الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

الأديان دون دين الإسلام ، لكن الحديث بين أنه واقع في الأمة أيضا ، فانتظمته الآية بلا إشكال.

فإذا تقرر هذا ظهر به أن التعيين للفرقة الناجية بالنسبة إليها اجتهادي لا ينقطع الخلاف فيه ، وإن ادّعي فيه القطع دون الظن فهو نظري لا ضروري ولكنا مع ذلك نسلك في المسألة ـ بحول الله ـ مسلكا وسطا يذعن إلى قبوله عقل الموفق ويقر بصحته العالم بكليات الشريعة وجزئياتها ، والله الموفق للصواب. فنقول :

لا بدّ من تقديم مقدمة قبل الشروع في المطلوب ، وذلك أن الإحداث في الشريعة إنما يقع إما من جهة الجهل ، وإما من جهة تحسين الظن بالعقل ، وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق ، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنّة ، وقد مرّ في ذلك ما يؤخذ منه شواهد المسألة ، إلا أن الجهات الثلاث قد تنفرد وقد تجتمع ، فإذا اجتمعت فتارة تجتمع منها اثنتان وتارة تجتمع الثلاث ، فأما جهة الجهل فتارة تتعلق بالأدوات التي بها تفهم المقاصد ، وتارة تتعلق بالمقاصد ، وأما جهة تحسين الظن فتارة يشرك في التشريع مع الشرع ، وتارة يقدم عليه ، وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد ، وأما جهة اتباع الهوى ، فمن شأنه أن يغلب الفهم حتى يغلب صاحبه الأدلة أو يستند إلى غير دليل ، وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد ، فالجميع أربعة أنواع : وهي الجهل بأدوات الفهم والجهل بالمقاصد ، وتحسين الظن بالعقل ، واتباع الهوى. فلنتكلم على كل واحد منها وبالله التوفيق.

النوع الأول :

إن الله عزوجل أنزل القرآن عربيا لا عجمة فيه ، بمعنى أنه جار في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب ، قال الله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (١) وقال تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (٢) وقال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٣) وكان المنزل عليه القرآن عربيّا أفصح من نطق

__________________

(١) سورة : الزخرف ، الآية : ٣.

(٢) سورة : الزمر ، الآية : ٢٨.

(٣) سورة : الشعراء ، الآيات : ١٩٣ ـ ١٩٥.

٥٤١

بالضاد وهو محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان الذين بعث فيهم عربا أيضا ، فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم ، فليس فيه شيء من الألفاظ والمعاني إلا وهو جار على ما اعتادوه ، ولم يداخله شيء بل نفى عنه أن يكون فيه شيء أعجمي فقال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١).

وقال تعالى في موضع آخر : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) (٢).

هذا وإن كان بعث للناس كافة فإن الله جعل جميع الأمم وعامة الألسنة في هذا الأمر تبعا للسان العرب ، وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله تعالى إلا من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها.

وأما ألفاظها فظاهرة للعيان ، وأما معانيها وأساليبها فكان مما يعرف من معانيها اتساع لسانها ، وأن تخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به الظاهر ، ويستغني بأوله عن آخره ، وعامّا ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص ، ويستدل على هذا ببعض الكلام ، وعامّا ظاهرا يراد به الخاص ، وظاهرا يعرف في سياقه أن المراد به غير ذلك الظاهر ، والعلم بهذا كله موجود في أول الكلام أو وسطه أو آخره.

وتبتدئ الشيء من كلامها بين أول اللفظ فيه عن آخره ، أو بين آخره عن أوله ، ويتكلّم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة ، وهذا عندها من أفصح كلامها ، لانفرادها بعلمه دون غيرها ممن يجهله ، وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة ، وتوقع اللفظ الواحد للمعاني الكثيرة.

فهذه كلها معروفة عندها وتستنكر عند غيرها ، إلى غير ذلك من التصرفات التي يعرفها من زوال كلامهم وكانت له به معرفة وثبت رسوخه في علم ذلك.

فمثال ذلك أن الله تعالى خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ، وقال تعالى : (وَما

__________________

(١) سورة : النحل ، الآية : ١٠٣.

(٢) سورة : فصلت ، الآية : ٤٤.

٥٤٢

مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (١) فهذا من العام الظاهر الذي لا خصوص فيه فإن كل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك فالله خلقه ، وكل دابة على الله رزقها ، (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) (٢).

وقال الله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) (٣) فقوله : ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ، إنما أريد به من أطاق ومن لم يطق فهو عام المعنى ، وقوله : ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، عام فيمن أطاق ومن لم يطق ، فهو عام المعنى.

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) (٤) فهذا من العام المراد به الخاص ، لأنهما لم يستطعما جميع أهل القرية.

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) (٥) فهذا عام لم يخرج عنه أحد من الناس ، وقال إثر هذا : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٦) فهذا خاص ، لأن التقوى إنما تكون على من عقلها من البالغين.

وقال تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) (٧) فالمراد بالناس الثاني الخصوص لا العموم ، وإلا فالمجموع لهم الناس ناس أيضا وهم قد خرجوا ، لكن لفظ الناس يقع على ثلاثة منهم ، وعلى جميع الناس ؛ وعلى ما بين ذلك ، فيصح أن يقال : إن الناس قد جمعوا لكم ، والناس الأول القائلون كانوا أربعة نفر.

__________________

(١) سورة : هود ، الآية : ٦.

(٢) سورة : هود ، الآية : ٦.

(٣) سورة : التوبة ، الآية : ١٢٠.

(٤) سورة : الكهف ، الآية : ٧٧.

(٥) سورة : الحجرات ، الآية : ١٣.

(٦) سورة : الحجرات ، الآية : ١٣.

(٧) سورة : آل عمران ، الآية : ١٧٣.

٥٤٣

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) (١) فالمراد بالناس هنا الذين اتخذوا من دون الله إلها ، دون الأطفال والمجانين والمؤمنين.

وقال تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) (٢) فظاهر السؤال عن القرية نفسها ، وسياق قوله تعالى : (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) (٣) إلى آخر الآية يدل على أن المراد أهلها لأن القرية لا تعدو ولا تفسق.

وكذلك قوله تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) (٤) الآية ، فإنه لما قال :

«كانت ظالمة» دلّ على أن المراد أهلها.

وقال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) (٥) الآية ، فالمعنى بيّن أن المراد أهل القرية ، ولا يختلف أهل العلم باللسان في ذلك ، لأن القرية والعير لا يخبران بصدقهم.

هذا كله معنى تقرير الشافعي رحمه‌الله في هذه التصرفات الثابتة للعرب وهو بالجملة مبين أن القرآن لا يفهم إلا عليه ، وإنما أتى الشافعي بالنوع الأغمض من طرائق العرب ، لأن سائر أنواع التصرفات العربية قد بسطها أهلها ، وهم أهل النحو والتصريف ، وأهل المعاني والبيان ، وأهل الاشتقاق وشرح مفردات اللغة ، وأهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال ، فجميعه نزل به القرآن ، ولذلك أطلق عليه عبارة «العربي».

فإذا ثبت هذا فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولا وفروعا أمران :

أحدهما : أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا ، أو كالعربي في كونه عارفا بلسان العرب ، بالغا فيه مبالغ العرب ، أو مبالغ الأئمة المتقدمين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم ، وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم وجامعا

__________________

(١) سورة : الحج ، الآية : ٧٣.

(٢) سورة : الأعراف ، الآية : ١٦٣.

(٣) سورة : الأعراف ، الآية : ١٦٣.

(٤) سورة : الأنبياء ، الآية : ١١.

(٥) سورة : يوسف ، الآية : ٨٢.

٥٤٤

كجمعهم ، وإنما المراد أن يصير فهمه عربيّا في الجملة ، وبذلك امتاز المتقدمون من علماء العربية على المتأخرين ، إذ بهذا المعنى أخذوا أنفسهم حتى صاروا أئمة ، فإن لم يبلغ ذلك فحسبه في فهم معاني القرآن التقليد ، ولا يحسن ظنه بفهمه دون أن أن يسأل فيه أهل العلم به.

قال الشافعي لما قرر معنى ما تقدم : فمن جهل هذا من لسانها : يعني : لسان العرب ـ وبلسانها نزل القرآن وجاءت السنّة به ـ فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل لفظه ، ومن تكلف ما جهل وما لم يثبته معرفة كانت موافقته للصواب ـ إن وافقه ـ من حيث لا يعرفه غير محمودة ، وكان في تخطئته غير معذور ، إذ نظر فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه.

وما قاله حق ، فإن القول في القرآن والسنّة بغير علم تكلف ـ وقد نهينا عن التكلف ـ ودخول تحت معنى الحديث ، حيث قال عليه الصلاة والسلام : «حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا» (١) الحديث ، لأنهم إذا لم يكن لهم لسان عربي يرجعون إليه في كتاب الله وسنّة نبيه رجع الأعجمي إلى فهمه وعقله المجرد عن التمسك بدليل يضل عن الجادة.

وقد خرّج ابن وهب عن الحسن أنه قيل له : أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ، ويصلح بها منطقه؟ قال : نعم! فليتعلمها ، فإن الرجل يقرأ فيعيى بوجهها فيهلك.

وعن الحسن قال : أهلكتهم العجمة ، يتأولون على غير تأويله.

والأمر الثاني : أنه إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ أو معنى فلا يقدم على القول فيه دون أن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية ، فقد يكون إماما فيها ، ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات ، فالأولى في حقه الاحتياط ، إذ قد يذهب على العربي المحض بعض المعاني الخاصة حتى يسأل عنها .. وقد نقل شيء من هذا ... عن الصحابة ـ وهم العرب ـ فكيف بغيرهم.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٧٠ ، الحاشية : ١.

٥٤٥

نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كنت لا أدري ما (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها. أي : أنا ابتدأتها.

وفيما يروى عن عمر رضي الله عنه أنه سأل وهو على المنبر عن معنى قوله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) (٢) فأخبره رجل من هذيل أن التخوف عندهم هو التنقص وأشباه ذلك كثيرة.

قال الشافعي : لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا ، وأكثرها ألفاظا.

قال : ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي. ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه ـ قال ـ والعلم به عند العرب كالعلم بالسنّة عند أهل العلم لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها على شيء ، فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن ، وإذا فرق كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها ، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره ممن كان في طبقته وأهل علمه قال ، وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها لا يذهب منه شيء عليها ، ولا يطلب عند غيرها ، ولا يعلمه إلا من نقله عنها ، ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها ، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها ، وإنما صار غيرهم من غير أهله لتركه فإذا صار إليه صار من أهله.

هذا ما قال ولا يخالف فيه أحد ، فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي به أدّيت ، وأن لا يحسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل علم العربية بأنه يستحق النظر ، وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها ، فإن ثبت على هذه الوصاة كان ـ إن شاء الله ـ موافقا لما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام.

روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : قلنا : يا رسول الله! من خير الناس؟ قال : «ذو القلب المهموم ، واللسان الصادق» ، قلنا : قد عرفنا اللسان الصادق ، فما

__________________

(١) سورة : فاطر ، الآية : ١.

(٢) سورة : النحل ، الآية : ٤٧.

٥٤٦

ذو القلب المهموم؟ قال : «هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا حسد» ، قلنا : فمن على أثره؟ قال : «الذي ينسى الدنيا ويحب الآخرة». قلنا : ما نعرف هذا فينا إلا رافعا مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قلنا : فمن على أثره؟ قال : مؤمن في خلق حسن» (١) قلنا : أما هذا فإنه فينا.

ويروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءه رجل فقال : يا رسول الله! أيدالك الرجل امرأته؟ قال : «نعم إذا كان ملفجا» فقال له أبو بكر رضي الله عنه : ما قلت وما قال لك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم؟ فقال : «قال : أيماطل الرجل امرأته؟ قلت : نعم إذا كان فقيرا» فقال أبو بكر : ما رأيت الذي هو أفصح منك يا رسول الله فقال : «وكيف لا وأنا من قريش ، وأرضعت في بني سعد؟» (٢).

فهذه أدلة تدل على أن بعض اللغة يعزب عن علم بعض العرب ، فالواجب السؤال كما سألوا فيكون على ما كانوا عليه ، وإلّا زلّ فقال في الشريعة برأيه لا بلسانها.

ولنذكر لذلك ستة أمثلة :

أحدها : قول جابر الجعفي في قوله تعالى : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) (٣) أن تأويل هذه الآية لم يجيء بعد ـ وكذب ـ فإنه أراد بذلك مذهب الرافضة ، فإنها تقول : إن عليّا في السحاب فلا يخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي علي من السماء : اخرجوا مع فلان فهذا معنى قوله تعالى : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) الآية ، عند جابر حسبما فسّره سفيان من قوله : لم يجيء بعد.

بل هذه الآية كانت في إخوة يوسف ، وقع ذلك في مقدمة كتاب مسلم ، ومن كان ذا عقل فلا يرتاب في أن سياق القرآن دال على ما قال سفيان ، وأن ما قاله جابر لا ينساق.

والثاني : قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع من الحلائل مستدلا بقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (٤) لأن أربعا إلى ثلاث إلى اثنتين

__________________

(١) أخرج نحوه في كنز العمال في كتاب : الفتن (الحديث : ٣٠٩٨٧).

(٢) رواه السرقسطي ووثقه الترمذي في السنن.

(٣) سورة : يوسف ، الآية : ٨٠.

(٤) سورة : النساء ، الآية : ٣.

٥٤٧

تسع ، ولم يشعر بمعنى فعال ومفعل في كلام العرب وأن معنى الآية : فانكحوا إن شئتم اثنتين اثنتين أو ثلاثا ثلاثا أو أربعا أربعا على التفصيل لا على ما قالوا.

والثالث : قول من زعم أن المحرّم من الخنزير إنما هو اللحم ، وأما الشحم فحلال لأن القرآن إنما حرّم اللحم دون الشحم ، ولو عرف أن اللحم يطلق على الشحم أيضا بخلاف الشحم فإنه لا يطلق على اللحم لم يقل ما قال.

والرابع : قول من قال : إن كل شيء فان حتى ذات الباري ـ تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا ـ ما عد الوجه بدليل (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١) وإنما المراد بالوجه هنا غير ما قال ، فإن للمفسرين فيه تأويلات وقصد هذا القائل ما لا يتجه لغة ولا معنى ، وأقرب قول لقصد هذا المسكين أن يراد به ذو الوجه كما تقول : فعلت هذا لوجه فلان أي : لفلان ، فكان معنى الآية : كل شيء هالك إلا هو. وقوله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) (٢) ومثله قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ* وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٣).

والخامس : قول من زعم ، أن لله سبحانه وتعالى جنبا ، مستدلا بقوله : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (٤) وهذا لا معنى للجنب فيه لا حقيقة ولا مجازا ، لأن العرب تقول : هذا الأمر يصغر في جنب هذا ، أي يصغر بالإضافة إلى الآخر ، فكذلك الآية معناها : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ، أي : فيما بيني وبين الله ، إذ أضفت تفريطي إلى أمره ونهيه إياي.

والسادس : قول من قال في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» (٥) إن

__________________

(١) سورة : القصص ، الآية : ٨٨.

(٢) سورة : الإنسان ، الآية : ٩.

(٣) سورة : الرحمن ، الآيتان : ٢٦ ـ ٢٧.

(٤) سورة : الزمر ، الآية : ٥٦.

(٥) أخرج نحوه ولكن بحديث قدسي في البخاري كتاب : الأدب ، باب : لا تسبوا الدهر ، وفي كتاب : تفسير سورة الجاثية ، وفي كتاب : التوحيد ، باب : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) ـ

٥٤٨

هذا الذي في الحديث هو مذهب الدهرية ، ولم يعرف أن المعنى : لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصائب ، ولا تنسبوها إليه ، فإن الله هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر ، فإنكم إذا سببتم الدهر وقع السب على الفاعل لا على الدهر ، لأن العرب كان من عادتها في الجاهلية أن تنسب الأفعال إلى الدهر فتقول : أصابه الدهر في ماله ، ونابته قوارع الدهر ومصائبه ، فينسبون إلى كل شيء تجري به أقدار الله تعالى عليهم إلى الدهر ، فيقولون : لعن الله الدهر ، ومحا الله الدهر ، وأشباه ذلك ، وإنما يسبونه لأجل الفعال المنسوبة إليه ، فكأنهم إنما سبوا الفاعل ، والفاعل هو الله وحده ، فكأنهم يسبونه سبحانه وتعالى.

فقد ظهر بهذه الأمثلة كيف يقع الخطأ في العربية في كلام الله سبحانه وتعالى وسنّة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن ذلك يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، والصحابة رضوان الله عليهم برآء من ذلك ، لأنهم عرب لم يحتاجون في فهم كلام الله تعالى إلى أدوات ولا تعلم ، ثم من جاء بعدهم ممن ليس بعربي اللسان تكلف ذلك حتى علمه ، وحينئذ داخل القوم في فهم الشريعة وتنزيلها على ما ينبغي فيها كسلمان الفارسي وغيره ، فكل من اقتدى بهم في تنزيل الكتاب والسنّة على العربية ـ إن أراد أن يكون من أهل الاجتهاد فهو ـ إن شاء الله ـ داخل في سوادهم الأعظم ، كائن على ما كانوا عليه ، فانتظم في سلك الناجية.

فصل النوع الثاني :

إن الله تعالى أنزل الشريعة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها ، وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم ، ولم يمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى بذلك حيث قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) فكل من زعم أنه بقي في الدين

__________________

ـ (الحديث : ١٠ / ٤٦٥). ومسلم في كتاب : الألفاظ ، باب : النهي عن سب الدهر (الحديث : ٢٢٤٦). والإمام مالك في الموطأ في كتاب : الكلام ، باب : ما يكره من الكلام (الحديث : ٢ / ٩٨٤). وأبو داود في كتاب : الأدب ، باب : في الرجل يسب الدهر (الحديث : ٥٢٧٤).

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٣.

٥٤٩

شيء لم يكمل فقد كذب بقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١).

فلا يقال : قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نصّ عليه ، ولا عموم ينتظمه ، وأن مسائل الجد في الفرائض ، والحرام في الطلاق ، ومسألة الساقط على جريح محفوف بجرحى ، وسائر المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها من كتاب لا سنة فأين الكلام فيها؟

فيقال في الجواب : أولا أن قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) إن اعتبرت فيها الجزئيات من المسائل والنوازل فهو كما أوردتم ، ولكن المراد كلياتها ، فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان ، نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولا إلى نظر المجتهد ، فإن قاعدة الاجتهاد أيضا ثابتة في الكتاب والسنّة ، فلا بد من إعمالها ، ولا يسع الناس تركها ، وإذا ثبت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالا للاجتهاد ، ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نصّ فيه ، ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل ، فالجزئيات لا نهاية لها ، فلا تنحصر بمرسوم ، وقد نص العلماء على هذا المعنى ، فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل.

ثم نقول ثانيا : إن النظر في كمالها بحسب خصوص الجزئيات يؤدي إلى الإشكال والالتباس ، وإلا فهو الذي أدى إلى إيراد هذا السؤال ، إذا لو نظر السائل إلى الحالة التي وضعت عليها الشريعة ، وهي حالة الكلية لم يورد سؤاله ، لأنها موضوعة على الأبدية ، وإن وضعت الدنيا على الزوال والنهاية.

وأما الجزئية : فموضوعة على النهاية المؤدية إلى الحصر في التفصيل ، وإذ ذاك قد يتوهّم أنها لم تكمل فيكون خلافا لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٢) الآية ، ولا شك أن كلام الله هو الصادق ، وما خالفه فهو المخالف ، فظاهر إذ ذاك أن الآية على عمومها وإطلاقها ،

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٣.

(٢) سورة : النحل ، الآية : ٨٩.

٥٥٠

وأن النوازل التي لا عهد بها لا تؤثر في صحة هذا الكمال لأنها إما محتاج إليها وإما غير محتاج إليها ، فإن كانت محتاجا إليها فهي مسائل الاجتهاد الجارية على الأصول الشرعية فأحكامها قد تقدمت ، ولم يبق إلا منظر المجتهد إلى أي دليل يستند خاصة وإن كانت غير محتاج إليها ، فهي البدع المحدثات ، إذ لو كانت محتاجا إليها لما سكت عنها في الشرع ، لكنها مسكوت عنها بالفرض ولا دليل عليها فيه كما تقدم ، فليست بمحتاج إليها ، فعلى كل تقدير قد كمل الدين والحمد لله.

ومن الدليل على أن هذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم ، أنهم لم يسمع عنهم قط إيراد ذلك السؤال ، ولا قال أحد منهم : لم لم ينص على حكم الجد مع الإخوة؟ وعلى حكم من قال لزوجته : أنت عليّ حرام؟ وأشباه ذلك مما لم يجدوا فيه عن الشارع نصا ، بل قالوا فيها وحكموا بالاجتهاد ، واعتبروا بمعان شرعية ترجع في التحصيل إلى الكتاب والسنّة ، وإن لم يكن ذلك بالنص فإنه بالمعنى ، فقد ظهر إذا وجه كمال الدين على أتم الوجوه.

وننتقل منه إلى معنى آخر ، وهو أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن مبرّأ عن الاختلاف والتضادّ ، ليحصل فيه كمال التدبر والاعتبار ، فقال سبحانه وتعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١) فدلّ معنى الآية على أنه بريء من الاختلاف ، فهو يصدّق بعضه بعضا ، ويعضد بعضه بعضا ، من جهة اللفظ ومن جهة المعنى.

فأما جهة اللفظ : فإن الفصاحة فيه متواترة مطّردة ، بخلاف كلام المخلوق.

فإنك تراه إلى الاختلاف ما هو فيأتي بالفصل من الكلام الجزل الفصيح فلا يكاد يختمه إلا وقد عرض له في أثنائه ما نقص من منصب فصاحته ، وهكذا تجد القصيدة الواحدة ، منها ما يكون على نسق الفصاحة اللائقة ، ومنها ما لا يكون كذلك.

وأما جهة المعنى : فإن معاني القرآن على كثرتها أو على تكرارها بحسب مقتضيات الأحوال على حفظ وبلوغ غاية في إيصالها إلى غايتها من غير إخلال بشيء منها ، ولا تضادّ

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٨٢.

٥٥١

ولا تعارض ، على وجه لا سبيل إلى البشر أن يدانوه ، ولذلك لما سمعته أهل البلاغة الأولى والفصاحة الأصلية ـ وهم العرب ـ لم يعارضوه ، ولم يغيّروا في وجه إعجازه بشيء مما نفى الله تعالى عنه ، وهم أحرص ما كانوا على الاعتراض فيه والغضّ من جانبه ، ثم لما أسلموا وعاينوا معانيه وتفكروا في غرائبه ، لم يزدهم البحث إلا بصيرة في أنه لا اختلاف فيه ولا تعارض ، والذي نقل من ذلك يسير توقفوا فيه توقف المسترشد حتى يرشدوا إلى وجه الصواب ، أو توقف المتثبت في الطريق.

وقد صحّ أن سهل بن حنيف قال يوم صفين وحكم الحكمين : يا أيها الناس اتهموا رأيكم ، فلقد رأيتنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره لرددناه ، وأيم الله ما وضعنا سيوفنا من على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا أمر نعرفه الحديث.

فوجد الشاهد منه أمران : قوله : اتهموا الرأي ، فإن معارضة الظواهر في غالب الأمر رأي غير مبني على أصل يرجع إليه ، وقوله في الحديث ـ وهو النكتة في الباب ـ : والله وما وضعنا سيوفنا إلى آخره ، فإن معناه : أن كل ما ورد عليهم في شرع الله مما يصادم الرأي فإنه حق يتبين على التدريج حتى يظهر فساد ذلك الرأي ، وأنه كان شبهة عرضت وإشكالا ينبغي أن لا يلتفت إليه ، بل يتهم أولا ويعتمد على ما جاء في الشرع ، فإنه إن لم يتبين اليوم تبين غدا ، ولو فرض أنه لا يتبين أبدا فلا حرج ، فإنه متمسك بالعروة الوثقى.

وفي الصحيح عن عمر رضي الله عنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستمعت لقراءته ، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكدت أساوره في الصلاة ، فصبرت حتى سلم ، فلببته بردائه ، فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ ... فقال : أقرأنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : كذبت ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرسله ، اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذلك أنزلت ـ ثم قال ـ اقرأ يا عمر! ـ القراءة التي أقرأني فقال ـ : «كذلك

٥٥٢

أنزلت ، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فاقرءوا ما تيسر منه» (١).

وهذه المسألة إنما هي إشكال وقع لبعض الصحابة في نقل الشرع بيّن لهم جوابه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن ذلك دليلا على أن فيه اختلافا ، فإن الاختلاف بين المكلفين في بعض معانيه أو مسائله لا يستلزم أن يكون فيه نفسه اختلاف ، فقد اختلفت الأمم في النبوات ولم يكن ذلك دليلا على وقوع الاختلاف في نفس النبوات ، واختلفت في مسائل كثيرة من علوم التوحيد ولم يكن اختلافهم دليلا على وقوع الاختلاف فيما اختلفوا فيه ، فكذلك ما نحن فيه.

وإذا ثبت هذا صحّ منه أن القرآن في نفسه لا اختلاف فيه ، ثم نبني على هذا معنى آخر ، وهو أنه لما تبين تنزهه عن الاختلاف ، صحّ أن يكون حكما بين جميع المختلفين ، لأنه إنما يقرر معنى هو الحق ، والحق لا يختلف في نفسه ، فكل اختلاف صدر من مكلف فالقرآن هو المهيمن عليه ، قال الله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٢) فهذه الآي وما أشبهها صريحة في الرد إلى كتاب الله تعالى وإلى سنّة نبيّه ، لأن السنّة بيان الكتاب ، وهو دليل على أن الحق فيه واضح ، وأن البيان فيه شاف ، لا شيء بعده يقوم مقامه ، وهكذا فعل الصحابة رضي الله عنهم ، لأنهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة ردوها إلى الكتاب والسنة ، وقضاياهم شاهدة بهذا المعنى ، لا يجهلها من زاول الفقه ، فلا فائدة في

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : فضائل القرآن ، باب : أنزل القرآن على سبعة أحرف ، وباب : من لم ير بأسا أن يقول : سورة البقرة وسورة كذا ، وأخرجه في كتاب : الخصومات ، باب : كلام الخصوم بعضهم في بعض ، وأخرجه في كتاب : التوحيد ، باب : قول الله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (الأحاديث : ٩ / ٢٠ ، ٢١). وأخرجه مسلم في كتاب : الصلاة ، باب : بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف (الحديث : ٨١٨). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : أنزل القرآن على سبعة أحرف (الحديث : ١٤٧٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : القراءات ، باب : ما جاء أن القرآن أنزل على سبعة أحرف (الحديث : ٢٩٤٤). وأخرجه النسائي في كتاب : الصلاة ، باب : جامع القرآن (الأحاديث : ٢ / ١٥٠ ، ١٥٢). وأخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب : القرآن ، باب : ما جاء في القرآن (الحديث : ١ / ٢٠١).

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٥٩.

٥٥٣

جلبها إلى هذا الموضع لشهرتها ، فهو إذا مما كان عليه الصحابة.

فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران :

أحدهما : أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان ، ويعتبرها اعتبارا كليّا في العبادات والعادات ، ولا يخرج عنها البتة ، لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمي في عماية ، كيف وقد ثبت كمالها وتمامها؟ فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق والمنحرف عن الجادة إلى بنيّات الطرق.

والثاني : أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر ، بل الجميع جار على مهيع واحد ، ومنتظم إلى معنى واحد ، فإذا أداه بادئ الرأي إلى ظاهر اختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف ، لأن الله قد شهد له أن لا اختلاف فيه ، فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع ، أو المسلّم من غير اعتراض ، فإن كان الموضع مما يتعلق به حكم عملي فليلتمس المخرج حتى يقف على الحق اليقين ، أو ليبق باحثا إلى الموت ولا عليه من ذلك ، فإذا اتضح له المغزى وتبينت له الواضحة ، فلا بدّ له من أن يجعلها حاكمة في كل ما يعرض له من النظر فيها ، ويضعها نصب عينيه في كل مطلب ديني ، كما فعل من تقدمنا ممن أثنى الله عليهم.

فأمّا الأمر الأول : فهو الذي أغفله المبتدعون فدخل عليهم بسبب ذلك الاستدراك على الشرع ، وإليه مال كل من كان يكذب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقال له ذلك ويحذر ما في الكذب عليه من الوعيد ، فيقول : لم أكذب عليه وإنما كذبت له.

وحكي عن محمد بن سعيد المعروف بالأردني أنه قال : إذا كان الكلام حسنا لم أر بأسا أن أجعل له إسنادا. فلذلك كان يحدث بالموضوعات ، وقد قتل في الزندقة وصلب. وقد تقدم لهذا القسم أمثلة كثيرة.

وأما الأمر الثاني : فإن قوما أغفلوه أيضا ولم يمنعوا النظر حتى اختلف عليهم الفهم في القرآن والسنة ، فأحالوا بالاختلاف عليها تحسينا للظن بالنظر الأول ، وهذا هو الذي

٥٥٤

عاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حال الخوارج حيث قال : «يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم» (١) فوصفهم بعدم الفهم للقرآن ، وعند ذلك خرجوا على أهل الإسلام ، إذ قالوا : لا حكم إلا لله ، وقد حكم الرجال في دين الله ، حتى بيّن لهم حبر القرآن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما معنى قوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (٢) على وجه أذعن بسببه منهم ألفان ، أو من رجع منهم إلى الحق ، وتمادى الباقون على ما كانوا عليه ، اعتمادا ـ والله أعلم ـ على قول من قال منهم : لا تناظروه ولا تخاصموه فإنه من الذين قال الله فيهم : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٣).

فتأملوا رحمكم الله كيف كان فهمهم في القرآن. ثم لم يزل هذا الإشكال يعتري أقواما حتى اختلفت عليهم الآيات والأحاديث ، وتدافعت على أفهامهم فجعجعوا به قبل إمعان النظر.

ولنذكر من ذلك عشرة أمثلة :

أحدها : قول من قال : إن قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٤) يتناقض مع قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٥).

والثاني : قول من قال في قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٦) مضاد لقوله : (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (٧) وقوله تعالى : (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨).

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٧٨ ، الحاشية : ١.

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ٥٧.

(٣) سورة : الزخرف ، الآية : ٥٨.

(٤) سورة : الصافات ، الآية : ٢٧.

(٥) سورة : المؤمنون ، الآية : ١٠١.

(٦) سورة : الرحمن ، الآية : ٣٩.

(٧) سورة : العنكبوت ، الآية : ١٣.

(٨) سورة : النحل ، الآية : ٩٣.

٥٥٥

والثالث : قول من قال في قوله تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) (١) إلى قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ* فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (٢) : إن هذا صريح في أن الأرض مخلوقة قبل السماء ، وفي الآية الأخرى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها* وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣) فصرّح بأن الأرض مخلوقة بعد السماء.

ومن هذه الأسئلة ما أورده نافع بن الأزرق ـ أو غيره على ابن عباس رضي الله عنهما ، فخرّج البخاري في المعلقات عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ وهي قوله تعالى : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٤) (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٥) (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٦) (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٧).

فقد كتموا في هذه الآية : (أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) إلى قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٨).

فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) إلى قوله : (طائِعِينَ) (٩)

__________________

(١) سورة : فصلت ، الآية : ٩.

(٢) سورة : فصلت ، الآيتان : ١١ ـ ١٢.

(٣) سورة : النازعات ، الآيات : ٢٧ ـ ٣٠.

(٤) سورة : المؤمنون ، الآية : ١٠١.

(٥) سورة : الصافات ، الآية : ٢٧.

(٦) سورة : النساء ، الآية : ٤٢.

(٧) سورة : الأنعام ، الآية : ٢٣.

(٨) سورة : النازعات ، الآيات : ٢٧ ـ ٣٠.

(٩) سورة : فصلت ، الآية : ١١.

٥٥٦

فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء ، وقال : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١) (عَزِيزاً حَكِيماً) (٢) (سَمِيعاً بَصِيراً) (٣) فكأنه كان ثم مضى فقال ـ يعني : ابن عباس : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٤) في النفخة الأولى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٥) فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الأخرى أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.

وأما قوله : (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٦) (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٧) فإن الله عزوجل يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، وقال المشركون تعالوا نقول : لم نكن مشركين ، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثا ، وعنده (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) (٨).

وقوله عزوجل : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) (٩) (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) (١٠) (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (١١) آخرين ثم دحا الأرض ، ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى ، وخلق الجبال والجمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله : دحاها ، وقوله تعالى : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السموات في يومين (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٢) سمى نفسه بذلك ، وذلك

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٩٦.

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٥٦.

(٣) سورة : النساء ، الآية : ٥٨.

(٤) سورة : المؤمنون ، الآية : ١٠١.

(٥) سورة : الزمر ، الآية : ٦٨.

(٦) سورة : الأنعام ، الآية : ٢٣.

(٧) سورة : النساء ، الآية : ٤٢.

(٨) سورة : النساء ، الآية : ٤٢.

(٩) سورة : فصلت ، الآية : ٩.

(١٠) سورة : فصلت ، الآية : ١١.

(١١) سورة : فصلت ، الآية : ١٢.

(١٢) سورة : النساء ، الآية : ٩٦.

٥٥٧

قوله أي : لم يزل كذلك ، فإن الله عزوجل لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد ، فلا يختلف عليك القرآن ، فإن كلّا من عند الله.

والرابع : قول من قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه فأخرج منه ذريته إلى يوم القيامة (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (١)» (٢) الحديث كما وقع مخالف لقول الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٣) فالحديث أنه أخذهم من ظهر آدم ، والكتاب يخبر أنه أخذ من ظهور آدم ، وهذا إذا تؤمّل لا خلاف فيه لأنه يمكن الجمع بينهما ، بأن يخرجوا من صلب آدم عليه الصلاة والسلام دفعه واحدة على وجه لو خرجوا على الترتيب كما أخرجوا إلى الدنيا ، ولا محال في هذا بأن يتفطر في تلك الأخذة الأبناء عن الأبناء من غير ترتيب زمان ، وتكون النسبتان معا صحيحتين في الحقيقة لا على المجاز.

والخامس : قول من قال فيما جاء في الحديث : إن رجلا قال : يا رسول الله نشدتك الله! إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله ، فقال خصمه وكان أفقه منه : صدق أقض بيننا بكتاب الله ، وائذن لي في أن أتكلم ، ثم أتى بالحديث ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما الوليدة والغنم فرد عليك ، وعلى ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام ، وعلى امرأة هذا الرجم» إلى آخر الحديث ، هو مخالف لكتاب الله ، لأنه قد قال : «لأقضين بينكما بكتاب الله» (٤) حسبما سأله السائل ، ثم قضى بالرجم والتغريب ، وليس لهما ذكر في كتاب الله.

__________________

(١) سورة : الأعراف ، الآية : ١٧٢.

(٢) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب : القدر ، باب : النهي عن القول بالقدر (الأحاديث : ٢ / ٨٩٨ ، ٨٩٩). وأخرجه الترمذي في كتاب : التفسير ، باب : ومن سورة الأعراف (الحديث : ٣٠٧٧). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في القدر (الحديث : ٤٧٠٣). وأخرجه أحمد في المسند (الحديث : ٣١). وأخرجه الحاكم في المستدرك (الحديث : ١ / ٢٧). وأخرجه الطبري (الحديث : ١٥٣٥٧).

(٣) سورة : الأعراف ، الآية : ١٧٢.

(٤) أخرجه البخاري في كتاب : المحاربين ، باب : الاعتراف بالزنا ، وباب : البكران يجلدان وينفيان ،

٥٥٨

الجواب : إن الذي أوجب الإشكال في المسألة اللفظ المشترك في كتاب الله ، فكما يطلق على القرآن يطلق على ما كتب الله تعالى عنده مما هو حكمه وفرضه على العباد ، كان مسطورا في القرآن أو لا ، كما قال تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) (١) أي حكم الله فرضه ، وكل ما جاء في القرآن من قوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) فمعناه فرضه وحكم به ، ولا يلزم أن يوجد هذا الحكم في القرآن.

والسادس : قول من زعم أن قوله تعالى الإماء (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) (٢) لا يعقل مع ما جاء في الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم ورجمت الأئمة بعده ، لأنه يقتضي أن الرجم ينتصف وهذا غير معقول ، فكيف يكون نصفه على الإماء؟ ذهابا منهم إلى أن المحصنات هن ذوات الأزواج ، وليس كذلك ، بل المحصنات هنا المراد بهن الحرائر ، بدليل قوله أول الآية : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ

__________________

ـ وباب : من أمر غير الإمام بإقامة الحد غائبا عنه ، وباب : إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا عند الحاكم ، وباب : هل يأمر الإمام رجلا فيضرب الحد غائبا عنه ، وأخرجه في كتاب : الوكالة ، باب : الوكالة في الحدود ، وأخرجه في كتاب : الشهادات ، باب : شهادة القاذف والسارق والزاني ، وأخرجه في كتاب : الصلح ، باب : إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود ، وأخرجه في كتاب : الشروط ، باب : التي لا تحل في الحدود ، وأخرجه في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : كيف كان يمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرجه في كتاب : الأحكام ، باب : هل يجوز للحاكم أن يبعث رجلا وحده للنظر في الأمور ، وأخرجه في كتاب : خبر الواحد ، باب : ما جاء في إجازة خبر الواحد ، وأخرجه مالك في كتاب : الاعتصام ، باب : الاقتداء بسنن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الحديث : ١٢ / ١٢١). وأخرجه مسلم في كتاب : الحدود ، باب : من اعترف على نفسه بالزنا (الأحاديث : ١٦٩٧ ، ١٦٩٨). وأخرجه في الموطأ في كتاب : الحدود ، باب : ما جاء في الرجم (الحديث : ٢ / ٨٢٢). وأخرجه الترمذي في كتاب : الحدود ، باب : ما جاء في الرجم على الثيب (الحديث : ١٤٣٣). وأخرجه أبو داود في كتاب : الحدود ، باب : المرأة التي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجمها من جهينة (الحديث : ٤٤٤٥). وأخرجه النسائي في كتاب : القضاة ، باب : صون النساء عن مجلس الحكم (الأحاديث : ٨ / ٢٤٠ ، ٢٤١). وأخرجه ابن ماجه في كتاب : الحدود ، باب : حد الزنا (الحديث : ٢٥٤٩). وأخرجه الدارمي في كتاب : الحدود ، باب : الاعتراف بالزنا (الحديث : ٢ / ١٧٧).

(١) سورة : النساء ، الآية : ٢٤.

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٢٥.

٥٥٩

الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) (١) وليس المراد هنا إلا الحرائر ، لأن ذوات الأزواج لا تنكح.

والسابع : قولهم : إن الحديث جاء بأن المرأة لا تنكح على عمتها ، ولا على خالتها ، وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، والله تعالى لما ذكر المحرمات لم يذكر من الرضاع إلا الأم والأخت ، ومن الجمع إلا الجمع بين الأختين ، وقال بعد ذلك : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (٢) فاقتضى أن المرأة تنكح على عمتها وعلى خالتها ، وإن كان رضاع سوى الأم والأخت حلالا.

وهذه الأشياء من باب تخصيص العموم لا تعارض فيه على حال.

والثامن : قول من قال : إن قوله عليه الصلاة السلام : «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» (٣) مخالف لقوله : «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل» (٤).

والمراد بالوجوب هنا التأكيد خاصة ، بحيث لا يكون تركا للفرض ، وبه يتفق معنى الحديثين فلا اختلاف.

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٢٥.

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٢٤.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الجمعة ، باب : فضل الغسل يوم الجمعة ، وباب : الطيب للجمعة ، وباب : هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان ، وأخرجه في كتاب : صفة الصلاة ، باب : وضوء الصبيان وأخرجه في كتاب : الشهادات ، باب : بلوغ الصبيان وشهادتهم (الأحاديث : ٢ / ٢٩٨ ، ٢٩٩). وأخرجه مسلم في كتاب : الجمعة ، باب : وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال (الحديث : ٨٤٦). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الجمعة ، باب : العمل في غسل يوم الجمعة (الحديث : ١ / ١٠٢). وأخرجه أبو داود في كتاب : الطهارة ، باب : في الغسل يوم الجمعة (الحديث : ٣٤١). وأخرجه النسائي في كتاب : الجمعة ، باب : الأمر بالسواك يوم الجمعة ، وباب : إيجاب الغسل يوم الجمعة (الحديث : ٢ / ٩٢).

(٤) أخرجه أبو داود في كتاب : الطهارة ، باب : في الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة (الحديث : ٣٥٤). وأخرجه الترمذي في كتاب : الصلاة ، باب : ما جاء في الوضوء يوم الجمعة (الحديث : ٤٩٧). وأخرجه النسائي في كتاب : الجمعة ، باب : الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة (الحديث : ٣ / ٩٤).

٥٦٠