الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

على حسبه ، كما أن البدعة لم يقصد بها صاحبها منازعة الشارع ولا التهاون بالشرع ، وإنما قصد الجري على مقتضاه ، لكن بتأويل زاده ورجحه على غيره ، بخلاف ما إذا تهاون بصغرها في الشرع فإنه إنما تهاون بمخالفة الملك الحق ، لأن النهي حاصل ومخالفته حاصلة ، والتهاون بها عظيم ، ولذلك يقال : لا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى عظمة من واجهته بها.

وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في حجة الوداع : «أي يوم هذا؟» قالوا : يوم الحج الأكبر ، قال : «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا ، لا يجني جان إلا على نفسه ، ألا لا يجني جان على ولده ولا مولود على والده ، ألا وإن الشيطان قد يئس ألّا يعبد في بلدكم هذا أبدا ، ولا تكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به» (١) ، فقوله عليه الصلاة والسلام : «فسيرضى به» دليل على عظم الخطب فيما يستحقر.

وهذا الشرط مما اعتبره الغزالي في هذا المقام ، فإنه ذكر في الإحياء أن مما تعظم به الصغيرة أن يستصغرها ، قال : فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند الله ، وكلما استصغره كبر عند الله ، ثم بين ذلك وبسطه.

فإذا تحصلت هذه الشروط فإذا ذاك يرجى أن تكون صغيرتها صغيرة ، فإن تخلف شرط منها أو أكثر صارت كبيرة ، أو خيف أن تصير كبيرة ، كما أن المعاصي كذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب : تفسير سورة التوبة ، وأخرجه في كتاب : الفتن ، باب : تحريم الدماء (الأحاديث : ٣٠٨٧ ، ٢٦١٠).

٣٦١

٧ ـ باب : في الابتداع هل يدخل في الأمور العادية

أم يختص بالأمور العبادية؟

قد تقدم في حد البدعة ما يقتضي الخلاف فيه : هل يدخل في الأمور العادية أم لا؟ أما العبادية فلا إشكال في دخوله فيها ، وهي عامة الباب ، إذ الأمور العبادية إما أعمال قلبية وأمور اعتقادية ، وإما أعمال جوارح من قول أو فعل ، وكلا القسمين قد دخل فيه الابتداع كمذهب القدرية والمرجئة ، والخوارج والمعتزلة ، وكذلك مذهب الإباحة واختراع العبادات على غير مثال سابق ولا أصل مرجوع إليه.

وأما العادية فاقتضى النظر وقوع الخلاف فيها وأمثلتها ظاهرة مما تقدم في تقسيم البدع ، كالمكوس والمحدثة من المظالم ، وتقديم الجهال على العلماء في الولايات العلمية وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة ، وإقامة صور الأئمة وولاة الأمور والقضاة ، واتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان ولبس الطيالس (١) وتوسيع الأكمام ، وأشباه ذلك من الأمور التي لم تكن في الزمن الفاضل والسلف الصالح ، فإنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها ، وشاعت وذاعت فلحقت بالبدع ، وصارت كالعبادات المخترعة الجارية في الأمة ، وهذا من الأدلة الدلة على ما قلنا ، وإليه مال القرافي وشيخه ابن عبد السلام ، وذهب إليه بعض السلف.

فروى أبو نعيم الحافظ ، عن محمد بن أسلم أنه ولد به ولد ـ قال محمد بن القاسم الطوسي ـ فقال : اشتر لي كبشين عظيمين ودفع إليّ دراهم ، فاشتريت له وأعطاني عشرة أخرى ، وقال لي : اشتر بها دقيقا ولا تنخله واخبزه ، قال : فنخلت الدقيق وخبزته ثم جئت به ، فقال : نخلت هذا؟ وأعطاني عشرة أخرى وقال : اشتر به دقيقا ولا تنخله واخبزه ، فخبزته

__________________

(١) الطيالس : جمع الطيلس ، وهو ضرب من الأوشحة يلبس على الكتف أو يحيط بالبدن ، خال عن التفصيل والخياطة ، أو ما يعرف بالعامية المصرية بالشال.

٣٦٢

وحملته إليه ، فقال لي : يا أبا عبد الله العقيقة سنّة ، ونخل الدقيق بدعة ، ولا ينبغي أن يكون في السنّة بدعة ، ولم أحب أن يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن كان بدعة. ومحمد بن أسلم هذا هو الذي فسر به الحديث إسحاق بن راهويه حيث سئل عن السواد الأعظم في قوله عليه الصلاة والسلام : «عليكم بالسواد الأعظم» (١) فقال : محمد وأصحابه ، حسبما يأتي ـ إن شاء الله ـ في موضعه من هذا الكتاب.

وأيضا ؛ فإن تصور في العبادات وقوع الابتداع وقع في العادات لأنه لا فرق بينهما فالأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية ، فكلاهما مشروع من قبل الشارع ، فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر.

ووجه ثالث : وهو أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون في آخر الزمان هي خارجة عن سنته ، فتدخل فيما تقدم تمثيله ، لأنها من جنس واحد.

ففي الصحيح عن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها ، قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : أدوا إليهم حقهم وسلوا حقكم» (٢) وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من كره من أميره شيئا فليصبر» ، وفي رواية : «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات ، مات ميتة جاهلية» (٣).

وفي الصحيح أيضا : «إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة» (٤). وعن

__________________

(١) أخرج نحوه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء في لزوم الجماعة (الحديث : ٢١٦٨).

(٢) أخرجه مسلم في كتاب : الإمارة ، باب : في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق (الحديث : ١٨٤٦). وأخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء ستكون فتن كقطع الليل (الحديث : ٢٢٠٠).

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الفتن ، باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سترون بعدي أمورا تنكرونها» ، وأخرجه في كتاب : الأحكام ، باب : السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (الحديث : ١٣ / ٥). وأخرجه مسلم في كتاب : الإمارة ، باب : وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة (الحديث : ١٨٤٩). وأخرجه أيضا الإمام أحمد في المسند (الأحاديث : ٢٧٥ ، ٢٧٧ ، ٣١٠).

(٤) أخرجه البخاري في كتاب : العلم ، باب : من سئل علما وهو مشتغل في حديثه ، وأخرجه في كتاب : الرقاق ، باب : رفع الأمانة (الأحاديث : ٤ / ١١٦ ، ١١٧).

٣٦٣

أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يتقارب الزمان ، ويقبض العلم ، ويلقى الشح ، وتظهر الفتن ، ويكثر الهرج ، قال : يا رسول الله أيما هو؟ قال : القتل القتل» (١).

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن بين يديّ لأياما ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم ، ويكثر فيها الهرج» (٢) والهرج القتل. وعن حذيفة رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثين ، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ، حدثنا أن الأمانة نزلت في جدر قلوب الرجال ، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنّة ، وحدثنا عن رفعها ثم قال : «ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الولت ، ثم ينام النومة فتقبض ، فيبقى أثرها مثل أثر المجل ، كجمر دحرجته على رجلك فنفض فتراه ينتثر وليس فيه شيء ، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، فيقال : إن في بني فلان رجلا أمينا ، ويقال للرجل : ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان» (٣) الحديث.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان ، يكون بينهما مقتلة عظيمة ، دعواهما واحدة ، حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين ، كلهم زعم أنه رسول ، وحتى يقبض العلم ، ثم قال : وحتى

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : العلم ، باب : من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس (الحديث : ١ / ١٦٥). وأخرجه مسلم في كتاب : العلم ، باب : رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (الحديث : ١٥٧). وأخرجه أبو داود في كتاب : الفتن ، باب : ذكر الفتن ودلائلها (الحديث : ٤٢٥٥).

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : الفتن ، باب : ظهور الفتن (الحديث : ١٣ / ١٥). وأخرجه مسلم في كتاب : العلم ، باب : رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن (الحديث : ٢٦٧٢). وأخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم (الحديث : ٢٢٠١).

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الرقاق ، باب : رفع الأمانة (الأحاديث : ١٤ / ١١٦ ، ١١٧). وأخرجه في كتاب : الفتن ، باب : إذا لقي في حثالة من الناس (الأحاديث : ١٦ / ١٤٨ ، ١٤٩). وأخرجه مسلم في كتاب : الإيمان ، باب : رفع الأمانة والإيمان (الحديث : ١٤٣). وأخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء في رفع الأمانة (الحديث : ٢١٨٠). وأخرجه ابن ماجه في كتاب : الفتن ، باب : ذهاب الأمانة (الحديث : ٤٠٥٣).

٣٦٤

يتطاول الناس في البنيان» (١) إلى آخر الحديث.

وعن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تخرج في آخر الزمان أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقرءون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يقولون من قول خير البرية ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (٢).

ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا فيبيع دينه بعرض الدنيا» (٣) ، وفسر ذلك الحسن قال : يصبح محرما لدم أخيه وعرضه وماله ، ويمسي مستحلا له ، كأنه تأوله على الحديث الآخر : «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (٤) ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الفتن ، باب : خروج النار ، وفي كتاب : أحاديث الأنبياء ، باب : علامات النبوة في الإسلام ، وفي كتاب : استتابة المرتدين ، باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعوتهما واحدة» (الأحاديث : ١٣ / ٧٢ ، ٧٨). وأخرجه مسلم في كتاب : الزكاة ، باب : الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها (الحديث : ١٥٧) ، وأخرجه في كتاب : الفتن ، باب : لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء (الأحاديث : ٢٩٢٢ ، ١٥٧) ، وأخرجه في كتاب : الإيمان ، باب : بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (الحديث : ٢٩١٢).

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : فضائل القرآن ، باب : إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به ، وأخرجه في كتاب : أحاديث الأنبياء ، باب : علامات النبوة في الإسلام ، وأخرجه في كتاب : استتابة المرتدين ، باب : قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم (الحديث : ٩ / ٨٦). وأخرجه مسلم في كتاب : الزكاة ، باب : التحريض على قتل الخوارج (الحديث : ١٠٦٦). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في قتال الخوارج (الحديث : ٤٧٦٧). وأخرجه النسائي في كتاب : تحريم الدم ، باب : من شهر سيفه ثم وضعه في الناس (الحديث : ٧ / ١١٩).

(٣) أخرجه مسلم في كتاب : الإيمان ، باب : الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن (الحديث : ١١٨). وأخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم (الحديث : ٢١٩٦).

(٤) أخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (الحديث : ٢١٩٤). وأخرجه البخاري في كتاب : الفتن ، باب : لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (الحديث : ١٣ / ٢٥).

٣٦٥

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويفشو الزنا ، ويشرب الخمر ، وتكثر النساء ، ويقل الرجال ، حتى يكون للخمسين امرأة قيّم واحد» (١).

ومن غريب حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حلّ بها البلاء. قيل : وما هي يا رسول الله؟ قال : إذا صار المغنم دولا ، والأمانة مغنما ، والزكاة مغرما ، وأطاع الرجل زوجته وعقّ أمه ، وبرّ صديقه ، وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرم الرجل مخافة شره ، وشربت الخمور ، ولبس الحرير ، واتخذت القيان والمعازف ، ولعن آخر هذه الأمة أولها ، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء ، وزلزلة وخسفا ، أو مسخا وقذفا» (٢).

وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه قريب من هذا.

وفيه : «ساد القبيلة فاسقهم ، وكان زعيم القوم أرذلهم» وفيه : «ظهرت القيان والمعازف» ، وفي آخره : «فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء ، وزلزلة ، وخسفا ، ومسخا ، وقذفا ، وآيات تتابع ، كنظام بال قطع سلكه فتتابع».

فهذه الأحاديث وأمثالها مما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يكون في هذه الأمة بعده إنما هو ـ في الحقيقة ـ تبديل الأعمال التي كانوا أحق بالعمل بها ، فلما عوضوا منها غيرها ، وفشا فيها كأنه من المعمول به تشريعا ، كان من جملة الحوادث الطارئة على نحو ما بيّن في العبادات.

والذين ذهبوا إلى أنه مختص بالعبادات لا يسلمون جميع ما قاله الأولون.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : العلم ، باب : رفع العلم وظهور الجهل ، وأخرجه في كتاب : النكاح ، باب : يقل الرجال ويكثر النساء ، وأخرجه في كتاب : الأشربة في فاتحته ، وأخرجه في كتاب : المحاربين ، باب : إثم الزناة (الأحاديث : ١ / ١٦٢ ، ١٦٣). وأخرجه مسلم في كتاب : العلم ، باب : رفع العلم وقبضه (الحديث : ٢٦٧١). وأخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء في أشراط الساعة (الحديث : ٢٢٠٦).

(٢) أخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء في علامة حلول المسخ (الحديث : ٢٢١١).

٣٦٦

أما ما تقدم عن القرافي وشيخه فقد مرّ الجواب عنه ، فإنها معاص في الجملة ، ومخالفات للمشروع ، كالمكوس والمظالم وتقديم الجهال على العلماء وغير ذلك.

والمباح منها كالمناخل ، إن فرض مباحا ـ كما قالوا ـ فإنما إباحته بدليل شرعي فلا ابتداع فيه.

وإن فرض مكروها ـ كما أشار إليه محمد بن أسلم ـ فوجه الكراهية عنده كونها عدت من المحدثات ، إذ في الأمر : أول ما أحدث بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المناخل ـ أو كما قال ـ فأخذ بظاهر اللفظ من أخذ به ، كمحمد بن أسلم.

وظاهره أن ذلك من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إلى كراهيته قوله تعالى : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) (١) ، لا من جهة أنه بدعة.

وقولهم : كما يتصور ذلك في العبادات يتصور في العادات مسلّم ، وليس كلامنا في الجواز العقلي ، وإنما الكلام في الوقوع ، وفيه النزاع.

وأما ما احتجوا به من الأحاديث فليس فيها على المسألة دليل واحد ، إذ لم ينص على أنها بدع أو محدثات ، أو ما يشير إلى ذلك المعنى ، وأيضا إن عدوّا كل محدث العادات بدعة ، فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المآكل والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول بدعا ، وهذا شنيع ، فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والاسم ، فيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم ، هذا من المستنكر جدّا.

نعم لا بدّ من المحافظة في العوائد المختلفة على الحدود الشرعية والقوانين الجارية على مقتضى الكلام والسنّة.

وأيضا : فقد يكون التزام الزي الواحد والحالة الواحدة أو العادة الواحدة تعبا ومشقة لاختلاف الأخلاق والأزمنة والبقاع والأحوال ، والشريعة تأبى التضييق والحرج فيما دل الشرع على جوازه ولم يكن ثمّ معارض.

__________________

(١) سورة : الأحقاف ، الآية : ٢٠.

٣٦٧

وإنما جعل الشارع ما تقدم في الأحاديث المذكورة من فساد الزمان وأشراط الساعة لظهورها وفحشها بالنسبة إلى متقدم الزمان ، فإن الخير كان أظهر ، والشر كان أخفى وأقل ، بخلاف آخر الزمان فإن الأمر فيه على العكس ، والشر فيه أظهر والخير أخفى.

وأما كون تلك الأشياء بدعا فغير مفهوم على الطريقتين في حد البدعة فراجع النظر فيها تجده كذلك.

والصواب في المسألة طريقة أخرى وهي تجمع شتات النظرين ، وتحقق المقصود في الطريقتين ، وهو الذي بنى عليه ترجمة هذا الباب ، فلنفرده في فصل على حدته والله الموفق للصواب.

فصل

أفعال المكلفين : بحسب النظر الشرعي فيها ـ على ضربين :

أحدهما : أن تكون من قبيل التعبدات.

والثاني : أن تكون من قبيل العادات.

فأما الأول : فلا نظر فيه هاهنا.

وأما الثاني : وهو العادي ، فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف فيها ، فمنهم من يرشد كلامه إلى أن العاديات كالعباديات ، فكما أنا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها ، فكذلك العاديات ، وهو ظاهر كلام محمد بن أسلم ، حيث كره في سنّة العقيقة مخالفة من قبله في أمر عاديّ ، وهو استعمال المناخل ، مع العلم بأن معقول المعنى نظرا منه ـ والله أعلم ـ إلى أن الأمر باتباع الأولين على العموم غلب عليه جهة التعبد ، ويظهر أيضا من كلام من قال : أول ما أحدث الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المناخل.

ويحكى عن الربيع بن أبي راشد أنه قال : لو لا أني أخاف من كان قبلي لكانت الجبّانة مسكني إلى أن أموت. والسكنى أمر عاديّ بلا إشكال.

وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلا في قسم العباديات ، فدخول الابتداع فيه ظاهر ، والأكثرون على خلاف هذا ، وعليه نبني الكلام فنقول :

ثبت في الأصول الشرعية أنه لا بدّ في كل عادي من شائبة التعبد ، لأن ما لم يعقل

٣٦٨

معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي ، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي ، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي ، والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي ، لأنه أحكامها معقولة المعنى ، ولا بد فيها من التعبد ، إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها ، كانت اقتضاء أو تخييرا فإن التخيير في التعبدات إلزام ، كما أن الاقتضاء إلزام ـ حسبما تقرر برهانة في كتاب (الموافقات) ـ وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد ، فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه ، صح دخوله في العاديات كالعباديات ، وإلّا فلا.

وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ، ويتبين ذلك بالأمثلة فمما أتى به القرافي من جواز وضع المكوس في معاملات الناس ، فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتا ما ، أو في حالة ما ، لنيل حطام الدنيا ، على هيئة غصب الغاصب ، وسرقة السارق ، وقطع القاطع للطريق ، وأما أشبه ذلك ، أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائما ، أو في أوقات محدودة ، على كيفيات مضروبة ، بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة ، ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه العقوبة ، كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك.

فأما الثاني : فظاهر أنه بدعة ، إذ هو تشريع زائد ، وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة ، والديات المضروبة ، والغرامات المحكوم بها في أموال الغصاب والمتعبدين ، بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة ، واللوازم المحتومة أو ما أشبه ذلك ، فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك ، لأنه شرع مستدرك ، وسنّ في التكليف مهيع ، فتصير المكوس على هذا الفرض لها ، نظران : نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم ، ونظر من جهة كونها اختراعا لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف ، فاجتمع فيها نهيان : نهي عن المعصية ، ونهي عن البدعة ، وليس ذلك موجودا في البدع في القسم الأول ، وإنما يوجد به النهي من جهة كونها تشريعا موضوعا على الناس أمر وجوب أو ندب ، إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية ، بل نفس التشريع هو نفس الممنوع.

وكذلك تقديم الجهال على العلماء ، وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح بطريق

٣٦٩

التوريث ، هو من قبيل ما تقدم ، فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتيا في الدين ، ومعمولا بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها ، محرم في الدين ، وكون ذلك يتخذ ديدنا حتى يصير الابن مستحقا لرتبة الأب ـ وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب ـ بطريق الوراثة أو غير ذلك ، بحيث يشيع هذا العمل ويطرد ويرده الناس كالشرع الذي لا يخالف بدعة بلا إشكال ، زيادة إلى القول بالرأي غير الجاري على العلم ، وهو بدعة أو سبب البدعة كما سيأتي تفسيره إن شاء الله ، وهو الذي بيّنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا واضلوا» (١) وإنما ضلوا لأنهم أفتوا بالرأي إذ ليس عندهم علم.

وأما إقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمر على خلاف ما كان عليه السلف فقد تقدم أن البدعة لا تتصور هنا ، وذلك صحيح ، فإن تكلف أحد فيها ذلك فيبعد جدّا ، وذلك بفرض أن يعتقد في ذلك العمل أنه مما يطلب به الأئمة على الخصوص تشريعا خارجا عن قبيل المصالح المرسلة ، بحيث يعد من الدين الذي يدين به هؤلاء المطلوبون به ، أو يكون ذلك مما يعد خاصّا بالأئمة دون غيرهم ، كما يزعم بعضهم : أن خاتم الذهب جائز لذوي السلطان ، أو يقول : إن الحرير جائز لهم لبسه دون غيرهم ، وهذا أقرب من الأول في تصور البدعة في حق هذا القسم.

ويشبهه على قرب زخرفة المساجد ، إذ كثير من الناس يعتقد أنها من قبيل ترفيع بيوت الله ، وكذلك تعليق الثريات الخطيرة الأثمان ، حتى يعد الإنفاق في ذلك إنفاقا في سبيل الله ، وكذلك إذا اعتقد في زخارف الملوك وإقامة صورهم أنها من جملة ترفيع الإسلام وإظهار معامله وشعائره ، أو قصد ذلك في فعله أولا بأنه ترفيع للإسلام لما لم يأذن الله به ، وليس ما حكاه القرافي عن معاوية من قبيل هذه الزخارف ، بل من قبيل المعتاد في اللباس والاحتياط في الحجاب مخافة من انخراق خرق يتسع فلا يرقع ـ هذا إن صح ما قال ، وإلّا فلا يعول

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : العلم ، باب : كيف يقبض العلم ، وأخرجه في كتاب : الاعتصام ، باب : ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس (الأحاديث : ١ / ١٧٤ ، ١٧٥). وأخرجه مسلم في كتاب : العلم ، باب : رفع العلم وقبضه (الحديث : ٢٦٧٣). وأخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : ما جاء في ذهاب العلم (الحديث : ٢٦٥٤).

٣٧٠

على نقل المؤرخين ومن لا يعتبر من المؤلفين ، وأحرى ألّا ينبني عليه حكم.

وأما مسألة المناخل : فقد مرّ ما فيها ، والمعتاد فيها أنه لا يلحقها أحد بالدين ولا بتدبير الدنيا بحيث لا ينفك عنه كالتشريع فلا نطول به ، وعلى ذلك الترتيب ينظر فيما قاله ابن عبد السلام من غير فرق ، فتبين مجال البدعة في العاديات من مجال غيرها ، وقد تقدم أيضا فيها كلام فراجعه إن احتجت إليه.

وأما وجه النظر : في أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول الابتداع في العاديات على ما أريد تحقيقه.

فنقول : إن مدارك تلك الأحاديث على بضع عشرة خصلة ، يمكن ردها إلى أصول هي كلها أو غالبها بدع ، وهي قلة العلم وظهور الجهل ، والشح وقبض الأمانة ، وتحليل الدماء والزنا والحرير والغناء والربا والخمر ، وكون المغنم دولا ، والزكاة مغرما ، وارتفاع الأصوات في المساجد ، وتقديم الأحداث ولعن آخر الأمة أولها ، وخروج الدجالين ، ومفارقة الجماعة.

أما قلة العلم وظهور الجهل : فبسبب التفرغ للدنيا ، وهذا إخبار بمقدمة أنتجتها الفتيا بغير علم ـ حسبما جاء في الحديث الصحيح : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس» (١) إلى آخره ـ وذلك أن الناس لا بدّ لهم من قائد يقودهم في الدين بجرائمهم ، وإلّا وقع الهرج وفسد النظام ، فيضطرون إلى الخروج إلى من انتصب لهم منصب الهداية ، وهو الذي يسمونه عالما ، فلا بد أن يحملهم على رأيه في الدين ، لأن الفرض أنه جاهل ، فيضلهم عن الصراط المستقيم ، كما أنه ضال عنه ، وهذا عين الابتداع ، لأنه التشريع بغير أصل من كتاب ولا سنّة ، ودلّ هذا الحديث على أنه أنه لا يؤتى الناس قط من قبل العلماء ، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فتؤتى

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٧٠ ، الحاشية : ١.

٣٧١

الناس من قبله ، وسيأتي لهذا المعنى بسط أوسع من هذا إن شاء الله.

وأما الشح : فإنه مقدمة لبدعة الاحتيال على تحليل الحرام ، وذلك أن الناس يشحون بأموالهم فلا يسمحون بتصريفها في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، كالإحسان بالصدقات والهبات والمواساة والإيثار على النفس ، ويليه أنواع القرض الجائز ، ويليه التجاوز في المعاملات بإنظار المعسر ، وبالإسقاط كما قال : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١) ؛ وهذا كان شأن من تقدم من السلف الصالح ، ثم نقص الإحسان بالوجوه الأول ، فتسامح الناس بالقرض ، ثم نقض ذلك حتى صار الموسر لا يسمح بما في يديه فيضطر المعسر إلى أن يدخل في المعاملات التي ظاهرها الجواز وباطنها المنع ، كالربا والسلف الذي يجر النفع فيجعل بيعا في الظاهر ، ويجري في الناس شرعا شائعا ، ويدين به العامة ، وينصبون هذه المعاملات متاجر ، وأصلها الشح بالأموال وحب الزخارف الدنيوية والشهوات العاجلة ، فإذا كان كذلك فالحريّ أن يصير ذلك ابتداعا في الدين ، وأن يجعل من أشراط الساعة.

فإن قيل : هذا انتجاع من مكان بعيد ، وتكلف لا دليل عليه.

فالجواب : أنه لو لا أن ذلك مفهوم من الشرع لما قيل به ، فقد روى أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم».

ورواه أبو داود أيضا وقال فيه : «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينتزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (٢).

فتأمل كيف قرن التبايع بالعينة بضنة الناس ، فأشعر بأن التبايع بالعينة يكون عن الشح

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٨٠.

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : البيوع ، باب : في النهي عن العينة (الحديث : ٣٤٦٢).

٣٧٢

بالأموال ، وهو معقول في نفسه ، فإن الرجل لا يتبايع أبدا هذا التبايع وهو يجد من يسلفه أو من يعينه في حاجته ، إلا أن يكون سفيها لا عقل له.

ويشهد لهذا المعنى ما خرجه أبو داود أيضا عن عليّ رضي الله عنه قال : سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ، ولم يؤمر بذلك ، قال الله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١) ، وينشد شرار خلق الله يبايعون كل مضطر ، ألا إن بيع المضطر حرام ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه ، إن كان عندك خير فعدّ به على أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه (٢).

وهذه الأحاديث الثلاثة ـ وإن كانت أسانيدها ليست هناك ـ مما يعضد بعضه بعضا ، وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع. قال بعضهم : عامة العينة إنما تقع من رجل يضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض إلا أن يربحه في المائة ما أحب ، فيبيعها ثمن المائة بضعفها أو نحو ذلك ، ففسر بيع المضطر بيع العينة ، وبيع العينة إنما هو العين بأكثر منها إلى أجل ـ حسبما هو مبسوط في الفقهيات ـ فقد صار الشح إذا سببا في دخول هذه المفاسد في البيوع.

فإن قيل : كلامنا في البدعة في فساد المعصية ، لأن هذه الأشياء بيوع فاسدة فصارت من باب آخر لا كلام لنا فيه.

فالجواب : أن مدخل البدعة هاهنا من باب الاحتيال الذي أجازه بعض الناس ، فقد عده العلماء من البدع المحدثات ، حتى قال ابن المبارك في كتاب وضع في الحيل : من وضع هذه فهو كافر ، ومن سمع به فرضي به فهو كافر ، ومن حمله من كورة فهو كافر ، ومن كان عنده فرضي به فهو كافر ، وذلك أنه وقع فيه الاحتيالات بأشياء منكرة ، حتى احتال على فراق الزوجة زوجها بأن ترتد.

وقال إسحاق بن راهويه ، عن سفيان بن عبد الملك : أن ابن المبارك قال في قصة بنت

__________________

(١) سورة : سبأ ، الآية : ٣٩.

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : البيوع ، باب : بيع المضطر (الحديث : ٣٣٨٢).

٣٧٣

أبي روح حيث أمرت بالارتداد ، وذلك في أيام أبي غشان : فذكر شيئا ، ثم قال ابن المبارك وهو مغضب : أحدثوا في الإسلام ، ومن كان أمر بهذا فهو كافر ، ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به أو صوبه ولم يأمر به فهو كافر ، ثم قال ابن مبارك : ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا ، حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذ ، ولو كان يحسنها لم يجد من يمضيها فيهم ، حتى هؤلاء.

وإنما وضع هذا الكتاب وأمثاله ليكون حجة على زعمهم في أن يحتالوا للحرام حتى يصير حلالا ، وللواجب حتى يكون غير واجب ، وما أشبه ذلك من الأمور الخارجة عن نظام الدين ، كما أجازوا نكاح المحلل ، وهو احتيال على رد المطلقة ثلاثا لمن طلقها ، وأجازوا إسقاط فرض الزكاة بالهبة المستعارة ، وأشباه ذلك فقد ظهر وجه الإشارة في الأحاديث المتقدمة المذكورة فيها الشح ، وأنها تتضمن ابتداعا كما تتضمن معاصي جمة.

وأما قبض الأمانة فعبارة عن شياع الخيانة ، وهي من سماة أهل النفاق ، ولكن يوجد في الناس بعض أنواعها تشريعا ، وحكيت عن قوم ممن ينتمي إلى العلم كما حكيت عن كثير من الأمراء ، فإن أهل الحيل المشار إليهم إنما بنوا في بيع العينة على إخفاء ما لو أظهروه لكان البيع فاسدا ، فأخفوه لتظهر صحته ، فإن بيعه الثوب بمائة وخمسين إلى أجل ، لكنهما أظهرا وساطة الثوب ، وأنه هو المبيع والمشتري ، وليس كذلك ، بدليل الواقع.

وكذلك يهب ماله عند رأس الحول قائلا بلسان حاله ومقاله : أنا غير محتاج إلى هذا المال وأنت أحوج إليه مني ، ثم يهبه ، فإذا جاء الحول الآخر قال الموهوب له للواهب مثل المقالة الأولى ، والجميع في الحالين ، بل في الحولين في تصريف المال سواء ، أليس هذا خلاف الأمانة؟ والتكليف من أصله أمانه فيما بين العبد وربه ، فالعمل بخلاف خيانة.

ومن ذلك أن بعض الناس كان يحفر الزينة ويرد من الكذب ، ومعنى الزينة التدليس بالعيوب ، وهذا خلاف الأمانة والنصح لكل مسلم. وأيضا فإن كثيرا من الأمراء يحتاجون أموال الناس اعتقادا منهم أنها لهم دون المسلمين ، ومنهم من يعتقد نوعا من ذلك في الغنائم المأخوذة عنوة من الكفار ، فيجعلونها في بيت المال ، ويجرمون الغانمين من حظوظهم منها تأويلا على الشريعة بالعقول ، فوجه البدعة هاهنا ظاهر.

٣٧٤

وقد تقدم التنبيه على ذلك في تمثيل البدع الداخلة في الضروريات في الباب قبل هذا ، ويدخل تحت هذا النمط كون الغنائم تصير دولا وقوله : «سترون بعدي أثرة وأمراء تنكرونها ، ثم قال أدوا إليهم حقهم وسلوا الله دقهم» (١).

وأما تحليل الدماء والربا والحرير والغناء والخمر ، فخرّج أبو داود وأحمد وغيرهما عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها» ـ زاد ابن ماجه ـ «يعزف على رءوسهم بالمعازف والقينات ، يخسف الله بهم الأرض ، ويجعل منهم القردة والخنازير» (٢) ، وخرّجه البخاري ، عن أبي عامر وأبي مالك الأشعري قال فيه : «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف ، ولينزلن أقوام إلى جنب علم ، تروح عليهم سارحة لهم يأتيه رجل لحاجة فيقولون : ارجع إلينا غدا ، فيبيتهم الله ويضع العمل ، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة». وفي سنن أبي داود : «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير» ـ وقال في آخره ـ «يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة» (٣).

والخز هنا نوع من الحرير ليس الخز المأذون فيها المنسوج من حرير وغيره. وقوله في الحديث : «ولينزلن أقوام» يعني ـ والله أعلم ـ : من هؤلاء المستحلين ، والمعنى : إن هؤلاء المستحلين ينزل منهم أقوام إلى جنب علم ، وهو الجبل ، فيواعدهم إلى الغد ، فيبيتهم الله ـ وهو أخذ العذاب ليلا ـ ويمسخ منهم آخرين كما في حديث أبي داود كما في الحديث قبل :

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الفتن ، باب : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ستكون بعدي أمور تنكرونها» ، وأخرجه في كتاب : أحاديث الأنبياء ، باب : علامات النبوة في الإسلام (الحديث : ١٣ / ٤). وأخرجه مسلم في كتاب : الإمارة ، باب : وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء (الحديث : ١٨٤٣). وأخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء في الأثرة (الحديث : ٢١٩١).

(٢) أخرجه ابن ماجه في كتاب : الفتن ، باب : العقوبات (الحديث : ٤٠٢٠) ولفظه : (والمغنيات ..).

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الأشربة ، باب : ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه (الحديث : ١٠ / ٤٥). وقد وصله أبو داود في كتاب : اللباس ، باب : ما جاء في الخز (الحديث : ٤٠٣٩). ووصله أيضا الطبراني والبيهقي (١٠ / ٢٢).

٣٧٥

يخسف الله بهم الأرض ويمسخ منهم قردة وخنازير ، وكأن الخسف هاهنا التبييت المذكور في الآخر.

وهذا نص في أن هؤلاء الذين استحلوا هذه المحارم كانوا متأولين فيها حيث زعموا أن الشراب الذي شربوه ليس هو الخمر ، وإنما له اسم آخر إما النبيذ أو غيره ، وإنما الخمر عصير العنب النيء ، وهذا رأي طائفة من الكوفيين وقد ثبت أن كل مسكر خمر.

قال بعضهم : وإنما أتى على هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم ، ولم يلتفتوا إلى جود المعنى المحرم وثبوته. قال : وهذه بعينها شبهة اليهود في استحلالهم أخذ الحيتان يوم الأخذ بما أوقعوها به يوم السبت في الشباك والحفائر من فعلهم يوم الجمعة حيث قالوا : ليس هذا بصيد ولا عمل يوم السبت ، وليس هذا باستباحة السبت.

بل الذي يستحل الخمر زاعما أنه ليس خمرا مع علمه بأن معناه معنى الخمر ومقصوده مقصود الخمر ، أفسد تأويلا من جهة أن أهل الكوفة من أكثر الناس قياسا ، فلئن كان من القياسة ما هو حق ، فإن قياس الخمر المنبوذة على الخمر العصيرة من القياس في معنى الأصل ، وهو من القياس الجلي ، إذ ليس بينهما من الفرق ما يتوهم أنه مؤثر في التحريم.

فإذا كان هؤلاء المذكورون في الحديث إنما شربوا الخمر استحلالا لها لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ ، وظنوا أن لفظ الخمر لا يقع على غير عصير العنب النيء ، فشبهتهم في استحلال الحرير والمعازف أظهر بأنه أبيح الحرير للنساء مطلقا ، وللرجال في بعض الأحوال ، فكذلك الغناء والدف قد أبيح في العرس ونحوه ، وأبيح منه الحداء وغيره ، وليس في هذا النوع من دلائل التحريم ما في الخمر ، فظهر ذم الذين يخسف بهم ويمسخون ، إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء.

وقد خرّج ابن بطة عن الأوزاعي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يأتي على الناس زمان يستحلون فيه الربا بالبيع» (١) قال بعضهم : يعني : العينة ، وروي في استحلال الربا حديث رواه إبراهيم

__________________

(١) أخرج نحوه النسائي في كتاب : (٤٤) ، باب : (٢). وابن ماجه في كتاب : (١٢) ، باب : (٥٨). والدارمي في كتاب : (١٨) ، باب : (٥). وأحمد في المسند (٢ / ٤٩٤). وأبو داود في كتاب :

٣٧٦

الحربي عن أبي ثعلبة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول دينكم نبوة ورحمة ، ثم ملك وجبرية ، ثم ملك عضوض يستحل فيه الحر والخز» (١) يريد استحلال الفروج الحرام ، والحر بكسر الحاء المهملة والراء المخففة الفرج ، قالوا : ويشبه ـ والله أعلم ـ أن يراد بذلك ظهور استحلال نكاح المحلل ونحو ذلك مما يوجب استحلال الفروج المحرمة ، فإن الأمة لم يستحل أحد منها الزنا الصريح ، ولم يرد بالاستحلال مجرد الفعل ، فإن هذا لم يزل معمولا في الناس ثم لفظ الاستحلال إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالا ، والواقع كذلك ، فإن هذا الملك العضوض الذي كان بعد الملك والجبرية قد كان في أواخر عصر التابعين في تلك الأزمان صار في أولي الأمر من يفتي بنكاح المحلل ونحوه ، ولم يكن قبل ذلك من يفتي به أصلا.

ويؤيد ذلك أنه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه المشهور : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن آكل الربا وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له» (٢).

وروى أحمد ، عن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما ظهر في قوم الربا والزنا وإلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله» (٣) فهذا يشعر بأن التحليل من الزنا كما يشعر أن العينة من الربا.

وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا ومرفوعا قال : «يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء : يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها ، والسحت بالهدية ، والقتل بالريبة ، والزنا بالنكاح ، والربا بالبيع» ، فإن الثلاثة المذكورة أولا قد سنت ، وأما السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما باسم الهدية فهو ظاهر ، واستحلال القتل باسم

__________________

ـ (٢٢) ، باب : (٣).

(١) أخرجه الدارمي في كتاب : الأشربة (الحديث : ٨).

(٢) أخرجه مسلم في كتاب : المساقاة ، باب : لعن آكل الربا وموكله (الحديث : ١٥٩٧). وأخرجه الترمذي في كتاب : البيوع ، باب : ما جاء في آكل الربا (الحديث : ١٢٠٦). وأخرجه أبو داود في كتاب : البيوع ، باب : في آكل الربا وموكله (الحديث : ٣٣٣٣). وأخرجه ابن ماجه في كتاب : التجارات ، باب : التغليظ في الربا (الحديث : ٢٢٧٧). وأخرجه أحمد في المسند (١ / ٤٠٢).

(٣) أخرجه أحمد في المسند (١ / ٤٠٢).

٣٧٧

الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسية وأبهة الملك ونحو ذلك ، فظاهر أيضا ؛ وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة.

وقد وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخوارج بهذا النوع من الخصال فقال : «إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يتجاوز حناجرهم ، يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (١) ، ولعل هؤلاء المرادون بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة الله عنه : «يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا» (٢) الحديث. يدل عليه تفسير الحسن قال : يصبح محرما لدم أخيه وعرضه ويمسي مستحلا ، إلى آخره.

وقد وضع القتل شرعا معمولا به على غير سنّة الله وسنّة رسوله المتسمى بالمهدي المغربي الذي زعم أنه المبشر به في الأحاديث ، فجعل القتل عقابا في ثمانية عشر صنفا ، ذكروا منها : الكذب ، والمداهنة ، وأخذهم أيضا بالقتل في ترك امتثال أمر من يستمع أمره وبايعوه على ذلك ، وكان يعظهم في كل وقت ويذكرهم ، ومن لم يحضر أدب ، فإن تمادى قتل ، وكل من لم يتأدب بما أدب به ضرب بالسوط المرة والمرتين ، فإن ظهر منه عناد في ترك امتثال الأوامر قتل ، ومن داهن على أخيه أو أبيه أو من يكرم أو المقدم عليه قتل ، وكل من شك في عصمته قتل أو شك في أنه المهدي المبشر به ، وكل من خالف أمره ، أمر أصحابه فعروه ، فكان أكثر تأديبه القتل ـ كما ترى ـ كما أنه كان من رأيه أن لا يصلي خلف

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : فضائل القرآن ، باب : إثم من راءى بالقرآن أو تأكل به ، وأخرجه في كتاب : أحاديث الأنبياء ، باب : علامات النبوة في الإسلام ، وأخرجه في كتاب : الأدب : ما جاء في قول الرجل : ويلك ، وأخرجه في كتاب : استتابة المرتدين ، باب : قتال الخوارج ، وباب : من ترك قتال الخوارج للتألف وأن لا ينفر الناس عنه (الحديث : ٩ / ٨٦). وأخرجه مسلم في كتاب : الزكاة ، باب : ذكر الخوارج وصفاتهم (الحديث : ١٠٦٤). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : القرآن ، باب : ما جاء في القرآن (الأحاديث : ١ / ٢٠٤ ، ٢٠٥). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في قتال الخوارج (الحديث : ٤٧٦٤). وأخرجه النسائي في كتاب : الزكاة ، باب : في المؤلفة قلوبهم ، وأخرجه في كتاب : تحريم الدم ، باب : من شهر سيفه ثم وضعه في الناس (الحديث : ٥ / ٨٧).

(٢) أخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ٣٣ (الحديث : ٢٢٠٥). وأخرجه أبو داود في كتاب : الفتن ، باب : في النهي عن السعي في الفتنة (الأحاديث : ٤٢٥٩ ، ٤٢٦٢).

٣٧٨

إمام أو خطيب يأخذ أجرا على الإمامة أو الخطابة ، وكذلك لبس الثياب الرفيعة ـ وإن كانت حلالا ـ فقد حكوا عنه قبل أن يستفحل أمره أنه ترك الصلاة خلف خطيب أغمات بذلك السبب ، فقدم خطيب آخر في ثياب حفيلة تباين التواضع ـ بزعمهم ـ فترك الصلاة خلفه.

وكان من رأيه ترك الرأي واتباع مذاهب الظاهرية ، قال العلماء : وهو بدعة ظهرت في الشريعة بعد المائتين ، ومن رأيه أن التمادي على ذرة من الباطل كالتمادي على الباطل كله.

وذكر في كتاب «الإمامة» أنه هو الإمام ، وأصحابه هم الغرباء الذي قيل فيهم : «بدئ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدئ ، فطوبى للغرباء» (١) ، وقال في الكتاب المذكور : جاء الله بالمهدي وطاعته صافية نقية لم ير مثلها قبل ولا بعد ، وأن به قامت السموات والأرض ، وبه تقوم ، ولا ضد له ولا مثل ولا ند انتهى. وكذب ، فالمهدي عيسى عليه‌السلام.

وكان يأمرهم بلزوم الحزب بعد صلاة الصبح ، وبعد المغرب ، فأمر المؤذنين إذا طلع الفجر أن ينادوا : أصبح ولله الحمد إشعارا ـ زعموا ـ بأن الفجر قد طلع لإلزام الطاعة ، ولحضور الجماعة ، وللغدوّ لكل ما يؤمرون به.

وله اختراعات وابتداعات غير ما ذكرنا ، وجميع ذلك إلى أنه قائل برأيه في العبادات والعادات ، مع زعمه أنه قائل غير قائل بالرأي ، وهو التناقض بعينه ، فقد ظهر إذن جريان تلك الأشياء على الابتداع.

وأما كون الزكاة مغرما ، فالمغرم ما يلزم أداؤه من الديون والغرامات ، كان الولاة يلزمونها الناس بشيء معلوم من غير نظر إلى قلة مال الزكاة أو كثرته أو قصوره عن النصاب أو عدم قصوره ، بل يأخذونهم بها على كل حال إلى الموت ، وكون هذا بدعة ، ظاهر.

وأما ارتفاع الأصوات في المساجد فناشئ عن بدعة الجدال في الدين ، فإن من عادة

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب : الإيمان ، باب : بيان أن الإسلام بدأ غريبا (الحديث : ١٤٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : الإيمان ، باب : ١٣.

٣٧٩

قراءة العلم وإقرائه وسماعه أن يكون في المساجد ، ومن آدابه أن لا ترفع فيه الأصوات في غير المساجد ، فما ظنك به في المساجد؟ فالجدال فيه زيادة الهوى ، فإنه غير مشروع في الأصل ، فقد جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال في الدين ، وهو الكلام فيما لم يؤذن في الكلام فيه ، كالكلام في المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما ، وكمتشابهات القرآن ، ولأجل ذلك جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) (١) الآية. قال : «فإذا رأيتم الّذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم» (٢) وفي الحديث : «ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل» (٣) ، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر» (٤) وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «إن القرآن يصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ما علمتم منه فاقبلوه وما لم تعلموا منه فكلوه إلى عالمه» (٥) ، وقال عليه‌السلام : «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ، فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه» (٦) وخرّج ابن وهب ، عن معاوية بن قرة قال : إياكم والخصومات في الدين فإنها تحبط الأعمال.

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : التفسير ، باب : منه آيات محكمات (الأحاديث : ٨ / ١٥٧ ، ١٥٩). وأخرجه مسلم في كتاب : العلم ، باب : النهي عن اتباع متشابه القرآن (الحديث : ٢٦٦٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : التفسير ، باب : ومن سورة آل عمران (الحديث : ٢٩٩٦). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : النهي عن الجدال واتباع المتشابه من القرآن (الحديث : ٤٥٩٨).

(٣) أخرجه الترمذي في كتاب : التفسير ، باب : ومن تفسير سورة الزخرف (الحديث : ٣٢٥٠). وأخرجه ابن ماجه في المقدمة ، باب : اجتناب البدع والجدل (الحديث : ٤٨). وأخرجه أحمد في المسند (الأحاديث : ٥ / ٢٥٢ ، ٢٥٦). وأورده السيوطي في الدر المنثور (٦ / ٢٠).

(٤) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : النهي عن الجدال في القرآن (الحديث : ٤٦٠٣). وأخرجه أحمد في المسند (الأحاديث : ٢ / ٢٥٨ ، ٢٨٦).

(٥) عزاه في كنز العمال إلى الطبراني.

(٦) أخرجه البخاري في كتاب : فضائل القرآن ، باب : اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ، وأخرجه في كتاب : الاعتصام ، باب : كراهية الاختلاف (الحديث : ٩ / ٨٧). وأخرجه مسلم في كتاب : العلم ، باب : النهي عن اتباع متشابه القرآن (الحديث : ٢٦٦٧).

٣٨٠