ووصف الداخلون فيها بما ذكر الله تعالى فقال هنا.

(نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (١٦) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (١٨) إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) (١٩)

من حيث إنسانيته وفي أصل نشأته ، فإن النفوس الإنسانية قد جبلها الله على الجزع في أصل نشأتها ، فجبلة الإنسان تقتضي الجبن ، والشجاعة والإقدام لها عرضي والجزع في الإنسان أقوى منه في الحيوان إلا الصرصر ، تقول العرب أجبن من صرصر ، وسبب قوته في الإنسان العقل والفكر الذي ميزه الله بهما على سائر الحيوانات ، وما يشجع الإنسان إلا القوة الوهمية ، كما أنه أيضا بهذه القوة يزيد جبنا وجزعا في مواضع مخصوصة ، فإنّ الوهم سلطان قوي ، وسبب ذلك أن اللطيفة الإنسانية متولدة بين الروح الإلهي الذي هو النفس الرحماني وبين الجسم المسوى المعدل ، ثم إن الجسم الحيواني مقهور بالضعف ، قال الله عزوجل (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) فالضعف أصله فإقدامه على الأهوال العظام إنما هو بغيره لا بنفسه ، وهو ما يؤيده الله به من ذلك ، كما قال (وَأَيَّدْناهُ) والإنسان في أصل خلقه خلق هلوعا ، يخاف الفقر الذي تعطيه حقيقته ، والحيوان إذا اكتفى ماله همة في المستأنف ، والإنسان ليس كذلك ، لا يزال مهموما منهوما في الحال والاستقبال ، فيجمع ولا يشبع لأنه خلق هلوعا.

٣٨٠