رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (٥)

لما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الله على كل أحيانه ، والله جليس من يذكره ، فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جليس الحق دائما فمن جاء إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنما يخرج إليه من عند ربه إمّا مبشرا وإمّا موصيا ناصحا ، ولهذا قال : (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) فلو كان خروجه إليهم بما يسوءهم في آخرتهم ما كان خيرا لهم ، وقد شهد الله بالخيرية فلابد منها ، وهي على ما ذكرناه من بشارة بخير أو وصية ونصيحة وإبانة عن أمر مقرب إلى سعادتهم ، غير ذلك لا يكون.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٧)

لو لا أن الله تعالى تولى قلوب المؤمنين فحبب الإيمان إليها وزينه فيها ، وكره الكفر وشانه عندها ، لتاهوا في الظلمات وغرقوا في بحار الهلكات ، لظهور الاعتياد ومعاينة الأسباب ، ولكن الله سلّم وحبب الإيمان في القلوب وزيّن ، وكره الكفر والفسوق والعصيان ، ولذلك مدح المؤمنين بالغيب المستور.

(فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) المقسط هو الحكم إذا كان عدلا.

١٦١

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٠)

النسب الصحيح بالدين لا بالطين (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وهذه أخوة الصفة ، وهي أحق مراتب الأخوة ، فإن بها يقع التوارث ، فبأخوة الإيمان ترث ، فلا تأسف على أخوة النسب ولا تكترث ، المؤمن أخو المؤمن لا يسلمه ، وما ترك فهو يتسلّمه. واعلم أن الله قد واخى بين المؤمنين كما واخى بين أعضاء جسد الإنسان ، وبهذا وقع المثل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الثابت ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر] كذلك المؤمن إذا أصيب أخوه المؤمن بمصيبة فكأنه هو الذي أصيب بها ، فيتألم لتألمه ، ومتى لم يفعل ذلك المؤمن مع المؤمنين ، فما ثبتت أخوة الإيمان بينه وبينهم ، والمؤمن أخو المؤمن لا يسلمه ولا يخذله ، فالمؤمن لا يبغض المؤمن ، والمؤمن لا يقتل المؤمن لإيمانه ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فجعل أباهم الإيمان ، فهم أخوة لأب واحد ، وبنص هذه الآية بيننا وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخوة الإيمان ، وإن كان هو السيد الذي لا يقاوم ولا يكاثر ، ولكن قد انتظم معنا في سلك الإيمان بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) يعني إذا تنافروا (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ـ بحث في الأخوة في طريق الله ـ يحتاج المريد إلى الإخوان لتبيين آفات نفسه ليرفأه الشيخ بعد الجراحة ، أي بعد أن يجرحه الشيخ بالتقريع واللوم ، فلو طعنت نفس المجروح فيهم دون أستاذه ، فلا بأس به ، وإن كان ضعفا فسيعود عنده دواء وكشفا إن شاء الله تعالى ، فلسان حال الأخ في عقد الأخوة ، كل واحد منا بصير في عيوب أخيه لعماه عن عيوب نفسه واستيلاء رمسه ، فشد بهذه القاعدة وسطا ولا تتخذ ذلك شططا ، حتى يؤيدك الله بنصره ، ويكشف لكل واحد منّا عيوبه ببصره ، وإذ ذاك أخوك من صدقك لا من صدّقك ، ومن جرحك لا من مدحك ، وإليه ينظر قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من أرضى الناس بسخط الله صار مادحه منهم ذاما ، ومن أرضى الله بسخط الناس أرضى الله عنه الناس ويهبه العين الصحيحة] يرى الطالب معاديه بالعرف العام وليا والمسيء إليه محسنا ، إذ هو إنما يعادي عدوه فهو وليه من حيث لا يدري ، وإليه ينظر قول الشاعر :

ذهب الرجال المقتدى بفعالهم

والمنكرون لكل أمر منكر

١٦٢

وبقيت في خلف يزكي بعضهم

بعضا ليدفع معور عن معور

فمادحك إنما يتولى عدوك فاحذره ولا تأنس إليه ، فتميل في كل أحوالك إليه ، وإذا كان هذا مع الأحباب ، فكيف يكون مع الأب؟ أي الشيخ الذي هو أخص الحبايب ، أو مع الأخ الشقيق والصديق الشفيق والصاحب ، ولذلك قيل : لا تصحب من يراك معصوما ، فإنه يكون هو المنتفع بك بقدر ظنه ، وتبقى أنت على ما بينك وبين الله تعالى من مكره وأمنه ، فالمحبة على الطالب لا على الشيخ ، وقد غلط في هذا كثيرون واحتجوا بقول إبراهيم بن أدهم لصاحبه : إن شدة محبتك في الله غيبتني عن النظر في مساويك ، وذلك حال من أحبك له ، وأما الشيخ فإنما يحبك لك ، فلا يزال مطلعا على عوارتك في غفلاتك ، ليصحح منك السقيم ويرد معوجك إلى المستقيم ، وأنت أيها الأخ لا تمدح أخاك الغائب عن نفسه بنفسه في وجهه ، الذي هو قفاه ، فتأكل لحمه ميتا ، فهذه هي الأخوة والأبوة الهازمة للأحزاب ، المغرقة في السبب القاطع للأسباب ، والنسب القاطع للأنساب ، المكينة في النسب المحمدي والسبب الأحمدي ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [كل سبب ونسب منقطع إلا نسبي وسببي] لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم آدم أبوة النبوة والدين ، كما أن آدم عليه‌السلام آدم أبوة الطين ، فإذا بلغ المؤمن حال العلم ذوقا ورقاه الحق ، صار حقا للشيخ والشيخ حقا له ، فله مرتبة الصحبة والأخوة والمشاورة ، وعليه الأدب بإبقاء التبعية بحيث لا تستمر عليه تكليفات الطالبين لأجل هذه الأخوة ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أنا من الله والمؤمنون مني].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا

١٦٣

فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (١٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) والله ما يوجد إلا عند ظن العبد به ، فليظن به خيرا ، والظن من بعض وزعة الوهم ، وهو الذي يعطي العذاب المعجل والنعيم المعجل ، فظنّ خيرا تلقه ، وبعض الظن إثم ، فو الله لو لا الظن ما عصى الله مخلوق أبدا ، ولابد من العصيان ، وهو حكم الله في الفعل أو الترك ، فلابد من الظن فمن رحمة الله بخلقه أن خلق الظن فيهم وجعله من بعض وزعة الوهم. واعلم أنه لا يصح إنكار المنكرات إلا بما لا يتطرق إليه الاحتمال ، وهذا يغلط فيه كثير من المؤمنين لا أصحاب الدين ، فإن أصحاب الدين المتين أول ما يحتاط على نفسه ، ولا سيما في الإنكار خاصة ، فإن للمغيّر شروطا في التغيير ، فإن الله ندبنا إلى حسن الظن بالناس لا إلى سوء الظن بهم ، فلا ينكر صاحب الدين مع الظن ، وقد سمع أن بعض الظن إثم ، فلعل هذا من ذلك البعض ، وإثمه أن ينطق به ، وإن وافق العلم في نفس الأمر ، فإن الله يؤاخذه بكونه ظن وما علم ، فنطق فيه بأمر محتمل ولم يكن له ذلك ، وسوء الظن بنفس الإنسان أولى من سوء ظنه بالغير ، لأنه من نفسه على بصيرة وليس هو من غيره على بصيرة ، فلا يقال فيه في حق نفسه إنه سيّىء الظن بنفسه ، لأنه عالم بنفسه ، وإنما قلنا فيه : إنه يسيء الظن بنفسه إتباعا لسوء ظنه بغيره ، فهو من تناسب الكلام ، فالعالم الصالح من استبرأ لدينه في كل أحواله في حق نفسه وحق غيره ـ فائدة ـ أغفلها الناس وهي تدعو إلى حسن الظن بالناس ، ليكون محلك طاهرا من السوء ـ وذلك أنك إذا رأيت من يعاشر الأشرار وهو خير عندك ، فلا تسيء الظن به لصحبته الأشرار ، بل حسّن الظن بالأشرار لصبحتهم ذلك الخيّر واجعل المناسبة في الخير لا في الشر ، فإن الله ما سأل أحدا قطّ يوم القيامة عن حسن الظن بالخلق ، ويسأله عن سوء الظن بالخلق (وَلا تَجَسَّسُوا) الجاسوس يستعمل في الشرّ في العرف الاصطلاحي (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أضاف الغيبة إلينا وقال : (لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فجعلنا نشأة واحدة ذات أبعاض ، فإن الجزء والتفصيل إنما يرد على الكل ، فما خرجنا عنا ولا وقعنا إلا فينا ، فشدد الأمر علينا في ذلك ، والغيبة ذكر الغائب بما لو سمعه ساءه ، وهي حرام على المؤمنين المكلفين فيما بينهم إلا في مواطن مخصوصة ، فإنها واجبة وقربة إلى الله ، وأهل

١٦٤

الورع من المؤمنين يعرّضون بها ولا يصرحون ، فمن ذلك في طريق الجرح الذي يعرفه المحدثون في رواة الأحكام المشروعة ، ومنها عند المشورة في النكاح ، فإنه مؤتمن والنصيحة واجبة ، ومنها الغيبة المرسلة وهو أن يغتاب أهل زمانه من غير تعيين شخص بعينه ، ومنها غيبة الشيوخ المريدين في حال التربية إذا كان فيها صلاح المريد إذا وصل ذلك إليه ، ومع كون الغيبة محمودة في هذا الموطن فعدم التعيين فيها أولى من التعيين ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا غيبة في فاسق] نهيا لا نفيا ، على هذا أخذ أهل الورع هذا الخبر ، وطريق التعريض هيّن المأخذ ، وما عدا أمثال هذه المواطن فهي مذمومة يجب اجتنابها ومن هذا الباب تجريح الشهود إذا عرف المشهود عليه أنهم شهدوا زورا ، فوجب عليه نصرة الحق وأهله وخذلان الباطل وأهله (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) فيفطر الصائم بالغيبة وإن لم يأكل (فَكَرِهْتُمُوهُ) وهذا خطاب عام (وَاتَّقُوا اللهَ) هذا هو الدواء ، ومعناه اتخذوه وقاية بينكم وبين هذه الأمور المذمومة التي الغيبة منها (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١٣)

الجسوم الإنسانية أربعة أنواع : جسم آدم وجسم حواء وجسم عيسى وأجسام بني آدم ، وكلّ جسم من هذه الأربعة نشؤه يخالف نشء الآخر في السببية ، مع الاجتماع في الصورة الجسمانية والروحانية ، وإنما نبهنا على هذا ، لئلا يتوهم الضعيف العقل أن القدرة الإلهية أو أن الحقائق لا تعطي أن تكون هذه النشأة الإنسانية إلا عن سبب واحد ، يعطي بذاته هذا النشء ، فرد الله هذه الشبهة بأن أظهر هذا النشء الإنساني في آدم بطريق لم يظهر به جسم حواء ، وأظهر جسم حواء بطريق لم يظهر به جسم ولد آدم ، وأظهر جسم أولاد آدم بطريق لم يظهر به جسم عيسى عليه‌السلام ، وينطلق على كل واحد من هؤلاء اسم الإنسان بالحد والحقيقة ، ذلك ليعلم أن الله بكل شيء عليم ، وأنه على كل شيء قدير ، فجمع الله هذه الأربعة الأنواع في الخلق في آية من القرآن فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ) يريد آدم (مِنْ ذَكَرٍ) يريد حواء فهي منفعلة عن آدم عليه‌السلام (وَأُنْثى) يريد عيسى

١٦٥

عليه‌السلام ، وهو منفعل عن مريم في مقابلة حواء من آدم ، وبالمجموع (مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) يريد بني آدم باقي الذرية بطريق النكاح والتوالد ، فهذه الآية جامعة لخلق الناس ، ومن جوامع الكلم وفصل الخطاب ، وتبين أن الغرض الإعلام بأن الأجسام الإنسانية وإن كانت واحدة في الحد والحقيقة ، والصور الحسية والمعنوية ، فإن أسباب تأليفها مختلفة ، لئلا يتخيل بأن ذلك لذات السبب تعالى الله ، بل ذلك راجع إلى فاعل مختار يفعل ما يشاء كيف يشاء ، من غير تحجير ولا قصور عن أمر دون أمر ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) الشعوب في الأعاجم كالقبائل في العرب ، أي فرقكم شعوبا ، وميز قبيلة عن قبيلة ، وسميت الميتة شعوبا لأنها تفرق بين الميت وأهله (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ـ الوجه الأول ـ أي أشدكم وقاية ، لأنه جاء من باب أفعل ، وقد جعل الله بينه وبين خلقه نسبا ، ولم يكن سوى التقوى من الوقاية ، ورد في الخبر أن الله يقول يوم القيامة : [اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي أين المتقون؟] وهم الذين جعلوا نفوسهم وقاية يحمون بها جانب الله تعالى من المذام التي كانت منه إيجادا وحكما [والشر ليس إليك] فجعلوا نفوسهم وقاية لله ـ الوجه الثاني ـ الذين اتخذوا الله وقاية ، ولهذا المقام رجال ولهذا رجال (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) عليم بما أخفى ، خبير بما أبدى ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ، فلا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي إلا بالتقوى] يريد بالأب آدم عليه‌السلام.

(قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (١٤)

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) لأن الإيمان طهارة الباطن (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) فإن الإسلام الانقياد ، فإذا أظهر الإنسان الانقياد الظاهر كان مسلما ظاهرا (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) وهو الطهارة الباطنة ، فالإنسان كما يكون مسلما ظاهرا ، يجب عليه الانقياد بباطنه حتى يكون مسلما باطنا كما كان ظاهرا ، فإن الطهارة الباطنة هي النافعة المنجية

١٦٦

من التخليد في النار.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (١٧)

لما منّ من منّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإسلام ، قال تعالى تأنيسا له : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) ثم أمره أن يقول لهم فقال ، (قُلْ) يا محمد (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) وآثر الحق تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه حتى لا يجعل له نعتا فيما أجري عليه لسان ذم ، فقال له : قل لهم : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) معناه أنه لو منّ لكان المنّ لله (أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) ولو شاء لقال : بل أنا أمنّ عليكم أن هداكم الله بي للإيمان الذي رزقكم بتوحيده وأسعدكم به ، فما جعله تعالى محلا للمنّ كما منّوا بإسلامهم ، فوبخوا ونبهوا بقوله : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) والمنّ هنا من علم التطابق لم يقصد به المنّ ، لأنهم لما امتنوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسلامهم ، قال الله له : (قُلْ) يا محمد (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي إذا دخلتم في حضرة المنّ فالمنّ لله لا لكم ، فما كان الله ليقول في المنّ ما قال ، ويكون منه ، وما كان الله ليدلنا على مكارم الأخلاق من العفو والصفح ويفعل معنا خلافه ، فلله المنّة التي هي النعمة ، والامتنان الذي هو إعطاء المنّة ، لا المنّ سبحانه وتعالى ، فلما كانت المنة الواقعة منهم إنما هي على الله لا على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنهم ما انقادوا إلا إلى الله ، لأن الرسول ما دعاهم إلى نفسه ، وإنما دعاهم إلى الله ، فكان قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أنكم مؤمنون ، يعني في إيمانكم بما جئت به ، فإنه مما جئت به أن الهداية بيد الله ، يهدي بها من يشاء من عباده لا بيد المخلوق ، فعراهم من هذه الصفة أن تكون لهم كسبا ، فالله تعالى يمنّ على عباده بما يمتنّ عليهم من المنن الجسام ، فجميع نعمه الظاهرة والباطنة مننه ،

١٦٧

ولذا سميت مننا ، وليس للعباد أن يمتنوا لأن النعم ليست إلا لمن خلقها ، فلهذا كان المن من الله محمودا ، لأنه ينبه عباده بما أنعم عليهم ليرجعوا إليه ، وكان مذموما من العباد لأنه كذب محض.

(إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (١٨)

(٥٠) سورة ق مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (١)

قيد وصف القرآن في هذه الآية بصفة المجد ، وذلك ينكشف لمن يتلو القرآن بهذه الصفة ، فيرى شرف نفسه المخلوقة على الصورة ، وما فضله الله به من حيث إنه جعله العين المقصودة ، ووسع قلبه حتى وسع علما بما تجلى له ، وكشف له عن منزلته عنده ، وقبوله لزيادة العلم به دائما ، وتأهله للترقي في ذلك إلى غير نهاية دنيا وآخرة ، وما سخر في حقه مما في السموات وما في الأرض جميعا ، ونظر إلى نظر كل جزء من العالم إليه بعين التعظيم والشفوف عليه ، ورأى كل العالم في خدمته.

(بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) (٦)

١٦٨

الإنسان ما أعطي النظر إلا ليستفيد ، فمنور البصيرة من لا يزال مع الأنفاس يستفيد ، ومن ليست له هذه الحالة فليس بإنسان كامل الإنسانية.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ) (١٠)

(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) وهو الحركة إلى العلو.

(رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥)

(بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) هذا في مفهوم العموم النشأة الآخرة ، وقد يتناهى الأمر في نوع خاص كالإنسان ، فإن أشخاص هذا النوع متناهية ، لا أشخاص العالم ، ولا يتناهى أيضا في خلق أشخاص النوع الإنساني ، فعين كل شخص يتجدد في كل نفس ، لابد من ذلك ، ففي مفهوم الخصوص تجدد النشأة في كل نفس دنيا وآخرة ، فإن أدناه تغير الحال مع الأنفاس ، فلا يزال الحق فاعلا في الممكنات الوجود ، ولو لا تبديل الخلق مع الأنفاس لوقع الملل في الأعيان ، فالخلق جديد حيث كان دنيا وآخرة ، فدوام الإيجاد لله تعالى ، ومن المحال بقاء حال على عين نفسين أو زمانين للاتساع الإلهي ولبقاء الافتقار على العالم إلى الله ، فالتغيير له واجب في كل نفس ، والله خالق فيه في كل نفس ، فالأحوال متجددة مع الأنفاس على الأعيان ، فنحن في خلق جديد بين وجود وانقضاء ، فأحوال

١٦٩

تتجدد ، على عين لا تتعدّد ، بأحكام لا تنفد ، فهذا الخلق الجديد الذي أكثر الناس منه في لبس وشك ما هو إلا الاستحالة ، فإن العالم كله محصور في ثلاثة أسرار : جوهره وصوره والاستحالة ، وما ثم أمر رابع ، فلا يزال العالم يستحيل دائما من الدنيا إلى الآخرة ، والآخرة بعضها إلى بعض ، كما استحال منها ما استحال إلى الدنيا ، كما ورد في الخبر في النيل والفرات وسيحان وجيحان أنها من أنهار الجنة ، استحالت فظهرت في الدنيا ، بخلاف الصورة التي كانت عليها في الآخرة ، فالاستحالة دائما وأبدا في الدنيا ، ثم نستحيل إلى البرزخ ، وإذا استحلنا من البرزخ إلى الصور التي يكون فيها النشر والبعث سميت تلك الآخرة ، ولا يزال الأمر في الآخرة في خلق جديد منها فيها ، أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، إلى ما لا يتناهى ، فلا نشاهد في الآخرة إلا خلقا جديدا في عين واحدة ، فالعالم متناه لا متناه ، ومن ذلك تعلم أن العالم لا يخلو في كل نفس من الاستحالة ، ولو لا أن عين الجوهر من الذي يقبل هذه الاستحالة في نفسه واحد ثابت لا يستحيل من جوهره ، ما علم حين يستحيل إلى أمر ما ما كان عليه من الحال قبل تلك الاستحالة ، غير أن الاستحالات قد يخفى بعضها ويدق ، وبعضها يكون ظاهرا تحس به النفس ، أمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي ارفع عنّي اللبس الذي يحول بيني وبين العلم بالخلق الجديد ، فيفوتني خير كثير حصل في الوجود لا أعلمه ، والحجاب ليس إلا التشابه والتماثل ، ولو لا ذلك لما التبس على أحد الخلق الجديد الذي لله في العالم في كل نفس بكل شأن ، فقال تعالى : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي إنهم لا يعرفون أنهم في كل لحظة في خلق جديد ، فما يرونه في اللحظة الأولى ما هو عين ما يرونه في اللحظة الثانية ، وهم في لبس من ذلك ، وبذلك يكون الافتقار للخلق دائما وأبدا ، ويكون الحق خالقا حافظا على هذا الوجود وجوده دائما ، بما يوجده فيه من خلق جديد لبقائه.

فانظر فديتك فيما قد أتيت به

فالعلم يدرك ما لا يدرك البصر

فرجال العلم أولى بالعبر

ورجال العين أولى بالنظر

فالذي يوصف بالعقل له

قوة تخرجه عن البصر

والذي يوصف بالكشف له

صورة تسمو على كل الصور

فتراه دائما في حاله

ظاهرا من غير إلى غير

١٧٠

والخلق ما سمي خلقا إلا بما يخلق منه ، فالخلق جديد وفيه حقيقة اختلاق ، لأنه تنظر إليه من وجه فتقول هو حق ، وتنظر إليه من وجه فتقول هو خلق ، وهو في نفسه لا حق ولا غير حق ، فإطلاق الحق عليه والخلق كأنه اختلاق ، فغلب عليه هذا الحكم فسمي خلقا ، وانفرد الحق باسم الحق ، إذ كان له وجوب الوجود لنفسه ، وكان للخلق وجوب الوجود به ، فالحق للوجود المحض ، والخلق للإمكان المحض ، فما ينعدم من العالم ويذهب من صورته فمما يلي جانب العدم ، وما يبقى منه ولا يصح فيه عدم فمما يلي جانب الوجود ، ولا يزال الأمران حاكمين على العالم دائما ، فالخلق جديد في كل نفس دنيا وآخرة ، ونفس الرحمن لا يزال متوجها ، والطبيعة لا تزال تتكون صورا لهذا النفس حتى لا يتعطل الأمر الإلهي ، إذ لا يصح التعطيل ، فصور تحدث ، وصور تظهر ، بحسب الاستعدادات لقبول النفس الرحماني إلى ما لا يتناهى ، فالأول منها وإن كان صورة فهو المبدع ، والثاني ليس بمبدع ، فإنه على مثاله ، ولكنه مخلوق.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٦)

جعل الحق بهذه الآية النفس أجنبية عن الإنسان ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإنسان المكلف : [إن لنفسك عليك حقا] فأضاف النفس إليه ، والشيء لا يضاف إلى ذاته ، فجعل النفس غير الإنسان ، وأوجب لها عليه حقا تطلبه منه ، ولما علم تعالى أن إفراط القرب حجاب عظيم عن القرب ، وحبل الوريد نعلم قربه ولا تراه أبصارنا ، ذكرنا بنفسه فقال : إنه أقرب إلينا من حبل الوريد ، كذلك قرب الحق منا ، نؤمن به ولا تدركه أبصارنا فقال : (وَنَحْنُ) جاء تعالى في القرآن الكريم بأسماء الكنايات ، منها ما هو جمع ، ومنها ما هو مفرد ، فالجمع مثل قوله نحن وإنّا ، بكسر الهمزة وتشديد النون ، والمفرد مثل قوله أنا وهو ، فإذا كانت الكناية في عالم الألفاظ والكلمات بلفظ الجمع ، مثل نحن وإنا فللأسماء ، لأن ما ثم كثرة إلا ما تدل عليه منه أسماؤه الحسنى ، فإذا جمع نفسه مع أحديته فلأسمائه من حيث ما تدل عليه من الحقائق المختلفة ، وما مدلولها سواه ، فإنها ومدلولاتها عينه وأسماؤه ، وإذا أفرد فإنما يريد هويته لا أسماءه ، ولا معنى لمن قال إن الجمع كناية عن العظمة ، لا بل هو

١٧١

عين الكثرة ، فقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) يعني أنه بأسمائه أقرب إلينا منا ، فوصف الحق نفسه بالقرب من عباده ، وما خص إنسانا من إنسان ، فالقرب الإلهي من العبد لا خفاء به في الإخبار الإلهي ، كما قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) فهو تعالى أقرب إلينا من أنفسنا ، لأن حبل الوريد منا ، والحبل الوصل ، فهو أوصل ، فإنه ما كان الوصل إلا به ، فبه نسمع ونبصر ونقوم ونقعد ونشاء ونحكم ، وهذه الأحكام ليست لحبل الوريد ، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، فإن غاية حبل الوريد منا الذي جاء له ما للعروق من الحكم في أنها مجرى الحياة وسكك الدم ، فكان الحق أقرب إلى العبد من نفسه ، فإنه أتى بأفعل من ، فثمّ قريب وأقرب ، فهو قريب بنزوله من العرش إلى السماء الدنيا ، كما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أقرب فإنه معنا أينما كنا ، فهو تعالى أقرب من حبل الوريد ، إلى كل شقي وسعيد ، وفي هذه الآية من رحمة الله بخلقه ما لا يقدر قدره إلا العارفون به ، فلنا بهذه الآية جوار ، وللجار حق مشروع ، فينبغي للإنسان أن يحضر هذا الجوار الإلهي عند الموت ، حتى يطلب من الحق ما يستحقه الجار على جاره من حيث ما شرع ، وهو قوله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) أي الحق الذي شرعته لنا ، فعاملنا به حتى لا ننكر شيئا منه مما يقتضيه الكرم.

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١٨)

وكّل الله تعالى بالعباد ملائكة يكتبون ما تلفظوا به من كلمات ، وظهر الكفر في العالم والإيمان ، بأن تكلم كل شخص بما في نفسه من إيمان وكفر ، وكذب وصدق ، لتقوم الحجة لله على عباده ظاهرا بما تلفظوا به ، فأنفاس الإنسان عليه معدودة ، وتصرفاته محدودة ، قال تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) سمى الكلام باللفظ ، لأن اللفظ الرمي ، فرمت النفس ما كان عندها مغيبا بالعبارة إلى أسماع السامعين ، والملائكة الكتاب لا يكتبون على العبد من أفعاله السيئة إلا ما تكلم بها ، وهو قوله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) وهو الكاتب ، فالملك الحافظ الكاتب عند الإنسان كل ما لفظ كتبه الملك ، فلا يكتب إلا ما

١٧٢

يلفظ به الإنسان ، فإذا لفظه رمى به ، فبعد الرمي يتلقاه الملك فيكتبه ، فالملك يرقب حركة العبد ويكتب منه حركة لسانه إذا تلفظ ، فيحصي عليه ألفاظه التي رمى بها ، لا يترك منها شيئا حتى يوقفه الله عليها ، إما في الدنيا إن كان من أهل العناية ، وإما في الآخرة في الموقف العام الذي لابد منه ، فالله يقيد كل قائل بما سمع منه ، فلا يتخيل قائل أن الله أهمله وإن أمهله ، فالملائكة يحصون الأقوال ، وإن كانوا يعلمون ما تفعلون ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) ما قال يكتبون ، فعليك أن تراعي أقوالك كما تراعي أفعالك ، فإن أقوالك من جملة أعمالك ، روينا أن الملك لا يكتب على العبد ما يعمله حتى يتكلم به ، فإذا تكلمت فتكلم بميزان ما شرع الله لك أن تتكلم به ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا ، فعليك بقول الحق الذي يرضي الله ، فما كل حق يقال يرضي الله ، فإن النميمة حق ، والغيبة حق ، وهي لا ترضي الله ، وراع ما نهاك الله أن تقوله في كتابه ، فلا تقل ما نهاك الله عنه أن تقوله وتتلفظ به ، فإنه كما نهاك عن أمور نهاك عن القول وإن كان حقا ، ورد في الخبر الصحيح : [إن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيهوي بها في النار سبعين خريفا ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيرفع بها في عليين] فلا تنطق إلا بما يرضي الله ، لا بما يسخط الله عليك ، وذلك لا يتمكن لك إلا بمعرفة ما حده لك في نطقك ، وهذا باب أغفله الناس ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم] وقال الحكيم : لا شيء أحق بسجن من لسان ، وقد جعله الله خلف بابين ، الشفتين والأسنان ، ومع هذا يكثر الفضول ويفتح الأبواب ، ثم إنه من كرم الله ـ وقد ورد به خبر ـ أن العبد إذا عمل السيئة قال الملك لصاحبه الذي أمره الحق أن يستأذنه في كتابة السيئة : أأكتب؟ فيقول له : لا تكتب وأنظره إلى ست ساعات من وقت عمله السيئة ، فإن تاب أو استغفر فلا تكتبها ، وإن مرت عليه ست ساعات ولم يستغفر فاكتبها سيئة واحدة ، ولا تكتبها إلا إذا تلفظ بها ، بأن يقول : فعلت كذا ، أو تكون السيئة في القول ، فتكتب بعد مضي هذا القدر من الزمان ، وأي مؤمن يمضي عليه ست ساعات لا يستغفر الله فيها؟.

١٧٣

(وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٢١)

الإنسان بين قضاء الله وقدره ، فلا يقدر يتعداهما ، فهما الحادي والهادي ، وهما السائق والشهيد ، ولهما الخلف والأمام ، والناس اليوم في عمى عن شهود هذين وفي الآخرة يرونهما ، والسائق فيه إشارة للزجر والتهديد والرهبوت.

(لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢)

في كشف الغطاء رفع الضرر واحتداد البصر ، فإذا كشف الغطاء وجاء العطاء ، تسرحت الحواس وارتفع الالتباس ، وتخلص النص وزال البحث والفحص ، فقد جمع التكليف شمل الكون ، فلا تقل هذا حجر ، وهذا شجر ، فلا أبالي ، غاية العين أن يعرفك الحجر والشجر والحيوان ، ولا تعرفهم إلا بعد كشف الغطاء ، ولا تقبل المعاذير ـ الوجه الأول ـ إذا كانت هذه الآية في حق الميت فمعناها : تدرك النّفس ما لم تكن أدركته بالموت ، فهو يقظة بالنسبة لما كانت عليه في حال الحياة الدنيا ، فإنه بالموت تنكشف الأغطية ، ويتبين الحق لكل أحد ، ولكن ذلك الكشف في ذلك الوقت لا يعطي سعادة إلا لمن كان في العامة عالما بالتوحيد ، فإذا كشف الغطاء فرأى ما علم عينا فهو سعيد ، وأما أصحاب الشهود هنا فهو لهم عين ، وعند كشف الغطاء تكون تلك العين لهم حقا ، فينتقل أهل الكشف من العين إلى الحق ، وينتقل العالم من العلم إلى العين ، وما سوى هذين الشخصين فينتقلون من العمى إلى الإبصار ، فيشهدون الأمر بكشف غطاء العمى عنهم ، لا عن علم تقدم ، فلابد من مزيد لكل طائفة عند الموت ورفع الغطاء ، ولهذا قال من قال من الصحابة : لو كشف الغطاء ـ فأثبت الغطاء ـ ثم قال : ما ازددت يقينا ، يعني فيما علم إذا عاينه ، فلا يزيد يقينا في العلم ، لكن يعطيه كشف الغطاء أمرا لم يكن عنده ، فيصح قوله ما ازددت يقينا في علمه إن كان ذا علم ، وفي عينه إن كان ذا عين ، لا أنه لا يزيد بكشف الغطاء أمرا لم يكن له ، إذ لو كان كذلك لكان كشف الغطاء في حق من هذه صفته عبثا معرى

١٧٤

عن الفائدة ، فما كان الغطاء إلا ووراءه أمر وجودي لا عدمي ـ الوجه الثاني ـ ذلك قبل خروجه من الدنيا ، فما قبض أحد من مؤمن ولا مشرك إلا على كشف حين يقبض ، فيميل إلى الحق عند ذلك ، والحق التوحيد والإيمان ، فمن حصل له هذا اليقين قبل الاحتضار فمقطوع بسعادته واتصالها ، ولا يكون الاحتضار إلا بعد أن يشهد الأمر الذي ينتقل إليه الخلق ، وما لم يشاهد ذلك فما حضره الموت ولا يكون ذلك احتضارا ، فمن آمن قبل ذلك الاحتضار بنفس واحد أو تاب نفعه ذلك الإيمان والمتاب عند الله في الدار الآخرة ، وحاله عند قبض روحه حال من لا ذنب له ، وسواء رده لذلك شدة ألم ومرض أوجب له قطع ما يرجوه من الحياة الدنيا أو غيره ، فهو مؤمن تائب ينفعه ذلك ، فإنه غير محتضر ، فما آمن ولا تاب إلا لخميرة كانت في باطنه وقلبه لا يشعر بها ، فما مال إلى ما مال إليه إلا عن أمر كان عليه في نفسه ، لم يظهر له حكم على ظاهره ، ولا له في نفسه إلا في ذلك الزمن الفرد الذي جاء في الزمان الذي يليه الاحتضار ، ومن حصل له هذا اليقين والإيمان عند الاحتضار فهو في المشيئة ، وإن كان المآل إلى السعادة ، ولكن بعد ارتكاب شدائد في حق من أخذ لذنوبه ـ الوجه الثالث ـ يعني عند الموت ، أي يعاين ما هو أمره عليه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [يموت المرء على ما عاش عليه ، ويحشر على ما عليه مات] وما يعاينه إنما يعاينه شهودا بالبصر ، لما تجسدت المعاني وظهرت بالأشكال والمقادير ، فيعاين المحتضر ما لا يعاينه الحاضر ، ويرى ما لا يرى من عنده ، من أهله الذين حجبهم الله تعالى عن رؤية ذلك إلى أن يأتيهم أجلهم ، فالمحتضر يرى ما لا يراه جلساؤه ، ويخبر جلساءه بما يراه ويدركه ، ويخبر عن صدق ، والحاضرون لا يرون شيئا ، كما لا يرون الملائكة ولا الروحانيين الذين هم معه في مجلس واحد ، ولذلك شرع تلقين المحتضر ، فإن الهول شديد والمقام عظيم ، وهو وقت الفتنة التي هي فتنة المحيا التي استعاذ منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بالاستعاذة منها ، فإنه يتمثل للمحتضر من سلف من معارفه على الصور التي يعرفهم فيها ، وهم الشياطين ، تتمثل إليه على صورهم بأحسن زي وأحسن صورة ، ويعرفونه أنهم ما وصلوا إلى ما هم فيه من الحسن إلا بكونهم ماتوا مشركين بالله ، فينبغي للحاضرين عنده في ذلك الوقت من المؤمنين أن يلقنوه شهادة التوحيد ، ويعرفوه بصورة هذه الفتنة ليتنبه بذلك ، فيموت مسلما موحدا مؤمنا ، فإنه عندما يتلفظ بشهادة التوحيد ويتحرك بها

١٧٥

لسانه ، أو يظهر نورها في قلبه بتذكره إياها ، فإن ملائكة الرحمة تتولاه وتطرد عنه تلك الصور الشيطانية التي تحضره ، جعلنا الله عزوجل في ذلك المقام ممن يشهد ما يسره لا ما يسوءه آمين بعزته ـ تحقيق ـ إذا انكشف الغطاء وكان البصر حديدا علمت أنه ما أعطاك إلا ما كان بيدك ، فما زادك من عنده ، ولا أفادك مما لديه إلا تغيير الصور ، ولا يموت أحد من أهل التكليف إلا مؤمنا ، عن علم وعيان محقق لا مرية فيه ولا شك ، من العلم بالله والإيمان به خاصة ، هذا هو الذي يعم ، وما بقي إلا هل ينفعه ذلك الإيمان أم لا؟ أما في رفع العقوبة فلا ، إلا من اختصه الله مثل قوم يونس ، وأما نفع ذلك الإيمان في المآل فإن ربك فعال لما يريد ، فإذا احتد البصر وانكشف الغطاء وجاء العطاء ، استدعى هناك صاحب الهوى عقله وترك نقله ، فوعزة العزيز ما نفعه ، وتركه لمن صرعه ، حاصدا ما زرعه ، واعلم أن الله متجل على الدوام ، لا تقيد تجليه الأوقات ، والحجب إنما ترتفع عن أبصارنا ، لذلك قال تعالى : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) فتجليه دائم وتدليه لازم ، والذي بين ذا وذا أنك اليوم نائم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الناس نيام فإذا ماتوا انتهبوا] لما في الموت من لقاء الله ، ألا ترى إلى قوله في المحتضر (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ولم يقل عقلك ، فكل ما أنت فيه من الدنيا إنما هو رؤيا.

(وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) (٢٣)

اعلم أن الإنسان إذا خلقه الله في أمة لم يبعث فيها رسول لم يقترن به ملك ولا شيطان ، ويبقى يتصرف بحكم طبعه ، ناصيته بيد ربه خاصة ، فإذا بعث فيهم رسول أو خلق في أمة فيهم رسول لزمه من حين ولادته قرينان ملك وشيطان ، من حين يولد ، لأجل وجود الشرع ، وأعطي لكل واحد من القرينين لمة يهمزه ويقبضه بها ، ولا تقل إن المولود غير مكلف فلماذا يقرن به هذان القرينان؟ فاعلم أن الله ما جعل له هذين القرينين في حق المولود ، وإنما ذلك من أجل مرتبة والديه أو من كان ، فيهمزه القرين الشيطان فيبكي ، أو يلعب بيده فيفسد شيئا مما يكره فساده أبوه أو غيره ، فتكون تلك الحركة من المولود الغير مكلف سببا مثيرا في الغير ضجرا أو تسخطا كراهة لفعل الله ، فيتعلق به الإثم ، فلهذا يقرن به الشيطان لا لنفسه ، وكذلك الملك ، وهو كل حركة تطرأ من المولود مما تثير في نفس

١٧٦

الغير أمرا موجبا للشر أو الخير ، فإن كان شرا فمن الشيطان ، وإن كان خيرا فمن الملك.

(أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) (٢٩)

ـ الوجه الأول ـ (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) فما يكون منه إلا ما سبق به العلم ، وهذا إخبار من الله تعالى ، أزال الاختيار بإزالة الإمكان من العالم ، وانتفى الإمكان بالنسبة إلى الله ، فما ثمّ إلا أن يكون أو لا يكون ، فليس في الكون واقع إلا أمر واحد ، علمه من علمه وجهله من جهله ، وليس في الأصل إلا أمر واحد عند الله ، وهكذا يكون الله علمه في الأشياء سابق لا يحدث له علم (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) لتصرفي في ملكي ، فلم يتصرف في ملك غيره فينسب إلى الجور والحيف ـ الوجه الثاني ـ (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) لأنه خلاف المعلوم فوقوعه محال ، فما حكم به العلم سبق به الكتاب ، وذلك لحكم الكتاب على الجميع ، وفي ذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، حتى ما يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار] وكذلك قال في أهل الجنة ، ثم قال : [وإنما الأعمال بالخواتيم] وهي على حكم السوابق ، فلا يقضي الله قضاء إلا بما سبق الكتاب به أن يقضي ، فعلمه تعالى في الأشياء عين قوله في تكوينه ، فما يبدل القول لديه ، فما حكم وسبق به العلم لا يتبدل عقلا ولا شرعا ، لذلك قال تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) ولرائحة الجبر في ذلك أعقبه تعالى بقوله : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) لئلا يتوهم متوهم ذلك ، إذ كان الحكم للعلم فيه ، فما نجري عليهم إلا ما سبق به العلم ، ولا أحكم فيهم إلا بما سبق به ؛ وما كتب تعالى إلا ما علم ، ولا علم إلا ما شهد من صور المعلومات على ما هي عليه في أنفسها ، ما يتغير منها وما لا يتغير ، فيشهدها كلها في حال عدمها على تنوعات تغييراتها إلى ما لا يتناهى ، فلا يوجدها إلا كما

١٧٧

هي عليه في أنفسها ، فإنه ما علم تعالى إلا ما أعطته المعلومات ، فالعلم يتبع المعلوم ، ولا يظهر في الوجود إلا ما هو المعلوم عليه ، فلله الحجة البالغة ، لذلك قال : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي ما قدرت عليهم الكفر الذي يشقيهم ، ثم طلبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به ، بل ما عاملناهم إلا بحسب ما علمناهم ، وما علمناهم إلا بما أعطونا من نفوسهم مما هم عليه ، فإن كان ظلم فهم الظالمون ، ومن لم يعرف الأمر هكذا فما عنده خبر بما هو الأمر عليه ، فالإنسان جاهل بما يكون منه قبل كونه ، فإذا وقع منه ما وقع فما وقع إلا بعلم الله فيه ، وما علم إلا ما كان المعلوم عليه ، فصح قوله (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) والرضا إرادة فلا تناقض بين الأمر والإرادة ، وإنما النقض بين الأمر وما أعطاه العلم التابع للمعلوم ، فهو فعال لما يريد ، وما يريد إلا ما هو عليه العلم ، وهذا هو عين سر القدر لمن فهمه ، وكم منع الناس من كشفه لما يطرأ على النفوس الضعيفة الإيمان من ذلك ، فليس سر القدر الذي يخفى عن العالم عينه إلا اتباع العلم المعلوم ، فلا شيء أبين منه ولا أقرب مع هذا البعد ، وسبق الكتاب هو إضافة الكتاب إلى ما يظهر به ذلك الشيء في الوجود ، على ما شهده الحق في حال عدمه ، فالكتاب سبق وجود ذلك الشيء ، والحكم للقول ، وذلك ليس إلا لله ، ومن هنا تعلم ما هو النسخ ، فإن مفهوم النسخ في القائلين به رفع الحكم بحكم آخر كان ما كان من أحكام الشرع ، فإن السكوت من الشارع في أمر ما حكم على ذلك المسكوت عنه ، فما ثمّ إلا حكم فهو تبديل ، وقد قال تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) فما ثمّ نسخ على هذا القول ، ولو كان ثمّ نسخ لكان من الحكمة وصورته أن الزمان إذا اختلف اختلف الحكم بلا شك ، فالنسخ ثابت أبدا لأن الاختلاف واقع أبدا ، فالحكمة تثبت النسخ والحكمة ترفع النسخ ، والفرق بين الحكمة والعلم أن الحكمة لها الجعل ، والعلم ليس كذلك ، لأن العلم يتبع المعلوم ، والحكمة تحكم في الأمر أن يكون هكذا ، فيثبت الترتيب في أعيان الممكنات في حال ثبوتها بحكمة الحكيم ، لأنه ما من ممكن إلا ويمكن إضافته إلى ممكن آخر لنفسه ، لكن الحكمة اقتضت بحكمها أن ترتبه كما هو ، بزمانه وحاله في حال ثبوته ، وهذا هو العلم الذي انفرد به الحق تعالى وجهل منه ، وظهر به الحكم في ترتيب أعيان الممكنات في حال ثبوتها قبل وجودها ، فتعلق بها العلم الإلهي بحسب ما رتبها الحكيم عليه ، فالحكمة أفادت الممكن ما هو عليه من الترتيب الذي يجوز خلافه ، والترتيب أعطى

١٧٨

العالم العلم بأن الأمر كذا هو ، فلا يوجد إلا بحسب ما هو عليه في الثبوت الذي هو ترتيب الحكيم عن حكم الحكمة ، فما يبدل القول لديه ، فإنه ما يقول إلا ما رتبته الحكمة ، كما أنه ما علم إلا ما رتبته الحكمة ـ الوجه الثالث ـ القول الإلهي منه ما يقبل التبديل ومنه ما لا يقبل التبديل ، وهو إذا حق القول منه ، فالقول الواجب لا يبدل ، والقول المعروض يقبل التبديل ، فقد تقدم القول من الحق لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتكثير في الصلاة وبدله بالتخفيف والتقليل ، وقال له في آخر رجعة (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) ـ الوجه الرابع ـ (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) وهو الأمر الذي لا يعصيه مخلوق ، وهو قوله (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ) هذا الأمر الذي لا يمكن للممكن المأمور به مخالفته.

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ) (٣٠)

يقول الله تعالى لجهنم (هَلِ امْتَلَأْتِ) فتقول : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ، فإذا وضع الجبار فيها قدمه قالت : قطني قطني ، وفي رواية قط قط ، أي قد امتلأت ، فقد ملأها بقدمه على ما شاء سبحانه من علم ذلك ، فيخلق الله فيها خلقا يعمرونها ، ورد في الخبر الصحيح : [إن الله لما خلق الجنة والنار قال لكل واحدة منها : لها علي ملؤها] أي أملؤها سكانا ، إذ كان عمارة الدار بساكنها ، والنار موجودة من العظمة ، والجنة موجودة من الكرم ، فلهذا اختص اسم الجبار بالقدم للنار وأضافه إليه ، لأن هذا الاسم للعظمة ، وقدم الجبار ليست إلا غضب الله ، فإذا وضعه فيها امتلأت ، فإن المخلوق الذي من حقيقته أن يفني لا يملؤه مخلوق ، فإنه كل ما حصل منه فيه أفناه ، فلا يملأ مخلوقا إلا الحق ، وغضب الله حق ، فأنعم به على جهنم فوضعه فيها فامتلأت بحق.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) (٣٥)

١٧٩

الوفاء من الحق وفاء وجوب واستحقاق ، وزيادة لزيادة ، وزيادة لا لزيادة ، وهي الزيادة المذكورة في القرآن.

(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ ٣٦ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (٣٧)

(إِنَّ فِي ذلِكَ) يشير إلى العلم بالله من حيث المشاهدة (لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) يتقلب فيفهم قول الله ، ويعقل به عن الله ، ولم يقل تعالى غير ذلك ، فإن القلب معلوم بالتقليب في الأحوال دائما ، فهو لا يبقى على حالة واحدة ، وكذلك التجليات الإلهية ، فمن لم يشهد التجليات بقلبه ينكرها ، فإن العقل يقيده ، وغيره من القوى ، إلا القلب فإنه لا يتقيد ، وهو سريع التقلب في كل حال ، ولذا قال الشارع : [إن القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء] فهو يتقلب بتقلب التجليات ، والعقل ليس كذلك ، فإن العقل تقييد من العقال ، فالقلب هو القوة التي وراء طور العقل ، فلو أراد الحق في هذه الآية بالقلب أنه العقل ما قال لمن كان له قلب ، فإن كل إنسان له عقل ، وما كل إنسان يعطى هذه القوة التي وراء طور العقل ، المسماة قلبا في هذه الآية ، فلا معنى للحس ههنا ، فإن استفاضة النور من عين البصيرة على ساحة القلب كانعكاس الشعاع من العين على المبصرات ، فينظر إلى عجائب الملكوت ، وتتصل الأنوار وتنفتح عند ذلك العين الثانية في القلب ، وهو عين اليقين ، فإن لله في القلب عينين ، عين بصيرة وهو علم اليقين ، والعين الأخرى عين اليقين ، فعين البصيرة تنظر بالنور الذي يهدي به ، وعين اليقين تنظر بالنور الذي يهدي إليه ، قال تعالى : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) وهو نور اليقين ، وقال في النور الآخر : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) فإذا اتصل النور الذي يهدي به بالنور الذي يهدي إليه عاين الإنسان ملكوت السموات والأرض ، فلا تكون معرفة الحق من الحق إلا بالقلب لا بالعقل ، ثم يقبلها العقل من القلب ، فإن القلب له التقليب من حال إلى حال ، وبه سمي قلبا ، فمن فسر القلب بالعقل فلا معرفة له بالحقائق ، فالحق تعالى هو المقيد بما قيد به نفسه من صفات الجلال ، وهو المطلق بما سمى به نفسه من أسماء الكمال ، وهو الواحد الحق ،

١٨٠