رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

النَّارِ (٣) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) (٥)

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) الإذن الأمر الإلهي ، أمر بعض الشجر أن تقوم فقامت ، وأمر بعض الشجر أن تنقطع فانقطعت بإذن الله لا بقطعهم ، وبإذن الله قامت لا بتركهم ، مع كونهم موصوفين بالقطع والترك ، فإنه لا يناقض إذن الله ، فإن إذن الله لها في هذه الصورة كالاستعداد في الشيء ، فالشجرة مستعدة للقطع فقبلته من القاطع (فَبِإِذْنِ اللهِ) يعني للشجرة ، ولهذا قال : (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) الخارجين عن معرفة هذا الإذن الإلهي الذي قطع هذه الشجرة وترك الأخرى.

(وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (٧)

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بعثه الله ليمكر بنا ـ أعني بأمته ـ وإنما بعثه ليبين لهم ما نزل إليهم ، فلهذا أطلق لنا الأخذ عن الرسول والوقوف عند قوله من غير تقييد ، فإنا آمنون فيه من مكر الله ، فإن لله مكرا في عباده لا يشعر به ، قال تعالى : (وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) وقال : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) وقال : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) وقال : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ولم يجعل للرسل في هذه الصفة قدما ، لأنهم بعثوا مبينين فبشروا وأنذروا ، وأعطى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الميزان الموضوع ، فمن أراد السلامة من مكر الله فلا يزل الميزان المشروع من يده ، الذي

٣٠١

أخذه عن الرسول وورثه ، فكل ما جاءه من عند الله وضعه في ذلك الميزان ، فإن قبله ملكه ، وإن لم يقبله سلمه لله وتركه ، فإن تركه عمل به ، فأخذك من الرسول أنفع لك وأحصل لسعادتك ، فما جاءك على يد الرسول فخذه من غير ميزان ، وما جاءك من يد الله فخذه بميزان. والأخذ بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي أمرنا الله أن نأخذ به ، وأما أفعال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليست على الوجوب ، فإن في ذلك غاية الحرج إلا فعلا بين به أمرا تعبدنا به ، فذلك الفعل واجب ، فلا يلزمنا اتباعه في أفعاله إلا إن أمر بذلك ، فمعنى الاتباع أن نفعل ما يقول لنا ، فإن قال : اتبعوني في فعلي ، اتبعناه ، وإن لم يقل فالذي يلزمنا الاتباع فيما يقول.

(لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩)

الإيثار إعطاء ما أنت محتاج إليه في الوقت أو توهم الحاجة إليه. واعلم أن الله تعالى جبل الإنسان على الشح ، فإنه فطر على الاستفادة لا على الإفادة ، فما تعطي حقيقته أن يتصدق ، فإذا تصدق كانت صدقته برهانا على أنه قد وقي شح نفسه الذي جبله الله عليه ، لذلك ورد في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [والصدقة برهان] وسبب ذلك أن الفقر والحاجة ذاتي لنا ، والمكون عن الطبيعة شحيح بالذات كريم بالعرض ، ومن شح النفس الادخار والشبهة لها إلى وقت الحاجة ، فإذا تعين المحتاج كان العطاء ، وعلى هذا أكثر بعض نفوس الصالحين (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يعني الناجون ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فضل الصدقة وزمانها : [أن تصدق وأنت شحيح تخاف الفقر وتأمل الحياة والغنى] ـ إشارة ـ أين الكرم من الإيثار؟ الكرم سيادة ، والإيثار عبادة ، الكرم مع

٣٠٢

الرياسة ، والإيثار مع الخصاصة ، لو لا الكرم ما لاحت الحكم ، ولو لا الإيثار ما بدت الأسرار.

(وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (١٢) لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (١٣) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (١٦)

أبان الله لنا في هذه الآية عن معرفة الشيطان بربه وخوفه منه ، ولكن لما كان للجن شياطينهم وغير شياطينهم الإغواء ، قال الشيطان للإنسان : اكفر ، قال تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) بما يزين له ، فإذا كفر يقول الله تعالى : (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ) يقول الشيطان (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) فشهد الله للشيطان بالخوف من الله رب العالمين في دار التكليف ، وبالإيمان به بإخبار الله عنه ، فإنه لا يوجد في الجن

٣٠٣

لا في مؤمنهم ولا في كافرهم من يجهل الحق ولا من يشرك ، ولهذا ألحقوا بالكفار ، ولم يلحقهم الله بالمشركين ، وإن كانوا هم الذين يجعلون الإنس أن يشركوا ، فإذا أشركوا تبرؤوا ممن أشرك كما قال تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) وهو وحي الشيطان إلى وليه ليجادل بالباطل أهل الحق ، فإذا كفر (قالَ) يقول له : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) فوصف الشيطان بالخوف من الله ، ولكن على ذلك الإنسان لا على نفسه ، فخوف الشيطان على الذي قبل إغواءه لا على نفسه ، وسبب ارتفاع الخوف من الشيطان على نفسه علمه بأنه من أهل التوحيد ، فهو يعلم أن الله واحد ، ويعلم مآل الموحدين إلى أين يصير ، فاعتمد إبليس على هذا في حق نفسه ، وطمع في الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء ، وطمعه فيها من عين المنة لإطلاقها ، لأنه علم في نفسه أنه موحد ولهذا قال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) فأقسم به تعالى لعلمه به ، فما طغى أحد من الخلائق ما طغى الإنسان وعلا في وجوده ، فادعى الربوبية ، فإن أكبر العصاة إبليس هو الذي يقول : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) عندما يكفر الإنسان إذا وسوس في صدره الكفر ، وما ادعى قط الربوبية وإنما تكبر على آدم لا على الله ، فلو لا كمال الصورة في الإنسان ما ادعى الربوبية ، فطوبى لمن كان على صورة تقتضي له هذه المنزلة من العلو ولم تؤثر فيه ، ولا أخرجته من عبوديته ، فتلك العصمة ، ولا يكن الشيطان مع كفره أدرك للأمور وأخوف من الله منك ، واعتبر في تبريه من ذلك ، وما أخذ الشيطان قط بعلمه لشرف علمه ، وإنما يؤخذ لصدق الحق فيما قال فيما شرعه فيمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، فالشيطان يوم القيامة يحمل أثقال غيره ، فإنه في كل إغواء يتوب عقيبه ، ثم يشرع في إغواء آخر فيؤاخذ بعمل غيره ، لأنه من وسوسته ، والإنسان الذي لا يتوب إذا سن سنة سيئة يحمل أثقالها وأثقال من عمل بها ، فيكون الشيطان أسعد حالا منه بكثير ، وقد قال تعالى :

(فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ) (١٧)

المقلد إن مشى متبوعه مشى وإن وقف وقف ، فهو معه حيثما كان إما في النجاة وإما في التلف (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) فأسكنه تقليده دار البوار (فَكانَ

٣٠٤

عاقِبَتَهُما) أي جاءهما عقيب هذا الواقع (أَنَّهُما فِي النَّارِ) فأعقب الشيطان برجوعه إلى أصله ، فإنه مخلوق من النار فرجع إلى موطنه ، وكان للإنسان عقوبة على كفره ، حيث ظلم بقبول ما جاء به الشيطان ، ولم يقبل ما جاء به الرسول ، ثم قال : (خالِدَيْنِ فِيها) لأنها موطنهما ، الواحد خلق منها وهو الشيطان ، والآخر خلق لها وإن كان فيه منها ، فسكناها بحكم الأهلية ، وعذّبا فيها بحكم الجريمة ما شاء الله ، فخلد الشيطان في منزله وداره ، وخلد الإنسان جزاء لكفره ، ولهذا تبرأ منه للافتراق الذي بينهما في العاقبة ، وقوله : (وَذلِكَ) أشار ببنية الواحد ولم يثن الإشارة إلى العقاب فإنهما ما اشتركا فيه ، لأن الذي أتى للإنسان عقيب ذنبه إنما هو العذاب ، والذي كان سهم الشيطان الذي أتاه عقيب فعله وقوله رجوعه إلى أصله الذي منه خلق ، فلا يغتر العاقل (جَزاءُ الظَّالِمِينَ) لأن الكفر هنا هو الشرك وهو الظلم العظيم ، فكان قوله تعالى : (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) يريد المشركين ، فإنهم الذين لبسوا إيمانهم بظلم ، فإن قيل : كيف يخلد إبليس في النار وهو لم يكفر؟ قيل : إن إبليس لا ينفعه تبريه من المشرك ومن الشرك ، فإنه هو الذي قال له : اكفر ؛ فحار عليه وزر كل مشرك في العالم وإن كان موحدا ، فإن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، وما سن إبليس الشرك ووسوس به حتى تصوره في نفسه على الصورة التي حصلت في نفس المشرك ، فزالت عنه صورة التوحيد ، فكان إبليس مشركا في نفسه بلا شك ولا ريب ، ولابد أن يحفظ في نفسه بقاء صورة الشريك ليمد بها المشركين مع الأنفاس ، فإنه خائف منهم أن تزول عنهم صفة الشرك فيوحدوا الله فيسعدوا ، فلا يزال إبليس يحفظ صورة الشرك في نفسه ، ويراقب بها قلوب المشركين الكائنين شرقا وغربا وجنوبا وشمالا ، ويرد بها الموحدين في المستقبل إلى الشرك ممن ليس بمشرك ، فلا ينفك إبليس دائما على الشرك ، فبذلك أشقاه الله ، لأنه لا يقدر أن يتصور التوحيد نفسا واحدا لملازمته هذه الصفة ، وحرصه على بقائها في نفس المشرك ، فإنها لو ذهبت من نفسه لم يجد المشرك من يحدثه في نفسه بالشرك فيذهب الشرك عنه ، فدل أن الشريك يستصحب إبليس دائما ، فهو أول مشرك بالله ، وأول من سن الشرك ، وهو أشقى العالمين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ

٣٠٥

إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (١٩)

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) فإن من نسي حق الله الذي أمره الله بإتيانه فقد نسي الله فإنه ما شرعه له إلا الله ، فترك حق الله (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) وصورة ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [من عرف نفسه عرف ربه] فمن نسي الله نسي نفسه بالضرورة ، نسي ما لله عليها من الحقوق ، وما لها من الحقوق ؛ فكان في نسياننا لله أن أنسانا الله أنفسنا ، فنهينا عن ذلك ، فهذه وصية إلهية صحيحة ، وقد نهانا الله أن نكون كالذين نسوا الله فنسيهم ، فنهانا أن ننسى الله مثل ما نسوه لنقوم بحق الله ، ونقيم حق الله في الأشياء على نية صالحة وحضور مع الله ، فيجازينا الله جزاء استحقاق استحققناه بأعمالنا التي وفقنا الله لها ، والذين نسوا الله تركوا حق الله (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) فأعاد الضمير عليهم ، أي الخارجون عن الطريق المشروع.

(لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١)

أترى هذا الخشوع والتصدع من خشية الله عن غير علم بقدر ما أنزل الله عليه؟ وما خاطب من التخويفات التي تذوب لها حمم الجبال الشامخات؟ وقد وصف الحق الجبل بالخشية ، وعين وصفه بالخشية عين وصفه بالعلم بما أنزل عليه ، قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فهذه الآية تشير إلى شرف الجماد على الإنسان ، أترى خشوعه وتصدعه لجهله بما أنزل عليه؟ لا والله إلا بقوة علمه بذلك وقدره ، ألا تراه عزوجل يقول لنا في هذه الآية : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فإنهم إذا تفكروا في ذلك

٣٠٦

علموا شرف غيرهم عليهم ، فإن شهادة الله بمقدار المشهود له بالتعظيم كالواقع منه لأنه قول حق ، وعلموا إذا تفكروا جهلهم بقدر القرآن حيث لم تظهر منهم هذه الصفة التي شهد الله بها للجبل ، فلو علم الإنسان قدر القرآن وما حمله لما كانت حالته هكذا ، كما أن هذه الآية تدل على القوة الإلهية التي أعطاها الله لمن أنزل عليه الوحي ، فإنهم علموا قدر من أنزله ، فرزقهم الله من القوة ما يطيقون به حمل ذلك الجلال ، إذ لا أقوى من العلم ، ولو نزل هذا القرآن على من ليست له هذه القوة لذاب في عينه لعظيم ما جاءه ، فإن الله وصفه بأنه يضعف عن حمل ذلك ، فانظر إلى ما كان يقاسي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في باطنه من حمله القرآن لمعرفته به ، وما أبقى الله عليه جسده وعصم ظاهره من أن يتصدع كالجبل لو أنزل عليه القرآن إلا لكون الله تعالى قد قضى بتبليغه إلينا على لسانه ، فلابد أن يبقي صورته الظاهرة على حالها ، حتى نأخذه منه ، وكذلك بقاء صورة جبريل النازل به ، ـ ومن وجه آخر ـ لما كان القرآن جامعا تجاذبته الحقائق الإلهية والكونية على السواء ، فلم يكن فيه عوج ولا تحريف فمنزلته الاعتدال ؛ والاعتدال منزل حفظ بقاء الوجود على الموجود ، فكان له الديمومية ، والبقاء ، فله بقاء التكوين وبقاء الكون ، فلو نزل عن منزله لنزل من الاعتدال إلى الانحراف ، وهو قوله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ) يعني عن منزله (عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) يعني الجبل ، فلم يحفظ عليه صورته لأنه نزل عن منزلته ، ولما كان هذا منزله وتجاذبته الحقائق على سواء ، كان من به أنزل عليه رحمة للعالمين ، لأن الرحمة وسعت كل شيء ، فإذا أنزل القرآن عن منزله ـ فإنه كلامه ، وكلامه على نسبة واحدة لما يقبله الكلام من التقسيم ـ فإنه ينزل وفيه حقيقة الاعتدال في النسب ، وهو جديد عند كل تال أبدا ، فلا يقبل نزوله إلا مناسبا له في الاعتدال ، فهو معرى عن الهوى ، وما كل تال يحس بنزوله لشغل روحه بطبيعته ، فينزل عليه من خلف حجاب الطبع ، فلا يؤثر فيه التذاذا ، فهو قرآن منزل على الألسنة لا على الأفئدة ، وأما من نزل القرآن على قلبه فإنه يجد لنزوله عليه حلاوة لا يقدر قدرها ، تفوق كل لذة. فإذا وجدها فذلك الذي نزل عليه القرآن الجديد الذي لا يبلى ، والفارق بين النزولين أن الذي ينزل القرآن على قلبه ينزل بالفهم ، فيعرف ما يقرأ وإن كان بغير لسانه ، ويعرف معاني ما يقرأ وإن كانت تلك الألفاظ لا يعرف معانيها في غير القرآن لأنها ليست بلغته ، ويعرفها في تلاوته إذا كان ممن ينزل القرآن على قلبه عند تلاوته.

٣٠٧

(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (٢٢)

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بدأ بهو ، وأتى بالاسم المحيط بجميع الأسماء التي تأتي مفصلة ، ثم بالنفي فنفى أن تكون هذه المرتبة لغيره ، ثم أوجبها لنفسه بقوله : (إِلَّا هُوَ) فبدأ بهو وختم بهو ، فكل ما جاء من تفصيل أعيان الأسماء الإلهية فقد دخل تحت الاسم الله الآتي بعد قوله (هُوَ) فإن (هُوَ) أعم من كلمة (اللهُ) فإنها تدل على الله وعلى كل غائب وكل من له هوية ، فكان الهو ختم الأسماء الإلهية وهو عين سابقتها ، فإن الاسم الله دلالة على الرتبة ، والهوية دلالة على العين ، لا تدل على أمر آخر غير الذات ، فتدل على عين غائبة عن أن يحصرها علم مخلوق ، فلا يزال غيبا عند كل من يزعم أنه عالم به ، ولذلك كان الهو عند الطائفة أتم الأذكار وأرفعها وأعظمها ، وهو ذكر خواص الخواص ، وليس بعده ذكر أتم منه ، فيكون ما يعطيه الهو في إعطائه أعظم من إعطاء اسم من الأسماء الإلهية حتى الاسم الله. (هُوَ اللهُ) واختار الحق الاسم الله فأقامه في الكلمات مقامه ، فهو الاسم الذي ينعت ولا ينعت به ، فجميع الأسماء نعته وهو لا يكون نعتا ، ولهذا يتكلف فيه الاشتقاق ، فهو اسم جامد علم موضوع للذات في عالم الكلمات والحروف ، لم يتسمّ به غيره جلّ وعلا ، فعصمه من الاشتراك ، كما دل أن لا يكون ثم إله غيره بقوله : (الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) اعلم أن الوحدة في الإيجاد والوجود والموجود لا تعقل إلا في (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهذه أحدية المرتبة وهي أحدية الكثرة ، فإذا أطلقت الأحدية فلا تطلق عقلا ونقلا إلا بإزاء أحدية المجموع ، مجموع نسب أو صفات أو ما شئت على قدر ما أعطاه دليلك ، ولكل نسبة أو صفة أحدية تمتاز بها عن غيرها في نفس الأمر ، فمن أراد أن يميزها عند السامع أو المتعلم فما يقدر على ذلك إلا بمجموع حقائق ، كل حقيقة معلومة عند السامع ، ولذلك ما طلب الحق تعالى في الإيمان منا إلا توحيد الإله خاصة ، وهو أن نعلم أنه ما ثمّ إلا إله واحد لا إله إلا هو ، فلم يكن ثمّ جمع يقتضي هذا الحكم ، وهو أن يكون إلها إلا هذا المسمى بهذه الأسماء الحسنى ، فأهل الحق يقولون بنسبة الألوهة لهذا الموجد للممكن المألوه ، ومعقول الألوهة ما هو معقول الذات ، فالأحدية معقولة لا تتمكن العبارة عنها إلا بمجموع ، مع كون العقل يعقلها وهي أحدية المجموع وآحاده ، فالتجلي الإلهي لا يصح في الأحدية أصلا ، وما ثمّ غير الأحدية ، وما يتعقل أثر عن واحد لا جمعية له ، فلا أعلم من الله بالله ، حيث لم يفرض الوحدة إلا أحدية المجموع ، وهي

٣٠٨

أحدية الألوهة له تعالى ، فقال : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) وكل اسم واحد مدلوله ليس مدلول عين الاسم الآخر ، وإن كان المسمى بالكل واحدا ، فما عرف الله إلا الله ، فإن معرفتنا بالله بالأدلة العقلية والشرعية إثبات وجود الذات مع جهلنا حقيقتها ، فلا نصل إلى معرفة حقيقتها ولا يمكن الوصول إلى ذلك ، وإثبات الألوهة للذات مع جهلنا بنسبة ما نسبناه إليها من الأحكام ، فإنا وإن كنا نعرف النسبة من كونها نسبة ، فقد نجهل النسبة الخاصة لجهلنا بالمنسوب إليه ، وهذا هو التوحيد الثالث والثلاثون في القرآن ، وهو توحيد العلم ، وهو من توحيد الهوية ، وهو توحيد من حيث التفرقة ، لأنه ميّز بين الغيب والشهادة ، وجمع بين العلم والرحمة ، فقال : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أما قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فاعلم أن الله تعالى لما خلق العالم جعل له ظاهرا وباطنا ، وجعل منه غيبا وشهادة لنفس العالم ، فما غاب من العالم عن العالم فهو الغيب ، وما شاهد العالم من العالم فهو شهادة ، وكله لله شهادة ظاهر ، فكان قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ما غاب عنا وما نشهد ، فإنه لا يتصور في حق الله غيب ، فالغيب أمر إضافي لما غاب عنا ، فالعالم عالمان ما ثم ثالث : عالم يدركه الحس وهو المعبر عنه بالشهادة ، وعالم لا يدركه الحس وهو المعبر عنه بعالم الغيب ، فإن كان مغيبا في وقت وظهر في وقت للحس فلا يسمى ذلك غيبا ، وإنما الغيب ما لا يمكن أن يدركه الحس لكن يعلم بالعقل ، إما بالدليل القاطع وإما بالخبر الصادق ، وهو إدراك الإيمان ، فالشهادة مدركها الحس ، وهو طريق إلى العلم ما هو عين العلم ، وذلك يختص بكل ما سوى الله ممن له إدراك حسي ، والغيب مدركه العلم عينه ، والغيب في هذه الآية هو الذي يقابل الشهادة ، فوصف نفسه بعلم المتقابلين ، وما هو الغيب الذي انفرد الحق به سبحانه في قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) وما قرنه بالشهادة ، فإن هذا الغيب وإن اشترك مع ذاك في الاسمية إلا أن هناك فرقا ، وهو أن هذا الغيب المقابل للشهادة هو الغيب المغيب الذي يتصف في وقت بالشهادة ، لا بالغيب الذي يستحيل عليه أن يكون شهادة بوجه من الوجوه ، فهو الغيب الإمكاني الذي تبرز منه الأشياء إلى عالم الشهادة ، فإما أن تبقى في عالم الشهادة أو لا تبقى كالأعراض ، فإن لم تبق فلابد أن تفارق الشهادة ، وإذا فارقت الشهادة فإنها تدخل إلى الغيب الذي لا يمكن أن يدرك أبدا شهادة ، ولا يكون لها رجوع بعد ظهورها إلى الغيب الذي خرجت منه ، بل تنتقل إلى الغيب المحالي

٣٠٩

الذي لا يظهر عنه أبدا شيء يتصف بالشهادة ، فهذان غيبان : الغيب الذي يوجد منه الكائنات ، والغيب الذي ينتقل إليه بعض الكائنات بعد اتصافها بالشهادة ، وهما بخلاف الغيب الذي لا يدرك بالحس ، والذي انفرد الحق بعلمه في قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ) فالغيب في هذه الآية ظرف لعالم الشهادة ، وعالم الشهادة هنا كل موجود سوى الله تعالى مما وجد ولم يوجد ، أو وجد ثم ردّ إلى الغيب ، كالصور والأعراض وهو مشهود لله تعالى ، ولهذا قلنا إنه عالم الشهادة ، ولا يزال الحق سبحانه يخرج العالم من الغيب شيئا بعد شيء إلى ما لا يتناهى عددا من أشخاص الأجناس والأنواع ، ومنها ما يرده إلى غيبه ومنها ما لا يرده أبدا ، فالذي لا يرده أبدا إلى الغيب كل ذات قائمة بنفسها وليس إلا الجواهر خاصة ، وكل ما عدا الجواهر من الأجسام والأعراض الكونية واللونية ، فإنها ترد إلى الغيب ويبرز أمثالها ، والله يخرجها من الغيب إلى شهادتها أنفسها ، فهو عالم الغيب والشهادة ، والأشياء في الغيب لا كمية لها ، إذ الكمية تقتضي الحصر ، فيقال كم كذا وكذا؟ وهذا لا ينطلق عليها في الغيب فإنها غير متناهية ، فكم وكيف والأين والزمان والوضع والإضافة والعرض وأن يفعل وأن ينفعل ، كل ذلك نسب لا أعيان لها ، فيظهر حكمها بظهور الجوهر لنفسه إذا أبرزه الحق من غيبه ، فإذا ظهرت أعين الجواهر تبعتها هذه النسب ، فليس في الوجود المحدث إلا أعيان الجواهر والنسب التي تتبعه ، فكان الغيب بما فيه كأنه يحوي على صورة مطابقة لعالمه ، إذ كان علمه بنفسه علمه بالعالم ، فالعالم عالمان ، والحضرة حضرتان ، وإن كان قد تولد بينهما حضرة ثالثة من مجموعهما ، فالحضرة الواحدة حضرة الغيب ولها عالم الغيب ، والحضرة الثانية حضرة الحس والشهادة ويقال لعالمها عالم الشهادة ، ومدرك هذا العالم بالبصر ، ومدرك عالم الغيب بالبصيرة ، والمتولد من اجتماعهما حضرة وعالم ، فالحضرة حضرة الخيال ، والعالم عالم الخيال ، وهو ظهور المعاني في القوالب المحسوسة ، كالعلم في صورة اللبن ، والثبات في الدين في صورة القيد ، والإسلام في صورة العمد ، والإيمان في صورة العروة ، وجبريل في صورة دحية الكلبي وفي صورة الأعرابي ، وتمثل لمريم في صورة بشر سوي ، ولذلك كانت حضرة الخيال أوسع الحضرات ، لأنها تجمع العالمين عالم الغيب والشهادة ، فإن حضرة الغيب لا تسع عالم الشهادة فإنه ما بقي فيها خلاء ، وكذلك حضرة الشهادة ، وحضرة الخيال العامة لا تعرفها ولا تدخلها إلا إذا نامت ورجعت القوى الحساسة إليها ، والخواص يرون ذلك في اليقظة لقوة التحقق بها ، وفي هذه الحضرة

٣١٠

حضرة الخيال إن أكلت شبعت ، وإن مسكت فيه شيئا من ذهب أو ثياب أو ما كان بقي معك على حاله لا يتغير ، ومن ذلك المقام قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد نهى عن الوصال فقيل له : إنك تواصل ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني] فلم يكن في تلك الجماعة التي خاطبها في ذلك الوقت من له هذا المقام ، ولم يقل لست كهيئة الناس ، فكان إذا أكل شبع وواصل على قوة معتادة ، ولما كان الأكل في حضرة الخيال لا في حضرة الحس صح أن يكون مواصلا ، كذلك تقدمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقطف عنقود من العنب ، وتأخره وهو في الصلاة من النار التي مثلت له في عرض الحائط ، وليس ذلك المقام إلا للعبد المحض الخالص (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) بالرحمة العامة والرحمة الخاصة.

(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٢٣)

لما كان وجود العالم مرتبطا بوجود الحق فعلا وصلاحية ، لهذا كان اسم الملك لله تعالى أزلا ـ وإن كان عين العالم معدوما في العين ـ لكن معقوليته موجودة باسم المالك ، فهو مملوك لله تعالى وجودا وتقديرا قوة وفعلا ، وقال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) بنسبة ملك السموات والأرض إليه فإنه رب كل شيء ومليكه ، والاسم الملك هو المهيمن على الأجناد الأسمائية ، فإن أسماءه سبحانه وتعالى عساكره ، وهي التي يسلطها على من يشاء ويرحم بها من يشاء (الْقُدُّوسُ) بقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وتنزيهه عن كل ما وصف به ، فتقدست الألوهة أي تنزهت أن تدرك وفي منزلتها أن تشرك ، والقدوس من القدس وهي الطهارة الذاتية ، كتقديس الحضرة الإلهية التي أعطيها الاسم القدوس ، فهو اسم إلهي منه سرت الطهارة في الطهارات كلها ، وهو قدوس مطهر من الأسماء النواقص ، وهي التي لا تتم إلا بصلة وعائد ، فإن من أسمائه سبحانه الذي وما ، فهو القدوس أي المطهر عن نسبة الأسماء النواقص إليه ، وهو قدوس عن تغيره في نفسه بتغير الأحكام ـ إشارة ـ اعلم أن الاسم القدوس يصحب الموجودات وبه ثبت قوله تعالى : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فلا ينبغي أن يحال بين العبد وسيده ، ولا يدخل بين العبد وسيده إلا بخير ، ولا شك أن النجاسة أمر عرضي عيّنه حكم شرعي ، والطهارة أمر ذاتي ، فلا أصل للنجاسة في الأعيان ،

٣١١

إذ الأعيان طاهرة بالأصل ، فما في الوجود بحكم الحقيقة إلا طاهر. (السَّلامُ) بسلامته من كل ما نسب إليه مما كره من عباده أن ينسبوه إليه. (الْمُؤْمِنُ) هنا له وجهان : بمعنى المصدق ، وبمعنى معطي الأمان بما أعطاهم من الأمان إذا وفوا بعهده ، فهو المؤمن بما صدق عباده ، ورد في الخبر أن العبد يقول في حال من الأحوال : الله أكبر ، فيقول الله : أنا أكبر ، يقول العبد : لا إله إلا انت ، يقول الله : لا إله إلا أنا ، يقول العبد : لا إله إلا الله له الملك وله الحمد ، يقول الله : لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد ، يصدق عبده ، ومن هنا كان اسمه المؤمن ، فهو مصدق الصادقين من عباده عند من لم يثبت صدقهم عنده ، فإذا صدق المؤمن في جميع أقواله وأفعاله وأحواله وإعطاء الأمان منه لكل خائف من جهته ، فإذا صدق في ذلك كله ، صدّقه الله تعالى ، لأنه لا يصدق سبحانه إلا الصادق ، ولا يصدقه تعالى إلا من اسمه المؤمن لا غير ؛ ـ ومن وجه آخر ـ لما كان الإيمان نصف صبر ونصف شكر ، والله هو الصبور الشكور ، فمن اسمه المؤمن شكر عباده على ما أنعموا به على الأسماء الإلهية ، بقبولهم لآثارها ، وصبر على أذى من جهله من عباده فنسب إليه مالا يليق به ونسبوا إليه عدوا بغير علم ـ كما أخبرنا عنهم ـ فصبر على ذلك ، ولا شخص أصبر على أذى من الله لاقتداره على الأخذ ، فهو المؤمن الكامل في إيمانه بكمال صبره وشكره ، ومن كون الحياء من الإيمان فإنه يستحي أن يكذب ذا شيبة يوم القيامة ، فيصدقه مع كذبه ويأمر به إلى الجنة. (الْمُهَيْمِنُ) هو الشاهد على الشيء بما هو له وعليه ، فهو الشاهد على عباده بما هم فيه من جميع أحوالهم مما لهم وعليهم. (الْعَزِيزُ) لغلبه من غالبه إذ هو الذي لا يغالب ، وامتناعه في علو قدسه أن يقاوم (الْجَبَّارُ) في اللسان : الملك العظيم ، وهو الجبار بما جبر عليه عباده في اضطرارهم واختيارهم ، فهم في قبضته تعالى ، فهو تعالى الجبار بما للذات من جبر في العالم بالأسماء الإلهية ، وله الجبر بالإحسان على الظاهر والباطن ، فله الجبر بطريق القهر والمغالبة على الظاهر ، وله الجبر الذاتي بالتجلي في العظمة الحاكمة على كل نفس فتذهل عن ذاتها وعزتها ، فلله قهر خفي في العالم لا يشعر به ، وهو ما جبرهم عليه في اختيارهم ، وقهر جلي وهو ما ليس فيه اختيار يحكم عليهم ، فللحق الرفعة أصلا وذلك بقوله (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) ولكنه لما نزل لعباده حتى ظن بعض الناس أن ذلك له حقيقة قال (الْمُتَكَبِّرُ) فهي رفعة للحق بعد نزوله إلى عباده ، لما حصل في النفوس الضعيفة من نزوله إليهم في خفي ألطافه لمن تقرب بالحد والمقدار ، من شبر وذراع وباع وهرولة وتبشيش وفرح وتعجب

٣١٢

وضحك وأمثال ذلك ، فكان التكبر من صفات الحق لما كان من نزوله في الصفات إلى ما يعتقده أصحاب النظر وأكثر الخلق أنه صفة المخلوق ، فلما علم ذلك منهم وهو سبحانه قد وصف لهم نفسه بتلك الصفات حتى طمعوا فيه ، وضل بها قوم عن طريق الهدى ، كما اهتدى بها قوم في طريق الحيرة ، قام لهم تعالى في صفة التكبر عن ذلك النزول ، ليعلمهم أنه وإن اشترك معهم في الاسمية فإن نسبتها إليه تعالى ليست كنسبتها إلى المخلوق ، فيكون مثل هذا تكبرا فإن نسبة التكبر محيرة ، فتحير من تحير في نسبة التكبر إلى الحق وتحقيقها أن لو علم نزول الحق لعباده ـ إذ ليس في قوة الممكن نيل ما يستحقه الحق من الغنى عن العالم ، وفي قوة الحق مع غناه من باب الفضل والكرم النزول لعباده ـ لعلمنا تلك النسبة ، فإن جهل أحد من العباد قدر هذا النزول الإلهي ، وتعاظم العبد في نفسه لنزول الحق له ، ولم يعلم أن نزول الحق لعباده ما هو لعين عباده ، وإنما ذلك لظهور أحكام أسمائه الحسنى في أعيان الممكنات ، فما علم أنه لنفسه نزل لا لخلقه ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فما خلقهما إلا من أجله ، والخلق نزول من مقام ما يستحقه من الغنى عن العالمين ، فالمتخيل من العباد خلاف هذا وأنه تعالى ما نزل إلا لما هو المخلوق عليه من علو القدر والمنزلة ، فهذا أجهل الجاهلين ، فأعطى الحق هذا النزول أو ما توهمه الجاهل أن يتسمى الحق بالمتكبر عن هذا النزول ، ولكن بعد هذا النزول لا قبله وجودا وتقديرا لابد من ذلك. واعلم أن التكبر لا يكتسبه الكبير وإنما يكتسبه الأدنى في الرتبة ، فيكسب العبد الكبرياء بما هو الحق صفته ، فالكبرياء لله لا للعبد ، فهو محمود مشكور في كبريائه وتكبره ، ويكسب الحق هذا الاسم ، فإنه تعالى ذكر عن نفسه أنه متكبر ، وذلك لنزوله تعالى إلى عباده في خلقه آدم بيديه ، وغرسه شجرة طوبى بيده ، وكونه يمينه الحجر الأسود ، وفي يد المبايع بالإمامة من الرسل في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ونزوله في قوله [جعت فلم تطعمني ، وظمئت فلم تسقني ، ومرضت فلم تعدني] وما وصف الحق به نفسه مما هو عندنا من صفات المحدثات ، فلما تحقق بهذا النزول عندنا حتى ظن أكثر المؤمنين أن هذه له صفة استحقاق ، وتأولها آخرون من المؤمنين ، فمن اعتقد أن اتصاف الحق بهذا أن المفهوم منه ما هو المفهوم من اتصاف الخلق به ، أعلم الحق هذه الطائفة خاصة أنه يتكبر عن هذا ، أي عن المفهوم الذي فهمه القاصرون من كون نسبته إليه تعالى على حد نسبته إلى المخلوق ، وبه يقول أهل الظاهر أهل الجمود منهم القاصرة أفهامهم عن استحقاق كل مستحق حقه ،

٣١٣

فقال عن نفسه تعالى إنه (الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) عن هذا المفهوم وإن اتصف بما اتصف به ، فله تعالى الكبرياء من ذاته ، وله التكبر عن هذا المفهوم لا عن الاتصاف ، لأنه لو تكبر عما وصف به نفسه مما ذكرنا لكان كذبا ، والكذب في خبره محال ، فالاتصاف بما وصف به نفسه حق يعلمه أولو الألباب. ومن كون الحق متكبرا أن يجد العبد في قلبه كبرياء الحق فلا يعصه ، فالذي اجرأ العصاة ومن اجترأ على الله من عباده على المخالفة ، ما وصف الحق به نفسه من العفو والمغفرة ، ونهاهم عن القنوط من رحمة الله ، فما عندهم رائحة من نعت التكبر الإلهي الذي هو به متكبر في قلوب عباده ، إذ لو كبر عندهم ما اجترؤا على شيء من ذلك ، ولا حكمت عليهم هذه الأسماء التي أطمعتهم ، فإن كبرياء الحق إذا استقر في قلب عبد وهو التكبر ، من المحال أن تقع منه مخالفة لأمر الحق بوجه من الوجوه ، فالحق المتكبر إنما هو في نفس هذا الموافق الطائع عبد الله على الحقيقة ، والتوحيد في هذه الآية هو التوحيد الرابع والثلاثون في القرآن ، وهو توحيد النعوت ، وهو من توحيد الهوية المحيطة ، فله النعوت كلها ، نعوت الجلال ، فإن صفات التنزيه لا تعطي الثبوت ، والأمر وجودي ثابت ، فلهذا قدم الهوية وأخرها حتى إذا جاءت نعوت السلب ، وحصلت الحيرة في قلب السامع ، منعت الهوية بإحاطتها أن يخرج السامع إلى العدم ، فيقول : فما تمّ شيء وجودي ، إذ قد خرج عن وجود العقل والحس فيلحقه بالعدم فتمنعه الهوية ، فإن الضمير لابد أن يعود على أمر مقرر :

(هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٤)

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ) بالتقدير والإيجاد ، والخالق هنا صفة لله موصوف للباريء ، وعلى ذلك تؤخذ الأسماء الإلهية إذا وقعت بين اسمين إلهيين ، فالخالق صفة لله موصوف للبارىء (الْبارِئُ) بما أوجده من مولدات الأركان (الْمُصَوِّرُ) بما فتح في الهباء من الصور ، وفي أعين المتجلى لهم من صور التجلي المنسوبة إليه ، ما نكر منها وما عرف ، وما أحيط بها وما لم يدخل تحت إحاطة. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وهي تسعة وتسعون اسما ، مائة إلا واحد ، وكل اسم واحد مدلوله ليس مدلول عين الاسم الآخر ، وإن كان المسمى بالكل واحدا ،

٣١٤

فهذه أحدية المجموع وآحاده ، فما ثمّ جمع يقتضي هذا الحكم وهو أن يكون إلها إلا هذا المسمى بهذه الأسماء الحسنى المختلفة المعاني ، التي افتقر إليها الممكن في وجود عينه. (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولم يقل. (وَما فِي الْأَرْضِ) لأن كثيرا من الناس في الأرض لا يسبحون الله ، وممن يسبح الله منهم ما يسبحه في كل حال ، والأرض تسبحه في كل حال ، والسموات وما فيها من الملائكة والأرواح المفارقة تسبحه كما قال (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) فراعى هنا من يدوم تسبيحه وهو الأرض ، كما راعى في موطن آخر من القرآن تسبيح من في الأرض وإن كان البعض من العالم ، فقال عز من قائل (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) بجمع من يعقل ، ثم أكد ذلك بقوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) وزاد في التأكيد بقوله (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) فأتى بلفظة من ولم يأت بما ، وأتى هنا بما ولم يأت بمن ، فإن سيبويه يقول : إن اسم ما يقع على كل شيء ؛ إلا أنه لم يعم الموجودات. واعلم أن حضرة التصوير هي آخر حضرة الخلق وليس وراءها حضرة للخلق جملة واحدة ، فهي المنتهى والعلم أولها ، والهوية هي المنعوتة بهذا كله ، أعني الهوية فابتدأ بقوله (هُوَ) لأن الهوية لابد منها ، ثم ختم بها في السلب والثبوت وهو قوله (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وابتدأ من الصفات بالعلم بالغيب والشهادة وختم بالمصور ، ولم يعين بعد ذلك اسما بعينه ، بل قال (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ثم ذكر أن له يسبح ما في السموات والأرض ، فإن إنشاء الصور لا يتناهى دنيا ولا آخرة ، فالإنشاء متصل دائم وإن تناهت الدنيا ، فسبحان من يجهل فلا يعلم ويعلم فلا يجهل (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ومن خصائص هذه السورة سورة الحشر :

جعل الرحمن آخرها

عصمة لنا من الفتن

عصم الرحمن قارئها

أبدا في السر والعلن

تحقيق ـ اعلم أن الثقلين ما خلقهم الله تعالى إلا بأسماء اللطف والحنان ، والرأفة والرحمة ، والتنزل الإلهي ، فخلقهم بالاسم الرحمن ، فلما نظروا إلى الأسماء التي وجدوا عنها ما رأوا اسما إليها منها يقتضي أخذهم وعقوبتهم إن عصوا أمره ونهيه ، وتكبروا على أمره ، فلم يطيعوه وعصوه ، لأنه تعالى بالرحمة أوجدنا ، لم يوجدنا بصفة القهر ، وكذلك تأخرت المعصية فتأخر الغضب عن الرحمة في الثقلين ، فالله يجعل حكمهما في الآخرة كذلك ، ولو كانت بعد حين ، ألا ترى الله تعالى إذا ذكر أسماءه لنا يبتدي بأسماء الرحمة ويؤخر أسماء الكبرياء ،

٣١٥

لأنا لا نعرفها ، فإذا قدّم لنا أسماء الرحمة عرفناها وحننا إليها ، عند ذلك يتبعها أسماء الكبرياء لنأخذها بحكم التبعية ، فقال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فهذا نعت يعم الجميع أي جميع المخلوقات ، وليس واحدته بأولى من الآخر ، ثم ابتدأ فقال (هُوَ الرَّحْمنُ) فعرفنا (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) لأنا عنه وجدنا ، ثم قال بعد ذلك (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ابتدأ ليجعله فصلا بين (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) وبين (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) فقال (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ) وهذا كله من نعوت الرحمن ، ثم جاء وقال (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) فقبلنا هذه النعوت بعد أن آنسنا بأسماء اللطف والحنان وأسماء الاشتراك التي لها وجه إلى الرحمة ، ووجه إلى الكبرياء وهو (اللهُ) و (الْمَلِكُ) فلما جاء بأسماء العظمة والمحل قد تأنس بترادف الأسماء الكثيرة الموجبة الرحمة ، قبلنا أسماء العظمة لما رأينا أسماء الرحمة قد قبلتها حيث كانت نعوتا لها ، فقبلناها ضمنا تبعا لأسمائنا ، ثم إنه لما علم الخالق أن صاحب القلب والعلم بالله وبمواقع خطابه إذا سمع مثل أسماء العظمة لابد أن تؤثر فيه أثر خوف وقبض ، نعتها بعد ذلك وأردفها بأسماء لا تختص بالرحمة على الإطلاق ، ولا تعرى عن العظمة على الإطلاق فقال : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وهذا كله تعليم من الله عباده وتنزل إليهم ، ولهذا قدّم سبحانه في كتابه بسم الله الرحمن الرحيم في كل سورة إذ كانت تحوي على أمور مخوفة تطلب أسماء العظمة والاقتدار ، فقدم أسماء الرحمة تأنيسا وبشرى ، وما طلب الله تعالى من عباده في حقه إلا أن يعلموا أنه إله واحد لا شريك له وبشرى ، وما طلب الله تعالى من عباده في حقه طلا أن يعلموا أنه إله واحد لا شريك له في ألوهته لا غير ، وأن له الأسماء الحسنى بما هي عليه من المعاني في اللسان ، وقرن النجاة والسعادة بمن وقف عندما جاء من عنده عزوجل في كتبه وعلى ألسنة رسله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(٦٠) سورة الممتحنة مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ

٣١٦

إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) (١)

قال تعالى يخاطب المؤمنين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي) فجعلهم أعداء له كما قال في جزائه إياهم (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) فإن كان لله أعداء ، فكيف بأجناس العالم؟ فهم عبيده أعداؤه ؛ فكيف حال عبيده بعضهم مع بعض بما فيهم من التنافس والتحاسد؟ (وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) لكونهم أمثالا لكم؟ ولما بين المثلين من الضدية قال للمؤمن : عامل العدو بضدية المثل لا بمودة المثل ، فإن العدو يريد إخراجك من الوجود ، فقال تعالى (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) فما عاملكم العدو وإن كان مثلكم إلا بضدية المثل لا بمودته ، فأمرنا الحق إذا أرادوا ذلك بنا أن نقاتلهم ، فنذهب أعيانهم من الموضع الذي يكونون فيه ، وإن لم تسر هذه الضدية في ذات المثل فليس بمؤمن ، ولا هو عند الله بمكان ، فإن الله لما علم ما هو عليه الإنسان في جبلته من حبه المحسن لإحسانه ، ومن استجلابه الود من أشكاله بالتودد إليهم ، علم أنه تعالى إذا قال لهم (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي) أنهم لما ذكرناه لا يقومون في هذا النهي في جانب الحق مقام ما يستحقه الحق ، فزاد في الخطاب فقال (وَعَدُوَّكُمْ) وذلك ليبغضهم إلينا ، لعلمه بأنا نحب أنفسنا ونؤثر هوانا عليه تعالى ، فليس في القرآن ذم في حقنا من الله أعظم من هذا ، فإنه لو علم منا إيثاره على أهوائنا لاكتفى بقوله (عَدُوِّي) ثم تمم على نسق واحد فقال (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ) يعني من موطنه ، فإن مفارقة الأوطان من أشق ما يجري على الإنسان ، فلما علم الله أنكم لا يقوم عندكم إخراج الرسول ـ مع بقائكم في أوطانكم ذلك المقام ـ ما يستحقه الرسول منكم قال (وَإِيَّاكُمْ) فشرككم في الإخراج مع الرسول ، كما شرككم في العداوة مع الله ، لتكونوا أحرص على أن لا تلقوا إليهم بالمودة ، وأن نتخذهم أعداء ، والمؤمنون هنا كل ما سوى الرسول ، فإن الرسول إذا تبين له أن شخصا ما عدو لله تبرأ منه ، كما تبرأ إبراهيم عليه‌السلام من أبيه ، ومن لم يطلعك الله على عداوته فلا تتخذه عدوا ، وأقل أحوالك إذا جهلته أن تهمل أمره ، فلا تعاد عباد الله بالإمكان ، والذي ينبغي لك أن تكره فعله

٣١٧

لا عينه ، والعدو لله إنما تكره عينه ، ففرّق بين من تكره عينه وهو عدو الله ، وبين من تكره فعله وهو المؤمن ، أو من تجهل خاتمته ممن ليس بمسلم في الوقت ، فإذا تبين لك وتحققت من عداوته لله يتعين عليك عند ذلك أن تتخذهم أعداء ، لأمر الله لك بذلك ، حيث نهاك أن تتخذ عدوه وليا تلقي إليه بالمودة ، فإن اضطرك ضعف يقين إلى مداراتهم فدارهم من غير أن تلقي إليهم بمودة ، ولكن مسالمة لدفع الشر عنك ، والله يجعلنا ممن آثر الحق على هواه ، وأن يجعل ذلك مناه ، فما أعظمها عندي حسرة حيث لم نكن بهذه المثابة عند الله ، حتى نكتفي بذكر عداوتهم لله وإخراج الرسول ، فهنا ينبغي أن تسكب العبرات ، فالسعيد من وجد ذلك من نفسه ، فلم يدخل تحت هذا الخطاب ، فلا يتخذ عدوا لله محبوبا ولا محبا (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) أن وما بعدها بتأويل المصدر ، كأنه يقول : يخرجون الرسول وإياكم من أجل إيمانكم بالله ربكم ، (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي ، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ ، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

(إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٥ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن

٣١٨

كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٦)

فلم يذم من تولى ليعلمنا الأدب ، بل نزه نفسه بالغنى عما دعاهم إليه ، وأنهم إن أجابوا لذلك فإن الخير الذي فيه عليهم يرجع ، والله غني عنه ، ثم أتبعه بالحميد ، أي هو أهل الثناء بالمحامد في الأولى والآخرة ، فله الحمد على كل حال.

(عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٧) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠)

ليس للمؤمن أن يبتلي المؤمن إلا بأمر إلهي ، فيكون الابتلاء لله تعالى ومنه لا منهم ، مثل قوله تعالى (فَامْتَحِنُوهُنَّ) فالله أمر بذلك ، فامتثل العبد أمر سيده ، فالابتلاء لا يكون إلا لله ، وكل من ابتلى أحدا من المؤمنين بغير أمر إلهي فإن الله يؤاخذه على ذلك (وَلا تُمْسِكُوا

٣١٩

بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) يؤيد تحريم نكاح المشركات.

(وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (١٢)

البهتان هو أن ينسب إلى الشخص ما لم يكن منه ، ولقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما مست يده يد امرأة لا يحل له لمسها ، وهو رسول الله ، وما كانت تبايعه النساء إلا بالقول ، وقوله للواحدة قوله للجميع.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) (١٣)

(٦١) سورة الصّفّ مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١)

اعلم أن مقام العزة حاكم على الكل بالقهر والعجز عن بلوغ الغاية فيما قصدوه من الثناء على الله ، مثل قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [لا أحصي ثناء عليك] ما قال ذلك حتى عجز عن

٣٢٠