الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

دعا إليه وهو السنة ، والسبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع. وليس المراد سبل المعاصي ، لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقا تسلك دائما على مضاهاة التشريع ، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات.

ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب ، قال : حدّثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال : خطّ لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما خطا طويلا ، وخط لنا سليمان خطا طويلا ، وخط عن يمينه وعن يساره فقال : «هذا سبيل الله» ثم خط لنا خطوطا عن يمينه ويساره وقال : «هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» (١) ثم تلا هذه الآية : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) يعني الخطوط (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٢).

قال بكر بن العلاء : أحسبه أراد شيطانا من الإنس وهي البدع والله أعلم. والحديث مخرّج من طرق.

وعن عمر بن سلمة الهمداني قال : كنا جلوسا في حلقة ابن مسعود في المسجد وهو بطحاء قبل أن يحصب ، فقال له عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وكان أتى غازيا : ما الصراط المستقيم يا أبا عبد الرحمن؟ قال : هو وربّ الكعبة الذي ثبت عليه أبوك حتى دخل الجنة ، ثم حلف على ذلك ثلاث أيمان ولاء ، ثم خط في البطحاء ، خطا بيده وخطّ بجنبيه خطوطا وقال : ترككم نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طرفه وطرفه الآخر في الجنة ؛ فمن ثبت عليه دخل الجنة ، ومن أخذ في هذه الخطوط هلك.

وفي رواية : يا أبا عبد الرحمن ، ما الصراط المستقيم؟ قال : تركنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أدناه وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد (٣) ، وعليها رجال يدعون من مرّ بهم : هلم لك ، هلم لك ، فمن أخذ منهم في تلك الطرق انتهت به إلى النار ، ومن استقام إلى

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند (١ / ٤٣٥ ، ٤٦٥). وأخرجه الدارمي (الحديث : ٢٠٨). وأخرجه النسائي في الكبرى (تحفة الأشراف : ٩٢٨١).

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٣.

(٣) الجوادّ : جمع جادّة ، وهي : وسط الطريق.

٤١

الطريق الأعظم انتهى به إلى الجنة ، ثم تلا ابن مسعود : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) الآية كلها.

وعن مجاهد في قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) قال : البدع والشبهات.

وعن عبد الرحمن بن مهدي : قد سئل مالك بن أنس عن السنة قال : هي ما لا اسم له غير السنة ، وتلا : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

قال بكر بن العلاء : يريد ـ إن شاء الله ـ حديث ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خط له خطا ، وذكر الحديث.

فهذا التفسير يدل على شمول الآية لجميع طرق البدع لا تختص ببدعة دون أخرى.

ومن الآيات قول الله تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١). فالسبيل القصد هو طريق الحق ، وما سواه جائر عن الحق أي : عادل عنه ، وهي طرق البدع والضلالات ، أعاذنا الله من سلوكها بفضله ، وكفى بالجائر أن يحذر منه.

فالمساق يدل على التحذير والنهي.

وذكر ابن وضاح قال : سئل عاصم بن بهدلة وقيل له : يا أبا بكر ، هل رأيت قول الله تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)؟ قال : حدثنا أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال : خط عبد الله خطا مستقيما وخط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن شماله ، فقال : خط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هكذا ، فقال للخط المستقيم : «هذا سبيل الله» وللخطوط التي عن يمينه وشماله : «هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» (٢) والسبيل مشتركة قال الله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (٣) إلى آخرها.

عن التستري : (قصد السبيل) طريق السنة ، (وَمِنْها جائِرٌ) يعني : إلى النار ، وذلك الملل والبدع.

__________________

(١) سورة : النحل ، الآية : ٩.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٤١ ، الحاشية : ١.

(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٣.

٤٢

وعن مجاهد : (قصد السبيل) أي : المقتصد منها بين الغلو والتقصير ، وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر ، وكلاهما من أوصاف البدع.

وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقرؤها ومنكم جائر قالوا : يعني هذه الأمة ، فكأن هذه الآية مع الآية قبلها يتواردان على معنى واحد.

ومنها قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١).

هذه الآية قد جاء تفسيرها في الحديث من طريق عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) من هم؟» قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ، يا عائشة إن لكل ذنب توبة ، ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة ، وأنا بريء منهم وهم مني برآء» (٢).

قال ابن عطية : هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام ، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد ، يريد ـ والله أعلم ـ بأهل التعمق في الفروع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في فصل ذم الرأي من كتاب العلم له ، وسيأتي ذكره بحول الله.

وحكى ابن بطال في شرح البخاري عن أبي حنيفة أنه قال : لقيت عطاء بن رباح بمكة فسألته عن شيء فقال : من أين أنت؟ قلت : من أهل الكوفة (٣) ، قال : أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا؟ قلت : نعم ، قال : من أي الأصناف أنت؟ قلت : ممن لا يسب السلف ، ويؤمن بالقدر ولا يكفر أحدا بذنب ، فقال عطاء : عرفت فالزم.

وعن الحسن قال : خرج علينا عثمان بن عفان رضي الله عنه يوما يخطبنا ، فقطعوا عليه

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

(٢) عزاه في جمع الفوائد (٢ / ٢٣١) إلى المعجم الصغير للطبراني.

(٣) الكوفة : بلد بأرض بابل من سواد العراق تم تمصيرها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ١٧ ه‍.

٤٣

كلامه ، فتراموا بالبطحاء ، حتى جعلت ما أبصر أديم السماء ، قال : وسمعنا صوتا من بعض حجر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقيل : هذا صوت أم المؤمنين ، قال : فسمعتها وهي تقول : ألا إن نبيكم قد برئ ممن فرّق دينه واحتزب ، وتلت : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (١).

قال القاضي إسماعيل : أحسبه يعني بقوله : (أم المؤمنين) أمّ سلمة ، وأن ذلك قد ذكر في بعض الحديث ، وقد كانت عائشة في ذلك الوقت حاجّة.

وعن أبي هريرة أنها نزلت في هذه الأمة ، وعن أبي أمامة هم الخوارج.

قال القاضي : ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآية ، لأنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعا.

ومنها قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٢).

قرئ : فارقوا دينهم وفسر عن أبي هريرة أنهم الخوارج ، ورواه أبو أمامة مرفوعا.

وقيل : هم أصحاب الأهواء والبدع ، قالوا : روته عائشة رضي الله عنها مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك لأن هذا شأن من ابتدع حسبما قاله إسماعيل القاضي وكما تقدم في الآي الأخر.

ومنها قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) (٣).

فعن ابن عباس أن لبسكم شيعا هو الأهواء المختلفة ، ويكون على هذا قوله : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) تكفير البعض للبعض حتى يتقاتلوا ، كما جرى للخوارج حين خرجوا على أهل السنة والجماعة وقيل معنى : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) ما فيه إلباس من الاختلاف.

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

(٢) سورة : الروم ، الآيتان : ٣١ ـ ٣٢.

(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ٦٥.

٤٤

وقال مجاهد وأبو العالية : إن الآية لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال أبو العالية : هن أربع ، ظهر اثنتان بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس وعشرين سنة ، فألبسوا شيعا وأذيق بعضكم بأس بعض ، وبقيت اثنتان ، فهما ولا بدّ واقعتان ، الخسف من تحت أرجلكم والمسخ من فوقكم ، وهذا كله صريح في أن اختلاف الأهواء مكروه غير محبوب ومذموم غير محمود.

وفيما نقل عن مجاهد في قول الله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١). قال في المختلفين : إنهم أهل الباطل ، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) قال : فإن أهل الحق ليس فيهم اختلاف.

وروي عن مطرف بن الشخير أنه قال : لو كانت الأهواء واحدا لقال القائل : لعل الحق فيه ، فلما تشعبت وتفرقت عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق.

وعن عكرمة : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) يعني : في الأهواء ، (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) هم أهل السنة.

ونقل أبو بكر ثابت الخطيب عن منصور بن عبد الله بن عبد الرحمن قال : كنت جالسا عن الحسن ورجل خلفي قاعد فجعل يأمرني أن أسأله عن قول الله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) قال : نعم لا يزالون مختلفين على أديان شتى إلا من رحم ربك فمن رحم غير مختلف.

وروى ابن وهب ، عن عمر بن عبد العزيز ، ومالك بن أنس أن أهل الرحمة لا يختلفون.

ولهذه الآية بسط يأتي بعد إن شاء الله.

وفي البخاري عن عمر بن مصعب قال : سألت أبي عن قوله تعالى : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) (٢) هم الحرورية؟ قال : لا! هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكذّبوا

__________________

(١) سورة : هود ، الآيتان : ١١٨ ـ ١١٩.

(٢) سورة : الكهف ، الآية : ١٠٣.

٤٥

محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما النصارى فكذّبوا بالجنّة وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب. والحرورية : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) (١) ، وكان شعبة يسميهم الفاسقين.

وفي تفسير سعيد بن منصور ، عن مصعب بن سعد قال : قلت لأبي : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٢) ، أهم الحرورية؟ قال : لا! أولئك أصحاب الصوامع. ولكن الحرورية الذين قال الله فيهم : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٣).

وخرّج عبد بن حميد في تفسيره هذا المعنى بلفظ آخر عن مصعب بن سعد فأتى على هذه الآية : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) إلى قوله : (يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٤) ، قلت :

أهم الحرورية؟ قال : لا! هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب ، ولكن الحرورية : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) (٥).

فالأول : لأنهم خرجوا عن طريق الحق بشهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهم تأولوا التأويلات الفاسدة ، وكذا فعل المبتدعة وهو بابهم الذي دخلوا فيه.

والثاني : لأنهم تصرفوا في أحكام القرآن والسنّة هذا التصرف.

فأهل حروراء وغيرهم من الخوارج قطعوا قوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (٦) ، عن قوله : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٧) ، وكذا فعل سائر المبتدعة حسبما يأتيك بحول الله.

ومنه روى عمرو بن مهاجر قال : بلغ عمر بن عبد العزيز رحمه‌الله أن غيلان القدري

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٧.

(٢) سورة : الكهف ، الآية : ١٠٤.

(٣) سورة : الصف ، الآية : ٥.

(٤) سورة : الكهف ، الآيتان : ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٥) سورة : البقرة ، الآية : ٢٧.

(٦) سورة : الأنعام ، الآية : ٥٧.

(٧) سورة : المائدة ، الآية : ٩٥.

٤٦

يقول في القدر ، فبعث إليه فحجبه أياما ، ثم أدخله عليه فقال : يا غيلان! ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال عمرو بن مهاجر : فأشرت إليه ألا يقول شيئا. قال : فقال : نعم يا أمير المؤمنين إن الله عزوجل يقول : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً* إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً* إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (١). قال عمر : اقرأ إلى آخر السورة : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً* يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢). ثم قال : ما تقول يا غيلان؟ قال : أقول : قد كنت أعمى فبصرتني ، وأصم فأسمعتني ، وضالّا فهديتني. فقال عمر : اللهم إن كان عبدك غيلان صادقا وإلّا فاصله! قال فأمسك عن الكلام في القدر فولّاه عمر بن عبد العزيز دار الضرب (٣) بدمشق. فلما مات عمر بن عبد العزيز وأفضت الخلافة إلى هشام تكلم في القدر ، فبعث إليه هشام فقطع يده ، فمرّ به رجل والذباب على يده ، فقال : يا غيلان! هذا قضاء وقدر. قال : كذبت لعمر الله ما هذا قضاء ولا قدر ، فبعث إليه هشام فصلبه.

والثالث : لأن الحرورية جردوا السيوف على عباد الله وهو غاية الفساد في الأرض ، وذلك كثير من أهل البدع شائع ، وسائرهم يفسدون بوجوه من إيقاع العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام.

وهذه الأوصاف الثلاثة تقتضيها الفرقة التي نبّه عليها الكتاب والسنّة كقوله تعالى :

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) (٤). وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) (٥) ، وأشباه ذلك.

وفي الحديث : «إن الأمة تتفرق على بضع وسبعين فرقة» (٦).

__________________

(١) سورة : الإنسان ، الآيات : ١ ـ ٣.

(٢) سورة : الإنسان ، الآيتان : ٣٠ ـ ٣١.

(٣) دار الضرب : دار سك وطباعة النقود.

(٤) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٥.

(٥) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

(٦) تقدم تخريجه ص : ١٢ ، الحاشية : ٢.

٤٧

وهذا التفسير في الرواية الأولى لمصعب بن سعد أيضا فقد وافق أباه على المعنى المذكور.

ثم فسر سعد بن أبي وقاص في رواية سعيد بن منصور : إن ذلك بسبب الزيغ الحاصل فيهم ، وذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١) ، وهو راجع إلى آية آل عمران في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) (٢) الآية ، فإنه أدخل رضي الله عنه الحرورية في الآيتين بالمعنى ، وهو الزيغ في إحداها ، والأوصاف المذكورة في الأخرى لأنها فيهم موجودة ، فآية الرعد تشمل بلفظها ، لأن اللفظ فيها يقتضي العموم لغة ، وإن حملناها على الكفار خصوصا فهي تعطي أيضا فيهم حكما من جهة ترتيب الجزاء على الأوصاف المذكورة حسبما هو مبيّن في الأصول. وكذلك آية الصف لأنها خاصة بقوم موسى عليه‌السلام ، ومن هنا كان شعبة يسميهم الفاسقين ـ أعني : الحرورية ـ لأن معنى الآية واقع عليهم. وقد جاء فيها : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٣) ، والزيغ أيضا كان موجودا فيهم ، فدخلوا في معنى قوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٤) ، ومن هنا يفهم أنها لا تختص من أهل البدعة بالحرورية ، بل تعم كل من اتصف بتلك الأوصاف التي أصلها الزيغ ، وهو الميل عن الحق اتباعا للهوى. وإنما فسرها سعد رضي الله عنه بالحرورية لأنه إنما سئل عنهم على الخصوص والله أعلم ، لأنهم أول من ابتدع في دين الله ، فلا يقتضي ذلك تخصيصا.

وأما المسئول عنها أولا ، وهي آية الكهف ، فإن سعدا نفى أن تشمل الحرورية.

وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسر الأخسرين أعمالا بالحرورية أيضا ، فروى عبد بن حميد عن ابن الطفيل قال : قام ابن الكواء إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين! من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؟ قال :

__________________

(١) سورة : الصف ، الآية : ٥.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

(٣) سورة : الصف ، الآية : ٥.

(٤) سورة : الصف ، الآية : ٥.

٤٨

منهم أهل حروراء (١) وهو أيضا منقول في تفسير سفيان الثوري. وفي جامع ابن وهب أنه سأله عن الآية فقال له : ارق إليّ أخبرك ـ وكان على المنبر ـ فرقى إليه درجتين ، فتناوله بعصا كانت في يده ، فجعل يضربه بها ، ثم قال له علي : أنت وأصحابك. وخرج عبد بن حميد أيضا عن محمد بن جبير بن مطعم قال : أخبرني رجل من بني أود أن عليّا خطب الناس بالعراق وهو يسمع ، فصاح به ابن الكواء من أقصى المسجد فقال : يا أمير المؤمنين! من (الأخسرين أعمالا)؟ قال : أنت ، فقتل ابن الكواء يوم الخوارج. ونقل بعض أهل التفسير أن ابن الكواء سأله فقال : أنتم أهل الحروراء ، وأهل الرياء ، والذين يحبطون الصنيعة بالمنة. فالرواية الأولى تدل على أن أهل حروراء بعض من شملته الآية.

ولما قال سبحانه في وصفهم : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) ، وصفهم بالضلال مع ظن الاهتداء ، دل على أنهم المبتدعون في أعمالهم عموما ، كانوا من أهل الكتاب أولا ، من حيث قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل بدعة ضلالة» (٣) وسيأتي شرح ذلك بعون الله ، فقد يجتمع التفسيران في الآية : تفسير سعد بأنهم اليهود والنصارى ، وتفسير علي بأنهم أهل البدعة ، لأنهم قد اتفقوا على الابتداع ولذلك فسر كفر النصارى بأنهم تأولوا في الجنة غير ما هي عليه ، وهو التأويل بالرأي. فاجتمعت الآيات الثلاث على ذم البدعة ، وأشعر كلام سعد بن أبي وقاص بأن كل آية اقتضت وصفا من أوصاف المبتدعة فهم مقصدون بما فيها من الذم والخزي وسوء الجزاء إما بعموم اللفظ وإما بمعنى الوصف.

وروى ابن وهب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بكتاب في كتف (٤) فقال : «كفى بقوم حمقا ـ أو قال ضلالا ـ أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى غير نبيهم ، أو كتاب إلى غير كتابهم» (٥)

__________________

(١) حروراء : قرية بقرب الكوفة ، وقيل : موضع على ميلين من الكوفة ، نزل بها الخوارج الذين خالفوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(٢) سورة : الكهف ، الآية : ١٠٤.

(٣) تقدم تخريجه ص : ٣٣ ، الحاشية : ٢.

(٤) الكتف : عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان من الناس والدواب ، وكانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم.

(٥) عزاه القرطبي في تفسيره إلى أبي محمد الدارمي في مسنده.

٤٩

فنزلت : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) (١).

وخرج عبد الحميد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رغب عن سنتي فليس مني» (٢) ثم تلا هذه الآية : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٣) إلى آخر الآية.

وخرج هو وغيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قول الله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (٤) ، قال : ما قدمت من عمل خير أو شر ، وما أخرت من سنّة يعمل بها من بعده. وهذا التفسير قد يحتاج إلى تفسير ، فروي عن عبد الله قال : ما قدّمت من خير وما أخرت من سنة صالحة يعمل بها من بعدها ، فإن له مثل أجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، وما أخرت من سنة سيئة ، كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ، خرّجه ابن المبارك وغيره.

وجاء عن سفيان بن عيينة وأبي قلابة وغيرهما أنهم قالوا : كل صاحب بدعة أو فرية ذليل. واستدلوا بقول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (٥).

وخرّج ابن وهب عن مجاهد في قول الله : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) (٦).

يقول : ما قدّموا من خير ، وآثارهم التي أورثوا الناس بعدهم من الضلالة.

وخرّج أيضا عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين أنه قال : إني أرى أسرع الناس ردة ،

__________________

(١) سورة : العنكبوت ، الآية : ٥١.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٢٩ ، الحاشية : ٢.

(٣) سورة : آل عمران ، الآية : ٣١.

(٤) سورة : الانفطار ، الآية : ٥.

(٥) سورة : الأعراف ، الآية : ١٥٢.

(٦) سورة : يس ، الآية : ١٢.

٥٠

أصحاب الأهواء : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (١).

وذكر الآجري عن أبي الجوزاء أنه ذكر أصحاب الأهواء فقال : والذي نفس أبي الجوزاء بيده لأن تمتلئ داري قردة وخنازير أحب إليّ من أن يجاورني رجل منهم ، ولقد دخلوا في هذه الآية : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢).

والآيات المصرحة والمشيرة إلى ذمهم والنهي عن ملابسة أحوالهم كثيرة ، فلنقتصر على ما ذكرنا ، ففيه ـ إن شاء الله ـ الموعظة لمن اتعظ ، والشفاء لما في الصدور.

فصل

الوجه الثاني من النقل : ما جاء في الأحاديث المنقولة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي كثيرة تكاد تفوت الحصر إلا أنا نذكر منها ما تيسر مما يدل على الباقي ونتحرى في ذلك ـ بحول الله ـ ما هو أقرب إلى الصحة.

فمن ذلك ما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» (٣) وفي رواية لمسلم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» وهذا الحديث عدّه العلماء ثلث الإسلام ، لأنه جمع وجه المخالفة لأمره عليه‌السلام ، ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية.

وخرّج مسلم ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول في خطبته : «أما بعد فإن

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ٦٨.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ١١٩.

(٣) أخرجه البخاري تعليقا بصيغة الجزم في كتاب : البيوع ، باب : النجش (الحديث : ٤ / ٢٩٨) ووصله في كتاب : الصلح ، باب : إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (الحديث : ٥ / ٢٢١). وأخرجه مسلم في كتاب : الأقضية ، باب : نقض الأحكام الباطلة (الحديث : ١٧١٨). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : لزوم السنة (الحديث : ٢ / ٥٠٦). وأخرجه ابن ماجه في المقدمة ، باب : تعظيم حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الحديث : ١٤).

٥١

خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة» (١).

وفي رواية قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب الناس ، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول : «من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، وخير الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة».

وفي رواية للنسائي : «وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة في النار».

وذكر أن عمر رضي الله عنه كان يخطب بهذه الخطبة. وعن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا أنه كان يقول : «إنما هما اثنتان ـ الكلام والهدى ـ فأحسن الكلام كلام الله ، وأحسن الهدى هدى محمد ، ألا وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن شرّ الأمور محدثاتها ، إن كل محدثة بدعة». وفي لفظ : «غير أنكم ستحدثون ويحدث ويحدث لكم ، فكل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار» وكان ابن مسعود يخطب بهذا كل خميس.

وفي رواية أخرى عنه : «إنما هما اثنتان : الهدى والكلام ـ فأفضل الكلام ـ أو أصدق الكلام ـ كلام الله ، وأحسن الهدى هدى الله بل محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، ألا لا يتطاولن عليكم الأمر فتقسو قلوبكم ، ولا يلهينكم الأمل ، فإن كل ما هو آت قريب ، ألا إن بعيدا ما ليس آتيا».

وفي رواية أخرى عنه : «أحسن الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها ، و (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)» (٢).

وروى ابن ماجه مرفوعا عن ابن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم ومحدثات الأمور ، فإن شر الأمور محدثاتها ، وإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة» (٣) والمشهور أنه موقوف على ابن مسعود.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٣ ، الحاشية : ٢.

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ١٣٤.

(٣) تقدم تخريجه ص : ٣٣ ، الحاشية : ٢.

٥٢

وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» (١).

وفي الصحيح أيضا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «من سنّ سنة خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيء ومن سنّ سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيء» (٢) خرّجه الترمذي.

وروى الترمذي أيضا وصححه ، وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية قال : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. فقال قائل : يا رسول الله! كأن هذا موعظة مودع ، فما ذا تعهد إلينا؟ فقال : «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن كان عبدا حبشيّا ، فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» (٣) وروي على وجوه من طرق.

وفي الصحيح عن حذيفة أنه قال : يا رسول الله! هل بعد هذا الخير شر؟ قال : «نعم قوم يستنون بغير سنتي ، ويهتدون بغير هديي» قال : فقلت : هل بعد ذلك الشر من شر؟ قال : «نعم دعاة على نار جهنم من أجابهم قذفوه فيها» قلت : يا رسول الله! صفهم لنا. قال : «نعم ،

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب : العلم ، باب : من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (الحديث : ٢٦٧٤). وأخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : ما جاء فيمن دعا إلى هدى فأتبع أو إلى ضلالة (الحديث : ٢٦٧٤). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : لزوم السنة (الحديث : ٤٦٠٩). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : القرآن ، باب : العمل في الدعاء (الحديث : ١ / ٢١٨).

(٢) أخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : ما جاء فيمن دعا إلى هدى أو إلى ضلالة (الحديث : ٢٦٧٥). وأخرجه مسلم مطولا (الحديث : ١٠١٧).

(٣) تقدم تخريجه ص : ٣٣ ، الحاشية : ٣.

٥٣

هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا» قلت : فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال : «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» قلت : فإن لم يكن إمام ولا جماعة؟ قال : «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (١) وخرّجه البخاري على نحو آخر.

وفي حديث الصحيفة : «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور (٢) من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» (٣) وهذا الحديث في سياق العموم فيشمل كل حدث أحدث فيها مما ينافي الشرع ، والبدع من أقبح الحدث ، وقد استدل به مالك في مسألة تأتي في موضعها بحول الله ، وهو وإن كان مختصا بالمدينة فغيرها أيضا يدخل في المعنى.

وفي الموطأ من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى المقبرة ، فقال : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» الحديث ، إلى أن قال فيه : «فليذادنّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم : ألا هلمّ! ألا هلم! ألا هلم! فيقال : إنهم قد بدلوا بعدك. فأقول : فسحقا! فسحقا! فسحقا» (٤) حمله جماعة من العلماء على أنهم أهل

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : المناقب ، باب : علامات النبوة في الإسلام (الأحاديث : ٣٤١١ ، ٣٤١٢). وأخرجه مسلم في كتاب : الإمارة ، باب : وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن (الحديث : ١٨٤٧).

(٢) عير وثور : اسمان لجبلين ، وثور وراء جبل أحد.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : العلم ، باب : كتابة العلم ، وفي كتاب : الجهاد ، باب : فكاك الأسير ، وفي كتاب : الديات ، باب : العاقلة ، وباب : لا يقتل مسلم بكافر (الأحاديث : ١ / ١٨٢ ، ١٨٣). وأخرجه مسلم في كتاب : الحج ، باب : فضل المدينة ، وفي كتاب : العتق ، باب : تحريم تولي العتيق غير مواليه (الحديث : ١٣٧٠). وأخرجه أبو داود في كتاب : المناسك ، باب : في تحريم المدينة (الأحاديث : ٢٠٣٤ ، ٢٠٣٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : الولاء والهبة ، باب : ما جاء فيمن تولى غير مواليه أو ادعى لغير أبيه (الحديث : ٢١٢٨). وأخرجه النسائي في كتاب : القسامة ، باب : سقوط القود من المسلم للكافر (الحديث : ٨ / ٢٣).

(٤) أخرجه البخاري في كتاب : الوضوء ، باب : فضل الوضوء والغر المحجلون (الحديث : ١ / ٢٠٧). وأخرجه مسلم في كتاب : الطهارة ، باب : استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء (الحديث : ٢٤٩). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الطهارة ، باب : جامع الوضوء ـ

٥٤

البدع ، وحمله آخرون على المرتدين عن الإسلام. والذي يدل على الأول ما خرّجه خيثمة بن سليمان عن يزيد الرقاشي قال : سألت أنس بن مالك فقلت : إن هاهنا قوما يشهدون علينا بالكفر والشرك ، ويكذبون بالحوض والشفاعة ، فهل سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك شيئا؟ قال : نعم! سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «بين العبد والكفر ـ أو الشرك ـ ترك الصلاة ، فإذا تركها فقد أشرك ، وحوضي كما بين أيلة (١) إلى مكة أباريقه كنجوم السماء ـ أو قال : كعدد نجوم السماء ـ له ميزابان من الجنة ، كلما نضب أمداه ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا ، وسيرده أقوام ذابلة شفاههم فلا يطعمون منه قطرة واحدة ، من كذب به اليوم لم يصب منه الشراب يومئذ» (٢) فهذا الحديث على أنهم من أهل القبلة ، فنسبتهم أهل الإسلام إلى الكفر من أوصاف الخوارج ، والتكذيب بالحوض من أوصاف أهل الاعتزال وغيرهم ، مع ما في حديث الموطأ من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا هلمّ» لأنه عرفهم بالغرة والتحجيل الذي جعله من خصائص أمته ، وإلا فلو لم يكونوا من الأمة لم يعرفهم بالعلامة المذكورة.

وصح من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالموعظة فقال : «إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (٣). ـ قال ـ أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ، وإنه يستدعى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول كما قال العبد الصالح : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤) ، فيقال : هؤلاء لم

__________________

ـ (الأحاديث : ١ / ٢٨ ، ٣٠). وأخرجه النسائي في كتاب : الطهارة ، باب : حلية الوضوء (الأحاديث : ١ / ٩٣ ، ٩٤).

(١) أيلة : مدينة على الساحل في بحر القلزم مما يلي الشام ، وقيل هي آخر الحجاز وأول الشام.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب : الإيمان ، باب : بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (الحديث : ٨٢). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : ما جاء في رد الإرجاء (الحديث : ٤٦٧٨). وأخرجه الترمذي في كتاب : الإيمان ، باب : ما جاء في ترك الصلاة (الحديث : ٢٦٢٢).

(٣) سورة : الأنبياء ، الآية : ١٠٤.

(٤) سورة : المائدة ، الآيتان : ١١٧ ـ ١١٨.

٥٥

يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» (١) ، ويحتمل هذا الحديث أن يراد به أهل البدع كحديث الموطأ ، ويحتمل أن يراد به من ارتد بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (٢) حسن صحيح.

وفي الحديث روايات أخرى سيأتي ذكرها والكلام عليها إن شاء الله ، ولكن الفرق فيها عند أكثر العلماء فرق أهل البدع. وفي الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» (٣) وهو آت على وجوه كثيرة في البخاري وغيره.

وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : «من سرّه أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن ، فإن الله عزوجل شرع لنبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لضللتم» (٤) الحديث.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : التفسير ، سورة الأنبياء ، باب : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا) (الحديث : ٤٤٦٣). وأخرجه أحمد في المسند (١ / ٢٢٠). وأخرجه مسلم والنسائي.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٤٧ ، الحاشية : ٦.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : العلم ، باب : كيف يقبض العلم ، وفي كتاب : الاعتصام ، باب : ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس (الأحاديث : ١ / ١٧٤ ، ١٧٥). وأخرجه مسلم في كتاب : العلم ، باب : في رفع العلم وقبضه (الحديث : ٢٦٧٣). وأخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : ما جاء في ذهب العلم (الحديث : ٢٦٥٢). وأخرجه ابن ماجه في المقدمة باب : اجتناب الرأي والقياس (الحديث : ٥٢).

(٤) أخرجه مسلم في كتاب : المساجد ، باب : صلاة الجماعة من سنن الهدى (الحديث : ٦٢٤). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : في التشديد في ترك الجماعة (الحديث : ٥٥٠). وأخرجه النسائي في كتاب : الإمامة ، باب : المحافظة على الصلوات حين ينادى بهن (الأحاديث : ٢ / ١٠٨ ، ١٠٩).

٥٦

فتأملوا كيف جعل ترك السنة ضلالة! وفي رواية : «لو تركتم سنة نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكفرتم» وهو أشد في التحذير.

وفيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ـ وفي رواية فيه الهدى ـ من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ، ومن أخطأه ضلّ ، وفي رواية : من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة» (١).

ومما جاء في هذا الباب أيضا ما خرّج ابن وضاح ونحوه لابن وهب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سيكون في أمتي دجالون كذّابون يأتونكم ببدع من الحديث لم تسمعوه أنتم ولا آباؤهم ، فإياكم إياهم لا يفتنونكم» (٢).

وفي الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من أحيا سنّة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا» (٣) حديث حسن.

ولابن وضاح وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها : «من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام» (٤).

وعن الحسن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك».

وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «من اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني» (٥).

__________________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب : المناقب ، باب : ٧٧ (الحديث : ٣٧٩٠).

(٢) أخرجه مسلم في المقدمة ، باب : النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها (الحديث : ٦).

(٣) تقدم تخريجه ص : ١٩ ، الحاشية : ١.

(٤) أورده الذهبي في ميزان الاعتدال مرفوعا عن ابن عباس (١ / ٣٥٥).

(٥) تقدم تخريجه ص : ٢٩ ، الحاشية : ٢.

٥٧

وخرّج الطحاوي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ستة ألعنهم لعنهم الله وكل نبيّ مجاب : الزائد في دين الله ، والمكذّب بقدر الله ، والمتسلط بالجبروت يذل به من أعز الله ويعز به من أذل الله ، والتارك لسنتي ، والمستحل لحرم الله ، والمستحل من عترتي ما حرم الله» (١).

وفي رواية أبي بكر بن ثابت الخطيب : «ستة لعنهم الله ولعنتهم» وفيه : «والراغب عن سنتي إلى بدعة».

وفي الطحاوي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن لكل عابد شرّة ولكل شرة فترة فإما إلى سنّة وإما إلى بدعة ، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك» (٢).

وفي معجم البغوي عن مجاهد قال : دخلت أنا وأبو يحيى بن جعدة على رجل من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ذكروا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مولاة لبني عبد المطلب فقالوا : إنها قامت الليل وصامت النهار فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكني أنام وأصلي ، وأصوم وأفطر ، فمن اقتدى بي فهو مني ، ومن رغب عن سنتي فليس مني ، إن لكل عامل شرّة ثم فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضلّ ، ومن كانت فترته إلى سنّة فقد اهتدى» (٣).

وعن وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي ، وإمام ضلالة وممثل من المسلمين» (٤).

__________________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب : القدر ، باب : (١٧) (الحديث : ٢١٥٥). وأخرجه الحاكم (١ / ٣٦) وصححه ووافقه الذهبي.

(٢) أخرج الترمذي نحوه في كتاب : صفة القيامة ، باب : (٢١) (الحديث : ٢٤٥٣). وصححه ابن حبان (الحديث : ٢٥١٨) موارد.

(٣) تقدم تخريجه في الحديث الذي قبله.

(٤) أخرج نحوه البخاري في كتاب : اللباس ، باب : عذاب المصورين يوم القيامة (الأحاديث : ١٠ / ٣٢١ ، ٣٢٢). وأخرج نحوه مسلم في كتاب : اللباس ، باب : تحريم تصوير ـ

٥٨

وفي منتقى حديث خيثمة ، عن سليمان ، عن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فيحدثون البدعة» ، قال عبد الله بن مسعود : فكيف أصنع إذا أدركتهم؟ قال : «تسألني يا ابن أمّ عبد الله كيف تصنع؟ لا طاعة لمن عصى الله» (١).

وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أكل طيبا وعمل في سنة وأمن الناس بوائقه دخل الجنة» فقال رجل : يا رسول الله! إن هذا اليوم في الناس لكثير ، قال : «وسيكون في قرون بعدي» (٢) حديث غريب.

وفي كتاب الطحاوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كيف بكم وبزمان ـ أو قال : يوشك أن يأتي زمان ـ يغربل الناس فيه غربلة ، وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، اختلفوا فصارت هكذا» ـ وشبك بين أصابعه ـ قالوا : وكيف بنا يا رسول الله؟ قال : «تأخذون بما تعرفون ، وتذرون ما تنكرون ، وتقبلون على أمر خاصتكم ، وتذرون أمر عامتكم» (٣).

وخرّج ابن وهب مرسلا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم والشعاب» قالوا : وما الشعاب يا رسول الله؟ قال : «الأهواء» (٤).

وخرّج أيضا : «إن الله ليدخل العبد الجنة بالسنّة يتمسك بها». وفي كتاب السنّة للآجري من طريق الوليد بن مسلم عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا حدث في

__________________

ـ صورة حيوان (الحديث : ٢١٠٩). وأخرج نحوه النسائي في كتاب : الزينة ، باب : أشد الناس عذابا (الحديث : ٨ / ٢١٦).

(١) أخرج نحوه أبو داود (الحديث : ٤٣٢).

(٢) أخرجه الترمذي في كتاب : صفة القيامة ، باب : ٦٠ (الحديث : ٢٥٢٠).

(٣) أخرجه أحمد في مسنده (٢ / ٢٢١). وأخرجه أبو داود في كتاب : الملاحم ، باب : الأمر والنهي (الحديث : ٤٣٤٢). وأخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب : الفتن ، باب : التثبت في الفتنة (الحديث : ٣٩٥٧).

(٤) عزاه في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي إلى سند الإمام أحمد بن حنبل (المعجم ٣ / ١٣٣).

٥٩

أمتي البدع وشتم أصحابي ، فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

قال عبد الله بن الحسن : فقلت للوليد بن مسلم : ما إظهار العلم؟ قال : إظهار السنة. والأحاديث كثيرة.

وليعلم الموفق أن بعض ما ذكر من الأحاديث يقصر عن رتبة الصحيح وإنما أتى بها عملا بما أصّله المحدثون في أحاديث الترغيب والترهيب ، إذ قد ثبت ذم البدع وأهلها بالدليل القاطع القرآني والدليل السني الصحيح ، فما زيد من غيره فلا حرج في الإتيان به إن شاء الله.

فصل

الوجه الثالث من النقل : ما جاء عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في ذم البدع وأهلها وهو كثير.

فما جاء عن الصحابة ما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال : أيها الناس! قد سنّت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتم على الواضحة ، إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا ، وصفق بإحدى يديه على الأخرى ، ثم قال : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ـ أن يقول قائل : لا نجد حدين في كتاب الله ، فقد رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا ـ إلى آخر الحديث.

وفي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : «يا معشر القراء ، استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا ، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا» (١).

وروي عنه من طريق آخر أنه كان يدخل المسجد فيقف على الخلق فيقول : «يا معشر القراء ، اسلكوا الطريق فلئن سلكتموها لقد سبقتم سبقا بعيدا ، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا» (٢). وفي رواية ابن المبارك : «فو الله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا» الحديث.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الاعتصام ، باب : الاقتداء بسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الحديث : ١٣ / ٢١٧).

(٢) تقدم تخريجه في الحديث الذي قبله.

٦٠