بكلمة «لو» الدالّة على الامتناع ، فلم يكتب عليهم ذلك ، فتكون هذه الآية من موارد تطبيق الآية السابقة.
وإنّما خصّ هذين الحكمين بالذكر لما فيهما من المشقّة والحرج الشديدين بالنسبة إلى الإنسان ، فإنّ الإنسان لشديد الحبّ للنفس والديار ، ويكره فراق الأحبّة وهجران الأخلّة.
قوله تعالى : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)
قرئ «قليلا» على أنّه صفة لمصدر محذوف ، أي : ما فعلوه إلا قليلا.
أي : لم يطع منهم إلا القليل ؛ لأنّ فرض الحكمين إنّما كان لإظهاره قوة إيمانهم وثبات عزيمتهم ومقدار تقبّلهم لأحكام الله تعالى والطاعة له عزوجل ، فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم ، وهم أصحاب العزائم القويّة الذين آثروا رضا الله تعالى على رضى النفس وحبّها.
والآية المباركة تخبر عن امتناعهم عن امتثال الأحكام والتكاليف الحرجيّة والتوبيخ لهم.
والاستثناء ـ بناء على التعميم لجميع المكلّفين واضح لا لبس فيه ، وهو استثناء متصل. وأما بناء على اختصاص الخطاب بالمنافقين فالاستثناء غير متصوّر ، إذ المنافق لا تطيب نفسه لما دون القتل ، فكيف به وبالخروج من الديار. لكن يمكن أن يقال إنّ الاستثناء إنّما هو لدفع توهّم استغراق الحكم واستيعابه للجميع ، فإنّ منهم المؤمنين حقّا ، المخلصين الذين سلّموا أمرهم إلى الله تعالى ، فلا يشملهم الحكم المزبور وإنّما دخلوا فيهم تبعا.
بل يمكن أن يقال إنّ الأمر والتكليف اختباري ، وإنّه في مقام امتحان المؤمنين واختبارهم عن إيمانهم وطاعتهم وثباتهم ، فلا فرق حينئذ بين أن يكون الاستثناء متصلا أو منفصلا ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [سورة النساء ، الآية : ٤٦] ما يتعلّق بالمقام.