رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (٥٢) فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) (٥٩)

ولم يقل تعالى : أأنتم تخلقون منه ولا فيه ، وإنما قال : تخلقونه ، فأراد عين إيجاده منيا خاصة ، والاسم المصور هو الذي يتولى فتح الصورة فيه.

(نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ) (٦١)

ـ الوجه الأول ـ الله يحدث نشأة الإنسان مع الأنفاس ولا يشعر ، وفي كل نفس له فينا إنشاء جديد بنشأة جديدة ، ومن لا علم له بهذا فهو في لبس من خلق جديد ، لأن الحس يحجبه بالصورة التي يحس بتغييرها ، مع ثبوت عين القابل للتغيير مع الأنفاس ـ الوجه الثاني ـ من ذلك علمنا أن الله ينشيء كل منشأ فيما لا يعلم ، أي لا يعلم له مثال إلا إن أعلمه الله ـ الوجه الثالث ـ لو كانت إعادة أرواحنا إلى أجسادنا على هذا المزاج الخاص الذي كان لنا في النشأة الدنيا لم يصح قوله تعالى : (فِي ما لا تَعْلَمُونَ) ، فإنه قد قال : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) وقال : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) يعني في النشأة الآخرة أنها تشبه النشأة الدنياوية في عدم المثال ، فالأخرى تجديد نشأة أخرى في الكل ، لا يعرفها العقل الأول ولا اللوح المحفوظ ، فاعلم أن الدار داران تسكنهما الأرواح الناطقة ، وهو البدن الطبيعي المسوى المعدل الذي خلقه الله بيديه ووجه عليه صفتيه ، فلما أنشأه أسكنه دارا أخرى هي دار الدار ، وقسم سبحانه دار الدار قسمين : قسما سماه الدنيا وقسما سماه

٢٦١

الآخرة ، ثم علّم ما يصلح لسكنى كل دار ، من الساكنين الذين هم ديار النفوس الناطقة ، فخلق للدار الدنيا لفنائها وذهاب عينها وتبدل صورتها ووضعها وشكلها وخفاء حياتها ساكنا هو هذه الدار التي أسكنها النفس الناطقة ، فجعل هذه النشأة مثل دار سكناها ، خفية الحياة فانية ذاهبة العين متبدلة الصورة والوضع والشكل ، فاتصف ساكنها وهو النفس الناطقة بالجهل والحجاب والشك والظن والكفر والإيمان ، وذلك لكثافة هذه الدار التي هي نشأته البدنية ، وحال بينه وبين شهود الله ، وجعله في حجر أمه ترضعه وتقوم به ، فما شهد من حين أسكن هذه النشأة سوى عين أمه ، حتى إنه جهل أباه بعض الساكنين ، ولو لا أن الله منّ عليه بالنوم ، وجعل له في ذلك أمرا يسمى الرؤيا في قوة تسمى الخيال ، فإذا نام كأنه خرج عن هذه النشأة فنظر إليه أبوه وسرّ به ، وألقى إليه روحا وآنسه ، وبادرت إليه الأرواح ، وتراءى له الحق من تنزيهه ، وبدا له ذلك كله في أجساد ألف شهودها من جنس دار نشأته التي فارقها بالنوم ، فيظن في النوم أنه في دار نشأته التي ألفها ويعرفها ، ويظن في كل ما يراه في تلك المواد أنها على حسب ما شهدها ، فهذا القدر هو الذي له في هذه النشأة الدنيا من الأنس بأبيه وإخوانه من الأرواح ومن الأنس بربه ، ومنهم من يتقوى في ذلك بحيث إنه يرى ذلك في يقظته ، وأعطاه علما سماه علم التعبير ، عبر به في مشاهدة تلك الصور إلى معانيها ، فإذا أراد الله أن يخلي هذه الدار الدنيا من هذه النشأة التي هي دار النفس الناطقة ، أرحل عن هذه النشأة روحها المدبر لها ، وأسكنه صورة برزخية من الصور التي كان يلبسها في حال النوم ، فإذا كان يوم القيامة وأراد الله أن ينقله إلى الدار الأخرى دار الحيوان ـ وهي دار ناطقة ظاهرة الحياة ثابتة العين غير زائلة ـ أنشأ لهذه النفس الناطقة دارا من جنس هذه الدار الأخرى ، مجانسة لها في صفتها ، لأنها لا تقبل ساكنا لا يناسبها ، فخلق نشأة بدنية طبيعية للسعداء عنصرية للأشقياء ، فسواها فعدلها ، ثم أسكنها هذه النفس الناطقة ، فأزال عنها حجب العمى والجهل والشك والظن وجعلها صاحبة علم ونعيم دائم ، وأراها أباها ففرحت به ، وأراها خالقها ورازقها ، وعرف بينها وبين إخوتها وانتظم الشمل بالأحباب ، وأشهدها كل شي كان في الدار الأولى غائبا ، وأسكن هذه النشأة الدار الأخرى المسماة جنة منها ، فإنه قسّم الدار الأخرى إلى منزلين : هذا هو المنزل الواحد ، والمنزل الآخر المسمى جهنم ، جعل نشأة بدن أنفسها الناطقة عنصرية تقبل التغيير ، وأصحبها الجهل

٢٦٢

وسلب عنها العلم ، فأعطى جهل المؤمنين من أهل التقليد من كان من أهل هذه الدار دار الشقاء عالما بدقائق الأمور ، فدخل بذلك الجهل النار إذ كان من أهلها وهي لا تقبل العلماء ، وأعطى هذا العالم الذي كان في الدنيا عالما بدقائق الأمور ولم يكن من أهل الجنة جهل المؤمن المقلد ، فإن الجنة ليست بدار جهل ، فيرى المؤمن الأبله المقلد ما كان عليه من الجهل على ذلك العالم فيستعيذ بالله من تلك الصفة ، ويرى قبحها ويشكر الله على نعمته التي أعطاه إياها ، بما كساه وخلع عليه من علم ذلك العالم الذي هو من أهل النار ، وينظر إليه ذلك العالم فيزيد حسرة إلى حسرته ، ويعلم أن الدار أعطت هذه الحقائق لنفسها فيقول : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لعلمهم إذا كانوا مؤمنين وإن كانوا جاهلين أنهم إذا انتقلوا إلى دار السعادة خلعت عنهم ثياب الجهالة ، وخلع عليهم خلع العلم فلا يبالون بما كانوا عليه من الجهل في الدنيا لحسن العاقبة ، وما علموا أنهم لو ردوا إلى الدنيا في النشأة التي كانوا عليها لعادوا إلى حكمها. واعلم أن العلم هو السعادة ، وأن الله إذا أراد شقاوة العبد أزال عنه العلم ، فإنه لم يكن العلم له ذاتيا بل اكتسبه ، وما كان مكتسبا فجائز زواله ويكسوه حلة الجهل ، فإن عين انتزاع العلم جهل ، ولا يبقى عليه إلا العلم بأنه قد انتزع عنه العلم ، فلو لم يبق الله تعالى عليه هذا العلم بانتزاع العلم لما تعذب ، فإن الجاهل الذي لا يعلم أنه جاهل فرح مسرور ، لكونه لا يدري ما فاته ، فلو علم أنه فاته خير كثير ما فرح بحاله ، ولتألم من حينه ، فما تألم إلا بعلمه ما فاته ، أو مما كان عليه فسلبه ، والإنسان في الآخرة مقلوب النشأة ، فباطنه ثابت على صورة واحدة كظاهره هنا ، وظاهره سريع التحول في الصور كباطنه هنا ، وعلى ذلك الحكم يكون تصرف ظاهر النشأة الآخرة ، فينعم بجميع ملكه في النفس الواحد ، ولا يفقده شيء من ملكه من أزواج وغيرهن دائما ولا يفقدهم ، فهو فيهم بحيث يشتهي ، وهم فيه بحيث يشتهون ، فإنها دار انفعال سريع لا بطء فيه ، كباطن هذه النشأة الدنياوية في الخواطر التي لها.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ) (٦٢)

نشأة الخلق وأحوالهم ، وما يكون منهم في القيامة والدارين ، على غير نشأة الدنيا وإن أشبهتها في الصورة ، ولذلك قال : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أن النشأة

٢٦٣

الدنيا كانت على غير مثال سبق كما هو الأمر في نفسه ، كذلك ينشئكم فيما لا تعلمون يوم القيامة.

(أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ) (٧٣)

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) أي تذكرة للعلماء (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ).

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤)

اعلم أن العظمة حال المعظّم ـ اسم فاعل ـ لا حال المعظّم ـ اسم مفعول ـ إلا أن يكون الشيء يعظم عنده ذاته ، فعند ذلك تكون العظمة حال المعظم ، لأن المعظم ـ اسم فاعل ـ ما عظمت عنده إلا نفسه ، فهو من كونه معظما نفسه كانت الحال صفته ، وما عظم سوى نفسه ، فالعظمة حال نفسه ، وهذه الحالة توجب الهيبة والإجلال والخوف فيمن قامت بنفسه ، فعظمة الحق في القلوب لا توجبها إلا المعرفة في قلوب المؤمنين ، وهي من آثار الأسماء الإلهية ، فإن الأمر يعظم بقدر ما ينسب إلى هذه الذات المعظمة ، من نفوذ الاقتدار وكونها تفعل ما تريد ، ولا راد لحكمها ولا يقف شيء لأمرها ، فبالضرورة تعظم في قلب العارف بهذه الأمور ، وهي العظمة الأولى الحاصلة لمن حصلت عنده من الإيمان ، والمرتبة الثانية من العظمة هي ما يعطيه التجلي في قلوب أهل الشهود والوجود ، من غير أن يخطر لهم شيء من تأثير الأسماء الإلهية ، ولا من الأحكام الإلهية ، بل بمجرد التجلي تحصل العظمة في نفس من يشاهده ، وهذه العظمة الذاتية ، وقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي لا تنزهه إلا بأسمائه ، لا بشيء من أكوانه ، وأسماؤه لا تعرف إلا منه ، ولا ينزه

٢٦٤

إلا بها ، فكأن العبد ناب مناب الحق في الثناء عليه بما أثنى هو على نفسه ، لا بما أحدثه العبد من نظره ، ولما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا : [اجعلوها في ركوعكم] فاقترن بأمر الله بقوله (فَسَبِّحْ) أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا بمكانها من الصلاة ، يقول نزهوا عظمة ربكم عن الخضوع ، فإن الخضوع إنما هو لله ، لا بالله ، فإنه يستحيل أن تقوم به صفة الخضوع ، وأضافه إلى الاسم الرب ، لأنه يستدعي المربوب ، ثم إن هذا الاسم لما تعلق التسبيح به لم يتعلق به مطلقا من حيث ما يستحقه لنفسه ، وإنما تعلق به مضافا إلى نفس المسبح ، فقال : [سبحان ربي العظيم] وإنما تعلق به مضافا في حق كل مسبح ، لأن العلم به من كل عالم يتفاضل ، والعالم من الناس يسبح الله بلسان كل مسبح ، وينظر في عظمة الله وتنزيهها عن قيام الخضوع بها ، ويجوز الدعاء في الركوع في الصلاة ، فإن الصلاة معناها الدعاء ، فصح أن يكون الدعاء جزءا من أجزائها ، ويكون من باب تسمية الكل باسم الجزء ، والدعاء في الركوع جاءت به السنة ، وهو مذهب البخاري رحمه‌الله ، والأدب الصحيح أن ننظر إلى أن الله قد شرع الأدعية في القرآن ، فالعدول عنها إلى ألفاظ من كلام الناس من مخالفة النفس التي جبلت عليها حتى لا توافق ربها ، فإنا كما لا نناجيه في الصلاة إلا بكلامه ، كذلك لا ندعوه إلا بما أنزل علينا وشرعه لنا في القرآن أو في السنة ، مما شرع أن يقال في الصلاة ، وهو أن يقول : [اللهم لك ركعت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي].

(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧)

قيد القرآن ووصف هنا بصفة الكرم ، لأنه يؤثر عند من يتلوه بهذا الاستحضار كرم النفس ، بما يؤثر به على نفسه مع وجود الحاجة ، كما آثر به وسعى في قضاء حوائج الناس من مؤمن وغير مؤمن ، ونظر جميع العالم بعين الرحمة ، فرحمه ولم يخص بذلك شخصا من شخص ، ولا عالما من عالم ، بل بذل الوسع في إيصال الرحمة إليهم ، وقبل أعذارهم ،

٢٦٥

وتحمل أعباءهم ، وجهلهم وأذاهم ، وجازاهم بالإساءة إحسانا ، وبالذنب عفوا ، وعن الإساءة تجاوزا ، وسعى في كل ما فيه راحة لمن سعى له ، ولما كان من المحال أن يعم الإنسان بخلقه ويبلغ به رضى جميع العالم ، لما هو العالم عليه في نفسه من المخالفة والمعاداة ، فإذا أرضى زيدا أسخط عدوه عمرا ، فلم يعم بخلقه جميع العالم ، فلما رأى استحالة ذلك التعميم عدل إلى تصريف خلقه مع الله ، فنظر إلى كل ما يرضي الله فقام فيه ، وإلى كل ما يسخطه فاجتنبه ، ولم يبال ما وافق ذلك من العالم مما يخالفه ، وإذا تصرف التالي في العالم تصرف الحق من رحمته ، وبسط رزقه وكنفه على العدو والولي ، والبغيض والحبيب ، بما يعم مما لا يقدح ، ويخص جناب الحق بطاعته وإن أسخط العدو ، كما خص الحق بتوفيقه بعض عباده ولم يعم كما عم في الرزق ، فمن هذه صفته في حال تلاوته فإنه يتلو القرآن الكريم الذي في كتاب مكنون ، وهو قوله تعالى :

(فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ) (٧٨)

يعني بالكتاب المكنون الذي هو صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ، بأيدي سفرة ، كرام بررة.

(لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) (٨٠)

وما قال : رب المؤمنين ؛ لعموم الكرم في الرزق والحياة الدنيا.

(أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (٨٣)

يعني خروج النفس بالموت.

(وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ) (٨٥)

ذلك في حق المحتضر وما خصّ ميتا من ميت ، أي ما خصّ سعيدا في القرب من شقي ، يقول تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) يعني المحتضر ، فإنه ما فارق الدنيا ، إلا أنه على أهبة

٢٦٦

الرحيل ، رجله في غرز ركابه ، وهنالك ينكشف له شهودا حقيقة قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) وفي حق طائفة (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) غير أن الذين بقيت لهم أنفاس من الحاضرين لا يبصرون معية الحق في أينية هذا العبد ، فإنهم في حجاب عن ذلك ، وهو قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) وإنما هو يبصر فإنه مكشوف الغطاء ، فبصره حديد ، ومن وجه آخر (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) يعني الأسباب التي أوقف الله وجوده عليه ، أو ربطه به على جهة العلّية أو الشرط (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أي لا تميزون ، يعني نسبته إلينا لا إلى السبب ، يقول : تبصرون ، ولكن لا تعرفون ما تبصرون ، فكأنكم لا تبصرون ، فأثبت قربه إلى الأشياء ونفى العلم بكيفية قربه من الأشياء بقوله : (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) فعم البصيرة والبصر ، إذ كان إدراك البصر في الباطن يسمى بصيرة ، فسمي في إدراك المحسوس بصرا ، وفي إدراك المعاني بصيرة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه] فانظر ما ألطف هذه الحجب وأخفاها ، فتمنعنا هذه الحجب من رؤيته في القرب العظيم ، وما نرى لهذه الحجب عينا ، فهي أيضا محجوبة عنا ؛ نعم يا ربنا ما نبصرك ولا نبصر الحجب ، فنحن خلف حجاب الحجب ، وأنت منا بمكان الوريد أو أقرب إلينا من أنفسنا ، فغاية القرب حجاب ، كما أن غاية البعد حجاب ، قصمت الظهور وحيّرت العقول ، فبالحس ما تدرك ، وبالعقل ما تدرك ؛ واعلم أن الشارع أمرنا بتلقين المحتضر عند الموت ، فإن الهول شديد والمقام عظيم ، وهو وقت الفتنة التي هي فتنة المحيا ، بما يكشفه المحتضر عند كشف الغطاء عن بصره ، فيعاين ما لا يعاينه الحاضر ، ويتمثل له من سلف من معارفه على الصور التي يعرفهم فيها ، وهم الشياطين تتمثل إليه على صورهم بأحسن زي وأحسن صورة ، ويعرفونه أنهم ما وصلوا إلى ما هم فيه من الحسن إلا بكونهم ماتوا مشركين بالله ، فينبغي للحاضرين عنده في ذلك الوقت من المؤمنين أن يلقنوه شهادة التوحيد ، ويعرفوه بصورة هذه الفتنة لينتبه بذلك ، فيموت مسلما موحدا مؤمنا ، فإنه عندما يتلفظ بشهادة التوحيد ويتحرك بها لسانه ، أو يظهر نورها من قلبه بتذكره إياها ، فإن ملائكة الرحمة تتولاه وتطرد عنه تلك الصور الشيطانية التي تحضره.

٢٦٧

(فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) (٨٩)

الروح ما يستريحون إليه ، والريحان الرزق ، ومنه ما يتغذون به من العلوم الإلهية والتجليات ، والمقرب صاحب سلامة وغنيمة ـ إشارة ـ (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ) لما هو عليه من الراحة ، حيث رآه عين كل شيء (وَرَيْحانٌ) لما رآه عين الرزق الذي يحيى بتناوله (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي ستر ينعم به وحده ، لما علم أن كل أحد ما له من الله تعالى هذا المشهد.

(وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) (٩٠)

يريد يمين المبايعة التي بيدها الميثاق ، ما يريد يمين الجارحة.

(فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) (٩١)

لما سلم منهم الحق سبحانه وتعالى ، فلم يدّعوا شيئا مما هو له ، وسلّم منهم العالم فلم يزاحموهم فيما هم فيه ، وكانوا مع الحق على نفوسهم في وجودهم ، وما برحوا منهم ، فلهذا سلم منهم كل موجود سواهم ، فهم أصحاب سلامة.

(وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (٩٣)

وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (٩٥)

العلم الذي هو حق اليقين هو الذي لا يتطرق إليه تهمة ، فحق اليقين هو حق استقراره في القلب ، أي لا يزلزله شيء عن مقره ، وحق استقراره هو حكمه الذي أوجبه على العلم وعلى العين ، فلا يتصرف العلم إلا فيما يجب له التصرف فيه ، ولا تنظر العين إلا فيما يجب لها النظر إليه وفيه ، فذلك هو حق اليقين.

٢٦٨

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦)

(٥٧) سورة الحديد مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١)

(سَبَّحَ لِلَّهِ) فهو المسبّح (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من حيث أعيانهم. واعلم أنه ما في السموات موضع قدم إلا وهو معمور بملك يسبح الله ، ويذكره بما قد حدّ له من الذكر ، ولله تعالى في الأرض من الملائكة مثل ذلك ، لا يصعدون إلى السماء أبدا ، وأهل السموات لا ينزلون إلى الأرض أبدا ، كل قد علم صلاته وتسبيحه (وَهُوَ الْعَزِيزُ) المنيع الحمى من هويته (الْحَكِيمُ) بمن ينبغي أن يسبح له.

(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢)

(لَهُ) الضمير يعود على الله من (لِلَّهِ) مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولهذا يسبحه أهلهما لأنهم مقهورون محصورون في قبضة السموات والأرض (يُحْيِي) العين (وَيُمِيتُ) الوصف ، فالعين لها الدوام من حيث حييت ، والصفات تتوالى عليها ، فيميت الصفة بزوالها عن هذه العين ويأتي بأخرى (وَهُوَ) الضمير يعود على الله (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي شيئية الأعيان الثابتة ، يقول : إنها تحت الاقتدار الإلهي.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣)

ـ الوجه الأول ـ ظهرت هذه النسب الأربعة من حيث ما نسب الحق إلى نفسه من الصورة ، ولما كان الأمر الإلهي في التالي أتم منه وأكمل منه في المتلو الذي هو قبله ،

٢٦٩

أخر الاسم الباطن لما عبر عن هذه النعوت الإلهية ، فالآخر يتضمن ما في الأول ، والظاهر يتضمن ما في الآخر والأول ، والباطن يتضمن ما في الظاهر والآخر والأول ، ولو جاء شيء بعد الباطن لتضمن الباطن وما قبله ، ولكن الحصر منع أن يكون سوى هذه الأربعة ، ولا خامس لها إلا هويته تعالى ، وما ثمّ في العالم حكم إلا من هذه الأربعة ، وعلى صورة هذه الأربعة ظهر عالم الأرواح وعالم الأجسام ، فأقام الحق الوجود على التربيع ، وجعله لنفسه كالبيت القائم على أربعة أركان ، واعلم أن الذات الأزلية لا توصف بالأولية وإنما يوصف بها الله تعالى ، فقوله (هُوَ الْأَوَّلُ) الضمير يعود على الله من لله ، والأول خبر الضمير الذي هو المبتدأ ، وهو في موضع الصفة لله ، ومسمى الله إنما هو من حيث المرتبة ، فهو الأول له منزلة الأولية الإلهية ، ومن هذه الأولية صدر ابتداء الكون ومنه تستمد كلها ، وهو الحاكم فيها ، وهي الجارية على حكمه ، ونفى السبب عنه ، فإن أولية الحق تمدّ أولية العبد ، فإن لابتداء الأكوان شواهد فيها أنها لم تكن لأنفسها ثم كانت ، فمعقولية الأولية للواجب المطلق نسبة وضعية لا يعقل لها العقل سوى استناد الممكن إليه ، فيكون أولا بهذا الاعتبار ، ولو قدر أن لا وجود لممكن ـ قوة وفعلا ـ لانتفت النسبة الأولية ، إذ لا تجد متعلقا ، فلما كان أول مخلوق ظهر هو العقل أو القلم الإلهي كان الله الأول بالمرتبة ، فهو الأول بأولية الأجناس وأولية الأشخاص (وَالْآخِرُ) فهو الآخر آخرية الأجناس لا آخرية الأشخاص ، فإليه يعود الأمر كله ، فلله الأولية لأنه موجد كل شيء ، ولله الآخرية فإنه قال : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) وقال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقال : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) فهو الآخر كما هو الأول ، وما بين الأول والآخر تظهر مراتب الأسماء الإلهية كلها ، فلا حكم للآخر إلا بالرجوع إليه في كل أمر ، وكل مقام إلهي يتأخر عن مقام كوني فهو من الاسم الآخر ، مثل قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) وقوله : [من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم] وقوله : [من تقرب إلي شبرا تقرّبت إليه ذراعا] وقوله تعالى : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) فالأمر يتردد بين الاسمين الإلهيين الأول والآخر ، وعين العبد مظهر لحكم هذين الاسمين ـ بحث في الأزل ـ اعلم أن الأزل عبارة عن نفي الأولية لمن يوصف به ، وهو وصف لله تعالى من كونه إلها ، وإذا انتفت الأولية عنه تعالى من كونه إلها ، فهو المسمى بكل اسم يسمي به نفسه أزلا ، ولم يزل مسمى بهذه الأسماء ،

٢٧٠

وانتفت عنه أولية التقييد ، فسمع المسموع وأبصر المبصر إلى غير ذلك ، وأعيان المسموعات منا والمبصرات معدومة غير موجودة ، وهو يراها أزلا كما يعلهما أزلا ، ويميزها ويفصّلها أزلا ولا عين لها في الوجود النفسي العيني ، بل هي أعيان ثابتة في رتبة الإمكان ، فالإمكانية لها أزلا كما هي لها حالا وأبدا ، لم تكن قط واجبة لنفسها ثم عادت ممكنة ، ولا محالا ثم عادت ممكنة ، بل كان الوجوب الذاتي لله تعالى أزلا ، كذلك وجوب الإمكان للعالم أزلا ، فالله في مرتبته بأسمائه الحسنى يسمى منعوتا وموصوفا بها ، فعين نسبة الأول له نسبة الآخر والظاهر والباطن ، لا يقال : هو أول بنسبة كذا وآخر بنسبة كذا ، فإن الممكن مرتبط بواجب الوجود في وجوده وعدمه ارتباط افتقار إليه في وجوده ، فإن أوجده لم يزل في إمكانه ، وإن عدم لم يزل عن إمكانه ، فكما لم يدخل على الممكن في وجود عينه بعد أن كان معدوما صفة تزيله عن إمكانه ، كذلك لم يدخل على الخالق الواجب الوجود في إيجاده العالم وصف يزيله عن وجوب وجوده لنفسه ، فلا يعقل الحق إلا هكذا ، ولا يعقل الممكن إلا هكذا ، فأولية العالم وآخريته أمر إضافي ، فالأول من العالم بالنسبة إلى ما يخلق بعده ، والآخر من العالم بالنسبة إلى ما يخلق قبله ، وليس كذلك معقولية الاسم الله الأول والآخر والظاهر والباطن ، فإن العالم يتعدد والحق واحد لا يتعدد ، ولا يصح أن يكون أولا لنا ، بل كان ينطلق علينا اسم الثاني لأوليته ، ولبسنا بثان له ، تعالى عن ذلك ، فليس هو بأول لنا ، فلهذا كان عين أوليته عين آخريته ، فإن الله تعالى هو الأول الذي لا أولية لشيء قبله ، ولا أولية لشيء يكون قائما به أو غير قائم به معه ، فهو الواحد سبحانه ، في أوليته ، فلا شيء واجب الوجود لنفسه إلا هو ـ مسألة ـ العلة متقدمة على معلولها بالمرتبة بلا شك ، سواء كان ذلك سبق العلم أو ذات الحق ، ولا يعقل بين الواجب الوجود لنفسه وبين الممكن بون زماني ولا تقدير زماني ، وإذا لم يعقل بين الحق والخلق بون زماني فلم يبق إلا الرتبة ، فلا يصح أن يكون أبدا الخلق في رتبة الحق ، كما لا يصح أن يكون المعلول في رتبة العلة من حيث ما هو معلول عنها ، فالعالم لم يبرح في رتبة إمكانه سواء كان معدوما أو موجودا ، والحق تعالى لم يبرح في مرتبة وجوب وجوده لنفسه سواء كان العالم أو لم يكن ، فلو دخل العالم في الوجوب النفسي ، لزم قدم العالم ومساوقته في هذه الرتبة لواجب الوجود لنفسه وهو الله ، ولم يدخل ، بل بقي على إمكانه وافتقاره إلى موجده وسببه وهو

٢٧١

الله تعالى ، فلم يبق معقول البينية بين الحق والخلق إلا التمييز بالصفة النفسية ، فبهذا نفرق بين الحق والخلق ، أما كون الله علة في وجود العالم فهو أدل دليل على توحيد الله تعالى ، غير أن إطلاق هذا اللفظ عليه لم يرد به الشرع فلا نطلقه عليه ولا ندعوه به ، فنقول : (هُوَ الْأَوَّلُ) في الوجود (وَالْآخِرُ) في الشهود.

فالأول الحق بالوجود

والآخر الحق بالشهود

إليه عادت أمور كوني

فإنما الرب بالعبيد

فكل ما أنت فيه حق

ولم تزل في مزيد

وهو الإله الظاهر والباطن ، فإنه لما كان العالم له الظهور والبطون ، كان هو سبحانه الظاهر لنسبة ما ظهر منه ، والباطن لنسبة ما بطن منه ، وهو تعالى (الظَّاهِرُ) لنفسه لا لخلقه ، فلا يدركه سواه أصلا ، وأما ما ظهر فإنما هو ظهور أحكام أسمائه الحسنى وظهور أحكام أعياننا في وجود الحق ، وهو من وراء ما ظهر ، فلا أعياننا تدرك رؤية ، ولا عين الحق تدرك رؤية ، ولا أعيان أسمائه تدرك رؤية ، ونحن لا نشك أنا قد أدركنا أمرا ما رؤية ، وهو الذي تشهده الأبصار منا ، فما ذلك إلا الأحكام التي لأعياننا ظهرت لنا في وجود الحق ، فكان مظهرا لها ، فظهرت أعياننا ظهور الصور في المرائي ، ما هي عين الرائي ولا هي عين المجلى (وَالْباطِنُ) البطون يختص بنا كما يختص به الظهور ، وإن كان له البطون فليس هو باطنا لنفسه ولا عن نفسه ، كما أنه ليس ظاهرا لنا ، فالبطون الذي وصف نفسه به إنما هو في حقنا ، فلا يزال باطنا عن إدراكنا إياه حسا ومعنى ، فإنه ليس كمثله شيء ، ولا تدرك إلا الأمثال ، فظهر الحق باحتجابه فهو الظاهر المحجوب ، فهو الباطن للحجاب لا لك ، وهو الظاهر لك وللحجاب ، فسبحان من احتجب في ظهوره ، وظهر في حجابه ، فلا تشهد عين سواه ، ولا ترتفع الحجب عنه ، ولا يزال ربا ولم نزل عبيدا في حال عدمنا ووجودنا اعلم أن الحق تسمى بالظاهر والباطن من حيث ما نسب الحق إلى نفسه من الصورة ، فالظاهر للصور التي يتحول فيها ، والباطن للمعنى الذي يقبل ذلك التحول والظهور في تلك الصور ، فهو عالم الغيب من كونه الباطن ، والشهادة من كونه الظاهر ، وتجلى الحق لكل من تجلى له ـ من أي عالم كان من عالم الغيب والشهادة ـ إنما هو من الاسم الظاهر ، وأما الاسم الباطن فمن حقيقة هذه النسبة أن لا يقع فيها تجل أبدا ،

٢٧٢

لا في الدنيا ولا في الآخرة ، إذ كان التجلي عبارة عن ظهوره لمن تجلى له في ذلك المجلى ، وهو الاسم الظاهر ، فالظاهر للصور والباطن للعين ، فالعين غيب أبدا والصور شهادة أبدا ، وكل زيادة في العلم أي علم كان لا تكون إلا عن التجلي الإلهي ، فالتجلي الصوري يدرك بعالم الحس في برزخ التمثل لظاهر النفس ، وإذا وقع التجلي بالاسم الظاهر لباطن النفس وقع الإدراك بالبصيرة في عالم الحقائق والمعاني المجردة عن المواد ، وهو المعبر عنها بالنصوص ، فالحق هو الظاهر الذي تشهده العيون ، والباطن الذي تشهده العقول ، فهو مشهود للبصائر والأبصار ، غير أنه لا يلزم من الشهود العلم بأنه هو ذلك المطلوب إلا بإعلام الله ، فكل ما هو العالم فيه من تصريف وانقلاب وتحول من صور في حق وخلق فذلك من حكم الاسم الظاهر ، وهو منتهى علم العالم والعلماء بالله ، وأما الاسم الباطن فهو إليه لا إلينا ، وما بأيدينا منه سوى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على بعض وجوه محتملاته ، إلا أن أوصاف التنزيه لها تعلق بالاسم الباطن وإن كان فيه تحديد ، ولكن ليس في الإمكان أكثر من هذا ، فإنه غاية الفهم عندنا الذي يعطيه استعدادنا. واعلم أن أحوال العالم مع الله على ثلاث مراتب : مرتبة يظهر فيها تعالى بالاسم الظاهر فلا يبطن عن العالم شيء من الأمر ، وذلك في موطن مخصوص ، وهو في العموم موطن القيامة ؛ ومرتبة يظهر فيها الحق في العالم في الباطن ، فتشهده القلوب دون الأبصار ، ولهذا يرجع الأمر إليه ، ويجد كل موجود في فطرته الاستناد إليه والإقرار به ، من غير علم به ولا نظر في دليل ، فهذا من حكم تجليه سبحانه في الباطن ؛ ومرتبة ثالثة له فيها تجل في الظاهر والباطن فيدرك منه في الظاهر قدر ما تجلى به ، ويدرك منه في الباطن قدر ما تجلى به ، فله تعالى التجلي الدائم العام في العالم على الدوام ، وتختلف مراتب العالم فيه لاختلاف مراتب العالم في نفسها ، فهو يتجلى بحسب استعدادهم ، فهو عند العارفين اليوم في الدنيا على حكم تجليه في القيامة ، فيشهده العارفون في صور الممكنات المحدثات الوجود ، وينكره المحجوبون من علماء الرسوم ، ولهذا يسمى بالظاهر في حق هؤلاء العارفين ، والباطن في حق هؤلاء المحجوبين ، وليس إلا هو سبحانه ، فأهل الله الذين هم أهله لم يزالوا ولا يزالون دنيا وآخرة في مشاهدة عينية دائمة ، وإن اختلفت الصور فلا يقدح ذلك عندهم ، ولما سمى الله نفسه بالظاهر والباطن ، اقتضى ذلك أن يكون الأمر الوجودي بالنسبة إلينا بين جلي وخفي ، فما جلّاه لنا فهو الجلي ، وما ستره عنا فهو الخفي ، وكل

٢٧٣

ذلك له تعالى جلي ، ولا يخلو العالم من هاتين النسبتين دنيا وآخرة ، فالجلي من سؤال السائلين يسمعه الحق من الاسم الظاهر ، والخفي منه يسمعه من الاسم الباطن ، فإذا ما أعطاه ما سأل ، فالاسم الباطن يعطيه الظاهر ، والظاهر يعطيه للسائل ـ الوجه الثالث ـ اعلم أن الحق سبحانه هو الباطن فلا يظهر لشيء ، لو ظهر لشيء لأحرقت السبحات ما أدركه البصر ، وهو الحافظ للأشياء فلا يظهر لها ، فإن سئلت : من الظاهر الذي لا يعرف والباطن الذي لا يجهل؟ فقل : هو الحق ـ إشارة ـ لا تصح المعرفة بالله لأحد حتى يتعرف إليه ويعرفه بظهوره ، فيبصره من القلب عين اليقين بنور اليقين ، وقد قال عليه‌السلام مخبرا عن الله [ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن] ـ الوجه الرابع ـ الاسم الظاهر هو ما أعطاه الدليل ، والباطن هو ما أعطاه الشرع من العلم بالله ، والأول بالوجود ، والآخر بالعلم (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فالضمير يعود على الضمير الأول في (هُوَ الْأَوَّلُ) فالأمر من غيب إلى غيب ، وضمير (هُوَ الْأَوَّلُ) يعود على (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وذلك الضمير يعود على الله ، وهو الاسم ، والاسم يطلب المسمى ف (لِلَّهِ) الأول (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الآخر (هُوَ الْأَوَّلُ) الظاهر (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الباطن (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عليم بشيئية الأعيان وشيئية الوجود ، من حيث أجناسه وأنواعه وأشخاصه.

إن الذي أظهر الأعيان لو ظهرا

ما زاد حكما على الأمر الذي ظهرا

هو الجلي الخفي في تصرفه

فليس يظهر منه غير ما ظهرا

مقدس الذات عن إدراك ما ظهرا

لكنه يهب الأرواح والصورا

فكل صورة روح عين صورته

وهو الذي عيّن الأفلاك والبشرا

من آدم خمرت يداه طينته

بذاك سمي في ما قد روي بشرا

لما أتى من وراء الستر كلمني

وما رأيت له عينا ولا خبرا

علمت أن حجابي لم يكن أحدا

غيري فلم أتعب الألباب والفكرا

فما رأيت وجود الحق في أحد

إلا رأيت له في كونه أثرا

 ـ تحقيق ـ النظر العقلي يعطي أن الحق في مرتبة يتقدم فيكون له الاسم الأول ، وفي مرتبة يتأخر فيكون له الاسم الآخر ، والاسم الظاهر له أصل والباطن فرع ، فيحكم له بالأصل من نسبة خاصة ، ويحكم له بالفرع من نسبة أخرى ، وأما ما تعطيه المعرفة الذوقية فهو

٢٧٤

أنه ظاهر من حيث ما هو باطن ، وباطن من عين ما هو ظاهر ، وأول من عين ما هو آخر ، وكذلك القول في الآخر ، لا يتصف أبدا بنسبتين مختلفتين كما يقرره العقل من حيث ما هو ذو فكر ، إذ لو كانت معقولية الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية في نسبتها إلى الحق ، معقولية نسبتها إلى الخلق ، لما كان ذلك مدحا في الجناب الإلهي ، ولا استعظم العارفون بحقائق الأسماء ورود هذه النسب ، بل يصل العبد إذا تحقق بالحق أن تنسب إليه الأضداد وغيرها ، من عين واحدة لا تختلف ، وإذا كان العبد يتصور في حقه وقوع هذا ، فالحق أجدر وأولى ، إذ هو المجهول الذات ، فالحق تعالى عين الضدين ، إذ لا عين زائدة ، فالظاهر عين الباطن والأول والآخر (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ذكر ذلك عن نفسه بطريق المدحة لذاته ، فالعلم من كمال الألوهية ، بل لا تصح الألوهية إلا به ، وهو كونه عالما بكل شيء ، وهذه الآية إشارة لأهل الكشف والصوفية ، تنبيها أنه الوجود كله ، فإن هذا تقسيمه ، فليس إلا هو ، فلو وقفت النفوس مع ما ظهر لعرفت الأمر على ما هو عليه ، لكن طلبت أمرا غائبا عنها ، فكان طلبها عين حجابها ، فما قدرت ما ظهر حق قدره ، لشغلها بما تخيلت أنه بطن عنها ، وما بطن شيء ، وإنما عدم العلم أبطنه ، فما في حق الحق شيء بطن عنه ، فقال تعالى : (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) أي الذي تطلبه في الباطن هو الظاهر فلا تتعب ، فمن شم رائحة من العلم بالله لم يقل : لم فعل كذا؟ وما فعل كذا؟ وكيف يقول العالم بالله لم فعل كذا؟ وهو يعلم أنه السبب الذي اقتضى كل ما ظهر وما يظهر ، وما قدم وما أخر ، وما رتب لذاته فهو عين السبب ، فلا يوجد لعلة سواه ولا يعدم ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، فمشيئته عرش ذاته ، فمن علم نسب الأسماء الإلهية في أعيان الممكنات فتنوعت وتجنست وتشخصت ، علم أنّ سبب ظهور كل حكم في عينه اسمه الإلهي ، وليست أسماؤه سوى نسب ذاتية ـ مناجاة ـ إلهي كيف أوحدك ولا وجود لي في عين الأحدية؟ وكيف لا أوحدك والتوحيد سر العبودية؟ سبحانك لا إله إلا أنت ، ما وحدك من أحد ، إذ أنت كما أنت في سابق الأزل ولا حق الأبد ، فعلى التحقيق ما وحدك أحد سواك ، وفي الجملة ما عرفك إلا إياك ، بطنت وظهرت ، فلا عنك بطنت ، ولا لغيرك ظهرت.

٢٧٥

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤)

(وَهُوَ مَعَكُمْ) بهويته وبأسمائه ، بحسب ما يليق بجلاله من غير تكييف ولا تشبيه ولا تصور ، بل كما تعطيه ذاته وما ينبغي أن ينسب إليها من ذلك ، فإنه القائم على كل شيء ، القائم به كل شيء ، فهو مع كل شيء حيث كان ذلك الشيء ، ليحفظ عليه الوجود (أَيْنَ ما كُنْتُمْ) من الأحوال ، ولا يخلو موجود عن حال ، بل ما تخلو عين موجودة ولا معدومة أن تكون على حال وجودي أو عدمي ، في حال وجودها أو عدمها ، فهو تعالى مع الخلق بإعطاء كل شيء خلقه من كونهم خلقا ، ومعهم بكل ما تطلبه ذواتهم من لوازمها على أي حالة يكون الخلق عليها ، من الوصف بالعدم أو الوجود ، فهو معكم أينما كنتم أي على أي حال كنتم ، من عدم ووجود وكيفيات ، وذلك بأسمائه المؤثرة فينا خاصة ، والحافظة لنا والرقيبة علينا ، وأما الأسماء التي تختص بالعالم الخارج عن الثقلين فأسماء أخر ، ما هي الأسماء التي معنا أينما كنا ، فالحق معك على ما أنت عليه بحسب قبولك ، ما أنت معه ، فلا يصح أن يكون أحد مع الله ، فالله مع كل أحد بما هو عليه ذلك الواحد من الحال ، وكما لم يقيد الحق الاستواء على العرش عن النزول إلى السماء الدنيا ، لم يقيده النزول إلى السماء الدنيا عن الاستواء على العرش ، كما لم يقيده سبحانه الاستواء والنزول عن أن يكون معنا أينما كنا ، بالمعنى الذي يليق به وعلى الوجه الذي يراه ، فالحكم الذي يصحب الحق ولا يحكم عليه زمان خاص (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) فهو في العرش مع الحافين به ، وفي تلك الحالة هو في النزول مع أرواح العروج والنزول ، وفي تلك الحالة هو في السماء يخاطب أهل الليل ، وفي تلك الحال هو في الأرض ، أي موجود غير الله يوصف بهذه الصفات؟ ذلكم الله لا إله إلا هو فأنى يصرفون ؛ فأينما كنا كان الحق معنا ، كينونة وجودية منزهة كما يليق به ، وكان قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) تصديقا لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه ربه [اللهم أنت الصاحب في السفر] فسمى الحق صاحبا ، فهو تعالى الصاحب على كل حال مع العبد

٢٧٦

في أينيته ، فهو تعالى مع عباده المكلفين يحفظ عليهم أنفاسهم في حدوده التي حدّها لهم ، وهو مع من ليس بمكلّف ينظر ما يفعل معه المكلفون ، بأن لا يتعدوا حدوده ، فهو مع كل شيء بهذه المثابة في الدنيا ، وأما في الآخرة فما هو معهم إلا لحفظ أنفاسهم ولما يوجده فيهم ، ولم يقل تعالى : وأنتم معه ؛ لأنه مجهول المصاحبة ، فيعلم سبحانه كيف يصحبنا في كل حال نكون عليه ، ونحن لا نصحبه إلا في الوقوف عند حدوده ، فما نصحب على الحقيقة إلا أحكامه لا هو ، فهو معنا ما نحن معه ، لأنه يعرفنا ونحن لا نعرفه ، فالله مع الخلق ما الخلق مع الله ، لأنه يعلمهم فهو معهم أينما كانوا في ظرفية أمكنتهم وأزمانهم وأحوالهم ، ما الخلق معه تعالى جل جلاله ، فإن الخلق لا تعرفه حتى تكون معه ، وليس بين الحق والعالم بون يعقل أصلا إلا التمييز بالحقائق ، فالله ولا شيء معه سبحانه ، ولم يزل كذلك ولا يزال كذلك لا شيء معه ، فمعيته معنا كما يستحق جلاله وكما ينبغي لجلاله ، ولو لا ما نسب لنفسه أنه معنا لم يقتض العقل أن يطلق عليه معنى المعية ، كما لا يفهم منها العقل السليم حين أطلقها الحق على نفسه ما يفهم من معية العالم بعضه مع بعض ، لأنه ليس كمثله شيء ، فنقول : إن الحق معنا على حد ما قاله وبالمعنى الذي أراده ، ولا نقول : إنّا مع الحق ؛ فإنه ما ورد والعقل لا يعطيه ، فما لنا وجه عقلي ولا شرعي يطلق به أننا مع الحق ، وأما من نفى عنه إطلاق الأينية من أهل الإسلام فهو ناقص الإيمان ، فإن العقل ينفي عنه معقولية الأينية ، والشرع الثابت في السنة لا في الكتاب قد أثبت إطلاق الأينية على الله ، فلا تتعدى ولا يقاس عليها ، وتطلق في الموضع الذي أطلقها الشارع ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للسوداء التي ضربها سيدها [أين الله؟ فأشارت إلى السماء ، فقبل إشارتها ، وقال : أعتقها فإنها مؤمنة] لأن الله أخبر عن نفسه أنه في السماء ، فصدقته في خبره فكانت مؤمنة ، ولم يقل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها عند ذلك إنها عالمة ؛ وأمر بعتقها ، والعتق سراح من قيد العبودية ، تنبيه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعتق في حقها من قيد العبودية والملك ، على أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) سراح من قيد الأينية وفاء الظرف التي أتت به السوداء ، والسائل بالأينية أعلم الناس بالله تعالى ، وفي هذه الآية رد على القائل : إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات ، فيكون قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) هو قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) الآية ، فهو تعالى ثالث اثنين ، ورابع ثلاثة ، وخامس أربعة ، بالغا ما بلغ ، فهو مع المخلوقين حيث كانوا ، فهو تعالى رفيقنا

٢٧٧

في كل وجهة نكون فيها ، غير أننا حجبنا ، فسمى انفصالنا عن هذا الوجود الحسي بالموت لقاء الله ، وما هو لقاء وإنما هو شهود الرفيق الذي أخذ الله بأبصارنا عنه ، فقال : [من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه] فلم يعرفه المحجوب رفيقا حتى لقيه ، فإذا لقيه عرفه ـ دلالة هذه الآية على التوحيد ـ اعلم أنه مهما نظرت الوجود جمعا وتفصيلا ، وجدت التوحيد يصحبه لا يفارقه البتة ، صحبة الواحد الأعداد ، فإن الاثنين لا توجد أبدا ما لم تضف إلى الواحد مثله ، وهو الاثنين ، ولا تصح الثلاثة ما لم تزد واحدا على الاثنين ، وهكذا إلى ما لا يتناهى ، فالواحد ليس العدد وهو عين العدد ، أي به ظهر العدد ، فالعدد كله واحد ، لو نقص من الألف واحد انعدم الألف وحقيقته ، وبقيت حقيقة أخرى وهي تسعمائة وتسعة وتسعون ، لو نقص منها واحد لذهب عينها ، فمتى انعدم الواحد من شيء عدم ، ومتى ثبت وجد ذلك الشيء ، هكذا التوحيد إن حققته (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) إشارة ـ العالم كله حرف جاء لمعنى ، معناه الله ، ليظهر فيه أحكامه ، إذ لا يكون في نفسه محلا لظهور أحكامه ، فلا يزال المعنى مرتبطا بالحرف ، فلا يزال الله مع العالم ، وهو قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ـ فائدة ـ غاية العامة إذا كانت مؤمنة أن تعلم أن الله معها ، والفائدة أن تكون أنت مع الله لا في أنه معك ، فكذلك هو الأمر في نفسه ، فمن كان مع الحق فلابد أن يشهد الحق ، ومن شهده فليس إلا وجود العلم عنده ، فإنه معك أينما كنت ، فلا تقع عينك إلا عليه ، لكن بقي عليك أن تعرفه ، فإن عرفته لم تطلبه ، فإنك لم تفقده ، فإذا رأيت من يطلبه فإنما يطلب سعادته في طريقه ، وسعادته دفع الآلام عنه ، ليس غير ذلك كان حيث كان ، فالجاهل كل الجاهل من طلب الحاصل ، فما أحد أجهل ممّن طلب الله ؛ لو كنت مؤمنا بقوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) وبقوله (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) لعرفت أن أحدا ما طلب الله ، وإنما طلب سعادته حتى يفوز من المكروه (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ

٢٧٨

وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧)

لما أقام الله الإنسان خليفة فهو وكيل أمره بقوله : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) والاستخلاف نيابة ، فإن المال لله والتصرف لك فيه على حد من استخلفك فيه ، فهي نيابة العبد عن الله ، فإن الله ما خلق الأشياء ـ والأموال من الأشياء ـ إلا له تعالى لتسبيحه ، ووقعت المنفعة لنا بحكم التبعية ، فالوكيل يملك التصرف في مال الموكل ولا يملك المال ، فحد لنا في الوكالة أمورا لا نتعداها ، فما هي وكالة مطلقة مثل ما وكلناه نحن بأمره (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) فحد حدودا لنا ، إن تعديناها تعدينا حدود الله ، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ، فإن زدنا على ما رسم لنا أو نقصنا عاقبنا ، فلو كانت الأموال لنا لكان تصرفنا فيها مطلقا ، وما وقع الأمر هكذا ، بل حجر علينا التصرف فيها ، فما هي وكالة مفوضة ، بل مقيدة بوجوه مخصوصة من رب المال الذي هو الحق الموكل ، فأمرنا بالإنفاق بما حد لنا أن ننفقه فيه ، امتثالا وأداء أمانة لمن شاء من عبيده ، فلنا الإنفاق بحكم الخلافة ، والإنفاق ملك لنا ، والإنفاق تصرف ، فجعلنا الحق عن أمره وكيلا عنا في الإنفاق لقوله تعالى : (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) أي خليفة ، لعلمنا بأنه يعلم من مواضع التصرف ما لا نعلمه ، فهو المالك وهو الخليفة ، فهو أعلم بالمصالح ومواضع الإنفاق التي لا يدخلها حكم الإسراف ولا التقتير ، فتولى الله الإنفاق علينا بأن ألهمنا حيث ننفق ومتى ننفق ، فإن النفقة على أيدينا تظهر ، فيدنا يد الوكيل في الإنفاق ، فإن الله لما أخبر أن لقوم في أموالهم حقا يؤدونه ، وما له سبب ظاهر تركن النفس إليه لا من دين ولا بيع ، إلا ما ذكر الله تعالى من ادخار ذلك له ثوابا إلى الآخرة ، شق ذلك على النفوس للمشاركة في الأموال ، ولما علم الله هذا منهم في جبلة نفوسهم ، أخرج ذلك القدر من الأموال من أيديهم ، بل أخرج جميع الأموال من أيديهم فقال تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي هذا المال ما لكم منه إلا ما تنفقون منه ، وهو التصرف فيه ، كصورة الوكلاء ، والمال لله ، وما تبخلون به فإنكم تبخلون بما لا تملكون ، لكونكم فيه خلفاء ، وعلى ما بأيديكم أمناء فينبههم بأنهم مستخلفون فيه ، وذلك ليسهل عليهم الصدقات رحمة بهم.

٢٧٩

(وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (٩) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٠)

(وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لما كان بيننا وبين الحق نسب ودين ، لهذا ما يرث الأرض عزوجل إلا بعد موت الإنسان الكامل ، حتى لا يقع الميراث إلا في مستحق له ، كما يرث السماء لما فيها من حكم أرواح الأنبياء عليهم‌السلام ، لا من كونها محلا للملائكة ، فإذا صعقوا بالنفخة ورث الله السماء ، فأنزل الاسم الوارث الملائكة من السماء ، وبدّل الأرض غير الأرض والسموات (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) النفقة بعد الهجرة لا يبلغ أجرها أجر النفقة قبل الهجرة ، في أهل مكة ولا في كل موضع يكون العبد مخاطبا فيه بالهجرة منه إلى غيره ، فيعمل فيه خيرا وهو فيه مستوطن ، ثم يعمل خيرا بعد هجرته ، فهذا الخير يتفاضل بقدر المشقة (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

(مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١١)

الأجور أربعة : أجر مطلق لا يتقيد ، وأجر عظيم ، وأجر كريم ، وأجر كبير ، فالأجور مراتب ، لكل واحد أجر يخصه على صفة مخصوصة ، فينسب كل أجر إلى ما يناسبه.

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ

٢٨٠