رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الرحمن ـ العامة لجميع ما خلق الله دنيا وآخرة ، وعلوا وسفلا ـ على الجن ، فما قال في آية منها : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إلا قالت الجن : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ؛ فمدحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه بحسن الاستماع ، حين تلاها عليهم ولم يقولوا شيئا من ذلك ، فقال لهم : [لقد تلوتها على إخوانكم من الجن فكانوا أحسن استماعا لها منكم ، وذكر الحديث] وفيه [فما قلت لهم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إلا قالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب] فكان ذلك المدح في شرف الجن علينا ، ولم يكن سكوت الصحابة عن جهل بأن الآلاء من الله ، ولا أن الجن أعرف منهم بنسبة الآلاء إلى الله ، ولكن الجن وفّت بكمال المقام الظاهر حيث قالت : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ؛ فإن الموطن يقتضيه ، ولم تقل ذلك الصحابة من الإنس حين تلاها عليهم ، شغلا منهم بتحصيل علم ما ليس عندهم مما يجيء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشغلهم ذلك الحرص على تعمير الزمان الذي يقولون فيه ما قالت الجن ، أن يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يقول من العلم ، فيستفيدون ، فهم أشد حرصا على اقتناء العلم من الجن ، والجن أمكن في توفية الأدب بما يقتضيه هذا الموطن من الجواب من الإنس ، فمدحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما فضلوا به على الإنس ، وما مدح الإنس بما فضلوا به على الجن ، من الحرص على مزيد العلم بسكوتهم عنده تلاوته ، ولا سيما والحق يقول لهم : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) والسورة واحدة في نفسها ، كالكلام غير التام ، فهم ينصتون حتى يتمها ، فجمع الصحابة من الإنس بين فضيلتين لم يذكرهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر فضل الجن فيما نطقوا به ، فإن نطقهم تصريح بالعبودية بلسان الظاهر ، وهم بلسان الباطن أيضا عبيد ، فجمعوا بين اللسانين بهذا النطق والجواب ، ولم يفعل الإنس من الصحابة ذلك عند التلاوة ، فنقصهم هذا اللسان ، فكان توبيخ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم تعليما بما تستحقه المواطن ، أعني مواطن الألسنة الناطقة ليتنبهوا ، فلا يفوتهم ذلك من الخير العملي ، فإنهم كانوا في الخير العلمي في ذلك الوقت ، وحكم العمل في موطنه لا يقاومه العلم ، فإن الحكم للموطن ، وحكم العلم في موطنه لا يقاومه العمل ، فنبّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحابة على الأكمل في موطنه ، وهو المعلم فنعم المؤدب ، وانظر ما أعلم الجن بحقائق ما خوطبوا ، كيف أجابوا بنفس ما خوطبوا به ، حتى بالاسم الرب ، ولم يقولوا : يا إلهنا ولا غير ذلك ، ولم يقولوا : ولا بشيء منها ؛ وإنما قالوا : من آلائك ؛ كما

٢٤١

قيل لهم ، لاحتمال أن يكون الضمير يعود على نعمة مخصوصة في تلك الآية ، وهم يريدون جميع الآلاء حتى يعم التصديق.

(خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ) (١٥)

فالإنسان ما يفخر إلا بالجان ، وبما في الجان من الضلال كان الصلصال ، وهو الثناء الذميم على من خلق في أحسن تقويم ، فيبقى الإنسان على التقديس ، ويأخذ صلصاله إبليس ، فيرجع أصله إليه ، ويحور وباله عليه ، والجياد على أعراقها تجري ، ونجومها في أفلاكها تسبح ، وتسري ـ باب في خلق الجان ـ المرج الاختلاط ، والمارج المختلط ، ومنه سمي المرج مرجا لاختلاط النبات فيه ، لأنه يحوي على أخلاط من الأزهار والنبات ، فلما خلق الله الأركان الأربعة دون الفلك ، وأدارها على شكل الفلك ، والكل أشكال في الجسم الكل ، فأول حركة فلكية ظهر أثرها فيما يليها من الأركان وهو النار ، فأثّر فيه اشتعالا بما في الهواء من الرطوبة ، فكان ذلك الاشتعال واللهب من النار والهواء وهو المارج ، فلما اختلط الهواء بالنار اشتعل وحمي واتقد مثل السراج وأحدث اشتعالا ولهبا ، فتح الله في تلك الشعلة الجان ، وهو في الأصل من عنصرين هواء ونار ، كما كان آدم من عنصرين ماء وتراب ، عجن به فحدث له اسم الطين ، كما حدث لامتزاج النار بالهواء اسم المارج ، ففتح سبحانه في ذلك المارج صورة الجان ، فبما فيه من الهواء يتشكل في أي صورة شاء ، وبما فيه من النار سخف وعظم لطفه ، وكان فيه طلب القهر والاستكبار والعزة ، فإن النار أرفع الأركان مكانا ، وله سلطان على إحالة الأشياء التي تقتضيها الطبيعة ، وهو السبب الموجب لكونه استكبر عن السجود لآدم ، عندما أمره الله عزوجل ، بتأويل أداه أن يقول : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) يعني بحكم الأصل ، كما في الجان من بقية الأركان ، ولذا سمي مارجا ، ولكن ليس لها في نشأته ذلك السلطان ، فالتكبر في الجان بالطبع للنارية ، فإن تواضع فلأمر يعرض له يقبله بما فيه من الترابية ، كما أن تواضع آدم للطينية بالطبع ، فإن تكبر فلأمر يعرض له يقبله بما فيه من النارية ، وللجن التشكل في الصور كالملائكة ، وأخذ الله بأبصارنا عنهم فلا نراهم إلا إذا شاء الله أن يكشف لبعض عباده فيراهم ، ولما كانوا من عالم السخافة واللطافة قبلوا التشكل فيما يريدونه من الصور الحسية ، فالصورة الأصلية التي ينسب إليها الروحاني

٢٤٢

إنما هي أول صورة قبل عندما أوجده الله ، ثم تختلف عليه الصور بحسب ما يريد أن يدخل فيها ، ولما نفخ الروح في اللهب وهو كثير الاضطراب لسخافته ، وزاده النفخ اضطرابا ، وغلب الهواء عليه ، وعدم قراره على حالة واحدة ، ظهر عالم الجان في تلك الصورة ، وكما وقع التناسل في البشر بإلقاء الماء في الرحم ، فكانت الذرية والتوالد في هذا الصنف البشري الآدمي ، كذلك وقع التناسل في الجان بإلقاء الهواء في رحم الأنثى منهم ، فكانت الذرية والتوالد في صنف الجان ، وخلق الله الجان شقيا وسعيدا ، وكذلك خلق الإنس ، وخلق الله الملك سعيدا لا حظ له في الشقاء ، فسمي شقي الإنس والجان كافرا ، وسمي السعيد من الجن والإنس مؤمنا ، وكذلك شرك بينهما في الشيطنة ، فقال تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) فمن ثبت على إغوائه من الجن كان شيطانا ، ومن ثبت على الطاعات لم يكن شيطانا ، وهذا الثبات على الحالين بما في الجن من الترابية ، وبما فيها من المائية ذهبت حمية النارية ، فمنهم الطائع والعاصي مثلنا ، والتوالد من الجن إلى اليوم باق ، وكذلك فينا ، فأصل أجسام الملائكة نور ، والجن نار مارج ، والإنسان مما قيل لنا ، ولكن كما استحال الإنس عن أصل ما خلق منه ، كذلك استحال الملك والجن عن أصل ما خلقا منه إلى ما هما عليه من الصور ، فالملائكة أرواح منفوخة في أنوار ، والجان أرواح منفوخة في رياح ، والأناسي أرواح منفوخة في أشباح ، والجن مع كونهم موصوفين باللطافة فهم من نار مركبة ، فيها رطوبة المواد ، والشياطين من الجن هم الأشقياء المبعدون من رحمة الله منهم خاصة ، والسعداء بقي عليهم اسم الجن ، وهم خلق بين الملائكة والبشر الذي هو الإنسان ، فالجن عنصري ولهذا تكبر ، فلو كان طبيعيا خالصا من غير حكم العنصر ما تكبر وكان مثل الملائكة ، فهو برزخي النشأة ، له وجه إلى الأرواح النورية بلطافة النار منه ، فله الحجاب والتشكل ، وله وجه إلينا ، به كان عنصريا ومارجا ، ولما غلب على الجان عنصر الهواء والنار ، لذلك كان غذاؤهم ما يحمله الهواء مما في العظام من الدسم ، فإن الله جاعل لهم فيها رزقا ، فإنا نشاهد جوهر العظم وما يحمله من اللحم لا ينقص منه شيء ، فعلمنا قطعا أن الله جاعل لهم فيها رزقا ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العظام : [إنها زاد إخوانكم من الجن] وفي حديث : [إن الله جاعل لهم فيها رزقا] وأما اجتماع بعضهم ببعض عند النكاح فالتواء ، مثل ما تبصر الدخان الخارج من الأتون أو من فرن الفخار ، يدخل بعضه في بعضه ، فيلتذ

٢٤٣

كل واحد من الشخصين بذلك التداخل ، ويكون ما يلقونه كلقاح النخلة بمجرد الرائحة كغذائهم سواء ، وهم قبائل وعشائر ، وتقع بينهم حروب عظيمة ، وبعض الزوابع قد يكون عين حربهم ، وما كل زوبعة حربهم ، وهذا العالم الروحاني إذا تشكل وظهر في صورة حسية يقيده البصر ، بحيث لا يقدر أن يخرج عن تلك الصورة ما دام البصر ينظر إليه بالخاصية ، ولكن من الإنسان ، فإذا قيده ولم يبرح ينظر إليه ، وليس له موضع يتوارى فيه ، أظهر له الروحاني صورة جعلها عليه كالستر ، ثم يخيل له مشي تلك الصورة إلى جهة مخصوصة ، فيتبعها بصره ، فإذا تبعها بصره خرج الروحاني عن تقييده ، فغاب عنه ، وبمغيبه تزول تلك الصورة عن نظر الناظر الذي أتبعها بصره ، فإنها للروحاني كالنور مع السراج المنتشر في الزوايا نوره ، فإذا غاب جسم السراج فقد ذلك النور ، فهكذا هذه الصورة ، فمن يعرف هذا ويحب تقييده لا يتبع الصورة بصره ، وليست الصورة غير الروحاني بل هي عينه ، ولو كانت في ألف مكان أو في كل مكان ومختلفة الأشكال ، وإذا اتفق قتل صورة من تلك الصور وماتت في ظاهر الأمر ، انتقل ذلك الروحاني من الحياة الدنيا إلى البرزخ ، كما ننتقل نحن بالموت ، ولا يبقى له في عالم الدنيا حديث ، مثلنا سواء ، وتسمى تلك الصورة المحسوسة التي تظهر فيها الروحانيات أجسادا ، وهو قوله تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) والفرق بين الجان والملائكة وإن اشتركوا في الروحانية ، أن الجان غذاؤهم ما تحمله الأجسام الطبيعية من المطاعم ، والملائكة ليست كذلك ، وأعطى الاسم اللطيف الجان أن يجري من ابن آدم مجرى الدم ، ولا يشعر به ، وأورثت اللطافة الجان الاستتار عن أعين الناس ، فلا تدركهم الأبصار إلا إذا تجسدوا ، قال تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) ، ولما تمت نشأة الموجود الأول من الجان واستقامت بنيته ، توجه الروح من عالم الأمر فنفخ في تلك الصورة روحا ، سرت فيها بوجودها الحياة ، فقام ناطقا بالحمد والثناء لمن أوجده جبلة جبل عليها ، وفي نفسه عزة وعظمة لا يعرف سببها ، ولا على من يعتز بها ، إذ لم يكن ثمّ مخلوق آخر من عالم الطبائع سواه ، فبقي عابدا لربه ، مصرا على عزته ، متواضعا لربوبية موجده بما يعرض له مما هو عليه في نشأته ، إلى أن خلق آدم ، فلما رأى الجان صورته ، غلب على واحد منهم اسمه الحارث بغض تلك النشأة ، وتجهم وجهه لرؤية تلك الصورة الآدمية ، فظهر ذلك منه لجنسه ، فعتبوه لذلك لما رأوه عليه من الغم

٢٤٤

والحزن لها ، فلما كان من أمر آدم ما كان ، أظهر الحارث ما كان يجد في نفسه منه ، وأبى امتثال أمر خالقه بالسجود لآدم ، واستكبر على آدم بنشأته وافتخر بأصله ، وغاب عن سر قوة الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي ، ومنه كانت حياة الجان وهم لا يشعرون ، وكان أول من سمي شيطانا ، أي مبعودا من رحمة الله ، من الجن الحارث ، فأبلسه الله ، أي طرده من رحمته ، ومنه تفرعت الشياطين بأجمعها ، وجعل الله سماع الجن للقرآن إذا تلي عليهم أحسن من سماع الإنس ، فلما تلا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الرحمن ، فما قال في آية منها.

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (١٦)

إلا قالت الجن : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ؛ وكيف وفي نعمائك نتقلب ، ثم تلاها بعد ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإنس من أصحابه ، فلم يظهر منهم من القول عند التلاوة ما ظهر من الجن ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : [إني تلوت هذه السورة على الجن ، فكانوا أحسن استماعا لها منكم] وذكر الحديث ، كما ذكر تعالى عنهم الإنصات عند سماع القرآن ، فقال تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) إلى آخر الآية ، وقال عن الجن : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) إلى آخر الآية ، ولا روي عن أحد من الإنس أنه قال مثل هذا القول.

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (١٧)

ـ الوجه الأول ـ لشروق الشمس وغروبها في زمان الصيف والشتاء ـ الوجه الثاني ـ

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ) في ظاهر النشأتين (وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) في باطن الصورتين.

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (١٨) يا هذان

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ) (٢٠)

أي لا يختلط أحدهما بالآخر ، وإن عجز الحس عن الفصل بينهما ، والعقل يقضي أن

٢٤٥

بينهما حاجزا يفصل بينهما ، فذلك الحاجز المعقول هو البرزخ ، فلو لا ذلك البرزخ لم يتميز أحدهما عن الآخر ولأشكل الأمر ، فهو خط وهمي بين النقيضين لئلا يقع الالتباس.

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) (٢٢)

اللؤلؤ هو ما كبر من الجوهر ، والمرجان هو ما صغر منه.

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) (٢٦)

بزوال شكله وصورته وانتقال روحه إلى البرزخ ، فإنه سبحانه ما يسوي صورة محسوسة في الوجود إلا وينفخ الله فيها روحا من أمره ، لا يزال يسبحه ذلك الشكل بصورته وروحه إلى أن يزول ، فينتقل روحه إلى البرزخ ، وقال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها) ولم يقل : كل من فيها (فانٍ) لأنه إذا كان فيها انحفظ بها وإذا كان عليها تجرد عنها.

(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) (٢٧)

الجلال من صفات الوجه فله البقاء دائما ، وهو من أدل دليل على أن كل ما في الدنيا في الآخرة بلا شك ، قال تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) فقال قائل : بأي نسبة يكون له هذا البقاء؟ فقال : (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) فرفع بنعت الوجه ، فلو خفض نعت الرب ، وكان النعت بالجلال وله النقيضان ، فيبقى الوجه الذي له النقيضان ولا يفنى ، وإنما يفنى ما كان على هذه الأرض فناء انتقال في الجوهر وفناء عدم في الصورة ، فيظهر مثل الصورة لا عينها في الجوهر الباقي الذي هو عجب الذنب ، الذي تقوم عليه النشأة الآخرة ـ نصيحة ـ اعلم أن للإنسان وجهين : وجها إلى ذاته ووجها إلى ربه ، ومع أي وجه توجهت غبت عن الآخر ، غير أن هنا لطيفة أنبهك عليها ، وذلك أنّك إذا توجهت إلى مشاهدة وجهك غبت عن وجه ربك ذي الجلال والإكرام ، ووجهك هالك ، فإذا انقلبت إليه فني عنك وجهك ، فصرت غريبا في الحضرة تستوحش فيها ، وتطلب وجهك الذي كنت تأنس به

٢٤٦

فلا تجده ، وإن توجهت إلى وجه ربك وتركت وجهك أقبل عليك ولم يكن لك مؤنس سواه ، ولا مشهود إلا إياه ، فإذا انقلبت إليه الانقلاب الخاص الذي لابد لكل إنسان منه ، وجدت من كان لك قبل هذا الانقلاب أنيسا وجليسا وصاحبا ، ففرحت بلقائه وعاد الأنس أعظم ، وتتذكر الأنس الماضي فتزيد أنسا على أنس ، وترى عنده وجه ذاتك ولا تفقده ، فتجمع بين الوجهين في صورة واحدة ، فيتحد الأنس لاتحاد الوجهين ، فيعظم الابتهاج والسرور ، فالمؤمن الكامل يكون بباطنه مع الله في كل حال.

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢٨) يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢٩)

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بلسان حال ولسان مقال ، وهكذا ينبغي أن يكون الملك يستشرف كل يوم على أحوال أهل ملكه ، فما له شغل إلا بها ، فيقول تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) اليوم هنا قدر نفس المتنفس في الزمان الفرد ، فإن الأيام كثيرة ، ومنها كبير وصغير ، وأصغر الأيام الزمن الفرد الذي لا يقبل القسمة ، وعليه يخرج قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فسمى الزمان الفرد يوما ، لأن الشأن يحدث فيه ، فهو أصغر الأزمان وأدقها ، ولا حد لأكبرها يوقف عنده ، وبينهما أيام متوسطة ، أولها اليوم المعلوم في العرف وتفصّله الساعات ، فاليوم في هذه الآية هو الزمن الفرد في كل شيء الذي لا ينقسم ، وذلك من اسمه تعالى الدهر ، لأن من صفة الدهر التحول القلب ، والله هو الدهر ، وثبت أنه يتحول في الصور وأنه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، والشأن هو ما يحدثه الله من التغييرات في الأكوان ، وهو ما نحن فيه وهو يخلقه ، فالشأن ليس إلا الفعل وهو ما يوجده الله في كل يوم من أصغر الأيام ، فوصف الحق نفسه أنه كل يوم في شأن ، يعني أنه هو في شؤون ، وليست التصريفات والتقليبات والعالم سوى هذه الشؤون التي الحق فيها ، وذلك راجع إلى التحول الإلهي في الصور الوارد في الصحيح ، فمن هناك ظهر التغيير في الأكوان أبد الآبدين إلى غير نهاية ، لتغير الأصل ، ومن هذه الحقيقة ظهر حكم الاستحالة في العالم ، وهو الشؤون المختلفة ، لأنه ما ثمّ إلا الله والتوجه وقبول الممكنات لما أراد الله بذلك التوجه ،

٢٤٧

فالحق في شؤون على عدد ما في الوجود من أجزاء العالم الذي لا ينقسم كل جزء منه بهذا الشرط ، فهو في شأن مع كل جزء من العالم ، بأن يخلق فيه ما يبقيه ، سوى ما يحدثه مما هو قائم بنفسه في كل زمان فرد ، وتلك الشؤون أحوال المخلوقين ، وهم المحال لوجودها فيهم ، فإنه فيهم يخلق تلك الشؤون دائما ، وهي الأحوال ، فهي أعراض تعرض للكائنات يخلقها فيهم ، عبّر عنها بالشأن الذي هو فيه دنيا وآخرة ، فلا يزال العالم مذ خلقه الله إلى غير نهاية في الآخرة والوجود في أحوال تتوالى عليه ، الله خالقها دائما بتوجهات إرادية ، فشؤون الحق لا تظهر إلا في أعيان الممكنات ، وشؤون الحق هي عين استعدادك ، فلا يظهر فيك من شؤون الحق التي هو عليها إلا ما يطلبه استعدادك ، فإن حكم استعداد الممكن بالإمكان أدى إلى أن يكون شأن الحق فيه الإيجاد ، ألا ترى أن المحال لا يقبله ، فشؤون الحق هي أحوال خلقه ، يجددها لهم في كل يوم ، أي زمان فرد ، فلا يتمكن للعالم استقرار على حالة واحدة وشأن واحد ، لأنها أعراض ، والأعراض لا تبقى زمانين مطلقا ، فلا وجود لها إلا زمان وجودها خاصة ، ثم يعقبها في الزمان الذي يلي زمان وجودها الأمثال والأضداد ، فأعيان الجواهر على هذا لا تخلو من أحوال ، ولا خالق لها إلا الله ، فالحق في شؤون أبدا ، فإنه لكل عين حال ، فللحق شؤون حاكمة إلى غير نهاية ، ولا بلوغ غاية ، ولنا الأحوال ، فليس في العالم سكون البتة ، وإنما هو متقلب أبدا دائما ، من حال إلى حال دنيا وآخرة ، ظاهرا وباطنا ، إلا أن ثمّ حركة خفية وحركة مشهودة ، فالأحوال تتردد وتذهب على الأعيان القابلة لها ، والحركات تعطي في العالم آثارا مختلفة ، ولولاها ما تناهت المدد ولا وجد حكم العدد ، ولا جرت الأشياء إلى أجل مسمى ، ولا كان انتقال من دار إلى دار ، فمن المحال ثبوت العالم زمانين على حالة واحدة ، بل تتغير عليه الأحوال والأعراض في كل زمان فرد ، وهو الشؤون التي هو الحق فيها ، ولا يظهر سلطان ذلك إلا في باطن الإنسان ، فلا يزال يتقلب في كل نفس في صور تسمى الخواطر ، لو ظهرت إلى الأبصار لرأيت عجبا ، فلو راقب الإنسان قلبه لرأى أنه لا يبقى على حالة واحدة ، فيعلم أن الأصل لو لم يكن بهذه المثابة لم يكن لهذا التقليب مستند ، فإنه بين أصبعين من أصابع خالقه وهو الرحمن ، ولما كان الله كل يوم هو في شأن كان تقليب العالم الذي هو صورة هذا القلب من حال إلى حال مع الأنفاس ، فلا يثبت العالم قط على حال واحدة زمانا فردا ، لأن الله

٢٤٨

خلّاق على الدوام ، ولو بقي العالم على حالة واحدة زمانين لاتصف بالغنى عن الله ، ولكن الناس في لبس من خلق جديد ، والخلق الجديد حيث كان دنيا وآخرة وبرزخا. فمن المحال بقاء حال على عين نفسين أو زمانين للاتساع الإلهي ، لبقاء الافتقار على العالم إلى الله ، فالتغيير له واجب في كل نفس ، والله خالق فيه في كل نفس ، فالأحوال متجددة مع الأنفاس على الأعيان ، لذلك نزل في سورة الرحمن أنه عزوجل كل يوم هو في شأن ، والشؤون لا تنحصر فلا تقتصر ، واليوم مقداره النفس ، فراقب الصبح إذا تنفس بما تنفس ، واحذر من الليل إذا عسعس ، فإنه أبلس فيه من أبلس ، فإن الحق سبحانه في كل نفس في الخلق في شأن ، وهو أثره في كل عين موجودة بكيفية خاصة ، فمن فاته مراعاة أنفاسه في الدنيا والآخرة فاته خير كثير ، فإن الحق في كل يوم من أيام الأنفاس في شأن ، ما وكّلته فيه ، فإنه لك يتصرف ولك يصرف فيما استخلفك فيه ، فأنت تتصرف عن أمر وكيلك ، فأنت خليفة خليفتك. واعلم أن الأسماء الإلهية التي يظهر بها الحق في عباده ، وبها يتلون العبد في حالاته ، هي في الحق أسماء وفينا تلوينات ، وهي عين الشؤون التي هو فيها الحق ، فكل حال في الكون هو عين شأن إلهي ، فالعالم كله على الصورة ، وليس هو غير الشؤون التي يظهر بها ، وهذه الانتقالات في الأحوال من أثر كونه كل يوم هو في شأن ، فالشؤون الإلهية هي الاستحالات في الدنيا والآخرة ، فلا يزال الحق يخلع صورة فيلحقها بالثبوت والعدم ، ويوجد صورة من العدم في هذا الملأ ، فلا يزال التكوين والتغيير فيه أبدا ، ويتميز الحق عن الخلق بأنه يتقلب في الأحوال ، لا تتقلب عليه الأحوال ، لأنه يستحيل أن يكون للحال على الحق حكم ، بل له تعالى الحكم عليها ، فلهذا يتقلب فيها ولا تتقلب عليه ، فإنها لو تقلبت عليه أوجبت له أحكاما ، وعين العالم ليس كذلك ، تتقلب عليه الأحوال فتظهر فيها أحكامها ، وتقليبها عليها بيد الله تعالى ، ولو لا الأحوال ما تميزت الأعيان ، فإنه ما ثمّ إلا عين واحدة تميزت بذاتها عن واجب الوجود ، كما اشتركت معه في وجوب الثبوت ، فله تعالى الثبوت والوجود ، ولهذه العين وجوب الثبوت ، فالأحوال لهذه العين كالأسماء الإلهية للحق ، فكما أن الأسماء للعين الواحدة لا تعدد المسمى ولا تكثّره ، كذلك الأحوال لهذه العين لا تعددها ولا تكثرها ، مع معقولية الكثرة والعدد في الأسماء والأحوال ، فحصل لهذه العين الكمال بالوجود ، الذي هو من جملة الأحوال التي تقلبت عليها ، فما نقصها من الكمال إلا نفي

٢٤٩

حكم وجوب الوجود ، للتمييز بينها وبين الله ، إذ لا يرتفع ذلك ولا يصح لها فيه قدم ، وهو تعالى في شؤون العالم بحسب ما يقتضيه الترتيب الحكمي ، فشأنه غدا لا يمكن أن يكون إلا في غد ، وشأن اليوم لا يمكن أن يكون إلا اليوم ، وشأن أمس لا يمكن أن يكون إلا في أمس ، هذا كله بالنظر إليه تعالى ، وأما بالنظر إلى الشأن ، يمكن أن يكون في غير الوقت الذي تكون فيه لو شاء الحق تعالى ، وما في مشيئته جبر ، ولا تحير ، تعالى الله عن ذلك ، بل ليس لمشيئته إلا تعلق واحد لا غير ، فكل يوم هو في شأن وهو ما يحدث في أصغر يوم في العالم من الآثار الإلهية والانفعالات ، من تركيب وتحليل وتصعيد وتنزيل وإيجاد وشهادة ، وكنّى عزوجل عن هذا اليوم الصغير باليوم المعروف في العامة ، فوسّع في العبارة من أجل فهم المخاطبين وقال : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فالشأن مسألة السائلين ، فإنه ما من موجود إلا وهو سائله تعالى ، لكن هم على مراتب في السؤال ، فأما الذين لم يوجدهم الله عن سبب فإنهم يسألونه بلا حجاب ، لأنهم لا يعرفون سواه علما وغيبا ، ومنهم من أوجده الله تعالى عند سبب يتقدمه ، وهو أكثر العالم ، وهم في سؤاله على قسمين : منهم من لم يقف مع سببه أصلا ولا عرّج عليه ، وفهم من سببه أنه يدله على ربه لا على نفسه ، فسؤال هذا الصنف كسؤال الأول بغير حجاب ، ومنهم من وقف مع سببه وهم على قسمين : منهم من عرف أن هذا سبب قد نصبه الحق ، وأن وراءه مطلبا آخر فوقه ، وهو المسبب له ، ولكن ما تمكنت قدمه في درج المعرفة لموجد السبب ، فلا يسأله إلا بالسبب ، لأنه أقوى للنفس ، ومنهم من لم يعرف أن خلف السبب مطلبا ، ولا أن ثمّ سببا ، فالسبب عنده نفس المسبب ، فهذا جاهل ، فسأل السبب فيما يضطر إليه ، لأنه تحقق عنده أنه ربه ، فما سأل إلا الله ، لأنه لو لم يعتقد فيه القدرة على ما سأله فيه لما عبده ، وذلك لا يكون إلا الله ، فهو ما سأل إلا الله ، ومن هذا المقام يجيبه الحق على سؤاله لأنه المسؤول ، ولكن بهذه المثابة ، فعلى هذا هو المسؤول بكل وجه وبكل لسان ، وعلى كل حال ، والمشهود له بالقدرة المطلقة النافذة في كل شيء ، فما من جوهر فرد في العالم إلا وهو سائله سبحانه في كل لحظة وأدق من اللحظة ، لكون العالم في كل لطيفة ودقيقة مفتقر إليه ومحتاج ، أولها في حفظه لبقاء عينه ومسك الوجود عليه بخلق ما به بقاؤه ، وليس من شرط السؤال هنا بالأصوات فقط ، وإنما السؤال من كل عالم بحسب

٢٥٠

ما يليق به ويقتضيه أفقه وحركة فلكه ومرتبته ، وقد قال تعالى فيما شرّف سليمان به أنه علمه منطق الطير ، فعرف لغتها ، وتبسم ضاحكا من قول النملة للنمل ، وفي القرآن وفي الأخبار الصحيحة من هذا كثير ، فكلام كل جنس ما يشاكله ، وعلى حسب ما يليق بنشأته ويعطيه استعداد القبول للروحانية الإلهية السارية في كل موجود ، وكل يعمل على شاكلته ، فما من موجود بعد هذا إلا ويتفق منه السؤال ، فشأنه في كل دقيقة خلق السؤال في السائلين وخلق الإجابة بقضاء الحاجات ، وتنزل على أصحابها بحسب دورة الفلك الذي يخلق منه الإجابة ، فإن كان الفلك بعيدا أعني حركة التقدير التي بها تنزل على صاحبها بعد كذا وكذا حركة ، فتتأخر الإجابة ، وقد تتأخر للدار الآخرة بحسب حركتها ، وإن كان فلكها قريبا أعني حركة التقدير التي خلقت الإجابة فيها ، ظهر الشيء في وقته أو يقرب ، ولهذا أخبر النبي عليه‌السلام أن كل دعوة مجابة ، لكن ليس من شرطها الإسراع في الوقت ، فمنها المؤجل والمعجل ، بحسب الذي بلغ حركة التقدير ، فلا زال الخالق في شأن ، فلا تزال هذه الأيام دائمة أبدا ، ولا يزال الأثر والفعل والانفعال في الدنيا والآخرة ، وقد أثبت الحق تعالى دوام هذه الأيام فقال : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) وخلودهم لا يزال ، هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، والسموات والأرض لا تزال ، والأيام دائمة لا تزال دائرة أبدا بالتكوين ، فالتنوعات والتبديلات ينبغي للعاقل أن لا ينكرها ، فإن لله في حق كل موجود في العالم شأنا ، فانظر في هذا التوسع الإلهي ما أعظمه ، فقد تبين أن الأيام لا تزال أبدا ، والشأن لا يزال أبدا ، فإن العقل لا يزال أبدا ، فلابد أن يكون الانفعال لا يزال.

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ) (٣١)

وفيه ترتيب الفعل ، وقال تعالى ذلك في حق الثقلين خاصة على طريق الوعيد والتخويف ، حيث لم يجعلوا نواصيهم بيده ، وهو أن يتركوا إرادتهم لإرادته فيما أمر به ونهى ، وما سمى الله الإنس والجان بهذا الاسم إلا ليميزهما بالثقل عمن سواهما ، دائما حيث كانا ، فلا تزال أرواحهما تدبر أجساما طبيعية وأجسادا دنيا وبرزخا وآخرة ، فما لهما نعيم إلا بالمشاكل لطبعهما ، وسمانا الحق بالثقلين لما فينا من الثقل ، ثقل الكون ، وهو عين تأخرنا بالوجود ، فأبطأنا ، ومن عادة الثقيل الإبطاء ، كما أنه من عادة الخفيف الإسراع ، فنحن

٢٥١

والجن من الثقلين ونحن أثقل من الجن للركن الأغلب علينا وهو التراب ، فالإنسان آخر موجود في العالم ، فما سمي الإنس والجن بالثقلين إلا لما في نشأتهما من حكم الطبيعة ، فهي التي تعطي الثقل ، وأما قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) فمن وجوه ـ الوجه الأول ـ كلمة تهديد للجن والإنسان الحيوان ، لهما يفرغ الحق ليقيم عليهما ميزان ما خلقا له ، والإنسان الكامل لا يتوجه عليه هذا الخطاب ـ الوجه الثاني ـ وصف الحق تعالى نفسه في هذه الآية بأنه لا يفعل أمرا حتى يفرغ من أمر آخر ، مع أنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن ، ولكن لخلقه أصناف العالم أزمانا مخصوصة وأمكنة مخصوصة لا يتعدى بها زمانها ولا مكانها ، لما سبق في علمه ومشيئته في ذلك فقال : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أي سنفرغ لكم من الشؤون التي قال فيها : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) في هذه الدنيا ، فيفرغ لنا منا ، ولا شغل له إلا بنا ، فمنا يفرغ لنا ، وتنتقل الشؤون إلى البرزخ والدار الآخرة ، فلا يزال الأمر من فراغ إلى فراغ ، إلى أن يصل أوان عموم الرحمة التي وسعت كل شيء ، فلا يقع بعد ذلك فراغ يحده حال ولا يميزه ، بل وجود مستمر ، ووجوده ثابت مستقر إلى غير نهاية في الدارين ، دار الجنة ودار النار ، هكذا هو الأمر في نفسه ، فإن الفراغ الإلهي إنما كان من الأجناس في الأيام الستة التي خلق فيها الخلق ، وأما أشخاص الأنواع فلا ، فبقي الفراغ بالأزمان لا عن الأشخاص ، وهو قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) ففي هذه الآية نسبة الزمان إلى الحق ، وهو انقضاء المدة التي سبق في علم الله مقدارها ، وهو زمان الحياة الدنيا في كل شخص شخص ـ إشارة ـ في هذه الكلمة (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) إشارة للحوق الرحمة بهما ، وذلك في فتح اللام الداخلة على ضمير المخاطب في (لَكُمْ) وإن كان الفتح الإلهي قد يكون بما يسوء كما يكون بما يسر ، ولكن رحمته سبقت غضبه ، وجاء بآلة الاستقبال وهي السين ، وآخر درجة الاستقبال ما يؤول إليه أمر العالم من الرحمة التي لا غضب بعدها ، لارتفاع التكليف واستيفاء الحدود ، ولما جاء بضمير المخاطب في قوله (لَكُمْ) وعلمنا من الكرم الإلهي أبدا أنه يرجح جانب السعداء وجانب الرحمة على النقيض لذلك ، جاء بحرف الخطاب ليفتح اللام ، وليعلم بآلة الخطاب أنهم قوم مخصوصون ، لأنه لا يفقد من العالم ضمير الغائب ، فلابد له من أهل ، مثل قوله في السعداء : (لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي) فأتي بضمير الغائب فغابوا عن هؤلاء المخاطبين ، وفتح اللام فتح رحمة تعطيها قرائن الأحوال

٢٥٢

ـ تحقيق ـ من هذه الحقيقة نودي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما طلب الدنو في معراجه : يا محمد قف إن ربك يصلي ، أي لا يجمع بين شغلين ، يريد بذلك العناية بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث يقيمه في مقام التفرغ له ، فهو تنبيه على العناية به.

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٢) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٦) فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) (٣٧)

أي مثل الدهن الأحمر في اللون والسيلان ، فهو ذهاب صورة لا ذهاب عين ، فعادت دخانا أحمر كالدهان السائل ، مثل شعلة النار كما كانت أول مرة.

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٢) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٥) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٩) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥١) فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ) (٥٤)

٢٥٣

(جَنَى الْجَنَّتَيْنِ) الحسية والمعنوية للعارفين (دانٍ).

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٥٥) ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب.

(فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) (٥٦)

(فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) لا تشاهد في نظرها أحسن منه ، ولا يشاهد أحسن منها ، قد زينت له وزين لها ، وطيبت له وطيب لها (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) أي أبكار لم يفتضهن أحد.

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ٥٩ هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (٦٠)

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) الآية الإحسان رؤية أو كالرؤية ، فالإحسان من الحق رؤية ومن العبد كأنه ؛ قال جبريل عليه‌السلام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [ما الإحسان؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنك إن لا تراه فإنه يراك] وفي رواية [فإن لم تكن تراه فإنه يراك] فأمره أن يخيله ويحضره في خياله على قدر علمه به ، فيكون محصورا له ، وقال تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) هل جزاء الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه ، إلا الإحسان وهو أنك تراه حقيقة ، فالصورة الأولى الإلهية في العبادة مجعولة للعبد من جعله ، فهو الذي أقامها نشأة يعبدها عن أمره عزوجل له بذلك الإنشاء ، فجزاؤه أن يراه حقيقة ، جزاء وفاقا في الصورة التي يقتضيها موطن ذلك الشهود ، كما اقتضى تجليه في الصور الإلهية المجعولة من العبد في موطن العبادة والتكليف ، فإن الصور تتنوع بتنوع المواطن والأحوال والاعتقادات من المواطن ، فلكل عبد حال ، ولكل حال موطن ، فبحاله يقول في ربه ما يجده في عقده ، وبموطن ذلك الحال يتجلى له الحق في صورة اعتقاده ، والحق كل ذلك ، والحق وراء ذلك ، فينكر ويعرف ، وينزّه ويوصف ، وعن كل ما ينسب إليه يتوقف.

٢٥٤

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦١) وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٣) مُدْهَامَّتَانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٥) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٧) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ) (٧٠)

الخيرات جمع خيرة ، وهي الفاضلة من كل شيء ، والفضل يقتضي الزيادة على ما يقع فيه الاشتراك ، مما لا يشترك فيه من ليس من ذلك الجنس.

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧١) حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) (٧٢)

مقصورات أي مصونات ، فهن في ستر ، فالقصر هنا صيانة لا سجنا ، فالحياء حبس المقصورات في الخيام ، لئلا تدركهن أبصار الأنام ، وذلك حجاب الغيرة على من يغار عليه من ذوات الخدور ، وهن المحتجبات ـ من باب الإشارة لا التفسير ـ هم العارفون المجهولون في العالم ، فلا يظهر منهم ولا عليهم ما يعرفون به ، وهم لا يشهدون في الكون إلا الله ، لا يعرفون ما العالم ، لأنهم لا يشهدونه عالما ، وهم طبقة الملامية أهل مقام القربة في الولاية ، وما فوقهم إلا درجة النبوة ، فنبّه تعالى بنعوت نساء أهل الجنة وحورها على نفوس رجال الله الذين اقتطعهم إليه وصانهم ، وحبسهم في خيام صون الغيرة الإلهية في زوايا الكون أن تمتد إليهم عين فتشغلهم.

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) (٧٦)

الاتكاء : الاعتماد.

٢٥٥

(فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (٧٧)

فإن عطايا الحق كلها نعم ، إلا أن النعم في العموم موافقة الغرض ، وعطايا الحق كلها عند العارف إنما هي معارف بالله جهلها غير العارف وعرفها دون غيره ، وعوارف الحق مننه ونعمه على عباده ، فما أطلعك منها على شيء إلا ليردك منك إليه ، فهو دعاء الحق في معروفه لما رأى عندك من الغفلة عنه ، فتحبب إليك بالنعم.

(تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) (٧٨)

الجلال نعت إلهي يعطي في القلوب هيبة وتعظيما ، وبه ظهر الاسم الجليل ، وهو يدل على الضدين ، فيعطى حكمه نعوت التنزيه والتشبيه ، ولحضرة الجلال السبحات الوجهية المحرقة ، ولهذا لا يتجلى في جلاله أبدا ، لكن يتجلى في جلال جماله لعباده ، فهو (ذُو الْجَلالِ) أي صاحب الجلال الذي نجده في نفوسنا (وَالْإِكْرامِ) بنا ، فالكرم يتبع أبدا الجلال من حيث ما يعطيه وضع الجلال ، فإن السامع إذا أخذ الجلال على العظمة أدركه القنوط ، لعدم الوصول إلى من له العظمة ، لما يرى نفسه عليه من الاحتقار والبعد عن التفات ما يعطيه مقام العظمة إليه ، فأزال الله عن وهمه ذلك الذي تخيله بقوله : (وَالْإِكْرامِ) أي وإن كانت له العظمة ، فإنه يكرم خلقه وينظر إليهم بجوده وكرمه ، نزولا منه من هذه العظمة ، فلما سمع القانط ذلك ، عظم في نفسه أكثر مما كان عنده أولا من عظمته ، وذلك لأن العظمة الأولى التي كان يعظّم بها الحق كانت لعين الحق عن انكسار من العبد وذلة ، فلما وصف الحق نفسه بأنه يكرم عباده بنزوله إليهم ، حصل في نفس المخلوق أن الله ما اعتنى به هذه العناية إلا وللمخلوق في نفس هذا العظيم ذي الجلال تعظيم ، فرأى نفسه معظما ، فلذلك زاد في تعظيم الحق في نفسه إيثارا لجنابه لاعتناء الحق به على عظمته ، فزاد الحق بالكرم تعظيما في نفس هذا العبد أعظم من العظمة الأولى ، فإن كرامته بنا إعطاؤنا الوجود ، وهو تعالى كريم بما وهب وأعطى وجاد وامتن به من جزيل الهبات والمنح ، والتزام الجلال والإكرام التزام الألف واللام ، فكان الجلال للتنزيه عن التشبيه ، وكان الإكرام للتنويه به في نفي التشبيه بالشبيه.

٢٥٦

(٥٦) سورة الواقعة مكيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (٢) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ (٣) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) (٥)

من أعجب علوم الرجال ما لم يسم فاعله ، مثل رج الأرض وبس الجبال ، وهما دليلان على وقوع الواقعة التي ليس لوقعتها كاذبة.

(فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا) (٦)

فلابد للجبال من صيرورتها عهنا منفوشا ، وهباء منبثا مفروشا ، فتلحق بالأرض لاندكاكها.

(وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (٧) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) (٨)

رأى آدم عليه‌السلام نفسه بين يدي الحق حين بسط يده ، ورأى نفسه وبنيه في اليد حين اختار يمين الحق ، ويمين الحق تقتضي السعادة ، وما فرق الحق بين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال إلا بالنسبة لآدم ، فهم أصحاب يمين آدم وأصحاب شمال آدم ، فإن بنيه السعداء عن يمينه ، وبنيه الأشقياء عن شماله ، وكلتا يدي الحق يمين مباركة ، فبنو آدم عن يمينه وعن شماله ، وهو وبنيه في يمين الحق ، فلا يشقى الإنسان ، إذ لو دام الغضب لدام الشقاء ، فالسعادة دائمة وإن اختلف المسكن ، فإن الله جاعل في كل دار ما يكون به نعيم أهل تلك الدار ، فلابد من عمارة الدارين ، وقد انتهى الغضب في يوم العرض الأكبر ، وأمر بإقامة الحدود فأقيمت ، وإذا أقيمت زال الغضب ، فإن إرساله يزيله ، فهو عين إقامة الحدود على المغضوب عليه ، فلم يبق إلا الرضا ، وهو الرحمة التي وسعت كل شيء ، فإذا انتهت

٢٥٧

الحدود صار الحكم للرحمة العامة في العموم.

(وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١١)

أهل القربة هم خصوص في السعداء ، أورثهم ذلك المقام المسابقة إلى الخيرات على طريق الاقتصاد ، من إعطاء كل ذي حق حقه ، وذلك بما سبق لهم عند الله ، ومقامهم يسمى مقام القربة في الولاية ، وهم الرجال الذين حلّوا من الولاية أقصى درجاتها ، وما فوقهم إلا درجة النبوة ، اقتطعهم الله تعالى إليه ، وحبسهم في خيام صون الغيرة الإلهية في زوايا الكون أن تمتد إليهم عين فتشغلهم ، لا والله ، ما يشغلهم نظر الخلق إليهم ، لكنه ليس في وسع الخلق أن يقوموا بما لهذه الطائفة من الحق عليهم لعلو منصبها ، فتقف العباد في أمر لا يصلون إليه أبدا ، فحبس ظواهرهم في خيمات العادات والعبادات ، من الأعمال الظاهرة والمثابرة على الفرائض منها والنوافل ، فلا يعرفون بخرق عادة ، فلا يعظمون ولا يشار إليهم بالصلاح الذي عرف في العامة ، مع كونهم لا يكون منهم فساد ، فهم الأخفياء الأبرياء الأمناء في العالم ، الغامضون في الناس ، فيهم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه عزوجل : [إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة ، أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر والعلانية وكان غامضا في الناس] يريد أنهم لا يعرفون بين الناس بكبير عبادة ، ولا ينتهكون المحارم سرا وعلنا ، فصانهم الحق بأداء الفرائض في الجماعات والدخول مع الناس في كل بلد بزي ذلك البلد ، ولا يوطن مكانا في المسجد ، وتختلف أماكنه في المسجد الذي تقام فيه الجمعة ، حتى تضيع عينه في غمار الناس ، وإذا كلم الناس فيكلمهم ويرى الحق رقيبا عليه في كلامه ، وإذا سمع كلام الناس سمع كذلك ، ويقلل من مجالسة الناس إلا من جيرانه ، حتى لا يشعر به ، ويقضي حاجة الصغير والأرملة ، ويلاعب أولاده وأهله بما يرضي الله تعالى ، ويمزح ولا يقول إلا حقا ، وإن عرف في موضع انتقل عنه إلى غيره ، فإن لم يتمكن له الانتقال استقضى من يعرفه وألح عليهم في حوائج الناس حتى يرغبوا عنه ، هذا كله ما لم يرد الحق إظهاره وشهرته من حيث لا يشعر ، وإنما نالت هذه الطائفة هذه المرتبة عند الله لأنهم صانوا قلوبهم أن يدخلها غير الله ، أو تتعلق بكون من الأكوان سوى

٢٥٨

الله ، فليس لهم جلوس إلا مع الله ، ولا حديث إلا مع الله ، فهم بالله قائمون ، وفي الله ناظرون ، وإلى الله راحلون ومنقلبون ، وعن الله ناطقون ، ومن الله آخذون ، وعلى الله متوكلون ، وعند الله قاطنون ، فما لهم معروف سواه ، ولا مشهود إلا إياه ، صانوا نفوسهم عن نفوسهم فلا تعرفهم نفوسهم ، فهم في غيابات الغيب محجوبون ، هم ضنائن الحق المستخلصون ، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق مشي ستر وأكل حجاب ، فهم التابعون للرسل على بصيرة ، العاملون بمن اتبعوه وفيما اتبعوه ، وهم العارفون بمنازل الرسل ومناهج السبل من الله ومقاديرهم عند الله ، فهم المقربون بين أسمائه وأنبيائه ، وهم بين يدي الله في مقابلة الذات الموصوفة باليدين ، فإنهم لتنفيذ الأوامر الإلهية في الخلق في كل دار ، وأما أهل اليمين فليس لهم هذا التصريف ، بل هم أهل سلامة وبراءة لما كانوا عليه ـ وهم عليه ـ من قوة الحكم على نفوسهم وقمع هواهم باتباع الحق ، وأما أهل اليد الأخرى فهم أصحاب الشمال وأما المقربون فهم.

(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (١٨) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ (١٩) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ) (٢٢)

الحور في العين الشديد شديد بياضه ، الشديد شديد سواده.

(كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (٢٦) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (٣٠) وَمَاء مَّسْكُوبٍ (٣١) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ) (٣٣)

٢٥٩

يتأول ذلك من لا علم له بحمله على فصول السنة ، أن الفاكهة تنقضي بانقضاء زمانها ثم تعود في السنة الأخرى ، وفاكهة الجنة دائمة التكوين لا تنقطع ، وهي عندنا كما قال الله : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) فإن الله جاعل لنا في الجنة رزقا يسمى قطفا وتناولا ، كما جعل الله لعالم الجن في العظام رزقا ، وما نرى ينقص من العظم شيء ، ونحن بلا شك نأكل من فاكهة الجنة قطفا دانيا ، مع كون الثمرة في موضعها من الشجرة ما زال عينها ، لأنها دار بقاء لما يتكون فيها ، فهي دار تكوين لا دار إعدام ، فإن من إدراكات الجنة أن فاكهتها لا مقطوعة ولا ممنوعة ، مع وجود الأكل وارتفاع الحجر ، فيأكلها من غير قطع بمجرد القطف وقربه من الشخص ، وعدم امتناعها من القطف ، ووجود الأكل وبقاء العين في غصن الشجرة ، فتشاهدها غير مقطوعة ، وتشاهدها قطفا في يدك تأكلها ، وتعلم وما تشك أن عين ما تأكله هو عين ما تشهده في غصن شجرته غير مقطوع ، ففاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، بل قطف دان من غير فقد مع وجود أكل وطيب طعم.

(وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (٣٥) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (٣٦) عُرُبًا أَتْرَابًا (٣٧) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ) (٤٠)

ثم أخبر تعالى عن ما أعد في جهنم لمن عصاه وأشرك به فقال :

(وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ) (٤٣)

اليحموم هو الهواء المظلم.

(لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) (٤٥)

(وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ) (٤٦) الإصرار : الإقامة.

(وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ

٢٦٠