رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٤

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) (١٣)

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا) وهم المؤمنون (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ) لهم من جانب الحق (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) كما رجعتم عندما رأيتم نور الهدى في الدنيا على أعقابكم ، فكانوا في ظلمة الكون (فَالْتَمِسُوا نُوراً) هنالكم ولن تجدوه ، انظروا إلى موجدكم هنالكم ، ولن تجدوه ، وقيل لهذه الطائفة ذلك القول وهو حق ، لأن الله من ورائهم محيط وهو النور ، فلو لم يضرب بالسور بينه وبينهم لوجدوا النور الذي التمسوه حين قيل لهم (فَالْتَمِسُوا نُوراً) أي لا يكون لأحد نور إلا من حياته الدنيا ، فإن الحياة الدنيا محل اكتساب الأنوار بالتكاليف ، وإنها دار عمل مشروع ، فهي دار ارتقاء واكتساب ، فلما أقبلوا على الآخرة صارت الدنيا وراءهم ، فقيل لهم (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) فحال سور المنع بينهم وبين الحياة الدنيا ، فقال تعالى (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) ـ الوجه الثاني ـ السور يسمى الأعراف بين الجنة والنار ، وجعله الله مكانا لمن اعتدلت كفتا ميزانه ، فلم ترجح إحداهما على الأخرى ، وقال فيه : (لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) هذه الآية يستدل بها على عموم رحمة الله في المآل ، فإن السور الذي بين الجنة والنار أخفى الله رحمته في باطنه ، وجعل العذاب في ظاهره لاقتضاء الموطن والزمان والحال ، فالسور الحائل بين الدارين الجنة والنار ، لا بين الصفتين الرحمة والعذاب ، فإن السور في نفسه رحمة ، وعينه عين الفصل بين الدارين ، لأن العذاب من قبله ما هو فيه والرحمة فيه ، فلو كان العذاب فيه لتسرمد العذاب على أهل النار كما تتسرمد الرحمة على أهل الجنة ، فالسور لا يرتفع ، وكونه رحمة لا يرتفع ، ولابد أن يظهر ما في الباطن على الظاهر ، فلابد من شمول الرحمة لمن هو قبل ظاهر السور ، وأهل الجنة مغموسون في الرحمة ، فإذا أراد أهل الجنة أن يتنعموا

٢٨١

برؤية أهل النار ، يصعدون على ذلك السور ، فينغمسون في الرحمة ، فيطلعون على أهل النار ، فيجدون من لذة النجاة منها ما لا يجدونه من نعيم الجنة ، لأن الأمن الوارد على الخائف أعظم لذة عنده من الأمن المستصحب ، وينظر أهل النار إليهم بعد شمول الرحمة فيجدون من اللذة بما هم في النار ، ويحمدون الله تعالى حيث لم يكونوا في الجنة ، وذلك لما يقتضيه مزاجهم في تلك الحالة ، فلو دخلوا الجنة بذلك المزاح لأدركهم الألم ولتضرروا ، فالسور باطنه فيه الرحمة الخالصة ، وظاهره من قبله العذاب ، ولم يقل : الآلام ؛ آلام العذاب ، لعلمه بما يؤول إليه الأمر ، فأبان تعالى أن باطن هذا الموجود فيه الرحمة ، والظاهر منه لا يتصرف إلا بحكم الباطن ، فلا يكون أمر مؤلم في الظاهر إلا عن رحمة في الباطن ، فإن الحكم للباطن في الظاهر ، فما كان العذاب في ظاهر السور إلا عن قصد الرحمة به التي في باطن السور ، فليس الألم بشيء سوى عدم اللذة ونيل الغرض ، فما عند الله باب يفتح إلا أبواب الرحمة ، غير أنه ثمّ رحمة ظاهرة لا ألم فيها ، وثم رحمة باطنة يكون فيها ألم في الوقت لا غير ، ثم يظهر حكمها في المآل ، فالآلام عوارض واللذات ثوابت ، فالعالم مرحوم بالذات متألم بما يعرض له ، ولابد من الكشف فتظهر رحمة باطن السور فتعم ، فهناك لا يبقى شقي إلا سعد ولا متألم إلا التذ ، ومن الناس من تكون لذته عين انتزاح ألمه ، وهو الأشقى ، وهو في نفسه في نعيم ، ما يرى أن أحدا أنعم منه ، كما قد كان يرى أنه لا أحد أشد عذابا منه ، وسبب ذلك شغل كل إنسان أو كل شيء بنفسه ، الإنسان يضرب ابنه أدبا ، ويؤلمه بذلك الضرب عقوبة لذنبه ، وهو يرحمه بباطنه ، فإذا وفّى الأمر حقه أظهر له ما في قلبه وباطنه من الرحمة به وشفقة الوالد على ولده ، جعلنا الله والسامعين من أهل الرحمة الخالصة التي لا ألم لها بمنّه ـ إشارة ـ أنت سر الأعراف ، سور باطنه الرحمة ، وهو ما عندك من الرحمة بنفسك ، حيث تسلك بها مسالك السعادة ، وظاهره من قبله العذاب ، حيث تظهر على ذلك من المجاهدات ما يكون أشد العذاب على النفوس.

(يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (١٤)

٢٨٢

(وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ) وهي الأماني المذمومة ، فهي التي لا يكون لها ثمرة ، ولكن صاحبها يتنعم بها في الحال ولكن تكون حسرة في المآل ، فذم المتمني بغير الجهد وبذل المجهود وصحة القصد ، وقد قال تعالى في المتعني : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) فلا تتمن على الله وأنت تسلك على غير طريق تحصيل السعادة ، فإن الله يقول : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) فجعل الطريق التقوى لحصول هذا الفرقان الذي أنزله على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، أي معلما لهم ، فلابد لكل طالب أمر أن يسلك في طريق تحصيله ، لأن الطريق له ذاتي فلا تحصل إلا به ، ولكن أكثر الناس لا يشعرون.

(فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٥)

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هو قوله تعالى : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي فدية.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (١٦)

لا يؤثر في الأشياء إلا ما قام بها وليس إلا العلم ، ألا ترى شخصان يقرآن القرآن ، فيخشع أحدهما ويبكي ، والآخر ما عنده من ذلك كله خبر ولا يؤثر فيه ، هل ذلك إلا من أثر علمه القائم به لما تدل عليه تلك الآية وشهوده ما تضمنته من الأمر الذي أبكاه وخشع له؟ والآخر أعمى عن تلك المعاني لا يجاوز القرآن حنجرته ، ولا أثر لتلاوته فيه ، فلم يكن الأثر لصورة لفظ الآية ، وإنما الأثر لما قام بنفس العالم بها ، المشاهد ما نزلت له تلك الآية ، فقال تعالى :

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) ولما كان

٢٨٣

لطول الأمد حكم يغير الحال ، قال : (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (١٩)

الصديقون هم أتباع الرسل لقول الرسل ، فالصديق من لا يكذب بشيء من الأخبار إذا تلقى ذلك من الصادق ـ راجع الصديق (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) راجع سورة النساء آية ٦٩ ـ (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) ـ الوجه الأول ـ (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) أي ما اكتسبوه (وَنُورُهُمْ) ما وهبهم الحق تعالى من ذلك ، حتى لا ينفرد الأجر من غير أن يختلط به الوهب ، حتى يشغل الوهب العبد عن معاينة سلطان الاستحقاق الذي يعطيه الأجر ، إذ كان معاوضة عن عمل متقدم مضاف إلى العبد ، فلا أجر إلا ويخالطه نور لما ذكرناه ـ الوجه الثاني ـ (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) من حيث الشهادة (وَنُورُهُمْ) من حيث الصديقية ، فجعل النور للصديقية ، والأجر للشهادة ، إذ الصديقون لهم النور لصدقهم ، إذ لو لا النور ما عاينوا صدق المخبر وصدق الخبر ـ الوجه الثالث ـ اعلم أن من الناس عبيدا ومنهم أجراء ، ولأجل الإجارة نزلت الكتب الإلهية بها بين الأجير والمستأجر ، فلو كانوا عبيدا ما كتب الحق كتابا لهم على نفسه ، فإن العبد لا يوقت على سيده ، إنما هو عامل في ملكه ومتناول ما يحتاج إليه ، فالأجراء لهم أجرهم والعبيد لهم نورهم وهو سيدهم ، فإنه نور السموات والأرض ، فقوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) يعني الأجراء ، وهم الذين اشترى الحق منهم أنفسهم (وَنُورُهُمْ) وهم العبيد والإماء ـ الوجه الرابع ـ برأ الله الصديقين من الأعواض وطلب

٢٨٤

الثواب ، إذ لم يقم بنفوسهم ذلك ، لعلمهم أن أفعالهم ليست لهم فلا يطلبون عليها عوضا ، بل هم العبيد على الحقيقة والأجراء مجازا ، فقال عزوجل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) ولم يذكر لهم عوضا على عملهم ، إذ لم يقم لهم به خاطر أصلا ، لتبريهم من الدعوى ، ثم قال : (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) فهم العاملون على الأجرة جعلنا الله وإياكم من أعلاهم مقاما وأحبهم إليه ، إنه الولي المحسان ـ مسئلة ـ الأجير لا يفترض عليه حتى يؤجر نفسه ، والعبد فرض عليه طاعة سيده ، فمن أي نسبة استحق العبد الأجر؟ اعلم أن الإنسان هنا مع الحق على حالين : حالة عبودية وحالة إجارة ، فمن كونه عبدا يكون مكلفا بالفرض ، كالصلاة المفروضة والزكاة وجميع الفرائض ، ولا أجر له عليها جملة واحدة في أداء فرضه ، بل له ما يمتن به عليه سيده من النعم التي هي أفضل من الأجور ، لا على جهة الأجر ، ثم إن الله تعالى ندبه إلى عبادته في أمور ليست عليه فرضا ، فعلى تلك الأعمال المندوب إليها فرضت الأجور ، فإن تقرب العبد بها إلى سيده أعطاه إجارته عليها ، وإن لم يتقرب لم يطلب بها ولا عوتب عليها ، فمن هنا كان العبد حكمه حكم الأجنبي في الإجارة ، فالفرض له الجزاء الذي يقابله ، فإنه العهد الذي بين الله وعباده ، والنوافل لها الأجور ، والعلة في ذلك أن المتنفل عبد اختيار كالأجير ، فإذا اختار الإنسان أن يكون عبدا لله لا عبد هواه فقد آثر الله على هواه ، وهو في الفرائض عبد اضطرار لا عبد اختيار ، فتلك العبودية أوجبت عليه خدمة سيده فيما افترضه عليه ، وأما في الدار الآخرة فترتفع عبودية الاختيار.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء

٢٨٥

وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢١)

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) فإن الأولية أفضل للعبد ، والمبادرة إلى أول الأوقات في العبادات هو الأحوط والمطلوب من العباد في حال التكليف ، وأثنى الله تعالى على من هذه حالته فقال : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ).

(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢٥)

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) يريد أنه أنزله عن رتبة الكمال المعدني التي هي للذهب ، لأجل ما في الحديد من منافع الناس ، فمنع الحق الحديد من بلوغ رتبة الكمال المعدني التي هي للذهب لمصالح هذا النوع الإنساني ، لعلمه تعالى بأنه يحتاج إلى آلات وأمور لابد له منها ، فلو ارتفع الحديد إلى رتبة الذهب في العزة لم توجد تلك المنافع ، وبقي الإنسان الذي هو العين المقصودة معطل المنافع المتعلقة بالحديد ، التي لا تكون إلا فيه ، ففيه كما قال الله (بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) فإن الاسم العزيز هو الذي توجه على إيجاد المعادن والأحجار النفيسة ، ومن أثر هذا الاسم أن أثر فيها عزة ومنعا ، فلم يقو سلطان الاستحالة التي تحكم في المولدات والأمهات من العناصر يحكم فيها بسرعة

٢٨٦

الإحالة من صورة إلى صورة ، مثل ما يحكم في باقي المولدات ، فإن الاستحالة تسرع إليهم ، ويظهر سلطانها فيهم بزيادة ونقص وخلع صورة منهم وعليهم ، وهذا يبعد حكمه في المعادن ، فلا تتغير الأحجار مع مرور الأزمان والدهور إلا عن بعد عظيم ، وذلك لعزتها التي اكتسبتها من الاسم الإلهي العزيز ، الذي توجه على إيجادها من الحضرة الإلهية.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (٢٧)

الرهبة المطلقة من غير تقييد بأمر معين ، هي كل خوف يكون بالعبد حذرا أن لا يقوم بحدود ما شرع له ، سواء كان حكما مشروعا إليها أو حكما حكميا ، قال تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) وهي النواميس الحكمية التي لم يجيء الرسول المعلوم بها في العامة من عند الله ، بالطريقة المخصوصة في العرف ، فمجموع ما ابتدعوه من العبادة ما كان الحق شرع ذلك لهم ، فلا بديع من المخلوقات إلا من له تخيل ، ولا يشترط في المبتدع أنه لا مثل له على الإطلاق ، إنما يشترط فيه أنه لا مثل له عند من ابتدعه ولو جاء بمثله خلق كثير ، فلما وافقت الحكمة والمصلحة الظاهرة فيها الحكم الإلهي في المقصود بالوضع المشروع الإلهي ، اعتبرها الله اعتبار ما شرعه من عنده تعالى ، وما كتبها الله عليهم ، فقال : (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) أي ما أوجبناها عليهم ابتداء ، فاعتبرها الحق فأصبحت شرعا إليها ، وأخذهم بعدم مراعاتها (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) ولما فتح الله بينه وبين قلوبهم باب العناية والرحمة من حيث لا يشعرون ، جعل في قلوبهم تعظيم ما شرعوه ، يطلبون بذلك رضوان الله ، على غير الطريقة النبوية المعروفة ، فأثنى على المراعين لها ليحسن القصد والنية في ذلك (فَما رَعَوْها) هؤلاء الذين شرعوها وشرعت لهم (حَقَّ رِعايَتِها) فيما ابتدعوه من الرهبانية ،

٢٨٧

فذمهم الله لما لم يرعوها ، وقد يكون في الكلام تقديم وتأخير ، كأنه يقول : فما رعوها حق رعايتها إلا ابتغاء رضوان الله ، وكذلك اعتقدوا ، يعني المراعين لها (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بها (مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الذين شرع فيهم هذه العبادة (فاسِقُونَ) أي خارجون عن الانقياد إليها والقيام بحقها. وتدل هذه الآية على أن الاجتهاد ومشروعيته كان مقررا فيما سبقنا من الأمم ، فإنهم ما ابتدعوها إلا باجتهاد منهم وطلب مصلحة عامة أو خاصة ، وأثنى على من رعاها حق رعايتها ، وذكر هذا في بني إسرائيل ، وفي شرعنا من هذه الرهبانية من سن سنة حسنة ، وهذا هو عين الابتداع ، فهي في هذه الأمة السنن التي ابتدعت على طريق القربة إلى الله ، وهو قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا] فأجاز لنا ابتداع ما هو حسن ، وجعل فيه الأجر لمن ابتدعه ولمن عمل به ، فالخير يطلب الثواب بذاته ، والشرع مبين توقيت ذلك الثواب ، لما جمع عمر بن الخطاب الناس على أبّي في قيام رمضان ، قال : نعمت البدعة هذه ؛ فسماها بدعة ، ومشت السنة على ذلك إلى يومنا هذا ، فاستمر الشرع والعبادة المرغب فيها مما لا ينسخ حكما ثابتا إلى يوم القيامة ، وهذا الحكم خاص بهذه الأمة ، وأعني بالحكم تسميتها سنة ، تشريفا لهذه الأمة ، وكانت في حق غيرها من الأمم السالفة تسمى رهبانية ابتدعوها ، فمن قال : بدعة في هذه الأمة مما سماها الشارع سنة فما أصاب السنة ، إلا أن يكون ما بلغه ذلك ، والاتباع أولى من الابتداع ، والفرق بين الاتباع والابتداع معقول ، ولهذا جنح الشارع إلى تسميتها سنة وما سماها بدعة ، لأن الابتداع ، إظهار أمر على غير مثال ، هذا أصله ، فلو شرع الإنسان اليوم أمرا لا أصل له في الشرع لكان ذلك إبداعا ، ولم يكن يسوغ لنا الأخذ به ، فعدل الشارع إلى لفظ السنة إذ كانت السنة مشروعة ، وقد شرع لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاقتداء بهدي الأنبياء عليهم‌السلام.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (٢٨)

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) وهو النور الذي تنظر به عين البصيرة ، وهو علم اليقين ،

٢٨٨

فإن لله في القلب نورين : نورا يهدي به ، ونورا يهدي إليه ، كما أن له في القلب عينين : عين بصيرة وهو علم اليقين ، والعين الأخرى عين اليقين.

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

لا يعظم الفضل الإلهي إلا في المسرفين والمجرمين ، وأما في المحسنين فما على المحسنين من سبيل ، فإن الفضل الإلهي جاءهم ابتداء وكانوا به محسنين ، وما بقي الفضل الإلهي إلا في غير المحسنين.

(٥٨) سورة المجادلة مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ

وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١)

(قَدْ سَمِعَ اللهُ) قال الله تعالى ذلك ولم يقل : سمعت ؛ لأن الآية قد تكون تعريفا من جبريل الروح الأمين بأمر الله أن يقول لعبده عليه‌السلام مثل هذا ، أي قل يا جبريل (قَدْ سَمِعَ اللهُ) كما قيل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ) وهو بشر ، ويحتمل أن يكون الكلام من مرتبة خاصة ، فيقول الحق من كونه متكلما : يا محمد (قَدْ سَمِعَ اللهُ) فيريد بالله هنا الاسم السميع أو العليم.

(الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٢)

٢٨٩

ـ إشارة ـ (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) المنكر الشريك الذي أثبته المشركون بجعلهم فلم يقبله التوحيد الإلهي ، وأنكره فصار منكرا من القول وزورا ، فلم يكن ثمّ شريك له عين أصلا ، بل هو لفظ ظهر تحته العدم المحض ، فلا عين للشريك إذ لا شريك في العالم عينا وإن وجد قولا ولفظا.

(وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣)

المظاهر تلزمه الكفارة قبل الوطء.

(فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٤)

ـ إشارة واعتبار ـ عتق الرقبة من الرق إما أن يكون مطلقا أو مقيدا ، فالعتق من الرق مطلقا هو أن يقيم نفسه في حال كون الحق عينه في قواه وجوارحه التي بها تميز عن غيره من الأنواع بالصورة والحد ، وإذا كان في هذا الحال وكان هذا نعته ، كان سيدا وزالت عبوديته مطلقا ، لأن العبودية هنا راحت إذ لا يكون الشيء عبد نفسه ، وأما إذا كان العبد مقيدا فهو أن يعتق نفسه من رق الكون ، فيكون حرا عن الغير ، عبدا لله ، فإن عبوديتنا لله يستحيل رفعها وعتقها ، لأنّها صفة ذاتية له ، واستحال العتق منها في هذه الحال لا في الحال الأول ، وأما اعتبار الإطعام في الكفارة ، فالطعام سبب في حفظ الحياة على متناوله ، فهو في الإطعام متخلق بالاسم المحيي لما أمات بما فعله ، وأما صوم شهرين في الاعتبار ، فالشهر عبارة في المحمديين عن استيفاء سير القمر في المنازل المقدرة ، وذلك سير النفس في المنازل الإلهية ، فالشهر الواحد يسير فيها بنفسه ليثبت ربوبية خالقه عليه عند نفسه ، والشهر الآخر يسير فيه بربه من باب أن الحق جميع قواه وجوارحه ، فإنه بقواه قطع هذه المنازل.

٢٩٠

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧)

(ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) يسمع ما يتناجون به ، ولذلك قال لهم : (فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ) فإنه معكم أينما كنتم فيما تتناجون به ، فإنكم إليه تحشرون (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) وهو ما دون الثلاثة ، وهو الواحد وقد يعني الاثنين (وَلا أَكْثَرَ) وهو ما فوق الثلاثة إلى ما لا يتناهى من العدد ، وقد يعني السبعة فما فوقها من الأفراد (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) من المراتب التي يطلبها العدد ، فإن كان واحدا فهو الثاني له لأنه معه ، ثم ما زاد على واحد ، فهو مع ذلك المجموع من غير لفظه ، فهو سبحانه معهم أينما كانوا وجودا أو عدما حيثما فرضوا ، فهو سبحانه ثان للواحد ، فإن المعية لا تصح للواحد في نفسه ، لأنها تقتضي الصحبة وأقلها اثنان ، وهو ثالث للاثنين ورابع للثلاثة وخامس للأربعة بالغا ما بلغ ، وإذا أضيفت المعية للخلق دون الحق فمعية الثاني ثاني اثنين ، ومعية الثالث للاثنين ثالث ثلاثة ، ومعية الرابع للثلاثة رابع أربعة ، بالغا ما بلغ ، لأنه عين ما هو معه في المخلوقية ، والحق ليس كمثله شيء ، لأنه ليس من جنس ما أضيف إليه بوجه من الوجوه ، فلو كان الحق ثالث ثلاثة أو رابع أربعة على ما تواطأ عليه أهل اللسان لكان من جنس الممكنات ، وهو تعالى ليس من جنس الممكنات ، فلا يقال فيه إنه واحد منها ، فهو واحد أبدا لكل كثرة وجماعة ، ولا يدخل معها في الجنس ، فهو رابع ثلاثة فهو واحد ، وخامس أربعة فهو واحد ، بالغا ما بلغت ،

٢٩١

لذلك قال : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ولم يكفر من قال : إنه رابع ثلاثة ، ومعيته تعالى هنا من كونه سميعا من كونهم يتناجون. واعلم وفقك الله أن الله ما خلق الأشياء إلا في مقام أحديته التي بها يتميز عن غيره ، فبالشفعية التي في كل شيء يقع الاشتراك بين الأشياء ، وبأحدية كل شيء يتميز كل شيء عن شيئية غيره ، وليس المعتبر في كل شيء إلا ما يتميز به ، وحينئذ يسمى شيئا ، فلو أراد الشفعية لما كان شيئا ، وإنما يكون شيئين ، وقد قال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ) ولم يقل لشيئين ، فإذا كان الأمر على ما قررناه ثم جاء الحق لكل شيء بمعيته فقد شفع فردية ذلك الشيء ، فجعل نفسه رابعا وسادسا ، وأدنى من ذلك وهو أن يكون ثانيا ، وأكثر وهو ما فوق الستة من العدد الزوج ، إعلاما منه تعالى أنه على صورة العالم أو العالم على صورته ، فالثلاثة أول الأفراد في العدد إلى ما لا يتناهى ، والشفعية المعبر عنها بالاثنين أول الأزواج إلى ما لا يتناهى في العدد ، فما من شفع إلا ويوتره واحد يكون بذلك فردية ذلك الشفع ، وما من فرد إلا ويشفعه واحد يكون به شفعية ذلك الفرد ، فالأمر الذي يشفع الفرد ويفرد الشفع هو الغني الذي له الحكم ولا يحكم عليه ، ولا يفتقر ويفتقر إليه ، فمتى فرضت عددا فاجعل الحق الواحد الذي يكون بعد ذلك اللاصق به ولابد ، فإنه يتضمنه ، فالخامس للأربعة يتضمن الأربعة ولا تتضمنه ، فهو يخمّسها وهي لا تخمسه فإنها أربعة لنفسها ، وهكذا في كل عدد ، وإنما كان هذا لحفظ العدد على المعدودات ، والحفظ لا يكون إلا لله وليس الله سوى الواحد ، فلابد أن يكون الواحد أبدا له حفظ ما دونه من شفع ووتر ، فهو يوتر الشفع ويشفع الوتر ، والفردية عندنا لا تكون إلا للواحد الذي يشفع الوتر وللواحد الذي يوتر الشفع ، ولو لا ذلك ما صح أن تقول في فردية الحقّ إنه رابع ثلاثة وسادس خمسة وأدنى من ذلك وأكثر ، وهو فرد في كل نسبة ، فتارة ينفرد بتشفيع الوتر ، وتارة بإيتار الشفع وهو قوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) فما بيّن في فرديته بالذكر المعين إلا فردية تشفع الوتر الذي لا يقول به الحكماء في اصطلاح الفردية ، ثم قال في العام : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) سواء كان عددهم وترا أو شفعا ، فإن الله لا يكون واحدا من شفعيتهم ولا واحدا من وتريتهم ، بل هو الرقيب عليهم الحفيظ الذي هو من ورائهم محيط ، فمتى انتقل الخلق إلى المرتبة التي كانت للحق انتقل الحق إلى المرتبة التي تليها ، لا يمكن له الوقوف

٢٩٢

في تلك المرتبة التي كان فيها عند انتقال الخلق إليها ، فانظر في هذا السرّ ما أدقه وما أعظمه في التنزيه الذي لا يصح للخلق مع الحق فيه مشاركة ، فالخلق أبدا يطلب أن يلحق بالحق ولا يقدر على ذلك ، فالخلق خلق لنفسه والحق حق لنفسه ، وفي هذه الآية لما لم يقل الحق تعالى : ولا أربعة إلا هو خامسهم ؛ عرفنا من أدنى من ذلك وأكثر أنه يريد الأفراد يشفعها بما ليس منها ، فتحققنا أن الغيرة حكمت هنا ، فلم تثبت لأحد فردية إلا شفعتها هوية الحق حتى لا تكون الأحدية إلا له ، فلا يشفع فرديته مخلوق ويشفع هو فردية المخلوقين ، فلم يقل : ولا أربعة إلا هو خامسهم ، ولا اثنين إلا هو ثالثهما ؛ لأن الغيرة لا تتعلق بالشفعية في الأكوان ، لأن الشفعية لها حقيقة ، وإنما تتعلق بالوترية إذا نسبت إلى الأكوان (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ـ الوجه الأول ـ لما علم سبحانه أن بعض عباده يقولون في مثل قوله تعالى : (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) أنه معهم بعلمه ، أعلم في هذه الآية أنه بكل شيء عليم ليغلب على ظن السامع أنه ليس على ما تأولوه ، فإنا لا نشك أنه يحيط بنا علما أينما كنا ، وكيف لا يعلم ذلك وهو خلقنا وخلق الأينية التي نحن فيها؟ وكذلك لو قال في تمامها : على كل شيء شهيد ؛ فعلمه تعالى محيط بما لا يتناهى ـ الوجه الثاني ـ (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعمل بما علم أنه يكون يكوّنه ، وما علم أنه لا يكون لم يكونه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) فإن الله يسمع ذلك كله ، لأنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم ، يسمع ما يتناجون به ولذلك

٢٩٣

قال لهم : (فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ) فإنه معكم أينما كنتم فيما تتناجون به ، فإنكم إليه تحشرون لذلك قال : (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وإن كان معهم ، فكنى بالحشر إذا فتح الله بإزالة الغطاء عن أعينهم ، فيرون عند ذلك من هو معهم فيما يتناجون به فيما بينهم ، فعبر عنه بالحشر للسؤال عما كانوا فيه ، فليتحفظ العبد في نطقه لعلمه بمن يسمعه ، وأنه مسؤول عن نطقه وأنه يتبع نطقه في عاقبة الأمر ليقرأ كتابه حيث كان ذلك الكتاب.

(إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١)

اعلم أن الرفعة لله سبحانه بالذات وهي للعبد بالعرض ، فإن الخفض للعبد بالأصالة والرفعة للحق فإنه رفيع الدرجات ، قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) فللبشر مقامات معلومة ، منها يكون المزيد لهم لا يتعدونها ، وإن زادوا علما فمن ذلك المقام ، فبالمقامات فضل الله كل صنف بعضه على بعض ، وهذا المقام هو الذي يكون فيه الإنسان عند آخر نفس يكون منه ، ويفارق الروح تركيب هيكله المسمى موتا ، فمن ذلك المقام يكون له المزيد ، ولهذا يقع التفاضل بين الناس في الدار الآخرة ، ويزيد الله الذين أوتوا العلم وهم مؤمنون على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم درجات ، فإن العلم في حق المخلوق وإن كان له الشرف التام الذي لا تجهل مكانته ولكن لا يعطي السعادة في القرب الإلهي إلا بالإيمان ، فنور الإيمان في المخلوق أشرف من نور العلم الذي لا إيمان معه ، فإذا كان الإيمان يحصل عنه العلم ، فنور العلم المولد من نور الإيمان أعلى ، وبه يمتاز على المؤمن الذي ليس بعالم ، ويزيد العلم فيرفع الله الذين أوتوا العلم على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم درجات ، يظهر فيها العلماء بالله ليراهم المؤمنون ، ويحتمل أن يراد به العلماء بتوحيد

٢٩٤

الله أنه لا إله إلا الله من حيث الأدلة العقلية ، فإن الطريق الموصلة إلى العلم بالله طريقان لا ثالث لهما ، ومن وحّد الله من غير هذين الصنفين فهو مقلد في توحيده ، الطريق الواحدة طريق الكشف ، وهو علم ضروري يحصل عند الكشف يجده الإنسان في نفسه لا يقبل معه شبهة ولا يقدر على دفعه ، ولا يعرف لذلك دليلا يستند إليه سوى ما يجده في نفسه ، وقد يكشف له عن الدليل ، وإما أن يحصل له هذا العلم عن تجل إلهي يحصل له ، وهم الرسل والأنبياء وبعض الأولياء ؛ والطريق الثاني طريق الفكر والاستدلال بالبرهان العقلي ، وهذا الطريق دون الطريق الأول ، فإن صاحب النظر في الدليل قد تدخل عليه الشبه القادحة في دليله ، فيتكلف الكشف عنها والبحث عن وجه الحق في الأمر المطلوب ، وما ثمّ طريق ثالث ، فهؤلاءهم ألو العلم الذين شهدوا بتوحيد الحق ، فتوحيد الحق يدرك بالإيمان ويدرك بالنظر ، فالمقلد مؤمن ، والناظر والمستدل بالأدلة العقلية على وجود الصانع وتوحيده عالم ـ وجه ـ لما كان الأمر في الحقيقة في نسبة الأفعال أن الحق مجريها على أيدي الخلق ومنشئها فيهم ، اطلع العباد على ذلك أو لم يطلعوا ، شرف العالم بالاطلاع على من لم يطلع وفضل ، قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (١٢)

ينبغي لك إذا ناجيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك زمان قراءتك الأحاديث المروية عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تقدم بين يدي نجواك صدقة ، أي صدقة كانت ، فإن ذلك خير لك وأطهر ، بهذا أمرت ، فإن الصدقات التي نص الشارع عليها كثيرة ، ولذلك ورد أنه يصبح على كل سلامى منا صدقة في كل يوم تطلع فيه الشمس ، ثم أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أن كل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة ، وكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وأمر بمعروف صدقة ، ونهي عن منكر صدقة] فانظر حالك عندما تريد قراءة الحديث النبوي ، فهي التي بقيت في العامة من مناجاة الرسول ، فالذي يعيّن لك حالك عند ذلك من الصدقات تقدمها بين يدي قراءتك الحديث كانت ما كانت ، فقد أوسع الله عليك في ذلك ، فلم يبق لك عذر في التخلف بعد أن أعلمك

٢٩٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنواع الصدقات ، فقدّم منها بين يدي نجواك ما أعطاه حالك بلغ ما بلغ ، وحينئذ تشرع في قراءة الحديث النبوي ـ فائدة ـ اعلم أن المصلي مناج ربه ، فإذا كان الحق أمر بالصدقة بين يدي مناجاة الرسول ، فما ظنك بمناجاة الحق تعالى؟ فهي آكد وأوجب ، وهي النافلة قبل الفريضة ، فإنها صدقة من الشخص على نفسه ، وهي كالرياضة للنفس ، وكالعزلة بين يدي الخلوة للحضور التام بما ينبغي للسيد المعبود من الآداب والجلال والتنزيه ، فإن دخول العبد للفرض من النفل ما يكون مثل دخوله من الفعل المباح ، لأنه لابد أن يبقى للداخل في خاطره مما تقدم له قبل دخوله أثر ـ إشارة لأهل المقامات ـ أفضل الصدقات تصدق الإنسان بنفسه وأفضل ما يخرجها عليه من يخرجها على نفسه ، فإذا أراد العبد نجوى ربه فليقدم بين يدي نجواه نفسه لنفسه ، فإن النجوى سامع ومتكلم ، والعبد إن لم يكن الحق سمعه فمن المحال أن يطيق فهم كلام الله ، وإن لم يكن الحق لسان عبده عند النجوى فمن المحال أن تكون نجواه صادقة الصدق الذي ينبغي أن يخاطب به الحق ، فإذا الحق ناجى نفسه بنفسه كان العبد محل الاستفادة.

(أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (١٦) لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ

٢٩٦

ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢)

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) ولو كانوا قرابتهم ، لذلك قال تعالى : (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) فكونهم حادوا الله ورسوله هو الذي عاد عليهم ، فجنوا على أنفسهم ، ومن لم يطلعك الله على عداوته لله فلا تتخذه عدوا ، وأقل أحوالك إذا جهلته أن تهمل أمره ، فمتى لم تعلم عداوته لله فلا تعاده بالإمكان ولا بما يظهر على اللسان ، والذي ينبغي لك أن تكره فعله لا عينه ، والعدو لله إنما تكره عينه ، ففرّق بين من تكره عينه وهو عدو لله ، وبين من تكره فعله وهو المؤمن ، أو من تجهل خاتمته ممن ليس بمسلم في الوقت (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) والكتابة من الله في قلب عبده دون واسطة ، وأوجب للعبد ذلك حكما سمي به مؤمنا ، والإيمان المكتوب في القلوب يمنع من أن تصدر منهم معصية أصلا انتهاكا لحرمة الله ، وإن وقعت فتكون بحكم القدر النافذ لا بقصد انتهاك حرمات الله ، أو عن غفلة منهم (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) وتأييدهم بعد إيراد نور الإيمان على قلوبهم ، إنما يكون بتقويته بأوصاف الروح الروحانية ، من الطهارة وعدالة الأخلاق والأوصاف ، والنزاهة عن أحكام النقص والانحراف ، فبهذه الأوصاف الروحانية الوحدانية الاعتدالية يظهر القلب وآثاره ، ويتميز

٢٩٧

بعد أن كان مغمورا ومستورا ومقهورا تحت سلطنة النفس وآثارها ، وكما أن الحق ما تجلى لشيء قط ثم انحجب عنه بعد ذلك ، كذلك من كتب الله في قلبه الإيمان فإنه لا يمحوه أبدا ، ومن هؤلاء نواب الحق ، فما كذبوا شيئا مما له وجود في الكون ووجدوا له مصرفا ، ولذلك قال : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) فهذا المؤيد به إذا توجه على معدوم أوجده ، وعلى معدل مسوى نفخ فيه روحا (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) إن أردت أن تكون من عباد الله الذين اختصهم لخدمته ، واصطنعهم لنفسه ، ورضي عنهم فرضوا عنه ، فتطهّر بالموافقة من المخالفة ، وكن فيما يرضيه سبحانه من الأعمال في الأقوال والأفعال والأحوال (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فما يدري أحد ما لهم من المنزلة عند الله ، لأنهم ما تحركوا ولا سكنوا إلا في حق الله لا في حق أنفسهم ، إيثارا لجناب الله على ما يقتضيه طبعهم.

(٥٩) سورة الحشر مدنيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١)

اعلم ـ فهمك الله ـ أن كل ما سوى الله أرواح مطهرة منزهة موجدها وخالقها ، وهي تنقسم إلى : مكان وإلى متمكن ، والمكان ينقسم إلى قسمين : مكان يسمى سماء ومكان يسمى أرضا ، والمتمكن فيهما ينقسم إلى قسمين ، إلى متمكن فيه (١) وإلى متمكن عليه ، فالمتمكن فيه يكون بحيث مكانه ، والمتمكن عليه لا يكون بحيث مكانه ، وهذا حصر كل ما سوى الله ، وكل ذلك في الحقيقة أجسام وجواهر في الحق المخلوق به ، وهذه الأرواح على مراتب في التنزيه تسمى مكانة ، وما من منزه لله تعالى إلا وتنزيهه على قدر مرتبته ، لأنه لا ينزه خالقه ، إلا من حيث هو ، إذ لا يعرف إلا نفسه ، فيثمر له ذلك التنزيه عند

__________________

(١) المتمكن فيه هي أرواح الأجسام.

٢٩٨

الله مكانة يتميز بها كل موجود عن غيره ؛ ثم إن الله تعالى عاد بالمكانة على هذا المنزه بأن كان الحقّ مجلاه فرأى نفسه ورتبته فسبح على قدر ما رأى ، فإذا هو نفسه لا غيره ، وذلك أن الحق أسدل بينه وبين عباده حجاب العزة فوقف التنزيه دونه ، فعلم أن الحق لا يليق به تنزيه خلقه ، وأن حجاب العزة أحمى ، وقهرها أغلب ، ثم رأى من سواه من العارفين بالله المنزهين بنعوت السلوب على مراتب ، وقد أقر الجميع منهم بأنهم كانوا غالطين في محل تنزيههم ، وأن تنزيههم ما خرج عنهم ، وذلك لحكمته التي سرت في خلقه ، فكان ذلك تنزيه الحكمة لا غيره ، ولو لا ستر حجاب العزة ما عرفوا ذلك ، ومن هذا الحجاب ظهر الكفر في العالم وصارت المعرفة خبرا بما وراء هذا الحجاب ، فظهر الإيمان في العالم.

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (٢)

بالحشر يقع الازدحام ، وبه يكون الالتحام ، لو لا الحشر ما زوجت النفوس بأبدانها ، ولا أقيمت المآدب بميدانها ، (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) لو لا الحواس ما ثبت القياس ، ولو لا البصر ما صدق من اعتبر ، الاعتبار جواز من أين إلى أين ، وانتقال من عين إلى عين ، ومن كون إلى كون وعدم ، لا من عدم إلى كون ، فالاعتبار تعجب من الاقتدار ، والاعتبار شرعا هو الجواز من الصورة التي ظهر حكمها في الحس إلى ما يناسبه في ذاتك ، أو في جناب الحق مما يدل على الحق ، هذا معنى الاعتبار ، فإن الله قد ربط بكل صورة حسية روحا معنويا ، لهذا يعتبر خطاب الشارع في الباطن على حكم ما هو في الظاهر قدما بقدم ، لأن الظاهر منه هو صورته الحسية ، والروح الإلهي المعنوي في تلك الصورة هو الذي نسميه الاعتبار في الباطن ، فإنه من عبرت الوادي إذا قطعته وجزته ، قال تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي تعجبوا وجوزوا ، واعبروا إلى ما أردته بهذا التعريف مما رأيتموه من

٢٩٩

الصور بأبصاركم إلى ما تعطيه تلك الصور من المعاني والأرواح في بواطنكم ، فتدركونها ببصائركم ، فأمر وحث على الاعتبار ، وهذا باب أغفله العلماء ولا سيما أهل الجمود على الظاهر ، فليس عندهم من الاعتبار إلا التعجب ، فلا فرق بين عقولهم وعقول الصبيان الصغار ؛ فهؤلاء ما عبروا قط من تلك الصورة الظاهرة كما أمرهم الله ، وإذا ارتقى الإنسان في درج المعرفة علم أنه نائم في حال اليقظة المعهودة ، وأن الأمر الذي هو فيه رؤيا إيمانا وكشفا ، ولهذا ذكر الله أمورا واقعة في الحس وقال : (فَاعْتَبِرُوا) وقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) أي جوزوا واعبروا مما ظهر لكم من ذلك إلى علم ما بطن به وما جاء له ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا] ولكن لا يشعرون ، ولهذا قلنا : إيمانا ، فالإنسان في الدنيا في رؤيا ولذلك أمر بالاعتبار ، فإن الرؤيا قد تعبر في المنام ، فإذا كان بلسان الصادق صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحس خيالا والمحسوس متخيلا ، وجعلك نائما في الحال الذي تعتقد أنك فيه صاحب يقظة وانتباه ، فإذا كنت في رؤيا في يقظتك في الدنيا ، فكل ما أنت فيه هو أمر متخيل مطلوب لغيره ، ما هو في نفسه على ما تراه ؛ فاليقظة والحس الصحيح الذي لا خيال فيه في النشأة الآخرة ، ولذلك قال تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي جوزوا مما أعطاكم البصر بنوره مما أدركه من المبصرات وأحكامها إلى ما تدركونه بعين بصائركم شهودا ، وهو الأتم الأقوى ، أو عن فكرة وهو الشهود الأدنى عن المرتبة العليا ، وكلاهما عابر عما ظهر إلى ما استسرّ وبطن ، فهم أولو أبصار بالاعتبار في مخلوقاته. واعلم أن أهل الاعتبار يكون منهم أصحاب أذواق ، ويعتبرون عن ذوق لا عن فكر ، وقد يكون الاعتبار عن فكر ، فيلتبس على الأجنبي بالصورة ، فيقول عن كل واحد إنه معتبر ومن أهل الاعتبار ، وما يعلم أن الاعتبار قد يكون عن فكر وعن ذوق ، والاعتبار في أهل الأذواق هو الأصل ، وفي أهل الأفكار فرع ، وصاحب الفكر ليس من أهل الإرادة إلا في الموضع الذي يجوز له الفكر فيه إن كان ثمّ ما لا يمكن أن يحصل الأمر المفكّر فيه إلا به ـ بفتح الكاف ـ فحينئذ يأخذه من بابه ، وهل ثمّ أمر بهذه المثابة لا يمكن أن ينال من طريق الكشف والوجود أم لا؟ فنحن نقول : ما ثمّ ، ونقول : إن الكشف أتم في التحصيل ، لأن الكشف يعيّن لك العلة على خصوصها ، والاعتبار الفكري يجملها لك من غير تعيين ، أو يخرج عللا محتملة.

(وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ

٣٠٠