الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

ومما حكى بعض هذه المتصوفة عن بعض علماء الخلف قال : العلوم تسعة : أربعة منها سنّة معروفة من الصحابة والتابعين ، وخمسة محدثة لم تكن تعرف فيما سلف ، فأما الأربعة المعروفة : فعلم الإيمان ، وعلم القرآن ، وعلم الآثار ، والفتاوى ، وأما الخمسة المحدثة : فالنحو ، والعروض ، وعلم المقاييس ، والجدل في الفقه ، وعلم المعقول بالنظر.

وهذا ـ إن صح نقله ـ فليس أولا كما قال فإن أهل العربية يحكون عن أبي الأسود الدؤلي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي أشار عليه بوضع شيء في النحو حين سمع أعرابيا قارئا : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (١) ـ بالجر ـ وقد روي عن ابن أبي مليكة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أن لا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة ، وأمر أبا الأسود فوضع النحو ، والعروض من جنس النحو ، وإذا كانت الإشارة من واحد من الخلفاء الراشدين صار النحو والنظر في الكلام العربي من سنة الخلفاء الراشدين ، وإن سلم أنه ليس كذلك ، فقاعدة المصالح تعم علوم العربية ، أي تكون من قبيل المشروع ، فهي من جنس كتب المصحف وتدوين الشرائع ، وما ذكر عن القاسم بن مخيمرة قد رجع عنه.

قال أحمد بن يحيى ثعلبا (؟) قال كان أحد الأئمة في الدين يعيب النحو ويقول : أول تعلمه شغل ، وآخره يزدري العالم به الناس ؛ فقرأ يوما : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٢) ، برفع الله ونصب العلماء فقيل له : كفرت من حيث لا تعلم ، تجعل الله يخشى العلماء؟ فقال : لا طعنت (؟) عن علم يدل إلى معرفة هذا أبدا.

قال عثمان بن سعيد الداني : الإمام الذي ذكره أحمد بن يحيى هو القاسم بن مخيمرة ، قال : وقد جرى لعبد الله بن أبي إسحاق مع محمد بن سيرين كلام ، وكان ابن سيرين ينتقص النحويين ، فاجتمعا في جنازة فقرأ ابن سيرين : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) برفع اسم الله ؛ فقال له ابن أبي إسحاق : كفرت يا أبا بكر ، تعيب على هؤلاء الذين يقيمون كتاب الله؟ فقال ابن سيرين : إن كنت أخطأت فأستغفر الله.

__________________

(١) سورة : التوبة ، الآية : ٣.

(٢) سورة : فاطر ، الآية : ٢٨.

١٦١

وأما علم المقاييس : فأصله في السنّة ، ثم في علم السلف بالقياس ، ثم قد جاء في ذم القياس أشياء حملوها على القياس الفاسد ، فذلك من قبيل النظر في الأدلة. وقد كان السلف الصالح يجتمعون للنظر في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها للتعاون على استخراج الحق ، فهو من قبيل التعاون على البر والتقوى ، ومن قبيل المشاورة المأمور به ، فكلاهما مأمور به.

وأما علم المعقول بالنظر : فأصل ذلك في الكتاب والسنّة ، لأن الله تعالى احتج في القرآن على المخالفين لدينه بالأدلة العقلية ، كقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) ، وقوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) (٢) ، وقوله : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) (٣) ، وحكى عن إبراهيم عليه‌السلام محاجته للكفار بقوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) (٤) ، الخ. وفي الحديث حين ذكرت العدوى : «فمن أعدى الأول؟» (٥) إلى غير ذلك من الأدلة ، فكيف يقال : إنه من البدع؟

وقول عز الدين : إن الرد على القدرية وكذا (غيرهم) من أهل البدع ، من البدع الواجبة ، غير جار على الطريق الواضح ، ولم سلم فهو من المصالح المرسلة.

وأما أمثلة البدع المحرمة فظاهرة.

وأما أمثلة المندوبة : فذكر منها إحداث الربط والمدارس ، فإن عنى بالربط ما بني من الحصون والقصور قصدا للرباط فيها ، فلا شك أن ذلك مشروع بشرعية الرباط ولا بدعة فيه وإن عنى بالربط ما بني لالتزام سكناها قصد الانقطاع إلى العبادة ـ لأن إحداث الربط التي شأنها أن تبنى تدينا للمنقطعين للعبادة في زعم المحدثين ، ويوقف عليها أوقاف يجرى منها

__________________

(١) سورة : الأنبياء ، الآية : ٢٢.

(٢) سورة : الروم ، الآية : ٤٠.

(٣) سورة : فاطر ، الآية : ٤٠.

(٤) سورة : الأنعام ، الآية : ٧٦.

(٥) أخرجه في جمع الفوائد (٢ / ٣٢٤) (الحديث : ٧٦٠٦). وأخرجه البخاري في كتاب : الطب ، باب : لا هامة ولا صفر (الحديث : ١٠ / ٢٠٦). وأخرجه مسلم في كتاب : السلام ، باب : لا عدوى ولا طيرة (الحديث : ٢٢٢٠). وأخرجه أبو داود في كتاب : الطب ، باب : في الطيرة (الأحاديث : ٣٩١١ ، ٣٩١٢).

١٦٢

على الملازمين لها ما يقوم بهم في معاشهم من طعام ولباس وغيرهما ـ لا يخلو أن يكون لها أصل في الشريعة أم لا ، فإن لم يكن أصل ، دخلت في الحكم تحت قاعدة البدع التي هي ضلالات ، فضلا عن أن تكون مباحة ، فضلا عن أن تكون مندوبا إليها وإن كان لها أصل فليست ببدعة ، فإدخالها تحت جنس البدع غير صحيح.

ثم إن كثيرا ممن تكلم على هذه المسألة من المصنفين في التصوف تعلقوا بالصّفّة التي كانت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجتمع فيها فقراء المهاجرين ، وهم الذين نزل فيهم : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (١) ، الآية ، وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) (٢) ، الآية ، فوصفهم الله بالتعبد والانقطاع إلى الله بدعائه قصدا لله خالصا فدل على أنهم انقطعوا لعبادة الله بدعائه قصدا لله لا يشغلهم عن ذلك شاغل ، فنحن إنما صنعنا صفة مثلها أو تقاربها يجتمع فيها من أراد الانقطاع إلى الله ، ويلتزم العبادة ويتجرد عن الدنيا والشغل بها ، وذلك كان شأن الأولياء ينقطعون عن الناس ، ويشتغلون بإصلاح بواطنهم ، ويولون وجوههم شطر الحق ، فهم على سيرة من تقدم.

وإنما يسمى ذلك بدعة باعتبار ما ، بل هي سنة ، وأهلها متبعون للسنّة فهي طريقة خاصة لأناس ، ولذلك لما قيل لبعضهم : في كم تجب الزكاة؟ قال : على مذهبنا أم على مذهبكم؟ ثم قال : أما على مذهبنا فالكل لله ، وأما على مذهبكم فكذا وكذا ـ أو كما قال ـ وهذا كله من الأمور التي جرت عند كثير من الناس هكذا غير محققة ، ولا منزّلة على الدليل الشرعي ، ولا على أحوال الصحابة والتابعين.

ولا بدّ من بسط طرف من الكلام في هذه المسألة ـ بحول الله ـ حتى يتبين الحق فيها لمن أنصف ولم يغالط نفسه وبالله التوفيق ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر إلى المدينة كانت الهجرة واجبة على كل مؤمن ممن كان بمكة أو غيرها. فكان منهم من احتال على نفسه فهاجر بماله أو شيء منه ، فاستعان به لما قدم المدينة في حرفته التي كان يحترف من تجارة أو غيرها ، كأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فإنه هاجر بجميع ماله ؛ وكان خمسة آلاف.

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ٥٢.

(٢) سورة : الكهف ، الآية : ٢٨.

١٦٣

ومنهم : من فرّ ولم يقدر على استخلاص شيء من ماله ، فقدم المدينة صفر اليدين.

وكان الغالب على أهل المدينة العمل في حوائطهم وأموالهم بأنفسهم فلم يكن لغيرهم معهم كبير فضل في العمل ، وكان من المهاجرين من أشركهم الأنصار في أموالهم وهم الأكثرون بدليل قصة بني النضير فإن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النضير قال للأنصار : «إن شئتم قسمتها بين المهاجرين وتركتم نصيبكم فيها وخلى المهاجرون بينكم وبين دوركم وأموالكم فإنهم عيال عليكم» (١) ، فقالوا : نعم ففعل ذلك نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف وذكر أنهم فقراء وقد قال المهاجرون أيضا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ما رأينا قوما أبذل من كثير ، ولا أحسن مواساة من قليل ، من قوم نزلنا بين أظهرهم ـ يعني الأنصار ـ لقد كفونا المئونة ، وأشركونا في المهنأ ، حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا! ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم» (٢).

ومنهم : من كان يلتقط نوى التمر فيرضّها ويبيعها علفا للإبل ، ويتقوت من ذلك الوجه.

ومنهم : من لم يجد وجها يكتسب به لقوت ولا لسكنى ، فجمعهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفّة كانت في مسجده ، وهي سقيفة كانت من جملته ، إليها يأوون وفيها يقعدون ، إذ لم يجدوا مالا ولا أهلا ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحض الناس على إعانتهم ، والإحسان إليهم ، وقد وصفهم أبو هريرة رضي الله عنه إذ كان من جملتهم ، وهو أعرف الناس بهم ، قال في الصحيح : وأهل الصفة أضياف الإسلام ، لا يأوون على أهل ولا مال ، ولا على أحد ، إذا أتته ـ يعني : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صدقة بعث بها إليهم ، ولا يتناول منها شيئا ، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها ، وأشركهم فيها فوصفهم بأنهم أضياف الإسلام وحكم لهم ـ كما ترى ـ بحكم الأضياف. وإنما وجبت الضيافة في الجملة لأن من نزل بالبادية لا يجد منزلا ولا طعاما لشراء ، إذ لم يكن لأهل الوبر أسواق ينال منها ما يحتاج إليه من طعام يشترى ، ولا خانات

__________________

(١) أخرج نحوه أبو داود في كتاب : الخراج والإمارة ، باب : في خبر بني النضير (الحديث : ٣٠٠٤). وأورده السيوطي في (الدر المنثور) ، والبيهقي في (دلائل النبوة).

(٢) أخرجه الترمذي في كتاب : صفة القيامة ، باب : مواساة الأنصار والمهاجرين (الحديث : ٢٤٨٩). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأدب ، باب : شكر المعروف (الحديث : ٤٨١٢).

١٦٤

يأوي إليها ، فصار الضيف مضطرّا وإن كان ذا مال فوجب على أهل الموضع ضيافته وإيواؤه حتى يرتحل ، فإن كان لا مال له فذلك أحرى ، فكذلك أهل الصّفّة لما لم يجدوا منزلا آواهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسجد حتى يجدوا ، كما أنهم حين لم يجدوا ما يقوتهم ندب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إعانتهم.

وفيهم نزل قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) إلى قوله : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) (١) الآية. فوصفهم الله تعالى بأوصاف منها أنهم أحصروا في سبيل الله ، أي منعوا وحبسوا حين قصدوا الجهاد مع نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كأن العدو أحصرهم فلا يستطيعون ضربا في الأرض ، لا لاتخاذ المسكن ولا للمعاش ، كأن العدو قد أحاط بالمدينة فلا هم يقدرون على الجهاد حتى يكسبوا من غنائمه ، ولا هم يتفرغون للتجارة أو غيرها لخوفهم من الكفار ، ولضعفهم في أول الأمر ، فلم يجدوا سبيلا للكسب أصلا. وقد قيل : إن قوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) (٢) ، أنهم قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصاروا زمنى.

وفيهم أيضا نزل : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) (٣) ، ألا ترى كيف قال : (أُخْرِجُوا) ولم يقل : خرجوا ، فإنه قد كان يحتمل أن يخرجوا اختيارا فبان أنهم إنما خرجوا منها اضطرارا ، ولو وجدوا سبيلا أن لا يخرجوا لفعلوا ، ففيه دليل على أن الخروج من المال اختيارا ليس بمقصود للشارع ، وهو الذي تدل عليه أدلة الشريعة ، فلأجل ذلك بوّأهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصّفة.

فكانوا في أثناء ذلك ما بين طالب للقرآن والسنّة ، كأبي هريرة ، فإنه قصر نفسه على ذلك. ألا ترى إلى قوله في الحديث : وكنت ألزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ملء بطني ، فأشهد إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا. وكان منهم من يتفرغ إلى ذكر الله وعبادته وقراءة القرآن ، فإذا غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا معه ، وإذا أقام أقام معه ، حتى فتح الله على رسوله وعلى المؤمنين ، فصاروا إلى ما صار الناس إليه غيرهم ممن كان ذا أهل ومال وطلب للمعاش واتخاذ

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٦٧ ـ ٢٧٣.

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ٢٧٣.

(٣) سورة : الحشر ، الآية : ٨.

١٦٥

المسكن ، لأن العذر الذي حبسهم في الصفّة قد زال ، فرجعوا إلى الأصل لما زال العارض.

فالذي تحصل أن القعود في الصّفة لم يكن مقصودا لنفسه ، ولا بناء الصّفة للفقراء مقصودا بحيث يقال : إن ذلك مندوب إليه ، لمن قدر عليه ، ولا هي شرعية تطلب بحيث يقال : إن ترك الاكتساب والخروج عن المال والانقطاع إلى الزوايا يشبه حالة أهل الصّفة ، وهي الرتبة العليا لأنها تشبّه بأهل صفّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين وصفهم الله تعالى في القرآن بقوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) (١) ، وقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) (٢) ، الآية ، فإن ذلك لم يكن على ما زعم هؤلاء ، بل كان على ما تقدم.

والدليل من العمل أن المقصود بالصفة لم يدم ، ولم يثابر أهلها ولا غيرهم على البقاء فيها ، ولا عمرت بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولو كان من قصد الشارع ثبوت تلك الحالة لكانوا هم أحق بفهمها أولا ، ثم بإقامتها والمكث فيها عن كل شغل ، وأولى بتجديد معاهدها ، لكنهم لم يفعلوا ذلك البتة ، فالتشبيه بأهل الصّفة إذا في إقامة ذلك المعنى واتخاذ الزوايا والرّبط لا يصح ، فليفهم الموفق هذا الموضع ، فإنه مزلة قدم لمن لم يأخذ دينه عن السلف الأقدمين والعلماء الراسخين.

ولا يظن العاقل أن القعود عن الكسب ولزوم الربط مباح أو مندوب إليه أفضل من غيره ، إذ ليس ذلك بصحيح ، ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى ممن كان عليه أولها ، ولا كفى (؟) المسكين المغتر بعمل الشيوخ المتأخرين إلى صدور هذه الطائفة المتصفين بالصوفية لم يتخذوا رباطا ولا زاوية ، ولا بنوا بناء يضاهون به الصفة للاجتماع على التعبد والانقطاع عن أسباب الدنيا ، كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم والجنيد وإبراهيم الخواص والحارث المحاسبي والشبيلي ، وغيرهم ممن سابق في هذا الميدان ، وإنما محصول هؤلاء أنهم خالفوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخالفوا السلف الصالح ، وخالفوا شيوخ الطريقة التي انتسبوا إليها ولا توفيق إلا بالله.

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ٥٢.

(٢) سورة : الكهف ، الآية : ٢٨.

١٦٦

وأما المدارس : فلم يتلق بها أمر تعبدي يقال في مثله بدعة ، إلّا على فرض أن يكون من السنّة أن يقرأ العلم إلا بالمساجد ، وهذا لا يوجد. بل العلم كان في الزمان الأول يبث بكل مكان من مسجد أو منزل ، أو سفر ، أو حضر ، أو غير ذلك ، حتى في الأسواق ، فإذا أعد أحد من الناس مدرسة يعني بإعدادها الطلبة ، فلا يزيد ذلك على إعدادها له منزلا من منازله ، أو حائطا من حوائطه ، أو غير ذلك فأين مدخل البدعة هاهنا؟

وإن قيل : إن البدعة في تخصيص ذلك الموضع دون غيره ، والتخصيص هاهنا ليس بتخصيص تعبدي ، وإنما هو تعيين بالحبس كما تتعين سائر الأمور المحبسة ، وتخصيصها ليس ببدعة ، فكذلك ما نحن فيه ، بخلاف الربط ، فإنها خصت تشبيها بالصّفة بهما للتعبد ، فصارت تعبدية بالقصد والعرف ، حتى إن ساكنيها مباينون لغيرهم في النحلة والمذهب والزي والاعتقاد.

وكذلك ما ذكر من بناء القناطر : فإنه راجع إلى إصلاح الطرق ، وإزالة المشقة عن سالكها ، وله أصل في شعب الإيمان وهو إماطة الأذى عن الطريق ، فلا يصح أن يعد في البدع بحال.

وقوله : وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول ، فيه تفصيل. فلا يخلو الإحسان المفروض أن يفهم من الشريعة أنه مقيد بقيد تعبدي أولا. فإن كان مقيدا بالتعبد الذي لا يعقل معناه ، فلا يصح أن يعمل به إلا على ذلك الوجه ، وإن كان غير مقيد في أصل التشريع بأمر تعبدي ، فلا يقال : إنه غير بدعة على أي وجه وقع ، إلا على أحد ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يخرج أصلا شرعيا مثل الإحسان المتبع بالمن والأذى والصدقة من المديان المضروب على يده ، وما أشبه ذلك ، ويكون إذ ذاك معصية.

والثاني : أن يلتزم على وجه لا يتعدى ؛ بحيث يفهم منه الجاهل أنه لا يجوز إلا على ذلك الوجه ، فحينئذ يكون الالتزام المشار إليه البدعة ، بل بدعة مذمومة وضلالة وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى ، فلا تكون إذا مستحبة.

١٦٧

والثالث : أن يجري على رأي من يرى المعقول المعنى وغيره بدعة مذمومة ، كمن كره تنخيل الدقيق في الصيغة ، فلا تكون عنده البدعة مباحة ولا مستحبة.

وصلاة التراويح تقدم الكلام عليها.

وأما الكلام في دقائق التصوف : فليس ببدعة بإطلاق ، ولا هو مما صح بالدليل بإطلاق ، بل الأمر ينقسم.

ولفظ التصوف لا بدّ من شرحه أولا حتى يقع الحكم على أمر مفهوم لأنه أمر مجمل عند هؤلاء المتأخرين ، فلنرجع إلى ما قال فيه المتقدمون.

وحاصل ما يرجع فيه لفظ التصوف عندهم معنيان :

أحدهما : التخلق بكل خلق سنيّ ، والتجرد عن كل خلق دنيّ.

والآخر : أنه الفناء عن نفسه والبقاء لربه. وهما في التحقيق إلى معنى واحد ، إلا أن أحدهما يصلح التعبير به عن البداية ، والآخر يصلح التعبير به عن النهاية ، وكلاهما اتصاف ، إلا أن الأول لا يلزمه الحال ، والثاني يلزمه الحال ، وقد يعبر فيهما بلفظ آخر فيكون الأول عملا تكليفيا. والثاني نتيجته ، ويكون الأول اتصاف الظاهر ، والثاني اتصاف الباطن ، ومجموعهما هو التصوف.

وإذا ثبت هذا فالتصوف بالمعنى الأول لا بدعة في الكلام فيه ، لأنه إنما يرجع إلى تفقه ينبني عليه العمل ، وتفصيل آفاته وعوارضه ، وأوجه تلافي الفساد الواقع فيه بالإصلاح ، وهو فقه صحيح ، وأصوله في الكتاب والسنّة ظاهرة ، فلا يقال في مثله : بدعة ، إلا إذا أطلق على فروع الفقه التي لم يلف مثلها في السلف الصالح أنها بدعة ، كفروع أبواب السّلم ، والإجارات والجراح ، ومسائل السهو ، والرجوع عن الشهادات ، وبيوع الآجال ، وما أشبه ذلك.

وليس من شأن العلماء إطلاق لفظ البدعة على الفروع المستنبطة التي لم تكن فيما سلف ، وإن دقّت مسائلها ، فكذلك لا يطلق على دقائق فروع الأخلاق الظاهرة والباطنة أنها بدعة ، لأن الجميع يرجع إلى أصول شرعية.

١٦٨

وأما بالمعنى الثاني فهو على أضرب :

أحدها : يرجع إلى العوارض الطارئة على السالكين ، إذا دخل عليهم نور التوحيد الوجداني ، فيتكلم فيها بحسب الوقت والحال ، وما يحتاج إليه في النازلة الخاصة رجوعا إلى الشيخ المربي ، وما بين له في تحقيق مناطها بفراسته الصادقة في السالك بحسبه وبحسب العارض ، فيداويه بما يليق به من الوظائف الشرعية والأذكار الشرعية ، أو بإصلاح مقصده إن عرض فيه العارض ، فقلما يطرأ العامل بل العارض إلا عند الإخلال ببعض الأصول الشرعية التي بنى عليها في بدايته ، فقد قالوا : إنما حرموا الوصول ، بتضييعهم الأصول.

فمثل هذا لا بدعة فيه لرجوعه إلى أصل شرعي : ففي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءه ناس من أصحابه رضي الله عنهم فقالوا : يا رسول الله ، إنا نجد في أنفسنا الشيء يعظم أن نتكلم به ـ أو الكلام به ـ ما نحب أن لنا وأنا تكلمنا به ، قال : «أوقد وجدتموه؟» قالوا : نعم ، قال : «ذلك صريح في الإيمان» (١).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أحدنا يجد في نفسه يعرض بالشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به ، قال : «الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة» (٢).

وفي حديث آخر : «من وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله».

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في مثله : إذا وجدت شيئا من ذلك فقل : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣) ، إلى أشباه ذلك ، وهو صحيح مليح.

والثاني : يرجع إلى النظر في الكرامات ، وخوارق العادات ، وما يتعلق بها مما هو خارق في الحقيقة أو غير خارق ، وما هو منها يرجع إلى أمر نفسي أو شيطاني ، أو ما أشبه

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب : الإيمان ، باب : بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها (الحديث : ١٣٢). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأدب ، باب : الوسوسة (الحديث : ٥١١١).

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : الأدب (الحديث : ٥١١٢). وأخرجه أحمد في المسند (الحديث : ٢٠٩٧).

(٣) سورة : الحديد ، الآية : ٣.

١٦٩

ذلك من أحكامها ، فهذا النظر ليس ببدعة ، كما أنه ليس ببدعة النظر في المعجزات وشروطها ، والفرق بين النبي والمتنبي ، وهو من علم الأصول فحكمه حكمه.

والضرب الثالث : ما يرجع إلى النظر في مدركات النفوس من العالم الغائب ، وأحكام التجريد النفسي ، والعلوم المتعلقة بعالم الأرواح ، وذوات الملائكة والشياطين والنفوس الإنسانية والحيوانية ، وما أشبه ذلك ، وهو بلا شك بدعة مذمومة إن وقع النظر فيه ، والكلام عليه بقصد جعله علما ينظر فيه ، وفنّا يشتغل بتحصيله بتعليم أو رياضة ، فإنه لم يعهد مثله في السلف الصالح ، وهو في الحقيقة نظر فلسفي إنما يشتغل باستجلابه والرياضة لاستفادته أهل الفلسفة ، الخارجون عن السنّة ، المعدودون في الفرق الضالة ، فلا يكون الكلام فيه مباحا فضلا عن أن يكون مندوبا إليه.

نعم قد يعرض للسالك فيتكلم فيه مع المربي حتى يخرجه عن طريقه ، ويبعد بينه وبين فريقه ، لما فيه من إمالة مقصد السالك إلى أن يعبد الله على حرف ، زيادة إلى الخروج عن الطريق المستقيم بتتبعه والالتفات إليه ، إذ الطريق مبني على الإخلاص التام بالتوجه الصادق ، وتجريد التوحيد عن الالتفات إلى الأغيار ، وفتح باب الكلام في هذا الضرب مضاد لذلك كله.

والضرب الرابع : يرجع إلى النظر في حقيقة الفناء من حيث الدخول فيه ، والاتصاف بأوصافه ، وقطع أطماع النفس عن كل جهة توصل إلى غير المطلوب ، وإن دقت ، فإن أهواء النفوس تدق وتسري مع السالك في المقامات ، فلا يقطعها إلا من حسم مادتها وبتّ طلاقها ، وهو باب الفناء المذكور.

وهذا نوع من أنواع الفقه المتعلق بأهواء النفوس ، ولا يعد ممن البدع لدخوله تحت جنس الفقه ، لأنه وإن دق راجع إلى ما جل من الفقه ، ودقته وجلّته إضافيان والحقيقة واحدة.

١٧٠

وثمّ أقسام أخر جميعها إما يرجع إلى فقه شرعي حسن في الشرع ، وإما إلى ابتداع ليس بشرعيّ وهو قبيح في الشرع.

وأما الجدل وجمع المحافل للاستدلال على المسائل فقد مرّ الكلام فيه.

وأما أمثلة البدع المكروهة : فعد منها زخرفة المساجد وتزويق المصاحف وتلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي ، فإن أراد مجرد الفعل من غير اقتران أمر آخر فغير مسلم ، وإن أراد مع اقتران أصل التشريع ، فصحيح ما قال : إن البدعة لا تكون بدعة إلّا مع اقتران هذا القصد ، فإن لم يقترن فهي منهيّ عنها غير بدع.

وأما أمثلة البدع المباحة : فعدّ منها المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر ، أما إنها بدع فمسلم ، وأما إنها مباحة فممنوع ، إذ لا دليل في الشرع يدل على تخصيص تلك الأوقات بها ، بل هي مكروهة إذ يخاف بدوامها إلحاقها الصلوات المذكورة ، كما خاف مالك رحمه‌الله وصل ستة أيام من شوال برمضان لإمكان أن يعدها من رمضان ، وكذلك وقع.

فقد قال القرافي : قال الشيخ زكي الدين عبد العظيم المحدث : إن الذي خشي منه مالك رضي الله عنه قد وقع بالعجم ، فصاروا يتركون المسحرين على عاداتهم والبوّاقين ، وشعائر رمضان إلى آخر الستة الأيام ، فحينئذ يظهرون شعائر العيد ـ قال ـ وكذلك شاع عند عامة مصر أن الصبح ركعتان إلا في يوم الجمعة فإنه ثلاث ركعات ، لأجل أنهم يرون الإمام يواظب على قراءة سورة السجدة يوم الجمعة في صلاة الصبح ويسجد فيها ، فيعتقدون أن تلك ركعة أخرى واجبة. ـ قال ـ وسد هذه الذرائع متعين في الدين ، وكان مالك رحمه‌الله شديد المبالغة في سدّ الذرائع.

وعدّ ابن عبد السلام من البدع المباحة التوسع في الملذوذات وقد تقدم ما فيه.

والحاصل من جميع ما ذكر فيه قد وضح منه أن البدع لا تنقسم إلى ذلك الانقسام ، بل هي من قبيل المنهي عنه إما كراهة وإما تحريما ، حسبما يأتي إن شاء الله تعالى.

١٧١

فصل

ومما يتعلق به بعض المتكلفين أن الصوفية هم المشهورون باتباع السنة ، المقتدون بأفعال السلف الصالح ، المثابرون في أقوالهم وأفعالهم على الاقتداء التام والفرار عما يخالف ذلك ، ولذلك جعلوا طريقتهم مبنية على أكل الحلال ، واتباع السنّة والإخلاص وهذا هو الحق ، ولكنهم في كثير من الأمور يستحسنون أشياء لم تأت في كتاب ولا سنّة ، ولا عمل بأمثالها السلف الصالح ، فيعملون بمقتضاها ، ويثابرون عليها ، ويحكمونها طريقا لهم مهيعا (١) وسنّة لا تخلف ، بل ربما أوجبوها في بعض الأحوال فلولا أن في ذلك رخصة لم يصح لهم ما بنوا عليه.

فمن ذلك أنهم يعتمدون في كثير من الأحكام على الكشف والمعاينة ، وخرق العادة ، فيحكمون بالحل والحرمة ، ويثبتون على ذلك الإقدام والإحجام ، كما يحكى عن المحاسبي أنه كان إذا تناول طعاما في شبهة ينبض له عرق في إصبعه فيمتنع منه.

وقال الشبلي : اعتقدت (٢) وقتا أن لا آكل إلّا من حلال ، فكنت أدور في البراري ، فرأيت شجرة تين فمددت يدي إليها لآكل فنادتني الشجرة : احفظ عليك عهدك ، لا تأكل مني فإني ليهودي.

وقال إبراهيم الخواص رحمه‌الله : دخلت خربة في بعض الأسفار في طريق مكة بالليل فإذا فيها سبع عظيم فخفت ، فهتف بي هاتف : اثبت فإن حولك سبعين ألف ملك يحفظونك.

فمثل هذه الأشياء إذا عرضت على قواعد الشريعة ظهر عدم البناء عليها ، إذ المكاشفة ، أو الهاتف المجهول ، أو تحرك بعض العروق ، لا يدل على التحليل ولا التحريم لإمكانه في نفسه ، وإلا لو حضر ذلك حاكم أو غيره لكان يجب عليه أو يندب البحث عنه حتى يستخرج من يد واضعه بين أيديهم إلى مستحقه ، ولو هتف هاتف بأن فلانا قتل المقتول الفلاني ، أو أخذ مال فلان ، أو زنى ، أو سرق ، أكان يجب عليه العمل بقوله؟ أو يكون شاهدا في بعض الأحكام؟ شرعيّ؟ هذا مما لا يعهد في الشرع مثله.

__________________

(١) مهيع : الطريق الواسع المنبسط ، والميم زائدة.

(٢) اعتقدت : عزمت.

١٧٢

ولذلك قال العلماء : لو أن نبيا من الأنبياء ادعى الرسالة ، وقال : إنني إن أدع هذه الشجرة تكلمني ، ثم دعاها فأتت وكلمته وقالت : إنك كاذب ، لكان ذلك دليلا على صدقه لا دليلا على كذبه ، لأنه تحدى بأمر جاءه على وفق ما ادعاه ، وكون الكلام تصديقا أو تكذيبا أمر خارج عن مقتضى الدعوى لا حكم له.

فكذلك نقول في هذه المسألة : إذا فرضنا أن انقباض العرق لازم لكون الطعام حراما ، لا يدل ذلك على أن الحكم بالإمساك عنه إذا لم يدل عليه دليل معتبر في الشرع معلوم.

وكذلك مسألة الخواص ، فإن التوقّي من مظان المهلكات مشروع ، فخلافه يظهر أنه خلاف المشروع ، وهو معتاد في أهل هاته الطريقة.

وكذلك كلام الشجرة للشبلي من جملة الخوارق وبناء الحكم عليه غير معهود.

ومن ذلك أنهم يبنون طريقهم على اجتناب الرخص جملة ، حتى إن شيخهم الذي مهد لهم الطريقة أبا القاسم القشيري قال في باب وصية المريدين من رسالته : إن اختلف على المريد فتاوى الفقهاء يأخذ بالأحوط ، ويقصد أبدا الخروج عن الخلاف ، فإن الرخص في الشريعة للمستضعفين وأصحاب الحوائج والأشغال ، وهؤلاء الطائفة ـ يعني : الصوفية ـ ليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه ، ولهذا قيل : إذا انحط الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة ، فقد فسخ عقده ، ونقض عهده فيما بينه وبين الله.

فهذا الكلام ظاهر في أنه ليس من شأنهم الترخص في مواطن الترخص المشروع ، وهو ما كان عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والسلف الصالح من الصحابة والتابعين ، فالتزام العزائم مع وجود مضار الرخص التي قال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» (١) فيه ما فيه ، وظاهره أنه بدعة استحسنوها قمعا للنفس عن الاسترسال في الميل إلى الراحة وإيثارا إلى ما يبنى عليه من المجاهدة.

ومن ذلك أن القشيري جعل من جملة ما يبني عليه من أراد الدخول في طريقهم : الخروج عن المال ، فإن ذلك الذي يميل إليه به عن الحق ، ولم يوجد من يدخل في هذا الأمر ومعه علاقة من الدنيا إلا جرّته تلك العلاقة عن قريب إلى ما منه خرج إلى آخر ما قال ، وهو

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند (٢ / ١٠٨).

١٧٣

في غاية الإشكال مع ظواهر الشريعة ، لأنا نعرض ذلك على الحالة الأولى ، وهي حالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أصحابه الكرام ، إذ لم يأمر أحدا بالخروج عن ماله ولا أمر صاحب صنعة بالخروج عن صنعته ، ولا صاحب تجارة بترك تجارته وهم كانوا أولياء الله حقّا ، والطالبون لسلوك طريق الحق صدقا ، وإن سلك من بعدهم ألف سنة لم يبلغ شأوهم ، ولم يبلغ هداهم.

ثم إنه كما يكون المال شاغلا في الطريق عن بلوغ المراد ، فكذلك يكون فراغ اليد منه جملة شاغلا عنه ، وليس الماضي أولى بالاعتبار من الآخر ، فأنت ترى كيف جعل هذا النوع ـ الذي لم يوجد في السلف عهده ـ أصلا في سلوك الطريق ، وهو ـ كما ترى ـ محدث ، فما ذلك إلا لأن الصوفية استحسنوه ، لأنه بلسان جميعهم ينطق.

ومن ذلك أنهم يقولون : إنه لا يصح للشيوخ التجاوز عن زلات المريدين ، لأن ذلك تضييع لحقوق الله تعالى ، وهذا النفي العالم يستنكر في الحكم الشرعي ، ألا ترى ما جاء في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ، وذلك فيما لم يكن حدّا من حدود الله» (١) فلو كان العفو غير صحيح لكان مخالفا لهذا الدليل ، ولما جاء من فضل العفو ، وأيضا فإن الله يحب الرفق ويرضى به ويعين عليه ما لا يعين على العنف ، ومن جملة الرفق شرعية التجاوز والإغضاء ، إذ العبد لا بدّ له من زلة وتقصير ، ولا معصوم إلا من عصمه الله.

من ذلك أخذهم على المريد أن يقلل من غذائه ، لكن بالتدريج شيئا بعد شيء لا مرة واحدة ، وأن يديم الجوع والصيام ، وأن يترك التزوج ما دام في سلكه ، ويعدّ ذلك كله من مشكلات التشريع ، بل هو شبيه بالتبتل الذي رده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بعض

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب : الحدود ، باب : في الحد يشفع فيه (الحديث : ٤٣٧٥). وأخرجه أحمد في المسند (٦ / ١٨٦).

١٧٤

أصحابه حتى قال : «من رغب عن سنتي فليس مني» (١).

وإذا تؤمّل ما ذكروه في شأن التدريج في ترك الغذاء وجده غير معهود في الزمان الأول ، والقرن الأفضل.

ومن ذلك أشياء ألزموها المريد حالة السماع ، من طرح الخرق ، وإن من حق المريد أن لا يرجع في شيء خرج عنه البتة ، إلا أن يشير عليه الشيخ بالرجوع فيه ، فليأخذه على نية العارية بقلبه ، ثم يخرج عنه بعد ذلك من غير أن يوحش قلب الشيخ ، إلى أشياء اخترعوها في ذلك لم يعهد مثلها في الزمان الأول ، وذلك من نتائج مجالس السماع الذي اعتمدوه. والسماع في طريقة التصوف ليس منها لا بالأصل ، ولا بالتبع ، ولا استعمله أحد من السلف ممن يشار إليه حاذيا في طريق الخير ، وإنما رأيته مأخوذا به في ذلك ، وفي غيره عند الفلاسفة الآخذة للتكليف الشرعي.

ولو تتبع هذا الباب لكثرت مسائله وانتشرت ، وظاهرها أنها استحسانات اتخذت بعد أن لم تكن والقوم ـ كما ترى ـ مستمسكون بالشرع ، فلولا أن مثل هذه الأمور لاحق بالمشروعات لكانوا أبعد الناس منها ، ويدل على أن من البدع ما ليس بمذموم ، بل أن منها ما هو ممدوح ، وهو المطلوب.

والجواب أن نقول :

أولا : كل ما عمل به المتصوفة المعتبرون في هذا الشأن لا يخلو إما أن يكون مما ثبت له أصل في الشريعة أم لا ، فإن كان له أصل فهم خلقاء به ، كما أن السلف من الصحابة والتابعين خلقاء بذلك ، وإن لم يكن له أصل في الشريعة فلا عمل عليه لأن السنة حجة على جميع الأمة ، وليس عمل أحد من الأمة حجة على السنة ، لأن السنة معصومة عن الخطأ ، وصاحبها معصوم ، وسائر الأمة لم تثبت لهم عصمة ، إلا مع إجماعهم خاصة ، وإذا اجتمعوا تضمن إجماعهم دليلا شرعيا كما تقدم التنبيه عليه.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٢٩ ، الحاشية : ٢.

١٧٥

فالصوفية كغيرهم ممن لم تثبت له العصمة ، فيجوز عليهم الخطأ والنسيان والمعصية كبيرتها وصغيرتها ، فأعمالهم لا تعدو الأمرين.

ولذلك قال العلماء : كل كلام مأخوذ أو متروك ، إلا ما كان من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد قرر ذلك القشيري أحسن تقرير ، فقال :

فإن قيل : فهل يكون الوليّ معصوما حتى لا يصر على الذنوب؟

قيل : أما وجوبا كما يقال في الأنبياء فلا ، وأما أن يكون محفوظا حتى لا يصر على الذنوب ـ وإن حصلت منهم آفات أو زلات ـ فلا يمتنع ذلك في وصفهم ، قال : لقد قيل للجنيد : أيزني العارف؟ فأطرق مليا ، ثم رفع رأسه وقال : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (١).

فهذا كلام منصف ، فكما يجوز على غيرهم المعاصي فالابتداع وغيره كذلك يجوز عليهم ، فالواجب علينا أن نقف مع الاقتداء بمن يمتنع عليه الخطأ. ونقف على الاقتداء بمن لا يمتنع عليه الخطأ إذا ظهر في الاقتداء به إشكال ، بل نعرض ما جاء على الأئمة على الكتاب والسنة ، فما قبلاه قبلناه ، وما لم يقبلاه تركناه ، ولا علينا إذا قام لنا الدليل على اتباع الشرع ، ولم يقم لنا دليل على اتباع أقوال الصوفية وأعمالهم إلا بعد عرضها ، وبذلك وصى شيوخهم ، وإن كان ما جاء به صاحب الوجد والذوق من الأحوال والعلوم والفهوم فليعرض على الكتاب والسنة ، فإن قبلاه صح ، وإلا لم يصح ، فكذلك ما رسموه من الأعمال وأوجه المجاهدات ، وأنواع الالتزامات.

ثم نقول ثانيا : إذا نظرنا في رسومهم التي حدوا ، وأعمالهم التي امتازوا بها عن غيرهم بحسب تحسين الظن والتماس أحسن المخارج ولم نعرف لها مخرجا فالواجب علينا التوقف عن الاقتداء والعمل وإن كانوا من جنس من يقتدى بهم ، لا ردا لهم واعتراضا ، بل لأنا لم نفهم وجه رجوعه إلى القواعد الشرعية كما فهمنا غيره ، ألا ترى أنا نتوقف عن العمل بالأحاديث النبوية التي يشكل علينا وجه الفقه فيها؟ فإن سنح بعد ذلك للعمل بها وجه جار على الأدلة قبلناه ، وإلا فلسنا مطلوبين بذلك ، ولا ضرر علينا في التوقف ، لأنه توقف مسترشد ، لا توقف راد مقترح ، فالتوقف هنا بترك العمل أولى وأحرى.

__________________

(١) سورة : الأحزاب ، الآية : ٣٨.

١٧٦

ثم نقول ثالثا : إن هذه المسائل وأشباهها قد صارت مع ظاهر الشريعة كالمدافعة فيحمل كلام الصوفية وأعمالهم مثلا على أنها مستندة إلى دلائل شرعية ، إلا أنه عارضها في النقل أدلة أوضح منها في أفهام المتفهمين ، وأنظار المجتهدين ، وأجرى على المعهود في سائر أصناف العلماء ، وأنظر في ألفاظ الشارع مما ظنناه مستند القوم. وإذا تعارضت الأدلة ولم يظهر في بعضها نسخ فالواجب الترجيح ، وهو إجماع من الأصوليين أو كالإجماع ، وفي مذهب القوم العمل بالاحتياط هو الواجب ، كما أنه مذهب غيرهم ، فوجب بحسب الجريان على آرائهم في السلوك أن لا يعمل بما يسموه مما فيه معارضة لأدلة الشرع ، ونكون في ذلك متبعين لآثارهم ، مهتدين بأنوارهم ، خلافا لمن يعرض عن الأدلة ويصمم على تقليدهم فيما لا يصح تقليدهم فيه على مذهبهم ، فالأدلة والأنظار الفقهية والرسوم الصوفية ترده وتذمه ، وتحمد من تحرّى واحتاط عند الاشتباه واستبرأ لدينه وعرضه.

وبقي الكلام على أعيان ما ذكر في السؤال من أقوالهم وعوائدهم وما يتنزل منها على مقتضى الأدلة ، وكيف وجه تنزيلها ، لا حاجة لنا إليه في هذا الموضع ، وقد بسط الكلام على جملة منها في كتاب (الموافقات) (١) ، وإن فسح الله في المدة وأعان بفضله بسطنا الكلام في هذا الباب في كتاب مذهب أهل التصوف ، وبيان ما أدخل فيه مما ليس بطريق لهم ، والله الموفق للصواب.

وقد تبين أن لا دليل في شيء مما يحكم به على بدعتهم والحمد لله.

__________________

(١) كتاب الموافقات للشاطبي.

١٧٧

٤ ـ باب : في مأخذ أهل البدع بالاستدلال

كل خارج عن السنّة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها لا بدّ له من تكلف في الاستدلال بأدلتها على خصوصات مسائلهم ، وإلا كذب اطراحها دعواهم ، بل كل مبتدع من هذه الأمة إما أن يدعي أنه هو صاحب السنة دون من خالفه من الفرق فلا يمكنه الرجوع إلى التعلق بشبهها ، وإذا رجع إليها كان الواجب عليه أن يأخذ الاستدلال مأخذ أهله العارفين بكلام العرب وكليات الشريعة ومقاصدها ، كما كان السلف الأول يأخذونها ؛ إلا أن هؤلاء ـ كما يتبين بعد ـ لم يبلغوا مبلغ الناظرين فيها بإطلاق ، إما لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب والعلم بمقاصدها ، وإما لعدم الرسوخ في العلم بقواعد الأصول التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية ، وإما لعدم الأمرين جميعا ، فبالحري أن تصير مآخذهم للأدلة مخالفة لمأخذ من تقدمهم من المحققين للأمرين.

وإذا تقرر هذا فلا بد من التنبيه على تلك المآخذ لكي تحذر وتتقى فنقول : قال الله سبحانه وتعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (١) ، وذلك أن هذه الآية شملت قسمين هما أصل المشي على طريق الصواب أو على طريق الخطأ.

أحدهما : الراسخون في العلم وهم الثابتو الأقدام في علم الشريعة. ولما كان ذلك متعذرا إلا على من حصل الأمرين المتقدمين لم يكن بد من المعرفة بهما معا على حسب ما تعطيه المنّة الإنسانية ، وإذ ذاك يطلق عليه (أنّه راسخ في العلم) ومقتضى الآية مدحه ، فهو إذا أهل للهداية والاستنباط.

وحين خص أهل الزيغ باتباع المتشابه دل التخصيص على أن الراسخين لا يتبعونه ، فإذا لا يتبعون إلا المحكم وهو أم الكتاب ومعظمه.

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

١٧٨

فكل دليل خاص أو عام شهد له معظم الشريعة فهو الدليل الصحيح ، وما سواه فاسد ، إذ ليس بين الصحيح والفاسد واسطة في الأدلة يستند إليها ، إذ لو كان ثمّ ثالث لنصت عليه الآية.

ثم لما خص الزائغون بكونهم يتبعون المتشابه أيضا علم أن الراسخين لا يتبعونه ، فإن تأولوه فبالرد إلى المحكم بأن أمكن حمله على المحكم ، بمقتضى القواعد ، فهذا المتشابه الإضافي لا الحقيقي ، وليس في الآية نص على حكمه بالنسبة إلى الراسخين ، فليرجع عندهم إلى المحكم الذي هو أم الكتاب ، وإن لم يتأوّلوه بناء على أنه متشابه حقيقي ، فيقابلونه بالتسليم وقولهم : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) (١) ، وهؤلاء هم أولو الألباب.

وكذلك ذكر في أهل الزيغ أنهم يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ، فهم يطلبون به أهواءهم لحصول الفتنة ، فليس في نظرهم إذا في الدليل نظر المستبصر حتى يكون هواه تحت حكمه ، بل نظر من حكم بالهوى ، ثم أتى بالدليل كالشاهد له ، ولم يذكر مثل ذلك في الراسخين ، فهم إذن بضد هؤلاء حيث وقفوا في المتشابه فلم يحكموا فيه ولا عليه سوى التسليم ، وهذا المعنى خاص بمن طلب الحق من الأدلة ، لا يدخل فيه من طلب في الأدلة ما يصحح هواه السابق.

والقسم الثاني : من ليس براسخ في العلم وهو الزائغ فحصل له من الآية وصفان :

أحدهما بالنص وهو الزيغ لقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) (٢). والزيغ هو الميل عن الصراط المستقيم وهو ذم لهم.

والوصف الثاني بالمعنى الذي أعطاه التقسيم وهو عدم الرسوخ في العلم ، وكل منفي عنه الرسوخ فإلى الجهل ما هو مائل ؛ ومن جهة الجهل حصل له الزيغ ؛ لأن من نفي عنه طريق الاستنباط ، واتباع الأدلة لبعض الجهالات ؛ لم يحل له أن يتبع الأدلة المحكمة ولا المتشابهة ، ولو فرضنا أنه يتبع المحكم لم يكن اتّباعه مفيدا لحكمه لإمكان أن يتبعه على وجه واضح البطلان أو متشابه ، فما ظنك به إذا اتبع المتشابه.

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

١٧٩

ثم اتّباعه للمتشابه ـ ولو كان من جهة الاسترشاد به لا للفتنة به ـ لم يحصل به مقصود على حال ، فما ظنك به إذا اتبع ابتغاء الفتنة؟ وهكذا المحكم إذا اتبعه ابتغاء الفتنة به ، فكثيرا ما ترى الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيحة اقتصارا بالنظر على دليل ما ، واطّراحا للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفروعية العاضدة لنظره أو المعارضة له.

وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكا ، وربما أفتى بمقتضاه وعمل على وفقه إذا كان له فيه غرض ، أو أعرض عن غرض له عرض في الفتيا ، كجواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنموا على طريقة (من عزّ بزّ) لا طريقة الشرع ، بناء على نقل بعض العلماء :

أنه يجوز تنفيل السرية جميع ما غنمت ثم عزا ذلك ـ وهو مالكي المذهب ـ إلى مالك حيث قال في كلام روي عنه : ما نفل الإمام فهو جائز فأخذ هذه العبارة نصّا على جواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنم ، ولم يلتفت في النفل إلى أن السرية هي القطعة من الجيش الداخل لبلاد العدو لتغير على العدو ثم ترجع إلى الجيش ، لا أن السرية هي الجيش بعينه ، ولا التفت أيضا إلى أن النفل عند مالك لا يكون إلا من الخمس ، لا اختلاف عنه في ذلك أعلمه ، ولا عن أحد من أصحابه ، فما نفل الإمام منه فهو جائز ، لأنه محمول على الاجتهاد.

وكذلك الأمر في كل مسألة فيها الهوى أولا ، ثم يطلب لها المخرج من كلام العلماء أو من أدلة الشرع وكلام العرب أبدا ، لاتساعه وتصرفه ، واحتمالاتها كثيرة لكن يعلم الراسخون المراد منه من أوله إلى آخره وفحواه ، أو بساط حاله أو قرائنه ، فمن لا يعتبره من أوله إلى آخره ويعتبر ما ابتنى عليه زل في فهمه ، وهو شأن من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظر بعضها ببعض ، فيوشك أن يزل ، وليس هذا من شأن الراسخين ، وإنما هو من شأن من استعجل طلبا للمخرج في دعواه.

فقد حصل من الآية المذكورة أن الزيغ لا يجري على طريق الراسخ بغير حكم الاتفاق ، وأن الراسخ لا زيغ معه بالقصد البتة.

فصل

إذا ثبت هذا رجعنا منه إلى معنى آخر فنقول :

إن للراسخين طريقا يسلكونها في اتباع الحق ، وأن الزائغين على طريق غير طريقهم

١٨٠