الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

وقال النخعي في قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) (١). قال : الجدال والخصومات في الدين.

وقال معن بن عيسى : انصرف مالك يوما إلى المسجد وهو متكئ على يدي ، فلحقه رجل يقال له أبو الجديرة يتهم بالإرجاء ، فقال : يا أبا عبد الله! اسمع مني شيئا أكلمك به وأحاجك وأخبرك برأيي ، فقال له : احذر أن أشهد عليك ، قال : والله ما أريد إلا الحق ، اسمع مني فإن كان صوابا فقل به أو فتكلم. قال : فإن غلبتني؟ قال : اتبعني. قال : فإن غلبتك؟ قال : اتبعتك ، قال : فإن جاء رجل فكلمناه فغلبناه؟ قال : اتبعناه ، فقال له ما لك : يا عبد الله! بعث الله محمدا بدين واحد وأراك تنتقل.

وقال عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه عرضا للخصومات أكثر التنقل. وقال مالك : ليس الجدال في الدين بشيء.

والكلام في ذم الجدال كثير ، فإذا كان مذموما فمن جعله محمودا وعدّه من العلوم النافعة بإطلاق فقد ابتدع في الدين ، ولما كان اتباع الهوى أصل الابتداع لم يعدم صاحب الجدال أن يماري ويطلب الغلبة ، وذلك مظنة رفع الأصوات.

فإن قيل : عددت رفع الأصوات من فروع الجدال وخواصه وليس كذلك ، فرفع الأصوات قد يكون في العلم ، ولذلك كره رفع الأصوات في المسجد ، وإن كان في العلم أو في غير العلم.

قال ابن القاسم في المبسوط : رأيت مالكا يعيب على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد.

وعلل ذلك محمد بن مسلمة بعلتين : إحداهما : أنه يحب أن ينزه المسجد عن مثل هذا لأنه أمر بتعظيمه وتوقيره. والثانية : أنه مبني للصلاة ، وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار ، فأن يلزم ذلك في موضعها المتخذ لها أولى.

وروى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنى رحبة بين ناحية المسجد تسمى

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٦٤.

٣٨١

البطيحاء وقال : من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة ، فإذا كان كذلك ، فمن أين يدل ذم رفع الصوت في المسجد على الجدل المنهي عنه؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن رفع الصوت من خواص الجدل المذموم ، أعني : في أكثر الأمر دون الفلتات ، لأن رفع الصوت والخروج عن الاعتدال فيه ناشئ عن الهوى في الشيء المتكلم فيه ، وأقرب الكلام الخاص بالمسجد إلى رفع الصوت ، الكلام فيما لم يؤذن فيه ، وهو الجدال الذي نبه عليه الحديث المتقدم.

وأيضا ، لم يكثر الكلام جدّا في نوع من أنواع العلم في الزمان المتقدم إلا في علم الكلام ، وإلى غرضه تصوبت سهام النقد والذم ، فهو إذا هو. وقد روي عن عميرة بن أبي ناجية المصري أنه رأى قوما يتعارّون في المسجد وقد علت أصواتهم فقال : هؤلاء قوم قد ملوا العبادة ، وأقبلوا على الكلام ، اللهم أمت عميرة ، فمات من عامه ذلك في الحج ، فرأى رجل في النوم قائلا يقول : مات في هذه الليلة نصف الناس فعرفت تلك الليلة ، فجاء موت عميرة هذا.

والثاني : أنا لو سلمنا أن مجرد رفع الأصوات يدل على ما قلنا لكان أيضا من البدع إذا عدّ كأنه من الجائز في جميع أنواع العلم فصار معمولا به لا نفي ولا يكف عنه فجرى مجرى البدع المحدثات.

أما تقديم الأحداث على غيرهم ، فمن قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة العلم ، كان ذلك التقديم في رتب العلم أو غيره ، لأن الحدث أبدا أو في غالب الأمر غرّ لم يتحنك ، ولم يرتض في صناعته رياضة تبلغه مبالغ الشيوخ الراسخين الأقدام في تلك الصناعة ، ولذلك قالوا في المثل :

وابن اللبون إذا ما لزّ في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس

هذا إن حملنا الحديث على حداثة السن ، وهو نص في حدث ابن مسعود رضي الله عنه ، فإن حملناه على حدثان العهد بالصناعة ، ويحتمله قوله : «وكان زعيم القوم

٣٨٢

أرذلهم» (١) وقوله : «وساد القبيلة فاسقهم» وقوله : «إذا أسند الأمر إلى غير أهله» (٢) فالمعنى فيها واحد ، فإن الحديث العهد بالشيء لا يبلغ مبالغ القديم العهد فيه.

ولذلك يحكى عن الشيخ أبي مدين أنه سئل عن الأحداث الذين نهى شيوخ الصوفية عنهم ، فقال : الحدث الذي لم يستكمل الأمر بعد ، وإن كان ابن ثمانين سنة.

فإذا تقديم الأحداث على غيرهم ، من باب تقديم الجهال على غيرهم ، ولذلك قال فيهم : «سفهاء الأحلام» وقال : «يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم» إلى آخره ، وهو منزل على الحديث الآخر في الخوارج : «إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم» (٣) إلى آخر الحديث ، يعني : أنهم لم يتفقهوا فيه ، فهو في ألسنتهم لا في قلوبهم.

وأما لعن آخر هذه الأمة أولها ، فظاهر مما ذكر العلماء عن بعض الفرق الضالة ، فإن الكاملية من الشيعة كفرت الصحابة رضي الله عنهم ، حين لم يصرفوا الخلافة إلى عليّ رضي الله عنه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكفرت عليّا رضي الله عنه حين لم يأخذ بحقه فيها.

وأما ما دون ذلك مما يوقف فيه عند السبب ، فمنقول موجود في الكتب ، وإنما فعلوا ذلك لمذاهب سوء لهم رأوها فبنوا عليها ما يضاهيها من السوء والفحشاء ، فلذلك عدوا من فرق أهل البدع.

قال مصعب الزبيري وابن نافع : دخل هارون ـ يعني : الرشيد ـ المسجد فركع ، ثم أتى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلّم عليه ، ثم أتى مجلس مالك فقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء في علامة المسخ والقذف (الحديث : ٢٢١٢).

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : العلم ، باب : من سئل علما وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ، وأخرجه في كتاب : الرقاق ، باب : رفع الأمانة (الحديث : ١ / ١٣٢).

(٣) تقدم تخريجه ص : ٣٧٨ ، الحاشية : ١.

٣٨٣

ثم قال لمالك : هل لمن سبّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الفيء حق؟ قال : لا! ولا كرامة ولا مسرّة ، قال : من أين قلت ذلك؟ قال : قال الله عزوجل : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (١) فمن عابهم فهو كافر ، ولا حق لكافر في الفيء.

واحتج مرة أخرى في ذلك بقوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) (٢) إلى آخر الآيات الثلاث قال : فهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين هاجروا معه ، وأنصاره (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) (٣) فمن عدا هؤلاء فلا حق لهم فيه ، وفي فعل خواص الفرق من هذا المعنى كثير.

وأما بعث الدجالين ، فقد كان ذلك جملة ، منهم من تقدم في زمان بني العباس وغيرهم. ومنهم معد من العبيدية الذين ملكوا إفريقيا ، فقد حكي عنه أنه جعل المؤذن يقول : أشهد أن معدا رسول الله ، عوضا من كلمة الحق : أشهد أن محمدا رسول الله ، فهمّ المسلمون بقتله ثم رفعوه إلى معد ليروا هل هذا عن أمره؟ فلما انتهى كلامهم إليه ، قال : أردد عليهم أذانهم لعنهم الله.

ومن يدعي لنفسه العصمة ، فهو شبه من يدعي النبوة ، ومن يزعم أنه به قامت السموات والأرض ، فقد جاوز دعوى النبوة ، وهو المغربي المتسمي بالمهدي.

وقد كان في الزمان القريب رجل يقال له الفازازي ادعى النبوة ، واستظهر عليها بأمور موهمة للكرامات ، والإخبار بالمغيبات ، ومخيلة لخوارق العادات ، تبعه على ذلك من العوام جملة ، ولقد سمعت بعض طلبة ذلك البلد الذي اختله هذا البأس ـ وهو مالقة (٤) ـ آخذا ينظر

__________________

(١) سورة : الفتح ، الآية : ٢٩.

(٢) سورة : الحشر ، الآية : ٨.

(٣) سورة : الحشر ، الآية : ١٠.

(٤) مالقة : مدينة بالأندلس عامرة من أعمال ريّة سورها على شاطئ البحر بين الجزيرة الخضراء والمرية.

٣٨٤

في قوله تعالى : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (١) وهل يمكن تأويله؟ وجعل يطرق إليه الاحتمالات ، ليسوغ إمكان بعث نبي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان مقتل هذا المفتري على يد شيخ شيوخنا أبي جعفر بن الزبير رحمه‌الله.

ولقد حكى بعض مؤلفي الوقت قال : حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب قال : لما أمر بالتأهب يوم قتله وهو في السجن الذي أخرج منه إلى مصرعه جهر بتلاوة سورة يس ، فقال أحد الذعرة ممن جمع السجن بينهما : اقرأ قرآنك ، لأي شيء تتفضل على قرآننا اليوم؟ أو في معنى هذا ، فتركها مثلا بلوذتيه.

وأما مفارقة الجماعة ، فبدعتها ظاهرة ، ولذلك يجازي مفارقها بالميتة الجاهلية ، وقد ظهر في الخوارج وغيرهم ممن سلك مسلكهم كالعبيدية وأشباههم.

فهذه أيضا من جملة ما اشتملت عليه تلك الأحاديث ، وباقي الخصال المذكورة عائد إلى نحو آخر ، ككثرة النساء وقلة الرجال ، وتطاول الناس في البنيان ، وتقارب الزمان.

فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنها تقع وتظهر وتنتشر أمور مبتدعة على مضاهاة التشريع ، لكن من جهة التعبد ، لا من جهة كونها عادية ، وهو الفرق بين المعصية التي هي بدعة ، والمعصية التي هي ليست ببدعة.

وإن العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها ، ومن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة ، وحصل بذلك اتفاق القولين ، وصار المذهبان مذهبا واحدا ، وبالله التوفيق.

فصل

فإن قيل : أما الابتداع ، بمعنى أنه نوع من التشريع على وجه التعبد في العاديات من

__________________

(١) سورة : الأحزاب ، الآية : ٤٠.

٣٨٥

حيث هو توقيت معلوم معقول ، فإيجابه أو إجازته بالرأي ـ كما تقدم من أمثلة بدع الخوارج ومن داناهم من الفرق الخارجة عن الجادة ـ فظاهر.

ومن ذلك ، القول بالتحسين والتقبيح العقلي ، والقول بترك العمل بخبر الواحد ، وما أشبه ذلك.

فالقول بأنه بدعة قد تبين وجهه واتضح مغزاه ، وإنما يبقى وجه آخر يشبهه وليس به ، وهو أن المعاصي والمنكرات والمكروهات قد تظهر وتفشو ، ويجري العمل بها بين الناس على وجه لا يقع لها إنكار من خاص ولا عام ، فما كان منها هذا شأنه : هل يعد مثله بدعة أم لا؟

فالجواب : إن مثل هذه المسألة لها نظران :

أحدهما : نظر من حيث وقوعها عملا واعتقادا في الأصل ، فلا شك أنها مخالفة لا بدعة ، إذ ليس من شرط كون الممنوع والمكروه غير بدعة أن لا ينشرها ولا يظهرها أنه ليس من شرط أن تنشر ، بل لا تزول المخالفة ظهرت أو لا ، واشتهرت أم لا ، وكذلك دوام العمل أو عدم دوامه لا يؤثر في واحدة منهما ، والمبتدع قد يقام عن بدعة ، والمخالف قد يدوم على مخالفته إلى الموت ، عياذا بالله.

والثاني : نظر من جهة ما يقترن بها من خارج ، فالقرائن قد تقترن ، فتكون سببا في مفسدة حالية ، وفي مفسدة مالية ، كلاهما راجع إلى اعتقاد البدعة.

أما الحالية فبأمرين :

الأول : أن يعمل بها الخواص من الناس عموما ، وخاصة العلماء خصوصا ، وتظهر من جهتهم ، وهذه مفسدة في الإسلام ينشأ عنها عادة من جهة العوام استسهالها واستجازتها ، لأن العالم المنتصب مفتيا للناس بعمله كما هو مفت بقوله ، فإذا نظر إليه الناس يعمل ما يأمر هو بمخالفته حصل في اعتقادهم جوازه ، ويقولون : لو كان ممنوعا أو مكروها لامتنع منه العالم.

هذا ، وإن نص على منعه أو كراهته ، فإن عمله معارض لقوله ، فإما أن يقول العامي : إن العالم خالف بذلك ، ويجوز عليه مثل ذلك ، وهم عقلاء الناس ، وهم الأقلون.

٣٨٦

وإما أن يقول : إنه وجد فيه رخصة ، فإنه لو كان كما قال لم يأت به فيرجح بين قوله وفعله ، والفعل أغلب من القول في جهة التأسي ـ كما تبين في كتاب (الموافقات) ـ فيعمل العامي بعمل العالم ، تحسينا للظن به ، فيعتقده جائزا ، وهؤلاء هم الأكثرون.

فقد صار عمل العالم عند العامي حجة ، كما كان قوله حجة على الإطلاق والعموم في الفتيا ، فاجتمع على العامي العمل مع اعتقاد الجواز بشبهة دليل ، وهذا عين البدعة.

بل لقد وقع مثل هذا في طائفة ممن تميز عن العامة بانتصاب في رتبة العلماء ، فجعلوا العمل ببدعة الدعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات ، وقراءة الحزب حجة في جواز العمل بالبدع في الجملة ، وأن منها ما هو حسن ، وكان منهم من ارتسم في طريقة التصوف فأجاز التعبد لله بالعبادات المبتدعة ، واحتج بالحزب والدعاء بعد الصلاة ، كما تقدم.

ومنهم من اعتقد أنه ما عمل به إلا لمستند ؛ فوضعه في كتاب وجعله فقها كبعض أماريد الرس ممن قيد على الأمة ابن زيد.

وأصل جميع ذلك سكوت الخواص عن البيان ، والعمل به على الغفلة ، ومن هنا تستشنع زلة العالم ؛ فقد قالوا : ثلاث تهدم الدين : زلة العالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة ضالون.

وكل ذلك عائد وباله على العالم ، وزلله المذكور عند العلماء يحتمل وجهين :

أحدهما : زلله في النظر ، حتى يفتي بما خالف الكتاب والسنّة فيتابع عليه وذلك الفتيا بالقول.

والثاني : زلله في العمل بالمخالفات فيتابع عليها أيضا على التأويل المذكور ، وهو في الاعتبار قائم مقام الفتيا بالقول ، إذ قد علم أنه متبع ومنظور إليه وهو مع ذلك يظهر بعمله ما ينهى عنه الشارع ، فكأنه مفت به ؛ على ما تقرر في الأصول.

والثاني : من قسمي المفسدة الحالية أن يعمل بها العوام وتشيع فيهم وتظهر فلا ينكرها الخواص ولا يرفعون لها رءوسهم وهم قادرون على الإنكار فلم يفعلوا ، فالعامي من شأنه إذا رأى أمرا يجهل حكمه يعمل العامل به فلا ينكر عليه ، اعتقد أنه جائز وأنه حسن ، أو أنه

٣٨٧

مشروع بخلاف ما إذا أنكر عليه فإنه يعتقد أنه عيب ، أو أنه غير مشروع أو أنه ليس من فعل المسلمين.

هذا أمر يلزم من ليس بعالم بالشريعة ، لأن مستنده الخواص والعلماء في الجائز مع غير الجائز.

فإذا عدم الإنكار ممن شأنه الإنكار ، مع ظهور العمل وانتشاره وعدم خوف المنكر ووجود القدرة عليه ، فلم يفعل ، دلّ عند العوام على أنه فعل جائز لا حرج فيه ، فنشأ فيه هذا الاعتقاد الفاسد بتأويل يقنع بمثله من كان من العوام فصارت المخالفة بدعة ، كما في القسم الأول.

وقد ثبت في الأصول أن العالم في الناس قائم مقام النبي عليه الصلاة والسلام ، والعلماء ورثة الأنبياء ، فكما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره ، كذلك وارثه يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره. واعتبر ذلك ببعض ما أحدث في المساجد من الأمور المنهي عنها فلم ينكرها العلماء ، أو عملوا بها فصارت بعد سننا ومشروعات ، كزيادتهم مع الأذان : أصبح ولله الحمد ، والوضوء للصلاة ، وتأهبوا ، ودعاء المؤذنين بالليل في الصوامع ، وربما احتجوا على ذلك بما يفعله بعض الناس وبما وضع في نوازل ابن سهل غفلة عما أخذ عليه فيه ، وقد قيدنا في ذلك جزءا مفردا فمن أراد الشفاء في المسألة فعليه به ، وبالله التوفيق.

وخرج أبو داود قال : اهتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها ، فقيل : انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضا ، فلم يعجبه ذلك ـ قال : فذكر له القمع ، يعني : الشبور ، وفي رواية شبور اليهود فلم يعجبه ، وقال : «هو من أمر اليهود» قال : فذكر له الناقوس ، فقال : «هو من أمر النصارى» (١) فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأري الأذان في منامه إلى آخر الحديث.

وفي مسلم عن أنس بن مالك أنه قال : «ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : بدء الأذان (الحديث : ٤٩٨).

٣٨٨

فذكروا أن ينوروا نارا ، أو يضربوا ناقوسا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة» (١) والقمع والشبور ـ هو البوق ـ وهو القرن الذي وقع في حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

فأنت ترى كيف كره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شأن الكفار فلم يعمل على موافقته ، فكان ينبغي لمن اتسم بسمة العلم أن ينكر ما أحدث من ذلك في المساجد إعلاما بالأوقات أو غير إعلام بها ، أما الراية فقد وضعت إعلاما بالأوقات ، وذلك شائع في بلاد المغرب ، حتى إن الأذان معها قد صار في حكم التبع.

وأما البوق : فهو العلم في رمضان على غروب الشمس ودخول وقت الإفطار ، ثم هو علم أيضا بالمغرب والأندلس على وقت السحور ابتداء وانتهاء والحديث قد جعل علما لانتهاء نداء ابن أم مكتوم. قال ابن شهاب : «وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت» (٢).

وفي مسلم وأبي داود : «لا يمنعن أحدكم نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم» (٣) الحديث ، فقد جعل أذان بلال لأن ينتبه النائم لما يحتاج إليه من

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الأذان ، باب : الأذان مثنى مثنى ، وباب : الإقامة واحدة إلا قوله : قد قامت الصلاة ، وأخرجه في كتاب : أحاديث الأنبياء ، باب : ذكر بني إسرائيل (الأحاديث : ٢ / ٦٤ ، ٦٥). وأخرجه مسلم في كتاب : الصلاة ، باب : الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة (الحديث : ٣٧٨). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : في الإقامة (الحديث : ٥٠٨). وأخرجه الترمذي في كتاب : الصلاة ، باب : ما جاء في إفراد الإقامة (الحديث : ١٩٣). وأخرجه النسائي في كتاب : الأذان ، باب : تثنية الأذان (الحديث : ٢ / ٣).

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : الأذان ، باب : أذان الأعمى إذا كان له من يخبره ، وباب : الأذان بعد الفجر ، وأخرجه في كتاب : الشهادات ، باب : شهادة الأعمى وأمره ونكاحه ، وفي كتاب : خبر واحد ، باب : ما جاء في إجازة خبر الواحد الصادق (الأحاديث : ٢ / ٨٢ ، ٨٣). وأخرجه مسلم في كتاب : الصيام ، باب : بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (الحديث : ١٠٩٢). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الصلاة ، باب : قدر السحور من النداء (الأحاديث : ١ / ٧٤ ، ٧٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : الصلاة ، باب : ما جاء في الأذان بالليل (الحديث : ٢٠٣). وأخرجه النسائي في كتاب : الأذان ، باب : المؤذنان للمسجد الواحد (الحديث : ٢ / ١٠).

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الأذان ، باب : الأذان قبل الفجر ، وأخرجه في كتاب : الطلاق ، باب : ـ

٣٨٩

سحوره وغيره ، فالبوق ما شأنه؟ وقد كرهه عليه الصلاة والسلام ، ومثله النار التي ترفع دائما في أوقات الليل وبالعشاء والصبح في رمضان أيضا ، إعلاما بدخوله ، فتوقد في داخل المسجد ثم في وقت السحور ، ثم ترفع في المنار إعلاما بالوقت ، والنار شعار المجوس في الأصل.

قال ابن العربي : أول من اتخذ البخور في المسجد بنو برمك يحيى بن خالد ومحمد بن خالد ـ ملكهما الوالي أمر الدين فكان محمد بن خالد حاجبا ويحيى وزيرا ثم ابنه جعفر بن يحيى ـ قال : وكانوا باطنية يعتقدون آراء الفلاسفة ، فأحيوا المجوسية ، واتخذوا البخور في المساجد ـ وإنما تطيب بالخلوق ـ فزادوا التجمير ويعمرونها بالنار منقولة حتى يجعلوها عند الأندلس ببخورها ثابتة. انتهى.

وحاصله : أن النار ليس إيقادها في المساجد من شأن السلف الصالح ، ولا كانت مما تزين بها المساجد البتة ، ثم أحدث التزين بها حتى صارت من جملة ما يعظم به رمضان ، واعتقد العامة هذا كما اعتقدوا طلب البوق في رمضان في المساجد ، حتى لقد سأل بعض عنه : أهو سنّة أم لا؟ ولا يشك أحد أن غالب العوام يعتقدون أن مثل هذه الأمور مشروعة على الجملة في المساجد ، وذلك بسبب ترك الخواص الإنكار عليهم.

وكذلك أيضا لما لم يتخذ الناقوس للإعلام ، حاول الشيطان فيه بمكيدة أخرى فعلق بالمساجد واعتد به في جملة الآلات التي توقد عليها النيران وتزخرف بها المساجد ، زيادة إلى زخرفتها بغير ذلك ، كما تزخرف الكنائس والبيع.

ومثله إيقاد الشمع بعرفة ليلة الثامن ، ذكر النووي أنها من البدع القبيحة ، وأنها ضلالة فاحشة جمع فيها أنواع من القبائح ، منها إضاعة المال في غير وجهه ، ومنها إظهار شعائر المجوس ، ومنها اختلاط الرجال والنساء والشمع بينهم ووجوههم بارزة ، ومنها تقديم دخول عرفة قبل وقتها المشروع ا ه.

__________________

ـ الإشارة في الطلاق والأمور ، وأخرجه في كتاب : خبر الواحد ، باب : ما جاء في إجازة الخبر الواحد (الحديث : ٢ / ٨٦). وأخرجه مسلم في كتاب : الصيام ، باب : بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (الحديث : ١٠٩٣). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصوم ، باب : وقت السحور (الحديث : ٢٣٤٧). وأخرجه النسائي في كتاب : الصوم ، باب : كيف الفجر (الحديث : ٤ / ١٤٨).

٣٩٠

وقد ذكر الطرطوشي في إيقاد المساجد في رمضان بعض هذه الأمور وذكر أيضا قبائح سواها ، فأين هذا كله من إنكار مالك لتنحنح المؤذن أو ضربه الباب ليعلم بالفجر ، أو وضع الرداء؟ وهو أقرب مراما وأيسر خطبا من أن تنشأ بدع محدثات ، يعتقدها العوام سننا بسبب سكوت العلماء والخواص عن الإنكار وسبب عملهم بها.

وأما المفسدة المالية فهي على فرض أن يكون الناس عاملين بحكم المخالفة ، وأنها قد ينشأ الصغير على رؤيتها وظهورها ، ويدخل في الإسلام أحد ممن يراها شائعة ذائعة فيعتقدونها جائزة أو مشروعة ، لأن المخالفة إذا فشا في الناس فعلها من غير إنكار ، لم يكن عند الجاهل بها فرق بينها وبين سائر المباحات أو الطاعات.

وعندنا كراهية العلماء أن يكون الكفار صيارفة في أسواق المسلمين لعملهم بالربا فكل من يراهم من العامة صيارف وتجارا في أسواقنا من غير إنكار يعتقد أن ذلك جائز كذلك ، وأنت ترى مذهب مالك المعروف في بلادنا أن الحليّ المصنوع من الذهب والفضة لا يجوز بيعه بجنسه إلا وزنا بوزن ، ولا اعتبار بقيمة الصياغة أصلا ، والصاغة عندنا كلهم أو غالبهم يتبايعون على ذلك أن يستفضلوا قيمة الصياغة أو إجارتها ، ويعتقدون أن ذلك جائز لهم ، ولم يزل العلماء من السلف الصالح من بعدهم يتحفظون من أمثال هذه الأشياء ، حتى كانوا يتركون السنن خوفا من اعتقاد العوام أمرا هو أشد من ترك السنن ، وأولى أن يتركوا المباحات أن لا يعتقد فيها أمر ليس بمشروع ، وقد مر بيان هذا في باب البيان من كتاب (الموافقات) فقد ذكروا أن عثمان رضي الله عنه كان لا يقصر في السفر فيقال له : أليس قد قصرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فيقول : بلى ولكني إمام الناس فينظر إليّ الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون : هكذا فرضت.

قال الطرطوشي : تأملوا رحمكم الله! فإن في القصر قولين لأهل الإسلام : منهم من يقول : فريضة ، ومن أتم فإنما يتم ويعيد أبدا.

ومنهم من يقول : سنّة ، يعيد من أتم في الوقت ؛ ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنّة لما خاف من سوء العاقبة أن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان.

٣٩١

وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يضحون (يعني : أنهم لا يلتزمون الأضحية).

قال حذيفة بن أسد : شهدت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يضحيان مخافة أن يرى أنها واجبة.

وقال بلال : لا أبالي أن أضحى بكبشين أو بديك.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يشتري لحما بدرهم يوم الأضحى ، ويقول لعكرمة : من سألك فقل هذه أضحية ابن عباس.

وقال ابن مسعود : إني لأترك أضحيتي ـ وإني لمن أيسركم ـ مخافة أن يظن أنها واجبة.

وقال طاوس : ما رأيت بيتا أكثر لحما وخبزا وعلما من بيت ابن عباس ، يذبح وينحر كل يوم ، ثم لا يذبح يوم العيد ، وإنما يفعل ذلك لئلا يظن الناس أنها واجبة ، وكان إماما يقتدى به.

قال الطرطوشي : والقول في هذا كالذي قبله ، وإن لأهل الإسلام قولين في الأضحية : أحدهما سنّة ، والثاني واجبة ، ثم اقتحمت الصحابة ترك السنّة حذرا من أن يضع الناس الأمر على غير وجهه فيعتقدونها فريضة.

قال مالك في الموطأ في صيام ستة بعد الفطر من رمضان : إنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ـ قال ـ ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف ، وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته ، وأن يلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس منه لو رأوا في ذلك رخصة من أهل العلم ، ورأوهم يقولون ذلك.

فكلام مالك هنا ليس فيه دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم ، بل لعل كلامه مشعر بأنه يعلمه ، لكنه لم ير العمل عليه وإن كان مستحبا في الأصل ، لئلا يكون ذريعة لما قال ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في الأضحية ، وعثمان في الإتمام في السفر.

وحكى الماوردي ما هو أغرب من هذا وإن كان هو الأصل ، فذكر أن الناس كانوا إذا صلوا في الصحن من جامع البصرة أو الطرقة ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب ، لأنه كان مفروشا بالتراب ، فأمر زياد بإلقاء الحصى في صحن المسجد ، وقال : لست

٣٩٢

آمن من أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة ، وهذا في مباح ، فكيف به في المكروه أو الممنوع؟

ولقد بلغني في هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالإسلام أنه قال في الخمر : ليست بحرام ولا عيب فيها ، وإنما العيب أن يفعل بها ما لا يصلح كالقتل وشبهه. وهذا الاعتقاد لو كان ممن نشأ في الإسلام كان كفرا ، لأنه إنكار لما علم من دين الأمة ضرورة ، وبسبب ذلك ترك الإنكار من الولاة على شاربها ، والتخلية بينهم وبين اقتنائها ، وشهرته بحارة أهل الذمة فيها وأشباه ذلك.

ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعا وليس بمشروع ، وهذا الحال متوقع أو واقع ؛ فقد حكى القرافي عن العجم ما يقتضي أن الستة الأيام من شوال ملحقة عندهم برمضان ، لإبقائهم حالة رمضان الخاصة به كما هي إلى تمام الستة الأيام ، وكذلك وقع عندنا مثله ، وقد مرّ في الباب الأول.

وجميع هذا منوط إثمه بمن يترك الإنكار من العلماء أو غيرهم ، أو من يعمل ببعضها بمرأى من الناس أو في مواقعهم ، فإنهم الأصل في انتشار هذه الاعتقادات في المعاصي أو غيرها.

وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه :

أحدها : وهو أظهر الأقسام ـ أن يخترعها المبتدع.

والثاني : أن يعمل بها العالم على وجه المخالفة ، فيفهمها الجاهل مشروعة.

والثالث : أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار ، وهو قادر عليه ، فيفهم الجاهل أنها ليست بمخالفة.

والرابع : من باب الذرائع ، وهي أن يكون العمل في أصله معروفا ، إلا أنه يتبدل الاعتقاد فيه مع طول العهد بالذكرى.

إلا أن هذه الأقسام ليست على وزان واحد ، ولا يقع اسم البدعة عليها بالتواطؤ ، بل هي في القرب والبعد على تفاوت.

٣٩٣

فالأول : هو الحقيق باسم البدعة ، فإنها تؤخذ علة بالنص عليها.

ويليه القسم الثاني : فإن العمل يشبهه التنصيص بالقول ، بل قد يكون أبلغ منه في مواضع ـ كما تبين في الأصول ـ غير أنه لا ينزل هاهنا من كل وجه منزلة الدليل أن العالم قد يعمل وينص على قبح عمله ، ولذلك قالوا : لا تنظر إلى عمل العالم ، ولكن سله يصدقك. وقال الخليل بن أحمد أو غيره :

اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي

ينفعك علمي ولا يضرك تقصيري

ويليه القسم الثالث : فإن ترك الإنكار ـ مع أن رتبة المنكر رتبة من يعد ذلك منه إقرارا ـ يقتضي أن الفعل غير منكر ، ولكن يتنزل منزلة ما قبله ، لأن الصوارف للقدرة كثيرة ، قد يكون الترك لعذر بخلاف الفعل ، فإنه لا عذر في فعل الإنسان بالمخالفة ، مع علمه بكونها مخالفة.

ويليه القسم الرابع : لأن المحظور الحالي فيما تقدم غير واقع فيه بالعرض ، فلا تبلغ المفسدة المتوقعة أن تساوي رتبة الواقعة أصلا ، فلذلك كانت من باب الذرائع ، فهو إذا لم تبلغ أن تكون في الحال بدعة ، فلا تدخل بهذا النظر تحت حقيقة البدعة.

وأما القسم الثاني والثالث : فالمخالفة فيه بالذات ، والبدعة من خارج ، إلا أنها لازمة لزوما عاديا ، ولزوم الثاني أقوى من لزوم الثالث ، والله أعلم.

٣٩٤

٨ ـ باب : في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة

والاستحسان

هذا الباب يضطرّ إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة فإن كثيرا من الناس عدوا أكثر المصالح المرسلة بدعا ، ونسبوها إلى الصحابة والتابعين ، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات. وقوم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة ، فقالوا : إن منها ما هو واجب ومندوب ، وعدوا من الواجب كتب المصحف وغيره ، ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضان على قارئ واحد.

وأيضا : فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين ، فليس له على هذا شاهد شرعيّ على الخصوص ، ولا كونه قياسا بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. وهذا بعينه موجود في البدع المستحسنة ، فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية ـ في زعم واضعيها ـ في الشرع على الخصوص.

وإذا ثبت هذا ، فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقا ، فاعتبار البدع المستحسنة حق ، لأنهما يجريان من واد واحد. وإن لم يكن اعتبار البدع حقا ، لم يصح اعتبار المصالح المرسلة.

وأيضا : فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقا عليه ، بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال : فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده ، وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل. وذهب مالك إلى اعتبار ذلك ، وبنى الاحكام عليه على الإطلاق. وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح ، لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة هذا ما حكى الإمام الجويني.

وذهب الغزالي إلى أن المناسب إن وقع في رتبة التحسين والتزيين لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين ، وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله ، لكن بشرط قال : ولا يبعد أن

٣٩٥

يؤدي إليه اجتهاد مجتهد. واختلف قوله في الرتبة المتوسطة ، وهي رتبة الحاجي ، فرده في المستصفى وهو آخر قوليه ، وقبله في شفاء العليل كما قبل ما قبله. وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله : فالأقوال خمسة ، فإذا الراد لاعتبارها لا يبقى له في الوقائع الصحابية مستند إلا أنها بدعة مستحسنة ـ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الاجتماع لقيام رمضان : نعمت البدعة هذه ـ إذ لا يمكنهم ردها ، لإجماعهم عليها.

وكذلك القول في الاستحسان ، فإنه على ما ذهب إليه المتقدمون ، راجع إلى الحكم بغير دليل ، والنافي له لا يعد الاستحسان سببا فلا يعتبر في الأحكام البتة ، فصار كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها.

فلما كان هذا الموضع مزلة قدم ، لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته كان الحق المتعين في مناط الغلط الواقع لهؤلاء ، حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر ، بحول الله ، والله الموفق فنقول :

المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يشهد الشرع بقبوله ، فلا إشكال في صحته ، ولا خلاف في إعماله ، وإلا كان مناقضة للشريعة ، كشريعة القصاص حفظا للنفوس والأطراف وغيرها.

والثاني : ما شهد الشرع برده فلا سبيل إلى قبوله ، إذا المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها ، وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي ، بل إذ ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام ، فحينئذ نقبله ، فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال ، فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى ، بل يرده ، كان مردودا باتفاق المسلمين.

ومثال ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان ، فقال : عليك صيام شهرين متتابعين ، فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له : القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم والصوم وظيفة المعسرين ، وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين؟ فقال لهم : لو قلت لهم عليك إعتاق رقبة لاستحقر ذلك وأعتق عبيدا مرارا ، فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين.

٣٩٦

فهذا المعنى مناسب ، لأن الكفارة ، مقصود الشرع منها الزجر ، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام. وهذه الفتيا باطلة لأن العلماء بين قائلين : قائل بالتخيير ، وقائل بالترتيب ، فيقدم العتق على الصيام ، فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به ، على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا ، لكنه على صريح الفقه.

قال يحيى بن بكير : حنث الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه عتق رقبة. فسأل مالكا ، فقال : صيام ثلاثة أيام ، واتبعه على ذلك إسحاق بن إبراهيم من فقهاء قرطبة (١).

حكى ابن بشكوال أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء وشاورهم في مسألة نزلت به ، فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائمه ووطئها في رمضان ، فأفتوا بالإطعام ، وإسحاق بن إبراهيم ساكت. فقال له أمير المؤمنين : ما يقول الشيخ في فتوى أصحابه؟ فقال له : لا أقول بقولهم ، وأقول بالصيام ، فقيل له : أليس مذهب مالك الإطعام؟ فقال لهم : تحفظون مذهب مالك ، إلا أنكم تريدون مصانعة أمير المؤمنين إنما أمر بالإطعام لمن له مال ، وأمير المؤمنين لا مال له ، إنما هو مال بيت المسلمين ، فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه. ا ه. وهذا صحيح.

نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان ، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته ، فقال يحيى بن يحيى : يكفر ذلك صيام شهرين متتابعين ، فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من عنده ، فقالوا ليحيى : ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام والصيام؟ فقال لهم : لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود.

فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى رحمه‌الله ، وكان كلامه على ظاهره ، كان مخالفا للإجماع.

الثالث : ما سكتت عنه الشواهد الخاصة ، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه. فهذا على وجهين.

__________________

(١) قرطبة : مدينة بالأندلس وسط بلادها وبها كانت ملوك بني أمية وبينها وبين البحر خمسة أيام.

٣٩٧

أحدهما : أن يرد نص على وفق ذلك المعنى ، كتعليل منع القتل للميراث ، فالمعالمة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه ، فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر ، فلا يصح التعليل بها ، ولا بناء الحكم عليها باتفاق ، ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله.

والثاني : أن يلائم تصرفات الشرع ، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين ، وهو الاستدلال المرسل ، المسمى بالمصالح المرسلة ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله.

ولنقتصر على عشرة أمثلة :

المثال الأول :

إن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتفقوا على جمع المصحف ، وليس ثمّ نص على جمعه وكتبه أيضا ، بل قد قال بعضهم : كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : «أرسل إليّ أبو بكر رضي الله عنه [بعد] مقتل أهل اليمامة ، وإذا عنده عمر رضي الله عنه ، قال أبو بكر : (إن عمر أتاني فقال) : إن القتل قد استحرّ بقراء القرآن (١) يوم اليمامة ، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير ، وإني أرى أن تأمر بجميع القرآن ، قال : فقلت له : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال لي : هو ـ والله ـ خير.

فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له ، ورأيت فيه الذي رأى عمر.

قال زيد : فقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لانتهمك ، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه ، قال زيد : فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ من ذلك ، فقلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال أبو بكر : هو والله خير ، فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر حتى شرح الله صدري للذي شرج له صدريهما

__________________

(١) استحرّ : اشتد وكثر. القراء : الحفاظ للقرآن الكريم.

٣٩٨

فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاق والعسب واللخاف ، ومن صدور الرجال (١) فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة.

ثم روي عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل العراق في فتح أرمينية (٢) وأذربيجان (٣) ، فأفزعه اختلافهم في القرآن ، فقال لعثمان : يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة : أرسلي إليّ بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك ، فأرسلت حفصة به إلى عثمان ، فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت ، وإلى عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاصي ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف ، ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة : ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه نزل بلسانهم.

قال : ففعلوا ، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، بعث عثمان في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها ، ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (٤).

فهذا أيضا إجماع آخر في كتبه وجمع الناس على قراءة لم يحصل منها في الغالب اختلاف. لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات ـ حسبما نقله العلماء المعتنون بهذا الشأن ـ فلم

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : فضائل القرآن ، باب : جمع القرآن ، وباب : كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرجه في كتاب : تفسير سورة براءة ، باب : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ، وأخرجه في كتاب : الأحكام ، باب : ما يستحب للكاتب أن يكون أمينا (الأحاديث : ٩ ، ١٣). وأخرجه الترمذي في كتاب : التفسير ، باب : ومن سورة التوبة (الحديث : ٣١٠٢).

(٢) أرمينية : اسم لصقع عظيم واسع في جهة الشمال ، من مدنها بيلقان وقبلة وشروان وجرزان وصفدبيل وباب فيروزقباذ واللكز والنشوى.

(٣) أذربيجان : حدها من برذعة مشرقا إلى أرزنجان مغربا ويتصل حدها من جهة الشمال ببلاد ديلم والجيل والطرم ، من مشهور مدائنها : تبريز والمراغة وأرمية وأردبيل.

(٤) أخرجه البخاري في كتاب : فضائل القرآن ، باب : جمع القرآن ، وباب : نزل القرآن بلغة قريش (الأحاديث : ٩ ، ١٨). وأخرجه الترمذي في كتاب : التفسير ، باب : ومن سورة التوبة (الحديث : ٣١٠٣).

٣٩٩

يخالف في المسألة إلا عبد الله بن مسعود فإنه امتنع من طرح ما عنده من القراءة المخالفة لمصاحف عثمان ، وقال : يا أهل العراق! ويا أهل الكوفة (١) ، اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها ، فإن الله يقول : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٢) وألقوا إليه بالمصاحف ، فتأمل كلامه فإنه لم يخالف في جمعه ، وإنما خالف أمرا آخر. ومع ذلك فقد قال ابن هشام : بلغني أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجل من أفاضل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولم يرد نص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما صنعوا من ذلك ، ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعا ، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة ، والأمر بحفظها معلوم ، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن ، وقد علم النهي عن الاختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه.

وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العمل من السنن وغيرها ، إذا خيف عليها الاندراس ، زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكتب العلم.

وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل ، لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مغفلا جدا إلا من النقل الجلي كما نقل ابن وضاح ، أو يؤتي بأطراف من الكلام لا يشفي الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي ، ولم أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي ، وهو يسير في جنب ما يحتاج إليه فيه ، وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين ، وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه ، فأخذت نفسي بالعناء فيه ، عسى أن ينتفع به واضعه ، وقارئه ، وناشره ، وكاتبه ، والمنتفع به ، وجميع المسلمين ، إنه ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته.

المثال الثاني :

اتفاق أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حد شارب الخمر ثمانين ، وإنما مستندهم فيه

__________________

(١) الكوفة : بلد بأرض بابل من سواد العراق ، تمّ تمصيرها في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة / ١٧ / هجري.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ١٦١.

٤٠٠