رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

للمتكلمين في ذات الله والخائضين فيه ، من الأشاعرة والمعتزلة ، وكذلك الفلاسفة في مقالاتهم في الله وفيما ينبغي أن يعتقد ، ولا يزالون مختلفين ، حتى يختلفوا في أصول المذهب الذي يجمعهم ، ولا نرى الرسل والأنبياء قديما وحديثا ـ من آدم إلى محمد وما بينهما عليهم الصلاة والسلام ـ قط اختلفوا في أصول معتقدهم في جناب الله ، بل كل واحد منهم يصدق بعضهم بعضا ، ولا سمعنا عن أحد منهم أنه طرأ عليه في معتقده وعلمه بربه شبهة قط ، فانفصل عنها بدليل ، ولو كان لنقل ودوّن ونطقت به الكتب ، كما نقل سائر ما تكلم فيه من ذلك ممن تكلم فيه ، ولا سيما والأنبياء تحكمت في العامة في أنفسها وأموالها وأهليها ، وحجّرت وأباحت ، ولم يكن لغيرها هذه القوة من التحكم ، فكانت الدواعي تتوفر على نقل ما اختلفوا فيه في جانب الحق ، لأنهم ينتمون إليه ويقولون : إنه أرسلهم ، وأتوا بالدلائل على ذلك من المعجزات ، ولا نقل عن أحد منهم أنه طرأت عليه شبهة في علمه بربه ، ولا اختلف واحد منهم على الآخر في ذلك ، والناظر بفكره في معتقده لا يبقى على حالة واحدة دائما ، بل هو في كل وقت بحسب ما يعطيه دليله في زعمه في وقته ، فيخرج من أمر إلى نقيضه ، وما دخل على المتكلمين والنظار ما دخل إلا من الفضول ، ولهذا وقع الخلاف ولعبت بهم الأفكار والأهواء ، فلو وقفوا حتى يكون الحق هو الذي يعرفهم على لسان رسوله بما ينبغي أن يضاف إليه ويسمى به أفلحوا ، وإنما الإنسان خلق عجولا ، ورأى في نفسه قوة فكرية ، فتصرف بها في غير محلها ، فتكلم في الله بحسب ما أعطاه نظره ، والأمزجة مختلفة ، والقوة المفكرة متولدة من المزاج ، فيختلف نظرها باختلاف مزاجها ، فيختلف إدراكها وحكمها فيما أدركته ، فالله يحول بيننا وبين سلطان أفكارنا فيما لم نؤمر بالتفكر فيه ، فمعرفة الله بطريق الخبر أعلى من المعرفة بالله من طريق النظر ، فإن طريق الخبر في معرفة الله إنما جاء بما ليست عليه ذاته تعالى من علم الناظر ، فالمعرفة بالأدلة العقلية سلبية ، وبالأدلة الخبرية ثبوتية وسلبية في ثبوت ، ولا يبلغ العقل في تنزيه الحق مبلغ الشرع فيه ، فأمرنا الله أن نعلم أنه لا إله إلا هو بقوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فأمرنا أن نعلم أن الله واحد في ألوهيته ، فهو واحد في المرتبة ، وما تعرض للذات جملة واحدة ، فإن أحدية الذات تعقل ، فالمعرفة به من كونه إلها ، والمعرفة بما ينبغي للإله أن يكون عليه من الصفات ، التي يمتاز بها عمن ليس بإله وعن المألوه ، هي المأمور بها شرعا (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وهو هنا ما يخطر

١٤١

لمن نظر في توحيد الله من طلب ماهيته وحقيقته ، وهو معرفة ذاته التي ما تعرف ، وحجر التفكر فيها لعظم قدرها ، وعدم المناسبة بينها وبين ما يتوهم أن يكون دليلا عليها ، فلا يتصورها وهم ولا يقيدها عقل ، بل لها الجلال والتعظيم ، واعلم أن هذا هو التوحيد الثاني والثلاثون في القرآن ، وهو توحيد الذكرى ، وهو توحيد الله ، فإن الإنسان لما جبله الله على الغفلات ـ رحمة به ـ فيغفل عن توحيد الله بما يطالعه في كل حين من مشاهدة الأسباب ، التي يظهر التكوين عندها ، وليس ثمة إدراك يشهد به عين وجه الحق في الأسباب التي يكون عنها التكوين ، وهو لاستيلاء الغفلة وهذا الغطاء يتخيل أن التكوين من عين الأسباب ، فإذا جاءته الذكرى ـ على أي وجه ـ علم بمجيئها أنها تدل لذاتها على أنه لا إله إلا الله ، وأن تلك الأسباب لو لا وجه الأمر الإلهي فيها ، أو هي عين الأمر الإلهي ، ما تكوّن عنها شيء أصلا ، فلما كان هذا التوحيد بعد ستر رفعته الذكرى ، أنتج له أن يسأل ستر الله للمؤمنين والمؤمنات ، فقال تعالى : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) فهي من منن الله على عبده ، واعلم أن التلفظ بشهادة الرسالة المقرونة بشهادة التوحيد فيه سر إلهي ، وهو أن الإله الواحد الذي جاء بوصفه ونعته الشارع ، ما هو التوحيد الإلهي الذي أدركه العقل ، للصفات التي لا يقبلها توحيد العقل المجرد عن الشرع ، فهذا المعبود ينبغي أن تقرن شهادة الرسول برسالته بشهادة توحيد مرسله ، ولهذا يضاف إليه ـ إشارة وتحقيق ـ الأكابر يلتزمون في الذكر (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) على غير ما يعطيه النظر العقلي ، أي الوجود هو الله ، والعدم منفي الذات والعين بالنفي الذاتي ، والثابت ثابت الذات والعين بالإثبات الذاتي ، وتوجه النفي على النكرة وهو (إِلهَ) وتوجه الإثبات على المعرفة وهو (اللهُ) وإنما توجه النفي على النكرة وهو (إِلهَ) لأن تحتها كل شيء ، وما من شيء إلا وله نصيب من الألوهة يدعيه ، فلهذا توجه عليه النفي ، لأن الإله من لا يتعين له نصيب ، فله الأنصباء كلها.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (٢٠) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ

١٤٢

فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ) (٢١)

هذا حكم الصدق في النطق فكيف في جميع الأحوال؟

(هَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (٢٢)

ما أمر الله تعالى بصلة الأرحام القريبة إلا ليسعدوا بذلك ، وما من شخص إلا وله رحم يصلها ولو بالسلام ، كما قالوا : بلوا أرحامكم ولو بالسلام ، وأفضل الصلات في الأرحام صلة الأقرب فالأقرب ـ إشارة ـ جاء في الحديث الشريف : [إن الرحم شجنة من الرحمن] فنحن أرحام ، فصحت القرابة ، فنحن من حيث الرحم قرابة قربى ، ومن حيث الرتبة عبيد ، فلا ننتسب إلا إليه ، ولا ننتمي لسواه ، وقد أمر تعالى بصلة الأرحام ، والرحمن لنا رحم نرجع إليه ، فلابد للمطيع أمره أن يصل رحمه ، وليس إلا وصلته بربه ، فإن الله بلا شك قد وصلنا من حيث أنه رحم لنا ، فهو الرزاق ذو القوة المتين ، المنعم على أي حالة كنا ، من طاعة أمره أو معصية وموافقة أو مخالفة ، فإنه لا يقطع صلة الرحم من جانبه وإن انقطعت عنه من جانبنا لجهلنا ، وأفضل الصلات في الأرحام صلة الأقرب فالأقرب ، وقد قال تعالى عن نفسه : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فالله أقرب إلى العبد من نفسه منه ، فإذا وصله العبد فقد وصل الأقرب بلا شك ، فقد أتى ما هو الأفضل بالوصل في الأقربين ، فإن النص فيه ، قال رجل في مجلس : الله يقول : الأقربون أولى بالمعروف ؛ فقال الشيخ أبو العباس العريبي على الفور : إلى الله ؛ وكذلك هو الأمر في نفسه ، ولا أقرب من الله ، فهو القريب سبحانه الذي لا يبعد إلا بعد تنزيه ، وتنقطع الأرحام بالموت ولا ينقطع الرحم المنسوبة إلى الحق ، فإنه معنا حيث كنا ، ونحن ما بيننا نتصل في وقت وننقطع في وقت ، بموت أو بفقد وارتحال ، وكم من حال أغنى عن سؤال ، ومن جهل نفسه فهو بغيره أجهل ، ومن علم غيره فهو بنفسه أعلم.

(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (٢٣) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (٢٤)

١٤٣

اعلم أن الفكر حال لا يعطي العصمة ، ولهذا مقامه خطر ، لأن صاحبه لا يدري هل يصيب أم يخطىء؟ لأنه قابل للإصابة والخطأ ، فإن أراد صاحبه أن يفوز بالصواب فيه غالبا في العلم بالله ، فليبحث في كل آية نزلت في القرآن فيها ذكر التفكر والاعتبار ، ولا يتعدى ما جاء من ذلك في غير كتاب ولا سنة متواترة ، فإن الله ما ذكر في القرآن أمرا يتفكر فيه ونص على إيجاده عبرة أو قرن معه التفكر ، إلا والإصابة معه والحفظ وحصول المقصود منه الذي أراده الله ، لابد من ذلك ، لأن الحق ما نصبه وخصه في هذا الموضع دون غيره إلا وقد مكّن العبد من الوصول إلى علم ما قصد به هناك ، فإن تعديت آيات التفكر إلى آيات العقل أو آيات السمع أو آيات العلم أو آيات الإيمان واستعملت فيها الفكر لم تصب جملة واحدة ، فالتزم الآيات التي نصبها الحق لقوم يتفكرون ، ولا تتعدى بالأمور مراتبها ، ولا تعدل بالآيات إلى غير منازلها ، واجعل بالك إذا ذكر الله شيئا من ذلك بأي اسم ذكره ، فلا تتعدى التفكر فيه من حيث ذلك الاسم إن أردت الإصابة للمعنى المقصود لله ، مثل قوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) فانظر فيه من حيث ما هو قرآن لا من حيث هو كلام الله ، ولا من حيث ما هو فرقان ، ولا من حيث ما هو ذكر ، فكل اسم له حكم ، وما عيّنه الحق في الذكر إلا حتى يفهمه عباده ، ويعلّمهم كيف ينزلون الأشياء منازلها.

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (٢٥) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (٢٧) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (٢٨)

هذا تأثير خلق في حق ، فإن الأمر دائر بين تأثير حق في خلق ، وخلق في حق ، فقد أسخطوا الله فأغضبوه ، فعاد وبال ذلك الغضب على من أغضبه ، فلو لا شهود ما أغضبه ما غضب ، وما أسخطه ما سخط.

١٤٤

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) (٣٠)

ثم نزل الحق للتعليم والتعريف لنا ، وهو العليم بكل شيء ، بما كان ويكون ، فقال تعالى :

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (٣١)

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ) مع علمه بما يكون منهم ، وهو العليم سبحانه ، فآنسهم تعالى بقوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ) ففيه حكم إيمان يعتض به من يسمع ممن لا يعرف الله ، قولهم : إن الله لا يعلم الجزئيات ، وإن كانوا قصدوا بذلك التنزيه ، وهذه مسئلة لا يمكن تحققها بالعقل ، ما لم يكن الكشف بكيفية تعلق العلم الإلهي بالمعلومات ، وأنه ليس في حق الحق ماض ولا آت ، وأن آنه لم يزل ولا يزال ، لا يتصف آنه بأنه لم يكن ثم كان ، ولا بانقضاء بعد ما كان ، فبهذا يعلم أن الله يعلم الجزئيات علما صحيحا ، غاب عنه من قصد التنزيه بنفيه عن جناب الحق ، ومع أنه سبحانه العالم بما يكون ، ولكن الحال يمنع من إقامة الحجة له سبحانه علينا ، فأنبأ عن حقيقة لا تردّ ، تعليما لنا بما هو الأمر عليه ، وأن الحكم للأحوال ، فلم يبق بالابتلاء لأحد حجة على الله ، فحسم بذلك الابتلاء احتمال قولهم : لو حكم بعلمه فيهم ، أن يقولوا : لو بلوتنا وجدتنا واقفين عند حدودك ؛ وهذا يسمى علم الخبرة ، وهو الاسم الخبير في قوله تعالى : (عَلِيماً خَبِيراً) فقال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ) أي إذا ظهر منكم عند الابتلاء بالتكليف ما يكون منكم ، من مخالفة أو طاعة ، يتعلق العلم مني عند ذلك به ، كان ما كان ، فإن العلم لا حكم له في التقليب على الحقيقة ، وإنما التقليب لموجد عين الفعل ، ويتعلق العلم بذلك الانقلاب والمنقلب إليه ، ولو لا الاشتراك في الصورة في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [خلق الله آدم على صورته] ما حكم الحق على نفسه بما حكم لخلقه من حدوث تعلق العلم ، وهذا غاية اللطف في الحكم والتنزل الإلهي ، فنزل مع خلقه في العلم المستفاد ، إد كان علمهم مستفادا ، كما شرّك نفسه تعالى مع خلقه في الأحكام الخمسة ، فمع علمه بما يكون من خلقه قال : (حَتَّى نَعْلَمَ) وأعلم

١٤٥

من الله لا يكون ، ومع ذلك أنزل نفسه في هذا الإخبار منزلة من يستفيد بذلك علما ، وهو سبحانه العالم بما يكون منهم في ذلك قبل كونه ، فمن المنزهة في زعمهم من يقول : إن الله لا يستفيد من ذلك علما ، فإنه لا يعلم الأمر من حيث ما هو واقع من فلان على التعيين ؛ فرد كلام الله وتأوله ، إذ خاف من وقوع الأذى به لذلك ، ومن الظاهرية من التزم أنه يعلم بذلك الاختبار وقوفا عند هذا اللفظ ، ومن الناس من صرف ذلك إلى تعلق العلم به عند الوقوع ، فالعلم قديم والتعلق حادث ، ومن المؤمنين من سلّم علم ذلك إلى الله وآمن به من غير تأويل معين ، وهذا هو أسلم ما يعتقد ، وهذا كله ابتلاء من الله لعباده الذين ادعوا الإيمان به بألسنتهم (الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) المجاهدة مشقة وتعب ، وبها سمي الجهاد جهادا ، والمجاهدة حمل النفس على المشاق البدنية ، المؤثرة في المزاج وهنا وضعفا ، وأعظم المشاق إتلاف المهج في سبيل الله ، وهو الجهاد في سبيل الله ، فابتلاهم أولا بما كلفهم ، واستخدمهم بما ابتلاهم حتى يعلم المجاهدين من عباده والصابرين ، ويبلو أخبارهم بقوله : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) فإذا عملوا ابتلى أعمالهم ، هل عملوها لخطاب الحق أو عملوها لغير ذلك؟ فجعل الحق الابتلاء سبب حصول هذا العلم ، وما هو سبب حصول العلم ، وإنما هو سبب إقامة الحجة ، حتى لا تكون للمحجوج حجة يدفع بها. واعلم أن البلاء في الدنيا نعمة معجلة من الله تعالى على عباده المؤمنين ، والبلاء على قدر المراتب عند الله تعالى ، وجاء في الأثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [ما ابتلى الله أحدا من الأنبياء بمثل ما ابتليت به].

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (٣٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (٣٣)

تفيد هذه الآية أن الشروع في العبادة ملزم ، فإنه عهد عهده مع الله بلا شك ، فبالأولية كان مختارا ، وفي التلبس مضطرا ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله.

١٤٦

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (٣٥)

(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) بإعلاء كلمة الله على كلمة أعدائه ، والعلو نسبتان : علو مكان وعلو مكانة ، قال تعالى : (وَاللهُ مَعَكُمْ) في علو المكانة ، فهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة ، ثم أتبع المعية بقوله : (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) لما خافت نفوس العمال منا ، فالعلم يطلب المكانة ، والعمل يطلب المكان ، فجمع لنا بين الرفعتين بالنص ، علو المكان بالعمل ، وعلو المكانة بالعلم ، ثم قال تنزيها للاشتراك بالمعية (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) عن هذا الاشتراك المعنوي.

(إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (٣٦) إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (٣٧) هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (٣٨)

(وَاللهُ الْغَنِيُّ) لأنه لم يطلب تكوين الموجودات لافتقاره إليها ، وإنما الأشياء في حال عدمها الإمكاني لها تطلب وجودها ، وهي مفتقرة بالذات إلى الله الذي هو الموجد لها لفقرها الذاتي ، فهي تطلب وجودها من الله ، فقبل الحق سؤالها وأوجدها لها ولأجل سؤالها ، لا من حاجة قامت به إليها ، لأنها مشهودة له تعالى في حال عدمها ووجودها ، والعبد ليس كذلك ، فإنه فاقد لما افتقر إليه في حال عدمه ، وإن كان غير فاقد له علما ، إذ لو لا علمه به ما عيّن بالإيجاد شيئا عن شيء ودون شيء ، غير أن العبد مركب من ذاتين من معنى وحس وهو كماله ، فما لم يوجد الشيء المعلوم للحس ، فما كمل إدراكه لذلك الشيء بكمال ذاته ،

١٤٧

فإن أدركه حسا بعد وجوده وقد كان أدركه علما ، فكمل إدراكه للشيء بذاته ، فتركيبه سبب فقره إلى هذا الذي أراد وجوده ، وإمكانه سبب فقره إلى مرجحه ، وأما الحق تعالى فليس بمركب ، بل هو واحد ، فإدراكه للأشياء على ما هي عليه من حقائقها في حال عدمها ووجودها إدراك واحد ، فلهذا لم يكن في إيجاده الأشياء عن فقر كما كان هذا للعبد ، ولهذا قال : (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) ـ راجع سورة فاطر آية ١٥ ـ (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) فأعطى الله في هذه الآية سبب الاستبدال ، وهو التولي فقال : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عما سئلتموه من الإنفاق وبخلتم (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي على صفتكم ، بل يعطون ما يسألون ، ويعني ما وقع منهم من المخالفة لأمر الله ، بل يكونون على أتم قدم وأقواه في طاعة الله ـ إشارة ـ (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) قريب التجلي فما لك مول؟ لا ترأس على من تبعك ، فإنه ما تبعك وإنما تبع سر الحق الذي أودعه فيك ، وكذلك أودعه في التابع ، غير أنك علمته منك بإعلام الحق إياك ، وما علم التابع ما عنده ، وتلك المناسبة التي جمعت بينكما ، فإن رأست عليه ووطّيته ، أبدلك الحق مكانه ، وأبدله مكانك.

(٤٨) سورة الفتح مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) (١)

قال تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) وهو فتوح المكاشفة وفتوح الحلاوة في الباطن وفتوح العبارة ، فقال تعالى له : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) في الثلاثة الأنواع من الفتوح (فَتْحاً) فأكده بالمصدر (مُبِيناً) أي ظاهرا يعرفه كل من رآه بما تجلى وما حواه ، ففتوح المكاشفة ثابت بما أشهده ليلة إسرائه من الآيات ، وفتوح الحلاوة ثابت له ذوقا ، وفتوح العبارة ثابت للعرب بالعجز عن المعارضة ، ولهذا الفتوح كان القرآن معجزة ، فما أعطي أحد فتوح العبارة على كمال ما أعطيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه قال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ

١٤٨

الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أي معينا.

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) (٢)

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) فيسترك عما يستحقه صاحب الذنب من العتب والمؤاخذة ، (وَما تَأَخَّرَ) يسترك عن عين الذنب حتى لا يجدك فيقوم بك ، فإنه ليس للمغفرة متعلق إلا أن يسترك من الذنب أو يسترك من العقوبة عليه ، فما تقدم لا يعاقب عليه ، وما تأخر لا يصيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا إخبار من الله بعصمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعلمنا بالمغفرة في الذنب المتأخر أنه معصوم بلا شك ، ويؤيد عصمته أن جعله الله أسوة يتأسى به ، فلما بشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمغفرة العامة ـ وقد ثبتت عصمته فليس له ذنب يغفر ـ لم يبق إضافة الذنب إليه إلا أن يكون هو المخاطب والقصد أمته ، كما قيل : إياك أعني فاسمعي يا جارة ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم من الذنوب ، فهو المخاطب بالمغفرة ، والمقصود من تقدم من زمان آدم إلى زمانه ، وما تأخر من الأمة من زمانه إلى يوم القيامة ، فإن الكل أمته حيث قال : [كنت نبيا وآدم بين الماء والطين] وهو سيد النبيين والمرسلين ، فإنه سيد الناس ، وهم من الناس ، فبشر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) بعموم رسالته إلى الناس كافة بالنص ، فبشره الله بالمغفرة لما تقدم من ذنوب الناس وما تأخر منهم ، فكان هو المخاطب والمقصود الناس ، فيغفر الله للكل ويسعدهم ، وهو اللائق بعموم رحمته التي وسعت كل شيء ، وبعموم مرتبة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث بعث إلى الناس كافة ، ولم يقل : أرسلناك إلى هذه الأمة خاصة ، ولا إلى أهل هذا الزمان إلى يوم القيامة خاصة ، لكن ثمّ مغفرة في الدنيا ، وثمّ مغفرة في القبر ، وثمّ مغفرة في الحشر ، وثمّ مغفرة في النار بخروج منها وبغير خروج ، لكن يستر عن العذاب أن يصل إليه بما يجعل له من نعيم في النار مما يستعذبه ، فهو عذاب بلا ألم (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بأن يعطيها خلقها ، فأخبره بهذه الآية أن نعمته التي أعطاها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخلقة ، أي تامة الخلقة (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو صراط ربه الذي هو عليه ، فالشرائع كلها أنوار ، وشرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين هذه الأنوار كنور الشمس بين أنوار

١٤٩

الكواكب ، فإذا ظهرت الشمس خفيت أنوار الكواكب واندرجت أنوارها في نور الشمس ، فكان خفاؤها نظير ما نسخ من الشرائع بشرعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع وجود أعيانها ، كما يتحقق وجود أنوار الكواكب ، ولهذا ألزمنا في شرعنا العام أن نؤمن بجميع الرسل وجميع شرائعهم أنها حق ، فلم ترجع بالنسخ باطلا ، ذلك ظن الذين جهلوا ، فرجعت الطرق كلها ناظرة إلى طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلو كانت الرسل في زمانه لتبعوه ، كما تبعت شرائعهم شرعه ، فإنه أوتي جوامع الكلم ، فمن عرف نعم الله عليه أوجب عليه هذا العلم الشكر ، فشغل نفسه بشكر الله تعالى كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزلت عليه هذه الآية ، وبشر الحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فقام حتى تورمت قدماه شكرا لله تعالى على هذه النعمة ، فما فتر ولا جنح إلى الراحة ، ولما قيل له في ذلك وسئل في الرفق بنفسه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أفلا أكون عبدا شكورا] وذلك لما سمع الله يقول : (سَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) وأتى بفعول وهو بنية المبالغة ، فكثر منه الشكر لما كثرت النعم ، فطلبت كل نعمة منه الشكر لله عليها ، ورد في الحديث الثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صيام يوم عرفة : [أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده] خرّجه مسلم ، فمن صام هذا اليوم أخذ بحظ وافر مما أعطى الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمره كلّه في الحكم حكم الصائم يوم عرفة.

(وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا) (٣)

والعزيز من يرام فلا يستطاع الوصول إليه ، فإذا كانت الرسل هي الطالبة الوصول إليه ، فقد عز عن إدراكها إياه ببعثته العامة ، وإعطاء الله إياه جوامع الكلم ، والسيادة بالمقام المحمود في الدار الآخرة ، وبجعل الله أمته خير أمة أخرجت للناس ، وأمة كل نبي على قدر مقام نبيها ؛ وإذا طلب الوصول إليه القائلون باكتساب النبوة عز عليهم الوصول إلى ذلك ، فإن المكتسب إنما هو السلوك والوصول إلى الباب ، وأما ما وراء الباب فلا علم للواصلين إليه بمن يفتح له ذلك الباب ، فمن الناس من يفتح له بالإيمان العام وهو مطالعة الحقيقة كأبي بكر ، فلم ير شيئا إلا رأى الله قبله ، ومنهم من يفتح له بالإنباء العام الذي لا شرع فيه ، وهذان الفتحان باقيان في هذه الأمة إلى يوم القيامة ، ومن الواصلين من يفتح له الباب بنبوة

١٥٠

التشريع المقصور عليهم ، ومنهم من يفتح له الباب بالرسالة بما شرع ، وهذان بابان أو فتحان قد منع الله أن يتحقق بهما أحد أو يفتح له فيهما ، إلا أهل الاجتهاد ، فإن الله أبقى عليهم من ذلك بعض شيء بتقرير الشرع ، فحكمه للشارع لا لهم ، فكل ما خرج من وراء الباب عند فتحه ما هو مكتسب ، والنبوة غير مكتسبة ، فنصره الله النصر العزيز ، فلم يصل إليه من قال باكتساب النبوة ، لأن الموصوف بالعزة لا عين للعزة إلا مع وجود الطالب لمن قامت به ، فيحمي مقامه وحضرته أن يصل طالب إليه.

(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (٤)

السكينة هي الأمر الذي تسكن له النفس ، لما وعدت به أو لما حصل في نفسه من طلب أمر ما ، وسميت سكينة لأنها إذا حصلت قطعت عنه وجود الهبوب إلى غير ما سكنت إليه النفس ، ومنه سمي السكين سكينا ، لكون صاحبه يقطع به ما يمكن قطعه به ، وهذا اللفظ مشتق من السكون ، وهو الثبوت ، وهو ضد الحركة فإن الحركة نقلة ، فالسكينة تعطي الثبوت على ما سكنت إليه النفس ولو سكنت إلى الحركة ، والطمأنينة سكينة أنزلها القرآن في قلوب المؤمنين ، فكانت آيات بني إسرائيل ظاهرة ، وآياتنا في قلوبنا ، إذ قال الله تعالى في بني إسرائيل في آية طالوت (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) فكانت السكينة شهادة في غير هذه الأمة ، وبها وبأمثالها كانت الأمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس ، فعلامة هذه الأمة في قلوبهم ، ولم يجعل الله لهذه الأمة المحمدية علامة خارجة عنهم على حصولها ، فليس لهم علامة في قلوبهم سوى حصولها ، فهي دليل على نفسها ، ما تحتاج إلى دليل من خارج كما كان في بني إسرائيل ، فتنزل السكينة على المؤمنين وهم مؤمنون فتنقلهم بنزولها عن رتبة ما كانوا به مؤمنين إلى مقام معاينة ذلك ، وهو تضاعف إيمانهم بالعيان ، ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، ولا يكون السكون في الأشياء إلا عن هيبة وتعظيم ، وقد أشهد الله تعالى بعض أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم السكينة في تلاوته القرآن ، وكانت له فرس فجعلت تخبط ، فرفع رأسه فرأى غمامة فيها سرج ، كلما قرأ نزلت ودنت منه ، وإذا سكت

١٥١

ارتفعت ، فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [تلك السكينة نزلت للقرآن] فرأى هذا الصاحب ممثلا خارجا عنه ما كان فيه ، فكل من تلا وسكن لما تلا بصدق بصورة ظاهر وحكمة باطن فذلك تال صاحب سكينة ، فإن هو تلا وسكن ظاهرا ولم يسكن باطنا ـ والسكون الباطن فهم المعنى الساري في الوجود من تلك الآية المتلوة ، لا يقتصر بها على ما تدل عليه في الظاهر خاصة ـ فمن تلا هكذا فليس بصاحب سكينة أصلا وإن كان من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن تلا وسكن باطنا ولم يسكن ظاهرا وتعدى الظاهر المشروع فذلك ليس بمؤمن ، وهو أبعد الناس من الله ، وما شقي إلا بعدم سكون الظاهر ، ففاته الإيمان به ، وفي قوله تعالى : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) إشارة إلى الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، واختاروا العمى على الهدى ، واشتروا الكفر بالإيمان من المؤمنين ، ليزداد المؤمنون إيمانا مع إيمانهم ، ويرجون تجارة لن تبور (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لما كان الملك لله كانت الجنود له تعالى من كونه ملكا ، فإن الله لما سمى نفسه ملكا سمى خلقه جنودا ، وكل مأخوذ به من الأسباب الكونية جند من جنود الله (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ ال سَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (٧)

ـ إشارة ـ لما كان عالم الإنسان ملكا لله تعالى ، كان الحق ملكا لهذا الملك بالتدبير فيه والتفصيل ، ولهذا وصف نفسه تعالى بأن لله جنودا ، جنود السموات والأرض وقال : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) فهو تعالى حافظ هذه المدينة الإنسانية لكونها حضرته التي وسعته وهي عين مملكته ، وما وصف نفسه بالجنود والقوة إلا وقد علم أنه تعالى سبقت

١٥٢

مشيئته في خلقه أن يخلق له منازعا ينازعه في حضرته ، ويثور عليه في ملكه بنفوذ مشيئته فيه وسابق علمه وكلمته التي لا تتبدل.

(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (٩)

اعلم أن من الورع أن لا تنزل إلى ما اختصت به الأنبياء والرسل من الإطلاق ، فيتورع أن يطلق على أحد ممن ليس بنبي ولا رسول اللفظ الذي اختصوا به ، فيطلق على الرسل الذين ليسوا برسل الله لفظ الورثة والمترجمين ، فيقال : وصل من السلطان الفلاني إلى السلطان الفلاني ترجمان يقول كذا وكذا ، فلا يطلق على المرسل ولا على المرسل إليه اسم الملك ورعا وأدبا مع الله ، ويطلق عليه اسم السلطان ، فإن الملك من أسماء الله ، فيجتنب هذا اللفظ أدبا وحرمة وورعا ، ولم يرد لفظ السلطان في أسماء الله ، ويطلق على الرسول الذي جاء من عند السلطان اسم الترجمان ، ولا يطلق عليه اسم الرسول ، لأنه قد أطلق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيجعل هذا الاسم من خصائص النبوة والرسالة الإلهية أدبا مع رسل الله عليهم‌السلام ، وإن كان اللفظ قد أبيح ولم ينه عنه ، ولكنه لم يوجب علينا ، فكان لزوم الأدب أولى مع من عرّفنا الله أنه أعظم منا منزلة عنده ، وهذا لا يعرفه إلا الأدباء الورعون

(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (١٠)

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) فنفاه بعد ما أثبته صورة ، كما فعل به في الرمي سواء ، أثبته ونفاه ، ثم جعل الله يده في المبايعة فوق أيدي المبايعين فقال : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) فنزّل الحق يد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزلة يده في المبايعة ، ويد الله تأييده وقوته ، وما شهد الخلق المبعوث إليهم إلا الرسول ، فظاهره خلق وباطنه حق ، ولما كان الحق تعالى الإمام الأعلى

١٥٣

والمتبوع الأول ، والإمامة على الحقيقة هي لله الحق تعالى جل جلاله ، والأئمة إنما هم نوابه وخلفاؤه ، فهو الإمام لا هم قال : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) فإن التنزيه من العبد نظير التنزيه من الحق سواء ، فمن نزه الحق عند أداء ما أوجب الله عليه من العبادات في العهد الذي أخذه عليه عقلا وشرعا ، فقد وفّى بعهود الله التي أخذت عليه. أشرك الله نفسه مع عبده في هذا الحكم بما أوجب على نفسه له بما كتب على نفسه من الرحمة والوفاء بعهده ، يقال أوفى على الشيء إذا أشرف عليه ، واحذر أن تفي ليفي لم يزده على ميزانه شيئا ، وهو قوله : (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وليس سوى دخول الجنة ، ورد في الحديث : [كان له عند الله عهدا أن يدخله الجنة] لم يقل غير ذلك (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) ولم يطلب الموازنة ، ولا ذكر هنا أنه يفي له بعهده وإنما قال : (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وما عظمه الحق فلا أعظم منه ، فاعمل على وفائك بعهدك من غير مزيد ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق نفسه : [لا يكمل لعبد الإيمان حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين] ولهذا يشترط في البيعة المنشط والمكره ، لأن الإنسان ما ينشط إلا إذا وافق الله هوى نفسه ، والمكره إذا خالف أمر الله هوى نفسه ، فيقوم به على كره لاتصافه ووفائه بحكم البيعة ، فإنه ما بايع إلا الله ، إذ كانت يد الله فوق أيديهم ، وما شاهدوا بالأبصار إلا يد هذا الشخص الذي بايعوه ، والنفس أبدا في الغالب تحت حكم مزاجها ، والقليل من الناس من يحكم نفسه على طبيعته ومزاجه ، فالكامل من العباد من لم يترك لله عليه ولا عنده حقا إلا وفاه إياه ، ولذلك فإن الشروع عندنا في النافلة ملزم ، فإن العبد كان مختارا وفي التلبس مضطرا ، فإن الشروع عهد عهده مع الله بلا شك.

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١١) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن

١٥٤

لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا (١٢) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (١٥)

(يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) قد يطلق الكلام على الترجمة في لسان المترجم وينسب الكلام إلى المترجم عنه ، وهذا الكلام هو العلم ، وهو الموصوف بالتحريف والتبديل ، أي في الترجمة فإنها تقبل التبديل ، والمعاني تابعة للكلام ، فلا يفهم من الأمر الذي حرّف به وبدّل المعنى الذي يفهم من الأصل ، ولذلك ألحق التبديل والتحريف بالأصل ، وإن كان لا يقبل التحريف ولا التبديل ، لأنه كلام إلهي لا يحكى ولا يوصف بالوصف الذاتي ، والقرآن هو كلام الله وإن كنا نحن الكاتبين له بأيدينا.

(قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (١٧) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ

١٥٥

الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٩) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (٢٠) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢١) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء

١٥٦

اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) (٢٧)

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : يا رسول الله وللمقصرين ، قال : اللهم اغفر للمحلقين ، قالوا : يا رسول الله وللمقصرين ، قال : وللمقصرين] لما لم يفهموا مقصود الشارع بطلب الغفر الذي هو الستر للمحلقين ، وهم الذين حسروا عن رؤوسهم الشعر فانكشفت رؤوسهم ، فطلب من الله سترها ثوابا لكشفها ، والمقصر ليس له ذلك ، وحلق الرأس أولى من تقصير الشعر ، فإن الشعور بالأمر ما هو عين حصول العلم به على التمام من التفصيل ، وإنما يشعر العبد أن ثمّ أمرا ما ، فإذا حصّله زال الشعور وكان علما تاما بتفصيل ما شعر به ، فإلقاء الشعور هو إزالة الشعور بوجود العلم ، لأن الشعر ستر على الرأس.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٢٨) مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (٢٩)

لما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشكاة فلك الرحمة الذي هو الظاهر من فلك الحياة ، والكلمة التي هي أم الكتاب ، وكانت نبوته ختما على النبوات ، إذ النبوة إنباء بأسرار وإرث بأنوار ، علم

١٥٧

بذلك كونه النازل في جميع الأقطار. والمنبأ في جميع الأخبار ، والحامل لواء الحمد الغفار وأول مشفع في دار القرار ، فسمي من حيث تكرار حمده محمدا ، ومن حيث كونه حامل لواء الحمد أحمد ، فقال تعالى : (مُحَمَّدٌ) لما جمع فيه من المحامد (رَسُولُ اللهِ) فإن الحق المشروع ظهر بصورة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته ، ولذلك كان يقال له : رسول الله في التعريف ، ما كان يقال له : محمد فقط (وَالَّذِينَ) آمنوا (مَعَهُ) أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، فازوا بالمقام العلي هنا وفي دار السلام ، أعلى درجات القربة ، التحقق في الإيمان بالصحبة ، لا يبلغ أحدنا مد أحدهم ولا نصيفه ، ولا يصلح أن يكون وصيفه ، نحن الإخوان فلنا الأمان ، وهم الأصحاب فهم الأحباب ، فمن رأى الصحبة عين الاتباع ، من أهل الحقائق ، ألحق اللاحق بالسابق ، فغاية السابق تعجيل الرؤية ، لحصول البغية ، ولكن ما لها بالسعادة استقلال فيما أعطاه الدليل ، وصححه السبيل ، وكم شخص رآه وشقي ، والذي تمناه بعدم اتباعه ما لقي ، فما أعطته رؤيته ، وقد فاتته بغيته؟ فما ثمّ إلا الاقتداء ، وما يسعدك إلا الاهتداء ، فتعجل النعيم الصاحب ، فهو أقرب الأقارب ، وقد خلع الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلعه وسماه بالعبد والرسول والنبي ، فإن هذه الأسماء وصلة بين الإنسان وعبوديته من أكمل الوجوه ، فإن العبد على قدر ما يخرج به عن عبوديته ينقصه من تقريبه من سيده ، لأنه يزاحمه في أسمائه ، وأقل المزاحمة الاسمية ، فأبقى علينا اسم الولي وهو من أسمائه سبحانه ، ونزع هذا الاسم من رسوله وسماه بالرسول ، فإن هذا الاسم من خصائص العبودية التي لا تصح أن تكون للرب ، وسبب إطلاق هذا الاسم وجود الرسالة ، والرسالة قد انقطعت ، فارتفع حكم هذا الاسم بارتفاعها من حيث نسبتها إلى الله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي] فكان هذا من أشد ما جرعت الأولياء مرارته ، فإنه قاطع للوصلة بين الإنسان وبين عبوديته ، ولما علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن في أمته من يجرع مثل هذا الكأس ، وعلم ما يطرأ عليهم في نفوسهم من الألم لذلك ، رحمهم فجعل لهم نصيبا ، فقال للصحابة : [ليبلغ الشاهد الغائب] فأمرهم بالتبليغ كما أمره الله بالتبليغ ، لينطلق عليهم أسماء الرسل التي هي مخصوصة بالعبيد ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها] يعني حرفا حرفا ، وهذا لا يكون إلا لمن بلغ الوحي من قرآن أو سنة بلفظه الذي جاء به ، وهذا لا يكون إلا لنقلة

١٥٨

الوحي من المقرئين والمحدثين ، ليس للفقهاء ولا لمن نقل الحديث النبوي على المعنى نصيب ولا حظ فيه ، فإن الناقل على المعنى إنما نقل إلينا فهمه في ذلك الحديث النبوي ، فلا يحشر يوم القيامة فيمن بلغ الوحي كما سمعه وأدى الرسالة ، كما يحشر المقرىء والمحدث الناقل لفظ الرسول عينه في صف الرسل عليهم‌السلام ، فالصحابة إذا نقلوا الوحي على لفظه فهم رسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتابعون رسل الصحابة ، وهكذا الأمر جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة ، وهو خير عظيم امتن به عليهم ، ومهما لم ينقله الشخص بسنده متصلا غير منقطع فليس له هذا المقام ، ومن هنا تعرف شرف مقام العبودية وشرف المحدثين نقلة الوحي بالرواية ـ إشارة ـ كان معاذ وغيره رسول رسول الله إلى من أرسل إليهم ، وقيل في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رسول الله ، وكان يأخذ عن جبريل ، ولم يقل في معاذ وغيره : رسول الله ، وقيل فيه : رسول رسول الله ، فلماذا ترك ذكر الواسطة في (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)؟ إنما نسب رسول الرسول إليه ، لاشتراكهما في التكليف الذي أنزل عليه ، ولم ينسب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى جبريل لأنه ليس له من رسالته غير التعريف الذي أودع الرحمن لديه ، فنسب الرسول إلى الله تعالى بغير واسطة ، لعدم هذه الرابطة.

(٤٩) سورة الحجرات مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (٢)

فإذا كنا نهينا وتحبط أعمالنا برفع أصواتنا على صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تكلم ، وهو المبلغ عن الله ، فغض أصواتنا عندما نسمع تلاوة القرآن آكد ، والله يقول : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وأهل الورع إذا اتفقت بينهم مناظرة في مسئلة

١٥٩

دينية ، فيذكر أحد الخصمين حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خفض الخصم صوته عند سرد الحديث ، هذا هو الأدب عندهم إذا كانوا أهل حضور مع الله وطلبوا العلم لوجه الله ، فأما علماء زماننا اليوم فما عندهم خير ولا حياء ، لا من الله ولا من رسول الله ، إذا سمعوا الآية أو الحديث النبوي من الخصم لم يحسنوا الإصغاء إليه ، ولا أنصتوا ، وداخلوا الخصم في تلاوته أو حديثه ، وذلك لجهلهم وقلة ورعهم ، عصمنا الله من أفعالهم ، فإن الرحمة كلها في التسليم والتلقي من النبوة والوقوف عند الكتاب والسنة ، ولقد عمي الناس عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [عند نبي لا ينبغي تنازع] وحضور حديثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كحضوره ، لا ينبغي أن يكون عند إيراده تنازع ، ولا يرفع السامع صوته عند سرد الحديث النبوي ، فإن الله يقول : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ولا فرق بين صوت النبي أو حكاية قوله ، فما لنا إلا التهيؤ لقبول ما يرد به المحدّث من كلام النبوة من غير جدال ، سواء كان ذلك الحديث جوابا عن سؤال أو ابتداء كلام ، فالوقوف عند كلامه في المسئلة أو النازلة واجب ، فمتى قيل : قال الله ، أو قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ينبغي أن يقبل ويتأدب السامع ولا يرفع صوته على صوت المحدّث ، إذا قال ما قال الله ، أو سرد الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الله توعّد على رفع الصوت بحبط العمل من حيث لا يشعر الإنسان ، فإنه يتخيل في رده وخصامه أنه يذبّ عن دين الله ، وهذا من مكر الله الذي قال فيه : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) فالعاقل المؤمن الناصح نفسه إذا سمع من يقول : قال الله تعالى أو قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلينصت ويصغ ويتأدب ويتفهم ما قال الله أو ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول الله : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فأوقع الترجي مع هذه الصفة وما قطع بالرحمة ، فكيف حال من خاصم ورفع صوته وداخل التالي وسارد الحديث النبوي في الكلام؟ وأرجو أن يكون الترجي الإلهي واجبا كما يراه العلماء.

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ

١٦٠