الاعتقادات بنظرها وأدلتها ، فهي ستور عليها ، لذلك تبصر الشخص ولا تبصر ما اعتقده إلا أن يرفع لك الستر بستر آخر ، وهو العبارة عن معتقده في ربه ، فالعبارة وإن دلتك عليه فهي ستر بالنظر إلى عين ما تدل عليه ، فإن الذي تدل عليه ما ظهر لعينك ، ولذلك فإن الأسماء الإلهية وإن دلت على ذات المسمى ، فهي أعيان الستور عليها ، والأسماء اللفظية الكائنة في ألسنة الناطقين والأسماء الرقمية في أقلام الكاتبين فإنها ستور على الأسماء الإلهية ، من حيث أن الحق متكلم لنفسه بأسمائه ، فتكون هذه الأسماء اللفظية والمرقومة التي عندنا أسماء تلك الأسماء وستورا عليها ، فإنا لا ندرك لتلك الأسماء كيفية ، ولو أدركنا كيفيتها شهودا لارتفعت الستور ، وهي لا ترفع ، فالستور وإن كانت دلائل فهي دلائل إجمالية ، فالعالم بل الوجود كله ستر ومستور وساتر ، فنحن في غيبه مستورون ، وهو ستر علينا ، فالوجود هو الستر العام ، فهو واسع المغفرة ، وهي حضرة إسبال الستور ، وختم تعالى بقوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) والستر وقاية ، والغفران هو الستر ، فالعبد يتقي بالستر.
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (٣٤) أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٣٧)
وفّى بما رأى من ذبح ابنه.
(أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (٣٨)
فإن الدار الآخرة دار تمييز فلا تصيب العقوبة إلا أهلها.
(وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (٣٩)
جعل الله الإنسان لا يسعى إلا لنفسه ، ولهذا قرن بسعيه الأجر حتى يسعى لنفسه ، بخلاف من لا أجر له من العالم الأعلى والأسفل ، وليس بعد الرسل ومرتبتهم في العلم بالله مرتبة ، فهم المطرقون والمنبهون ، ومع هذا فما منهم من رسول إلا قال : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فما هو من سعي الإنسان فهو له عند الله بطريق الإيجاب الإلهي الذي أوجبه على
نفسه ، وأما ما عمل عنه غيره بحكم النيابة مما لم يؤذن فيه المّيت ولا أوصى به ولا له فيه تعمل ، فإن الله يعطيه ذلك المقام إذا وهبه إياه غيره ، فيأخذه الميت لا من طريق الوجوب الإلهي لكن يجب عليه أخذه ولابد ، فإنه أتاه من غير مسئلة.
(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى (٤١) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) (٤٢)
يريد المنتهى بظهورنا ، أي لا يزال وجه العالم أبدا إلى الاسم الأول الذي أوجده ناظرا ، ولا يزال ظهر العالم إلى الاسم الآخر المحيط الذي ينتهي إليه بورائه ناظرا ، والله هو الوجود المحض ، محيط بنا وإليه ننتهي ، فيحول وجوده وإحاطته بيننا وبين العدم ، فالمآل إلى الرحمة العامة ـ إشارة ـ لا يحجبنّك قوله تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) فتقول : ليس هو معي في البداية ، بل هو معك في البداية وفي طريقك إليه وإليه نهايتك ، لكن تختلف أفعاله فيك ، وهي اختلاف أحوالك ، ففي البداية يسويك ، وفي الطريق يهديك ، وفي الغاية يملك ويخلع عليك خلعة الخلافة ، فلما كان المنتهى المطلب أظهر الاسم في المنتهى ، ولذلك قال : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى).
(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) (٤٣)
من الناس من وفقهم الله لوجود أفراح العباد على أيديهم ، أول درجة من ذلك من يضحك الناس بما يرضي الله ، أو بما لا رضا فيه ولا سخط وهو المباح ، فإن ذلك نعت إلهي لا يشعر به ، بل الجاهل يهزأ به ولا يقوم عنده هذا الذي يضحك الناس وزن ، وهو المسمى في العرف مسخرة ، وأين هو هذا الجاهل بقدر هذا الشخص من قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) ولا سيما وقد قيدناه بما يرضي الله أو بما لا رضا فيه ولا سخط ، فعبد الله المراقب أحواله وآثار الحق في الوجود يعظم في عينه هذا المسمى مسخرة ، وكان لرسول الله صلىاللهعليهوسلم نعيمان يضحكه ليشاهد هذا الوصف الإلهي في مادة ، فكان أعلم بما يرى ، ولم يكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ممن يسخر به ولا يعتقد فيه السخرية ، وحاشاه من ذلك صلىاللهعليهوسلم ،
بل كان يشهده مجلى إلهيا ، يعلم ذلك منه العلماء بالله ، ومن هذه الحضرة كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يمازح العجوز والصغير ، يباسطهم بذلك ويفرّحهم.
(وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) (٤٤)
ـ إشارة ـ الأرض عاد بخارها عليها ، وتحلل شوقا فنزل إليها ، والأمطار دموع العشاق ، من شدة الأشواق لألم الفراق ، فلما تلاقى أضحك بأزهاره ، جزاء بكاء وابل مدراره ، فأمات وأحيا من أضحك وأبكى.
(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (٤٥) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى) (٤٨)
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [ليس الغنى عن كثرة العرض ، لكن الغنى غنى النفس] ترى التاجر عنده من المال ما يفي بعمره وعمر ألزامه لو عاش إلى انقضاء الدنيا ، وما عنده في نفسه من الغنى شيء ، بل هو من الفقر إلى غاية الحاجة ، بحيث أن يرد بماله موارد الهلاك في طلب سد الخلة التي في نفسه ، عسى يستغني ، فما يستغني ، بل لا يزال في طلب الغنى الذي هو غنى النفس ولا يشعر. واعلم أن أول درجة الغنى القناعة والاكتفاء بالموجود ، فلا غنى إلا غنى النفس ، ولا غنّي إلا من أعطاه الله غنى النفس ، فليس الغنى ما تراه من كثرة المال مع وجود طلب الزيادة من رب المال ، فالفقر حاكم عليه.
(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى) (٤٩)
كانت العرب تعبد كوكبا في السماء يسمى الشعرى ، سنّة لهم أبو كبشة ، وتعتقد فيها أنها رب الأرباب ، لذلك قال تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) وأبو كبشة هذا الذي كان شرع عبادة الشعرى هو من أجداد رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأمه ، ولذلك كانت العرب تنسب رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليه ، فتقول : ما فعل ابن أبي كبشة؟ حيث أحدث عبادة إله واحد كما أحدث جده عبادة الشعرى.
(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى) (٥٠)
عاد الأولى هم قوم هود عليهالسلام ، وثمود قوم صالح عليهالسلام ، وفي رواية أنهم قوم إدريس عليهالسلام ، وما طلب منهم إلا أن يقولوا : لا إله إلا الله.
(وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) (٥٣)
وهو أن جبريل عليهالسلام اقتلع أرض قوم لوط من سبع أرضين ، فحملها حتى بلغ بها إلى سماء الدنيا ، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم وأصوات ديكهم ، ثم قلبها وأرسل على الشرار منهم حجارة من سجيل.
(فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى (٥٥) هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى (٥٦) أَزِفَتْ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) (٥٩)
(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) يعني من القرآن ، فيما وعظهم به منهم وتوعدهم ووعدهم (تَعْجَبُونَ) تكثرون العجب ، كيف جاء به مثل هذا؟ وما أنزل على عظمائكم كما قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).
(وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ) (٦٠)
(وَتَضْحَكُونَ) أي تهزؤون منه إذا أتى به ، لأنهم لا يعرفون الحق إلا بالرجال (وَلا تَبْكُونَ) فإن في القرآن ما يبكي من الوعيد ، وما يضحك ويتعجب فيه من الفرح باتساع رحمة الله ولطفه بعباده ، وفي القرآن من الوعيد والمخاوف ما يبكي بدل الدموع دما لمن دبر آياته.
(وَأَنتُمْ سَامِدُونَ) (٦١)
لاهون وفي القرآن هذا كله!! ـ سامد لغة حميرية يقولون : اسمد لنا أي غن لنا ، في وقت حصادهم لينشطوا للعمل ، وكانت العرب إذا سمعت القرآن غنت حتى لا تسمع القرآن ، وكانوا يقولون ما أخبر الله عنهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فما لكم عنه معرضون وموطن الدنيا موطن حذر؟ ولا سيما والموت فيكم رائح وغاد مع الأنفاس ، ولا تتفكرون إلى أين تصيرون؟ وإلى أين تسافرون؟ وأين تحطون؟ فإن كنتم أهل غناء فتغنوا بالقرآن ، فهو أولى بكم ورد في الخبر : [ما أذن الله لنبي كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن] يقول : ما استمع كاستماعه ، وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [ليس منا من لم يتغن بالقرآن] فجعل التغني به من السنة.
(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٦٢)
فأمر بالسجود والذلة والمسكنة ، وهذه السجدة فيها خلاف ، وهي سجدة الطرب واللهو ، تنبيه للغافلين عن الله.
(٥٤) سورة القمر مكيّة
بسم الله الرحمن الرحيم
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١)
ورد في الخبر عن الصاحب أن القمر انشق على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند سؤال طائفة من العرب أن يكون لهم آية على صدقه ، فانشق ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : اشهدوا. وقال تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) فلا يدرى هل أراد الانشقاق الذي وقع فيه السؤال؟ وهو الظاهر من الآية فإنه أعقب الانشقاق بقوله :
(وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ) (٢)
وكذا وقع القول منهم لما رأوا ذلك ، ولهذا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم للحاضرين : [اشهدوا] لوقوع ما سألوا وقوعه ، وما لهم إلا ما ظهر ، وهل هو ذلك الواقع في نفس الأمر أو في نظر الناظر؟ هذا لا يلزم ، فإنه لا يرتفع الاحتمال إلا بقول المخبر إذا أخبر أنه في نفس الأمر كما ظهر في العين ، وقول المخبر هو محل النزاع ، وما اشترطوا في سؤالهم أن لا يظهر منهم ما ظهر منهم من الإعراض عند وقوع ما سألوا وقوعه ، فلم يلزم النبي صلىاللهعليهوسلم أكثر مما وقع فيه من السؤال ، ثم جاء الناس من الآفاق يخبرون بانشقاق القمر في تلك الليلة ، ولهذا قال الله تعالى عنهم : إنهم قالوا فيه (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) فقال الله :
(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ) (٣)
وكان ذلك الأمر ما كان.
(وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ٥ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ (٦) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ٧ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨)
(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) وهو الله تعالى (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ).
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ) (١٤)
(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي بحيث نراها ، يشير الحق بذلك إلى أنه يحفظها ، لأن المحفوظ لا يختفي عنه ، وقال تعالى : (بِأَعْيُنِنا) فكثر دلالة على أنها تجري في حفظ الله من حفظ إلى حفظ ، ووصف الحق نفسه بالأعين لأن مدبر السفينة يحفظها ، والمقدم يحفظها ، وصاحب الرجل يحفظها ، وكل من له تدبير في السفينة يحفظها ، بل يحفظ ما يخصه من التدبير ، فقال تعالى فيها : إنها تجري بأعين الحق ، وما ثمّ إلا هؤلاء ، وهم الذين وكّلهم الله بحفظها ، فكل حافظ في العالم أمرا ما فهو عين الحق ، إذ الحفظ لا يكون إلا ممن لا يغالب على محفوظه ولا يقاوى على حفظه ، والحق تعالى مع بعض عباده بالولاية والعناية والكلاءة والرعاية ، فله تعالى عين في كل أين ، ولذلك قال : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) فجمع ، والقول الحق إذا جاء صدع ، فكل مدبر عينه ، وكل عامل يده وكونه.
(وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ (١٩) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ (٢٨) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (٤٩)
كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس ، فكل شيء بقضائه أي بحكمه ، وقدره أي وزنه ، وهو تعيين وقت ، حالا كان وقته أو زمانا أو صفة أو ما كان ، فالقضاء الذي له المضي في الأمور هو الحكم الإلهي على الأشياء بكذا ، وهو مجمل ، والمقضي به تفصيل ذلك المجمل وهو القدر ، لأن القدر توقيت الحكم ، فالقدر ما يقع بوجوده في موجود معين المصلحة المتعدية منه إلى غير ذلك الموجود ، فالقضاء في أم الكتاب ، ويطلبه حكم الإمام المبين الذي فيه ما يتكون عن المكلفين خاصة وهو القدر ، وكلا الكتابين محصور لأنه موجود ، وعلم الله في الأشياء لا يحصره كتاب مرقوم ، فالقضاء يحكم على القدر ، والقدر
لا حكم له في القضاء ، بل حكمه في المقدّر لا غير بحكم القضاء ، فالقاضي حاكم والمقدار مؤقت ، فالقدر التوقيت في الأشياء ، فما أنزل الله شيئا إلا بقدر معلوم ، ولا خلق شيئا إلا بقدر ، وبالقدر تقوم الحجة لله في عباده ، فكل شيء بقضاء وقدر أي بحكم مؤقت ، فمن حيث التوقيت المطلق يجب الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره ، ومن حيث التعيين يجب الإيمان به لا الرضا ببعضه ، فإن الله تعالى أمرنا بالرضا قبل القضاء مطلقا ، فعلمنا أنه يريد الإجمال ، فإذا فصّله حال المقضي عليه بالمقضي به انقسم إلى ما يجوز الرضا به وإلى ما لا يجوز ، وعلم القدر طوي عن كل ما سوى الله ، فإن القدر نسبة مجهولة خاصة ، وهو مرتبة بين الذات وبين الحق من حيث ظهوره ، فلا يعلم أصلا وعز عن العلم به أو تصوره ، فلا ينال أبدا ، وقد كان العزير رسول الله عليهالسلام كثير السؤال عن القدر إلى أن قال له الحق : يا عزير لئن سألت عنه لأمحون اسمك من ديوان النبوة ، فإن من علم الله علم القدر ، ومن جهل الله جهل القدر ، والله سبحانه مجهول ، فالقدر مجهول ، وسبب طي علم القدر ، سبب ذاتي ، حتى لا يشارك الحق في علم حقائق الأشياء من طريق الإحاطة بها ، إذ لو علم أي معلوم كان بطريق الإحاطة من جميع وجوهه كما يعلمه الحق لما تميز علم الحق عن علم العبد بذلك الشيء ، فالعبد جاهل بكيفية تعلق العلم مطلقا بمعلومه ، فلا يصح أن يقع الاشتراك مع الحق في العلم بمعلوم ما ، ومن المعلومات العلم بالعلم ، وما من وجه من المعلومات إلا وللقدر فيه حكم لا يعلمه إلا الله ، فلو علم القدر علمت أحكامه ، ولو علمت أحكامه لاستقل العبد في العلم بكل شيء ، وما احتاج إلى الحق في شيء ، وكان الغنى له على الإطلاق ، لذلك طواه الله عن عباده ، ومن الأسباب التي لأجلها طواه عن الإنسان كون ذات الإنسان تقتضي البوح به ، لأنه أسنى ما يمدح به الإنسان ولا سيما الرسل ، فحاجتهم إليه آكد من جميع الناس ، لأن مقام الرسالة يقتضي ذلك ، وما ثمّ علم ولا آية أقرب للدلالة على صدقهم من مثل هذا العلم ، والرسالة تعطي الرغبة في هداية الخلق أجمعين ، ولا طريق للهداية أوضح من هذا الفن ، فالذي كانوا يلقونه من الكتم من الألم والعذاب في أنفسهم لا يقدر قدره ، لأن الغيرة الإلهية اقتضت طي هذا العلم عمن لا ينبغي أن يظهر عليه ، فخفف الله عن الرسل مثل هذا الألم فطوى هذا العلم عنهم ، فإن النشأة العنصرية تقتضي عدم الكتم فيما ينبغي أن تمدح به.
(وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٥٠)
الأمر الإلهي كلمة واحدة كلمح بالبصر ، وليس في التشبيه الحسي أعظم ولا أحق تشبيها به من اللمح بالبصر ، فإن البصر لا شيء أسرع منه ، فإن زمان لمحة العين ـ أي زمان التحاظه ـ عين زمان تعلقه بالملموح ، ولو كان في البعد ما كان ، فهو زمان التحاقه بغاية ما يمكن أن ينتهي إليه في التعلق ، وأبعد الأشياء في الحس الكواكب الثابتة التي في فلك المنازل ، وعندما تنظر إليها يتعلق اللمح بها ، فهذه سرعة الحس ، فما ظنك بالمعاني المجردة عن التقييد في سرعة نفوذها؟ فإن للسرعة حكما في الأشياء لا يكون لغير السرعة ، ومن هنا يعرف قول الحق للشيء ؛ كن فيكون ؛ فحال كن الإلهية حال المكون المخلوق (وَما أَمْرُنا) وهو قوله : كن (إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) ومن أراد أن يعرف ذلك في صورة نشء العالم وظهوره ، وسرعة نفوذ الأمر الإلهي فيه وما أدركت الأبصار والبصائر منه ، فلينظر إلى ما يحدث في الهواء من سرعة الحركة بجرة النار في يد المحرك لها ، إذا أدارها ، فتحدث في عين الرائي دائرة أو خطا مستطيلا إن أخذ بالحركة طولا أو أي شكل شاء ، ولا تشك أنك أبصرت دائرة نار ولا تشك أن ما ثمّ دائرة ، وإنما أنشأ ذلك في نظرك سرعة الحركة ، فالدائرة مثل عين الصورة المخلوقة الظاهرة لإدراك العين عن قوله : كن ، فتحكم من حيث نظرك ببصرك وبصيرتك وفكرك أنه خلق وبعلمك وكشفك أنه حق مخلوق به ، واعلم أن الكيفيات لا تنقال ، ولكن تقال بضرب من التشبيه ، فإن أمره واحدة أي كلمة واحدة مثل لمح بالبصر ، فإن اللمحة الواحدة من البصر تعمّ من أحكام المرئيات من حيث الرائي إلى الفلك الأطلس جميع ما يحوي عليه في تلك اللمحة من الذوات والأعراض القائمة بها من الأكوان والألوان ، وشبّه الإمضاء بلمح البصر ، وسبب ذلك أن الذي يصدر منه الأمر لا يتقيد ، فهو في كل مأمور بحيث أمر ، فينفذ الأمر بحكمه دفعة واحدة.
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (٥٣)
(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) في اللوح المحفوظ ، وهو القضاء والقدر ، فما فيه إلا ما يقع ، ولا ينفذ الملائكة الولاة في العالم إلا ما فيه ، وما من حدث يحدث الله في العالم إلا وقد وكل الله بإجرائه ملائكة.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) (٥٤)
أي في ستر وسعة ـ إشارة ـ في ستور علوم جارية واسعة ، كلما قلت : هذا ؛ جاء غيره ، لأن النهر جار على الدوام بالأمثال.
(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) (٥٥)
(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) في حضرة منيعة ، وما أقعدهم ذلك المقعد إلا صدقهم (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) فإن الاقتدار يناسب الصدق ، فإن معناه القوي ، يقال : رمح صدق ، أي صلب قوي ، ولما كانت القوة صفة هذا الصادق ، حيث قوي على نفسه فلم يتزين بما ليس له ، والتزم الحق في أقواله وأحواله وأفعاله وصدق فيها ، أقعده الحق عند مليك مقتدر ، أي أطلعه على القوة الإلهية التي أعطته القوة في صدقه الذي كان عليه ، فإن الملك هو الشديد أيضا ، فهو مناسب للمقتدر ، يقال : ملكت العجين إذا شددت عجنه ، فالمتقي ما نال مقعد الصدق إلا من كونه محقا ، لأنه صادق في تقواه (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) عند ملك ماضي الكلمة في ملكه ، لأنهم كل ما همّوا به انفعل لهم ، وحكم الاقتدار ما هو حكم القادر ، فالاقتدار حكم القادر في ظهور الأشياء بأيدي الأسباب ، والأسباب هي المتصفة بكسب القدرة ، فهو تعالى المقتدر على كل ما يوجده عند سبب أو بسبب ، كيف شئت قل ، فما أوجده على أيدي الأسباب هو قوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) وليست سوى الأسباب ـ اعتبار ـ
اعترضت لي عقبة |
|
وسط الطريق في السفر |
فأسفرت عن محن |
|
فيمن طغى أو من كفر |
من دونها جهنم |
|
ذات زفير وسعر |
ترمي من الغيظ وجو |
|
ه المجرمين بشرر |
بحورها قد سجرت |
|
وسقفها قد انفطر |
(٥٥) سورة الرحمن مدنيّة بسم الله الرحمن الرحيم (الرَّحْمَنُ) (١) مبالغة في الرحمة العامة التي تعم الكون أجمعه. (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (٢) |