رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

بالتقوى؟ أو يتصف بالتقوى من حيث أنه أخذ الجن والإنس وقاية يتقي بها نسبة الصفات المذمومة عرفا وشرعا إليه ، فتنسب إلى الجن والإنس ، وهما الوقاية التي اتقى بها هذه النسبة ، فهو ولي المتقين من كونه متقيا ، وإذا كان وليهم ـ وما ثمّ إلا متق ـ فهي بشرى من الله للكل بعموم الرحمة ، والنصرة على الغضب ، لأنه الولي الناصر ، لذلك قال تعالى :

(هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ (٢٠) أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) (٢١)

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) فإنهم وإن عمتهم الرحمة لا يستوون فيها (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء من يحكم بذلك.

(وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (٢٣)

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) ليس الهوى سوى إرادة العبد إذا خالفت الميزان المشروع الذي وضعه الله له في الدنيا ، فلو لا الهوى ما عبد الله في غيره ، وإن الهوى أعظم إله متخذ عبد ، فإنه لنفسه حكم ، وهو الواضع كل ما عبد ، فلو لا قوة سلطانه في الإنسان ، ما أثّر مثل هذا الأثر فيمن هو على علم بأنه ليس بإله ، ولما كان الإله له القوة في المألوه ، وإله هذا هواه ، حكم عليه وأضله عن سبيل الله ، واعلم أن الآلهة المتخذة من دون الله آلهة طائفتان : منها من ادعت ما ادعي فيها ، مع علمهم في أنفسهم أنهم ليسوا كما ادعوا ، وإنما أحبوا الرياسة وقصدوا إضلال العباد ، كفرعون وأمثاله وهم في الشقاء إلا إن تابوا ، وأما

١٢١

الطائفة الأخرى فادعيت فيها الألوهة ولم تدعها لنفسها ، كالأحجار والنبات والحيوان وبعض الأناسي والأملاك والكواكب والأنوار والجن ، وجميع من عبد واتخذ إلها من غير دعوى منه ، فهؤلاء كلهم سعداء ، والذين اتخذوهم إذا ماتوا على ذلك أشقياء ، فإنه لما اتخذ هذا المشرك هواه إلها حكم عليه وأضله عن سبيل الله ، وأما قوله : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) ـ الوجه الأول ـ يعني من أنه أضله الله على علم ، لا أن الضال على علم ، فإن الضال هو الحائر الذي لا يعرف في أي جهة مطلوبه ، فمتعلق (عَلى عِلْمٍ) أضله ، وهو العامل فيه ، وهو فعل الله تعالى ـ الوجه الثاني ـ (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) هو التارك ما أمره الله به عمدا ، مثل من يقول إن الحركات والسكنات كلها بيد الله ، وما جعل في نفسي أداء ما أمرني بأدائه ، فهو على بصيرة تشقيه وتحول بينه وبين سعادته ، فتضره في الآخرة وإن التذ بها في الدنيا ، فهي مجاهرة بحق لا تنفع ، ولو كان عن ذوق ، منعته هيبة الجلال وعظيم المقام وسلطان الحال أن يترك أداء حق الله على صحو ، فمثل هذا العلم لا ينفع ـ الوجه الثالث ـ هذه الآية تدل على أن نور العلم غير نور الإيمان ، فقوله تعالى : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) فذلك نور العلم به لا نور الإيمان.

(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢٤)

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) أي نحيا فيها ثم نموت ، فجهلوا في قولهم هذا ، ثم قالوا (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) فصدقوا ، فإن الدهر هو الله ، وجهلوا في اعتقادهم ، لأنهم ما أرادوا إلا الزمان بقولهم الدهر ، فأصابوا في إطلاق الاسم وأخطأوا في المعنى ، وهم ما أرادوا إلا المهلك ، فوافقوا الاسم المشروع ، ولم يقولوا الزمان ، أو ربما لو قالوا الزمان لسمى الله نفسه بالزمان كما سمى نفسه بالدهر ، فإنه قد ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [لا تسبوا الدهر فإنه الله هو الدهر] فجعل الدهر هوية الله ، وما أوحى الله بذلك إلى نبيه ولا جاء به سدى ، بل جاء به رحمة لعباده ، فإن الدهر عند القائلين به ما هو محسوس عندهم ، وإنما هو أمر متوهم ، صورته في العالم وجود الليل والنهار ، عن حركة كوكب

١٢٢

الشمس في فلكها ، فلم يصح مع هذا شرك عام ولا تعطيل عام ، وإنما هو أسماء سموها ، أطلقوها على أعيان محسوسة وموهومة عن غير أمر الله ، فأخذوا بعدم التوقيف ، والدهر عبارة عما لا يتناهى وجوده عند هذا الاسم ، أطلقوه على ما أطلقوه ، فالدهر حقيقة معقولة لكل داهر ، وهو قولهم : لا أفعل ذلك دهر الداهرين ، وهو عين أبد الآبدين ، فللدهر الأزل والأبد ، أي له هذان الحكمان ، لكن معقولية حكمه عند الأكثر في الأبد ، فإنهم أتبعوه الأبد ، فلذلك يقول القائل : دهر الداهرين ، وقد يقول : أبد الآبدين ، فلا يعرفونه إلا بطرف الأبد لا بطرف الأزل ، ومن جعله الله فله حكم الأزل والأبد ، وما ثمّ إن عقلت ما يعقل بالوهم ولا يعقل بالعقل ، ولا بالحس إلا الوجود الحق ، الذي نستند إليه في وجودنا ، فلهذه النسبة تسمى لنا بالدهر ، حتى لا يكون الحكم إلا له ، لما يتوهم من حكم الزمان ، إذ لا حاكم إلا الله ، وما تسمى بالطبيعة لأن الطبيعة ليست بغير لمن وجد عنها عينا ، فهي عين كل موجود طبيعي ، وبهذا يخالف حكم الدهر حكم الطبيعة ، فإن الدهر ما هو عين الكوائن والطبيعة عين الكوائن الطبيعية ، فتسمى تعالى بالدهر تنزيها وما تسمى بالطبيعة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سمع من يسب الدهر لكونه لم يعطه أغراضه : [لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر] لأنه المانع وجود ما لكم في وجوده غرض ، ولهذا سمي المانع ، فليس في أمان ولا من أهل الإيمان ، من اعتقد أن الدهر الذي ذكره الشرع هو الزمان.

(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٨)

كل أمة تدعى إلى كتابها لتقرأه حيث هو ، فاجعل كتابك في عليين.

١٢٣

(هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩)

فنسب النطق إلى الكتاب ، وقبلنا ذلك بالإيمان ، فإنه مما لا ينسب إليه الكلام في العرف.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (٣١) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (٣٤) ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٣٦)

أي لله الثناء التام بما هو له ومنه ، فلا حامد ولا محمود إلا هو ، وله عواقب كل مثن في العالم وكل مثنى عليه ، ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول في قيامه من الركوع : [اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد] (رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ) أي العالم العلوي والسفلي وما بينهما (رَبِّ الْعالَمِينَ) كل ما سوى الله تعالى ، وهو رب العالمين من حيث ثبوته في ربوبيته بما يستحقه الرب من النعوت المقدسة ، وهو سيد العالم ومربيهم ومغذيهم ومصلحهم ، ولما كان الحمد العاقب فعواقب الثناء ترجع إلى الله.

١٢٤

(وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧)

اعلم أن العالم محصور في علو وسفل ، والعلو والسفل له أمر إضافي نسبي ، فالعالي منه يسمى سماء والأسفل منه يسمى أرضا ، ولا يكون له هاتان النسبتان إلا بأمر وسط يكون بينهما ، ويكون ذلك الأمر في نفسه ذا جهات ، فما أظلّه فهو سماء ، وما أقله فهو أرض له ، وإن شئت قلت في الملأ الأعلى والملأ الأسفل : إنه كل ما تكون من الطبيعة فهو الملأ الأسفل ، وكل ما تولد من النور فهو الملأ الأعلى ، وأكمل العالم من جمع بينهما ، وهو البرزخ الذي بجهاته ميزهما ، أو بجمعيته ميزهما بالعلو والسفل ، والحق تعالى بالنظر إلى نفسه لا يتصف بشيء مما يتصف به وجود العالم ، فإن الله لما نسب الكبرياء الذي له ما جعل محله إلا السموات والأرض ، فقال : (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما قال في نفسه ، فالمحل هو الموصوف بالكبرياء الذي لله ، فالعالم إذا نظر إلى نفسه صغيرا ، ورأى موجده منزها عما يليق به ، سمى ربه كبيرا وذا كبرياء ، لما كبر عنده بما له فيه من التأثير والقهر ، فلو لم يكن العالم مؤثرا فيه لله تعالى ما علم أنه صغير ، ولا أن ربه كبير ، وأمثال ذلك من الصفات ، لما رأى العبد أنه قامت به الحاجة والفقر إلى غيره ، احتاج أن يعتقد ويعلم أن الذي استند إليه في فقره له الغنى ، فهو الغني سبحانه في نفس عبده ، وهو بالنظر إلى ذاته معرى عن النظر إلى العالم لا يتصف بالغنى ، لأنه ما ثمّ عن من ، وكذلك إذا نظر العبد إلى ذله ، علم أنه لا يذل لنفسه ، وإنما يذل تحت سلطان غيره ، فسماه عزيزا ، لأنه عزّ الحق في نفس هذا العبد لذله ، فالعبد هو محل الكبرياء والغنى والعظمة والعزة التي لله ، فوصف العبد ربه بما قام به ، فأوجب المعنى حكمه لغير من قام به ، فالحق منزه عن قيام الكبرياء به بحيث أن يكون محلا له ، بل الكبرياء محله الذي عينه الحق له ، وهو السموات والأرض (وَهُوَ) أي هوية الحق (الْعَزِيزُ) أي المنيع لذاته أن تكون محلا لما هي السموات والأرض له محل ، وليس إلا الكبرياء ، فما كبر إلا في نفس العالم ، وهو أجل من أن يقوم به أمر ليس هو ، بل هو الواحد من جميع الوجوه (الْحَكِيمُ) بما رتبه في الخلق ، ومن جملة ما رتبه بعلمه وحكمته أن جعل السموات والأرض محلا لكبريائه ، فكأنه يقول : وله الكبرياء الذي خلقه في نفس السموات والأرض ، حتى يكبروا إلههم به ، وكذلك وقع ،

١٢٥

فكبروه في نفوسهم ، فقالوا : إنه ذو الجلال ، أي صاحب الجلال الذي نجده في نفوسنا له ، والإكرام بنا.

(٤٦) سورة الأحقاف مكيّة

بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (٤)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ما لفظة تطلق على كل شيء ممن يعقل ومما لا يعقل ، كذا قاله سيبويه ، وهو المرجوع إليه في العلم باللسان ، فإن بعض المنتحلين لهذا الفن يقولون إن لفظة ما تختص بما لا يعقل ومن تختص بمن يعقل ، وهو قول غير محرر ، وقد رأينا في كلام العرب جمع من لا يعقل جمع من يعقل ، وإطلاق ما على من يعقل ، وإنما قلنا هذا لئلا يقال في قوله (ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) إنما أراد من لا يعقل وعيسى عليه‌السلام يعقل فلا يدخل في هذا الخطاب ، وقول سيبويه أولى (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) فلو قالوا : عيسى خلق من الأرض طيرا ، فقدم الحق لأجل هذا القول ، أن خلق عيسى للطير كان بإذن الله ، فكان خلقه له عبادة يتقرب بها إلى الله ، لأنه مأذون له في ذلك فقال : (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذني) فما أضاف خلقه إلا لإذن الله ، والمأمور عبد ، والعبد لا يكون إلها.

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ

١٢٦

وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (٦) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) (٩)

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) فنفى أن يكون الفعل له ولنا ، بل يفعل به وبنا ، فما ثمّ ثقة بشيء لجهلنا بما في علم الله فينا ، فيا لها من مصيبة (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) أي ما لي علم ولا نظر بغير ما يوحى إلي ، هذا مع غاية الصفاء المحمدي ، فمقام الوحي لا يعطى منه الإنسان إلا على قدر ما يريد الله تعالى ، وأما من جهة العلم بالله فهذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو خير البشر وأكثرهم عقلا وأصحهم فكرة وروية ، فأين الفكر في العلم بالله؟ هيهات ؛ تلف أصحاب الأفكار والقائلون باكتساب النبوة والولاية ، كيف لهم ذلك والنبوة والولاية مقامان وراء طور العقل ، ليس للعقل فيهما كسب؟ بل هما اختصاصان من الله تعالى لمن شاء (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) وهو قوله : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) فإياك أن تنزل أحدا من الله منزلة لا تعرفها ، لا بتزكية عند الله فيه ولا تجريح ، إلا أن تكون على بصيرة من الله تعالى فيه ، فإن ذلك افتراء على الله ، ولو صادفت الحق فقد أسأت الأدب ، وهذا داء عضال ؛ بل حسّن الظن به وقل : فيما أحسب وأظن هو كذا وكذا ، ولا تزكي على الله أحدا ، فهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يدري ما يفعل به ولا بنا ، بل يتبع ما يوحى إليه ، فما عرّف به من الأمور عرفها ، وما لم يعرف به من الأمور لم يعرفه وكان فيه كواحد من الناس ، فكم رجل عظيم عند الناس ويأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة.

١٢٧

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١٥)

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال تعالى : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) على أقل ما يولد من زمن الحمل ويعيش ، وهو ستة أشهر حملا وسنتان رضاعا على التمام ، وإن أتم الحمل المعتاد في الغالب وهو تسعة أشهر كانت مدة الرضاع حولين إلا ربع حول ، وهي إحدى وعشرون شهرا (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) الآية ـ حد الأربعين هو حد الزمان الذي تبعث فيه الرسل الذين هم أكمل العالم علما بالأمور الإلهية.

١٢٨

(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٢٤)

قالت عاد (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) حجبتهم العادة حين رأوا السحابة السوداء قد طلعت

١٢٩

عليهم وكانوا مقحطين ، فسروا بذلك واستبشروا ، لكون الغيث أبدا يستلزم الغمام ، فقيل لهم (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) فكان الريح هي عين الأهواء التي كانوا عليها ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأى ذلك يتغير ، ويدخل ويخرج ، فإذا نزل الغيث وعلم أنه رحمة سكن.

(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥)

ما كل كلّ في كل موضع ترد تعطي الحصر ، فإنه قد تأتي ويراد بها القصر ، مثل قوله في الريح العميم (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) وقد مرت على الأرض وما جعلتها كالرميم ، مع كونها أتت عليها ، وما جعل الحق الحكم في الأرض إليها ، فقال :

(فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) لما أهلك الله تعالى قوم هود ، بعث عليهم طيرا سودا فنقلهم إلى البحر (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) وكانت مساكنهم الشحر بين عمان وحضرموت (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ) (٢٩)

١٣٠

هكذا أخبر الحق عن الجن في سماعهم القرآن أنهم قالوا : (أَنْصِتُوا) وقال في حق الإنس آمرا (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) فإن الاسم اللطيف أورث الجن الاستتار عن أعين الناس فلا تدركهم الأبصار إلا إذا تجسدوا ، وجعل سماعهم القرآن إذا تلي عليهم أحسن من سماع الإنس.

(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ) (٣٠)

اعلم أن الأرواح والجن استماعهم لكلام الله أوثق وأحسن من الإنس للمشاركة في سرعة التنوع والتقلب من حال إلى حال ، وهو من صفات الكلام ، فهم بالصفة إليه أقرب مناسبة وأعلم بكلام الله منا ، وكذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه عن الجن لما تلا عليهم سورة الرحمن ، ألا ترى الجن لما منعوا السمع وحيل بينهم وبين السماء بالرجوم ، قالوا : ما هذا إلا لأمر حدث ، فأمر زوبعة أصحابه وغيره أن يجولوا مشارق الأرض ومغاربها ، لينظروا ما هذا الأمر الذي حدث وأحدث منعهم من الوصول إلى السماء ، فلما وصل أصحاب زوبعة إلى تهامة مروا بنخلة ، فوجدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي صلاة الفجر وهو يقرأ ، فلما سمعوا القرآن أصغوا إليه وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ؛ فلو لا معرفتهم برتبة القرآن وعظم قدره ما تفطنوا لذلك ، فولوا إلى قومهم منذرين فقالوا (يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ).

(أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) الإجابة إلى فعل ما كلفوه على حد ما كلفوه ، فإنه تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه.

(وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء

١٣١

أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (٣٢)

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) انتهى قول الجن ، وما قال الله ولا روي عن أحد من الإنس أنه قال مثل هذا القول ، ثم يقول الله تعالى : (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فضمت شريعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجن والإنس ، وعم بشريعته الإنس والجن.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) (٣٥)

أولوا العزم من الرسل هم الذين لقوا الشدائد في تمهيد السبيل ، وهم الذين أرسلوا بالسيف لكمالهم.

(٤٧) سورة محمّد مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) (٢)

١٣٢

نسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ، واسم هاشم عمرو بن عبد مناف ، واسم عبد مناف المغيرة بن قصي ، واسم قصي زيد بن كلاب بن مرة ، بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ، واسم مدركة عامر بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ـ وأمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي آمنة بنت عبد مناف بن زهرة بن كلاب ، اجتمعت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كلاب بن مرة.

(ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) (٣)

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) فالعالم يقطع عمره في نظر ما ضرب الله له من الأمثال ، ولا يستنبط مثلا من نفسه ولا سيما لله ، وما أظن يفي عمر الإنسان بتحصيل علم ما ضرب الله له من الأمثال.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (٦)

(عَرَّفَها لَهُمْ) يعني بالنفس من العرف وهي الرائحة ، أي طيّبها من أجلهم ، فلا يستنشقون منها إلا كل طيب ، ولا ينظرون منها إلا كل حسن.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (٧)

ما قال تعالى (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) إلا ولابد من وقوع هذا النصر ، وهو نصر لا عن ضعف وذل ، بل نصر الله ابتغاء القربة إليه والتحبب ، عسى يصطفي من ينصره ويدنيه ، فأعلمنا

١٣٣

الله وعرفنا بمن يؤذيه وبما يؤذيه لننتصر له وندفع عنه ذلك ، فلا أرفع ممن يدفع عن الله أذى ، فمن كان عدوا لله فهو عدو للمؤمن ، وذلك من حيث أنه تعالى المؤمن ونحن المؤمنون ، لذلك قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) فولاية العبد ربه وولاية الرب عبده في قوله (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) وبين الولايتين فرق دقيق ، فجعل تعالى نصره جزاء ، وجعل مرتبة الإنشاء إليك ، فننصره في الدنيا لينصرنا في العقبى ، وقد ينصرنا هنا رحمة منه بنا لعدم صبرنا ، وهو سبحانه الصبور مدهر الدهور ، الذي يمهل ولا يعجل ، ومع هذا طلب النصر منا في الدنيا واستعجل ، وذلك لحكمة الوفاء بالجزاء ـ إشارة ـ إن لم تنصروه يخذلكم ، وإن خذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ، فنصرته من جملة ما أخذه عليكم من عهده ، فيا أهل العهود ، أوفوا بالعقود ، ما أمركم بنصره ، إلا ولكم اشتراك في أمره ، فمن قال لا قدرة لي ويعني الاقتدار ، فقد رد الأخبار ، وكان ممن نكث ، وألحق تكليف الحق بالعبث ، لما طلب النصرة من خلقه ، وجعلها من واجب حقه ، أثبت أن له أعداء ، وأن لديه أولياء وأوداء ، فالناصر محاصر ومحاصر ، فأنت تطلبه بالنصر ، في عين ما طلبكم فيه من النصر ، فما انفرد أحد بالقوة والاقتدار ، فانظر نزول الواحد القهار.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (٨) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (١٠) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) (١١)

الكافر لا مولى له ولهذا انهزم أمام خصمه ، فإنه استترت عنه حياة الشهيد في سبيل الله ، فآمن بالموت وهو الباطل ، وكفر بالحياة وهي الحق ، فالكافرون لا مولى لهم أي لا ناصر لهم ، فإن الآخذ هو الله ولا مقاوم له سبحانه.

(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ

١٣٤

وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (١٢) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ (١٤) عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وهو الهدى.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ) (١٥)

(فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) يقال أسن الماء وأجن إذا تغير ، وهو الماء المخزون في الصهاريج ، وكل ماء مخزون يتغير بطول المكث ، وهذا وصف الطهارة (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) بعقده أو مخضه أو ترييبه (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) تعطي الطرب والالتذاذ ، فإن الخمر ليست الدار الدنيا بمحل لإباحته في شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي مات عليه ، وخص الخمر بالجنة دون الدنيا وقرن به اللذة للشاربين ، ولم يقل ذلك في غيره من المشروبات ، وذلك لأنه ما في المشروبات ما يعطي الطرب والسرور التام والابتهاج إلا شرب الخمر ، فيلتذ به شاربه وتسري اللذة في أعضائه ، وتحكم على قواه الظاهرة والباطنة ، وما في المشروبات من له سلطان وتحكم على العقل سوى الخمر ، لذلك حرمت في الدنيا لعظم شأنها وقوة سلطانها ، وهي لذة للشاربين حيث كانت ، ولهذا عزت وما هانت ، في الدنيا محرمة وفي الآخرة مكرمة ، هي ألذ أنهار الجنان ، ولها مقام الإحسان ، وعطاؤها أجزل العطا (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) واعلم أن الشرب يختلف باختلاف المشروب فإن كان الشرب

١٣٥

نوعا واحدا فإنه يختلف باختلاف أمزجة الشاربين ، وهو استعدادهم ، فمن الناس من يكون مشروبه عسلا بحسب الصورة التي يتجلى فيها العلم ، فإن هذه الأصناف صور علوم مختلفة ، ودليلنا على ما قلناه إنها علوم ، رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه قال : [أريت كأني أوتيت بقدح لبن فشربت منه ، حتى رأيت الري يخرج من أظفاري ، ثم أعطيت فضلي عمر ، قالوا : فما أولته يا رسول الله؟ قال : العلم] فهذا علم تجلى في صورة لبن ، كذلك تتجلى العلوم في صور المشروبات ، ولما كانت الجنة دار الرؤية والتجلي ، وما ذكر الله فيها سوى أربعة أنهار : أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، علمنا قطعا أن التجلي العلمي لا يقع إلا في أربع صور : ماء ولبن وخمر وعسل ، ولكل تجل صنف مخصوص من الناس ، وأحوال مخصوصة في الشخص الواحد ، فنهر الماء الذي غير آسن أي غير متغير يعطي علم الحياة قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) وكذلك هذا العلم الذي يعطيه هذا الماء تحيا به القلوب ، ونهر الخمر هو علم الأحوال ، وهو صورة للعلم الإلهي الذوقي الذي تمجه العقول من جهة أفكارها ، ولا يقبله إلا الإيمان ، فأنهار الخمر تعطي معارف عنها السرور والابتهاج والفرح وإزالة الغموم ، والتجريد من الكم والكيف والهياكل الظلمانية ، والتنزه عن ملاحظة الأكوان الجسمية والجسمانية ، فهو سرور بالعلم بالكمال ، ونهر العسل هو علم الوحي على ضروبه ، ونهر اللبن هو علم الأسرار والفطرة واللب الذي تنتجه الرياضات والمجاهدات والتقوى ، فيحصل للإنسان من العلوم في كل جنة من جنات الاختصاص والإرث والعمل بحسب حقيقة تلك الجنة ، وبحسب مأخذ النشآت منه ، فإنها تختلف مآخذها وتختلف العلوم وتختلف الجنات ، فتختلف الأذواق.

(وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ) (١٦)

الطبع النقش الذي يكون في الختم ، والختم هو القفل.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧)

١٣٦

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) يعني بهداهم الذي كان لهم (زادَهُمْ هُدىً) وهو الهدى الذي باعه الكفار منهم ، قال تعالى في الكفار : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) فكان للمؤمنين نورا على نور ، وكان للكافرين ظلمات بعضها فوق بعض.

(فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (١٩)

كل علم يوصلك إلى حيث متعلقه ، والشغف من العالم بالمتعلق لا بالعلم ، ولهذا العلم بالذات الإلهية لا يصح أصلا ، لأنه لا يوصلك إليها لعزتها ، وإنما تصل إليها على قدرك في علمك بها ، فالتوحيد هو المطلوب من كل موجود ، ونهانا الشارع أن نتفكر في ذات الله ، إذ من ليس كمثله شيء ، كيف يوصل إلى معرفة ذاته؟ وما منعنا من الكلام في توحيد الله ، بل أمر بذلك فقال آمرا بالعلم بتوحيده (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وهي المعرفة الواجبة بتوحيد الله في ألوهيته ، وذلك بأن نعلم أن النفي ورد على أعيان المخلوقات لما وصفت بالألوهية ونسبت إليها وقيل فيها آلهة ، ولهذا تعجب من تعجب من المشركين لما دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الله الواحد ، فأخبر الله عنهم أنهم قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) فسموها آلهة ، وهي ليست بهذه الصفة ، فورد حكم النفي على هذه النسبة الثابتة عندهم إليها ، لا في نفس الأمر ، لا على نفي الألوهية ، فكأنه يقول للمشرك : هذا القول الذي قلت لا يصح ، أي ما هو الأمر كما زعمت ، ولابد من إله ، وقد انتفت الكثرة من الآلهة بحرف الإيجاب الذي هو قوله (إِلَّا) وأوجبوا هذه النسبة إلى المذكور بعد حرف الإيجاب وهو مسمى (اللهُ) فقالوا : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فلم تثبت نسبة الألوهة لله بإثبات المثبت ، لأنه سبحانه إله لنفسه ، فأثبت المثبت بقوله (إِلَّا اللهُ) هذا الأمر في نفس من لم يكن يعتقد انفراده سبحانه بهذا الوصف ، ومن جهة أخرى فقوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) يقول اعلم من إخباري الموافق لنظرك ليصح لك الإيمان علما ، كما صح لك العلم من غير إيمان الذي هو قبل التعريف ، فمن أجل هذا الأمر ـ على نظر بعض الناس ورأيه

١٣٧

فيه ـ نظرنا من أين نتوصل إلى معرفته؟ فنظرنا على حكم الإنصاف وما أعطاه العقل الكامل بعد جده واجتهاده الممكن منه ، فلم نصل إلى المعرفة به سبحانه إلا بالعجز عن معرفته ، لأنا طلبنا أن نعرفه طلب معرفة الأشياء كلها من جهة الحقيقة التي هي المعلومات عليها ، فلما عرفنا أن ثمّ موجودا ليس له مثل ، ولا يتصور في الذهن ، ولا يدرك ، فكيف يضبطه العقل؟ هذا ما لا يجوز ، مع ثبوت العلم بوجوده ، فنحن نعلم أنه موجود واحد في ألوهته ، وهذا هو العلم الذي طلب منا ، غير عالمين بحقيقة ذاته التي يعرف سبحانه عليها ، وهو العلم بعدم العلم الذي طلب منا ، لما كان تعالى لا يشبه شيئا من المخلوقات في نظر العقل ، ولا يشبهه شيء منا ، وفي ذلك قال الصدّيق : العجز عن درك الإدراك إدراك ، فجعل العلم بالله هو لا دركه ، من جهة كسب العقل كما يعلمه غيره ، ولكن دركه من جوده وكرمه ووهبه ، أما من جهة الدليل فلا يعرف أبدا إلا معرفة الوجود ، وأنه الواحد المعبود لا غير ، فالحق تعالى هو الموصوف بالوجود المطلق ، لأنه سبحانه ليس معلولا لشيء ولا علة لشيء ، بل هو موجود بذاته ، والعلم به عبارة عن العلم بوجوده ، ووجوده ليس غير ذاته ، مع أنه غير معلوم الذات ، لكن يعلم ما ينسب إليه من الصفات ، أعني صفات المعاني ، وهي صفات الكمال ، وأما العلم بحقيقة الذات فممنوع ، لا تعلم بدليل ولا برهان عقلي ، ولا يأخذها حد ، فإنه سبحانه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، فكيف يعرف من يشبه الأشياء من لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئا؟ فمعرفتك به إنما هي أنه ليس كمثله شيء ، ويحذركم الله نفسه ، وقد ورد المنع من الشرع في التفكر في ذات الله ، فلا يعلم من الله إلا وجوده ، وتعلم أفعاله وصفاته بضرب من الأمثلة ، ولذلك فإن التوحيد الذي يؤمر به العبد أن يعلمه أو يقوله ، ليس هو التوحيد الذي يوحد الحق به نفسه ، فإن توحيد الأمر مركب ، فإن المأمور بذلك مخلوق ، ولا يصدر عن المخلوق إلا ما يناسبه ، وهو مخلوق عن مخلوق ، فهو أبعد في الخلق عن الله الذي وجد عنه هذا التوحيد ، فكيف يليق بالجناب العزيز ما هو مضاف إلى الخلق؟ وإن كنا تعبدنا به شرعا ، فنقرره في موضعه ، ونقوله كما أمرنا به على جهة القربة إليه ، مع ثبوت قدمنا فيما أشهدنا الحق من المعرفة به ، من كونه لا يعرف في (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وفيما ذكره في سورة الإخلاص ، وفي عموم قوله بالتسبيح الذي هو التنزيه (رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) والعزة تقتضي المنع أن يوصل إلى معرفته ، فالأمر هنا الأمر

١٣٨

بالتقليد في التوحيد ، لأن الأمر لا يتعلق بمن يعطيه الدليل ذلك ، إلا أن يكون متعلق الأمر الاستدلال ، لا التعريف على طريق التسليم ، أو الاستدلال بالتنبيه على موضع الدلالة ، مثل قوله : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) وكقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) لذلك نقول : إن العلم بالله له طريقان : طريق يستقل العقل بإدراكه قبل ثبوت الشرع ، وهو يتعلق بأحديته في ألوهته ، وأنه لا شريك له ، وما يجب أن يكون عليه الإله الواجب الوجود ، وليس له تعرض إلى العلم بذاته تعالى ، ومن تعرض بعقله إلى معرفة ذات الله فقد تعرض لأمر يعجز عنه ، ويسيء الأدب فيه ، وعرّض نفسه لخطر عظيم ، وهذا الطريق هو الذي قال فيه الخليل إبراهيم عليه‌السلام لقومه (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) فنبههم على أن العلم بالله من كونه إلها واحدا في ألوهته من مدركات العقول ، فما أحالهم إلا على أمر يصح منه أن ينظر ، فيعلم بنظره ما هو الأمر عليه ، والطريق الآخر طريق الشرع بعد ثبوته ، فأتى بما أتى به العقل من جهة دليله ، وهو إثبات أحدية خالقه وما يجب له عزوجل ، والمسلك الآخر من العلم بالله العلم بما هو عليه في ذاته ، فوصفه بعد أن حكم العقل بدليله بعصمته فيما ينقله عن ربه من الخبر عنه سبحانه مع (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وأن لا يضرب له مثل ، بل هو الذي يضرب الأمثال ، لأنه يعلم ونحن لا نعلم ، فنسب إليه تعالى أمورا لا يتمكن للعقل من حيث دليله أن ينسبها إليه ، ولا يتمكن له ردها على من قام الدليل العقلي عنده على عصمته ، فأورثه ذلك حيرة ، فمن العقلاء من تأول تأويل تنزيه وتأييد ، وعضد تأويله ب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) و (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ومن العقلاء من سلم علم ذلك إلى من جاء به أو إلى الله ، ومن العقلاء من أهل اللسان من شبّه ، وعذر الله كل طائفة ، وما طلب من عباده في حقه إلا أن يعلموا أنه إله واحد ، لا شريك له في ألوهته لا غير ، وأن له الأسماء الحسنى بما هي عليه من المعاني في اللسان ، وقرن النجاة والسعادة بمن وقف عندما جاء من عنده عزوجل في كتبه وعلى ألسنة رسله عليهم‌السلام ، ولا شك أن لله عبادا عملوا على إيمانهم ، وصدقوا الله في أحوالهم ، ففتح الله أعين بصائرهم وتجلى لهم في سرائرهم ، فعرفوه على الشهود ، وكانوا في معرفتهم تلك على بصيرة وبينة بشاهد منهم ، فعليك بعبادة الله التي جاء بها الشرع وورد بها السمع ، ولا تكفر بما أعطاك دليلك المؤدي إلى تصديقه ، ومن أراد أن يعرف لباب التوحيد فلينظر في الآيات الواردة في التوحيد في

١٣٩

الكتاب العزيز الذي وحّد بها نفسه ، فلا أعرف من الشيء بنفسه ، فلتنظر بما وصف نفسه ، وتسأل الله تعالى أن يفهمك ذلك ، فستقف على علم إلهي لا يبلغ إليه عقل بفكره أبد الآباد ، ولتعلم أن المراد بتوحيد الله الذي أمرنا بالعلم به أنه توحيد الألوهية له سبحانه ، لا إله إلا هو ، فإنه تعالى لم يقل : فاعلم أنه لا تنقسم ذاته ، ولا أنه ليس بمركب ، ولا أنه مركب من شيء ، ولا أنه جسم ، ولا أنه ليس بجسم ؛ بل قال في صفته أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ولما لم يتعرض الحق سبحانه إلى تعريف عباده بما خاضوا فيه بعقولهم ، ولا أمرهم الله في كتابه بالنظر الفكري ، إلا ليستدلوا بذلك على أنه إله واحد أي أنها لا تدل إلا على الوحدانية في المرتبة ، فلا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد ، فزادوا في النظر وخرجوا عن المقصود الذي كلفوه ، فأثبتوا له صفات لم يثبتها لنفسه ، ونفت طائفة أخرى تلك الصفات ، ولم ينفها عن نفسه ولا نص عليها في كتابه ولا على ألسنة أنبيائه ، ثم اختلفوا في إطلاق الأسماء عليه ، فمنهم من أطلق عليه ما لم يطلقه على نفسه وإن كان اسم تنزيه ، ولكنه فضول من القائل به والخائض فيه ، ثم أخذوا يتكلمون في ذاته وقد نهاهم الشرع عن التفكر في ذاته جل وتعالى ، فانضاف إلى فضولهم عصيان الشرع ، بالخوض فيما نهوا عنه ، فمن قائل : هو جسم ، ومن قائل : ليس بجسم ، ومن قائل : هو جوهر ، ومن قائل : ليس بجوهر ، ومن قائل : هو في جهة ، ومن قائل : ليس في جهة ، وما أمر الله أحدا من خلقه بالخوض في ذلك جملة واحدة ، لا النافي ولا المثبت ، ولو سئلوا عن تحقيق معرفة ذات واحدة من العالم ما عرفوها ، فالعاقل يشغل نفسه بالنظر في الأوجب عليه لا يتعداه ، فإن المدة يسيرة ، والأنفاس نفائس ، وما مضى منها لا يعود ، فاعلم أن الله إله واحد ، لا إله إلا هو ، مسمى بالأسماء التي يفهم منها ومن معانيها أنها لا تنبغي إلا له ، ولمن تكون هذه المرتبة له ، ولا تتعرض يا ولي للخوض في الماهية والكمية والكيفية ، فإن ذلك يخرجك عن الخوض فيما كلفته ، والزم طريقة الإيمان والعمل بما فرض الله عليك ، واذكر ربك بالغدو والآصال ، بالذكر الذي شرعه لك من تهليل وتسبيح وتحميد ، واتق الله ، فإذا شاء الحق أن يعرفك بما شاءه من علمه ، فأحضر عقلك ولبك لقبول ما يعطيك ويهبك من العلم به ، فذلك هو النافع ، وهو النور الذي يحيى به قلبك ، وتمشي به في عالمك ، وتأمن فيه من ظلم الشبه والشكوك ، فإن ظلم الشبه والشكوك ، تطرأ في العلوم التي تنتجها الأفكار

١٤٠