الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

محال ، فإن وقع بين قطعي وظني بطل الظني ، وإن وقع بين ظنيين فههنا للعلماء فيه الترجيح ، والعمل بالأرجح متعين ، وإن أمكن الجمع ـ فقد اتفق النظار على إعمال وجه الجمع ، وإن كان وجه الجمع ضعيفا ، فإن الجمع أولى عندهم ، وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها ، فهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأسا ، إما جهلا به أو عنادا.

فإذا ثبت هذا فقوله : «خير القرون قرني» (١) هو الأصل في الباب فلا يبلغ أحد منا مبلغ الصحابة رضي الله عنهم ، وما سواه يحتمل التأويل على حال أو زمان أو في بعض الوجوه.

وأما قوله : «فطوبى للغرباء» (٢) لا نص فيه على التفضيل المشار إليه ، بل هو دليل على جزاء حسن ، ويبقى النظر في كونهم مثل جزاء الصحابة أو دونه أو فوقه محتمل ، فليس في الحديث عليه دليل ، فلا بد من حمله على محكم الأصل الأول ولا إشكال.

ومن ذلك قولهم بالتناقض في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوني على يونس بن متى ولا تخيروا بين الأنبياء وبيني» (٣) وقوله : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (٤) ووجه الجمع بينهما ظاهر.

ومنه أنهم قالوا في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» (٥). إن هذا الحديث يفسد آخره أوله ،

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٢٠٠ ، الحاشية : ٦.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٨ ، الحاشية : ١.

(٣) أخرجه نحوه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (الحديث : ٤٦٧٠).

(٤) أخرجه الترمذي في كتاب : المناقب ، باب : ٣ (الحديث : ٣٦١٨) وقال : حديث حسن.

(٥) أخرجه البخاري في كتاب : الوضوء ، باب : الاستجمار وترا (الأحاديث : ١ / ٢٢٩ ، ٢٣١). وأخرجه مسلم في كتاب : الطهارة ، باب : كراهة غمس المتوضّئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثا (الحديث : ٢٧٨). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الطهارة ، باب : وضوء النائم إذا قام للصلاة (الحديث : ١ / ٢١). وأخرجه أبو داود في كتاب : الطهارة ، باب : في الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها (الأحاديث : ١٠٣ ، ١٠٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : الطهارة ، باب : ما جاء إذا استيقظ أحدكم في منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها (الحديث : ٢٤). وأخرجه النسائي في كتاب : الطهارة ، باب : تأويل قوله عزوجل. ـ

٢٠١

فإن أوله صحيح لو لا قوله : فإن أحدكم لا يدري كذا. فما منا أحد إلا درى أين باتت يده ، وأشد الأمور أن يكون مسّ بها فرجه ، ولو أن رجلا فعل ذلك في اليقظة لما طلب بغسل يده ، فكيف يطلب بالغسل ولا يدري هل مسّ فرجه أم لا؟

وهذا الاعتراض من النمط الذي قبله ، إذ النائم قد يمس فرجه فيصيبه شيء من نجاسة في المحل لعدم استنجاء تقدم النوم ، أو يكون استجمر فوق موضع الاستجمار ، وهو لو كان يقظان فمس لعلم بالنجاسة إذا علقت بيده فيغسلها قبل غمسها في الإناء لئلا يفسد الماء ، وإذا أمكن هذا لم يتوجه الاعتراض.

فجميع ما ذكر في هذا الفصل راجع إلى إسقاط الأحاديث بالرأي المذموم الذي تقدم الاستشهاد عليه أنه من البدع المحدثات.

فصل

ومنها : تحريف الأدلة عن مواضعها ، بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهما أن المناطين واحد ، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله. ويغلب على الظن أن من أقرّ بالإسلام ، ويذم تحريف الكلم عن مواضعه ، لا يلجأ إليه صراحا إلا مع اشتباه يعرض له ، أو جهل يصده عن الحق ، مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه ، فيكون بذلك السبب مبتدعا.

وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرا في الجملة مما يتعلق بالعبادات ـ مثلا ـ فأتى به المكلف في الجملة أيضا ، كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة ، كان الدليل عاضدا لعلمه من جهتين : من جهة معناه ، ومن جهة عمل السلف الصالح به ، فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة ، أو زمان مخصوص ، أو مكان مخصوص ، أو مقارنا لعبادة مخصوصة ، والتزم ذلك بحيث صار متخيلا أن الكيفية ، أو الزمان ، أو المكان ، مقصود شرعا من غير أن يدل الدليل عليه ، كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه.

__________________

ـ (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (الحديث : ١ / ٦ ، ٧).

٢٠٢

فإذا ندب الشرع مثلا إلى ذكر الله فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت أو في وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات ـ لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم ، بل فيه ما يدل على خلافه ، لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعا شأنها أن تفهم التشريع ، وخصوصا مع من يقتدى به في مجامع الناس كالمساجد ، فإنها إذا ظهرت هذا الإظهار ، ووضعت في المساجد كسائر الشعائر التي وضعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المساجد وما أشبهها كالأذان وصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف ـ فهم منها بلا شك أنها سنن إذا لم تفهم منها الفرضية ، فأحرى أن لا يتناولها الدليل المستدل به فصارت من هذه الجهة بدعا محدثة بذلك.

وعلى ذلك ترك التزام السلف الصالح لتلك الأشياء ، أو عدم العمل بها ، وهم كانوا أحق بها وأهلها لو كانت مشروعة على مقتضى القواعد ، لأن الذكر قد ندب إليه الشرع ندبا في مواضع كثيرة ، حتى إنه لم يطلب في تكثير عبادة من العبادات ما طلب من التكثير من الذكر ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) (١) الآية ، وقوله : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢) ، بخلاف سائر العبادات.

ومثل هذا الدعاء فإنه ذكر الله ، ومع ذلك فلم يلتزموا فيه كيفيات ، ولا قيدوه بأوقات مخصوصة بحيث تشعر باختصاص التعبد بتلك الأوقات ، إلا ما عينه الدليل كالغداة والعشي ، ولا أظهروا منه إلا ما نص الشارع على إظهاره كالذكر في العيدين وشبهه ، وما سوى ذلك فكانوا مثابرين على إخفائه وسره ، ولذلك قال لهم حين رفعوا أصواتهم : «أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» (٣) وأشباهه ، ولم يظهروه في الجماعات.

__________________

(١) سورة : الأحزاب ، الآية : ٤١.

(٢) سورة : الجمعة ، الآية : ١٠.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الدعوات ، باب : الدعاء إذا علا عقبة ، وباب : لا حول ولا قوة إلا بالله (الحديث : ١١ / ١٥٩). وأخرجه مسلم في كتاب : الذكر والدعاء ، باب : استحباب خفض الصوت بالذكر (الحديث : ٢٧٠٤). وأخرجه الترمذي في كتاب : الدعوات ، باب : (٣). (الحديث : ٣٣٧٤). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : الاستغفار (الأحاديث : ١٥٢٦ ، ١٥٢٨).

٢٠٣

فكل من خالف هذا الأصل فقد خالف إطلاق الدليل أولا ، لأنه قيد فيه بالرأي ، وخالف من كان أعرف منه بالشريعة وهم السلف الصالح رضي الله عنهم ، بل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يترك العمل وهو يحب أن يعمل به خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.

وفي فصل من (الموافقات) جملة من هذا ، وهو مزلة قدم ، فقد يتوهم أن إطلاق اللفظ يشعر بجواز كل ما يمكن في مدلوله وقوعا وليس خصوصا في العبادات ، فإنها محمولة على التعبد على حسب ما تلقى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والسلف الصالح ، كالصلوات حين وضعت بعيدة عن مدارك العقول في أركانها وترتيبها وأزمانها وكيفياتها ومقاديرها ، وسائر ما كان مثلها ـ حسبما يذكر في باب المصالح المرسلة من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ـ فلا يدخل العبادات الرأي والاستحسان هكذا مطلقا لأنه كالمنافي لوضعها ، ولأن العقول لا تدرك معانيها على التفصيل.

وكذلك حافظ العلماء على ترك إجراء القياس فيها ، كمالك بن أنس رضي الله عنه ، فإنه حافظ على طرح الرأي جدا ، ولم يعمل فيها من أنواع القياس إلا قياس نفي الفارق حيث اضطر إليه ، وكذلك غيره من العلماء ، وإن تفاوتوا فهم محافظون جميعا في العبادات على الاتباع لنصوصها ومنقولاتها ، بخلاف غيرها فبحسبها لا مطلقا ، فإن الإنسان قد أمر بذلك في الجملة ـ مثلا ـ فالمخصص كالمخالف لمفهوم التوسعة ، وإن لم يفهم من ذلك توسعة فلا بد من الرجوع إلى أصل الوقف مع المنقول ، لأنا إن خرجنا عنه شككنا في كون العبادة على ذلك الوجه مشروعة على الطريقتين المنبه عليهما في كتاب الموافقات ، فيتعين الرجوع إلى المنقول وقوفا معه من غير زيادة ولا نقصان.

ثم إذا فهمنا التوسعة ، فلا بد من اعتبار أمر آخر ، وهو أن يكون العمل بحيث لا يوهم التخصيص زمانا دون غيره ، أو مكانا دون غيره ، أو كيفية دون غيرها أو يوهم انتقال الحكم من الاستحباب ـ مثلا ـ إلى السنّة أو الفرض ، لأنه قد يكون الدوام عليه على كيفية ما ، في مجامع الناس أو مساجد الجماعات أو نحو ذلك موهما لكونه سنّة أو فرضا ... بل هو كذلك.

ألا ترى أن كل ما أظهره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وواظب عليه في جماعة إذا لم يكن فرضا فهو سنّة عند العلماء ، كصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف ونحو ذلك؟ بخلاف قيام الليل

٢٠٤

وسائر النوافل ، فإنها مستحبات ، وندب صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إخفائها ، وإنما يضر إذا كانت تشاع ويعلن بها.

ومن أمثلة هذا الأصل التزام الدعاء بعد الصلوات بالهيئة الاجتماعية معلنا بها في الجماعات. وسيأتي بسط ذلك في بابه إن شاء الله تعالى.

فصل

ومنها : بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل ـ يدعون فيها أنها هي المقصود والمراد ، لا ما يفهم العربي ـ مسندة عندهم إلى أصل لا يعقل وذلك أنهم فيما ذكر العلماء : قوم أرادوا إبطال الشريعة جملة وتفصيلا ، وإلقاء ذلك فيما بين الناس لينحل الدين في أيديهم ، فلم يمكنهم إلقاء ذلك صراحا ، فيرد ذلك في وجوههم ، وتمتد إليهم أيدي الحكام ، فصرفوا أعناقهم إلى التّحيّل على ما قصدوا بأنواع من الحيل من جملتها صرف الهم من الظواهر إحالة على أن لها بواطن هي المقصودة ، وأن الظواهر غير مرادة ، فقالوا : كل ما ورد في الشرع من الظواهر في التكاليف والحشر والنشر ، والأمور الإلهية فهي أمثلة ورموز إلى بواطن.

فمما زعموا في الشرعيات أن الجنابة مبادرة الداعي للمستجيب بإفشاء سر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق ، ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ، ومعنى مجامعة البهيمة مقابحة من لا عهد له ولم يؤد شيئا من صدقة النجوى ـ وهو مائة وتسعة عشر درهما عندهم ـ قالوا : فلذلك أوجب الشرع القتل على الفاعل والمفعول به ، وإلا فالبهيمة متى يجب القتل عليها؟

والاحتلام أن يسبق لسانه إلى إفشاء السر في غير محله ، فعليه الغسل ، أي تجديد المعاهدة والطهر هو التبرؤ من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام ، والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يسعد بمشاهدة الداعي والإمام ، والصيام هو الإمساك عن كشف السر.

ولهم من هذا الإفك كثير في الأمور الإلهية ، وأمور التكليف ، وأمور الآخرة ، وكله حوم على إبطال الشريعة جملة وتفصيلا ، إذ هم ثنوية ودهرية وإباحية ، منكرون للنبوة

٢٠٥

والشرائع والحشر والنشر والجنة والنار والملائكة ، بل هم منكرون للربوبية ، وهم المسمون بالباطنية.

وربما تمسكوا بالحروف والأعداد بأن الثقب في رأس الآدمي سبع ، والكواكب السيارة سبع ، وأيام الأسبوع سبع ، فهذا يدل على أن دور الأئمة سبعة ، وبه يتم ، وأن الطبائع أربع ، وفصول السنة أربع ، فدلّ على أن أصول الأربعة هي السابق والتالي الإلهان ، عندهم ، والناطق والأساس ـ وهما الإمامان ـ والبروج اثنا عشر يدل على أن الحجج اثنا عشر ، وهم الدعاة ، إلى أنواع من هذا القبيل ، وجميعها ليس فيه ما يقابل بالرد ، لأن كل طائفة من المبتدعة سوى هؤلاء ربما يتمسكون بشبهة تحتاج إلى النظر فيها معهم ، أما هؤلاء فقد خلعوا في الهذيان (الربقة) ، وصاروا عرضة للّمز ، وضحكة للعالمين ، وإنما ينسبون هذه الأباطيل إلى الإمام المعصوم الذي زعموه ، وإبطال الأئمة معلوم في كتب المتكلّمين ، ولكن لا بدّ من نكتة مختصرة في الرد عليهم.

فلا يخلو أن يكون ذلك عندهم إما من جهة دعوى الضرورة وهو محال ، لأن الضروري هو ما يشترك فيه العقلاء علما وإدراكا ، وهذا ليس كذلك.

وإما من جهة الإمام المعصوم بسماعهم منه لتلك التأويلات. فنقول لمن زعم ذلك :

ما الذي دعاك إلى تصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى المعجزة؟ وليس لإمامك معجزة ، فالقرآن يدل على أن المراد ظاهره ، لا ما زعمت. فإن قال : ظاهر القرآن رموز إلى بواطن فهمها الإمام المعصوم ولم يفهمها الناس فتعلمناها منه. قيل لهم : من أي جهة تعلمتموها منه؟ أبمشاهد قلبه بالعين؟ أو بسماع منه؟ ولا بدّ من الاستناد إلى السماع بالأذن. فيقال : فلعل لفظه ظاهر له باطن لم تفهمه ، ولم يطلعك عليه ، فلا يوثق بما فهمت من ظاهر لفظه ، فإن قال : صرح بالمعنى. وقال : ما ذكرته ظاهر لا رمز فيه ، أو والمراد ظاهره. قيل له : وبما ذا عرفت قوله أنه ظاهر لا رمز فيه ، بل أنه كما قال؟ إذ يمكن أن يكون له باطن لم تفهمه أيضا ، حتى لو حلف بالطلاق الظاهر أنه لم يقصد إلا الظاهر ، لاحتمل أن يكون في طلاقه رمز هو باطنه وليس مقتضى الظاهر. فإن قال : ذلك يؤدي إلى حسم باب التفهيم. قيل له : فأنتم حسمتموه بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن القرآن دائر على تقرير الوحدانية ، والجنة ، والنار ، والحشر ،

٢٠٦

والنشر ، والأنبياء ، والوحي ، والملائكة ، مؤكدا ذلك كله بالقسم ، وأنتم تقولون : إن ظاهره غير مراد وإن تحته رمزا ، فإن جاز ذلك عندكم بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمصلحة وسر له في الرمز ، جاز بالنسبة إلى معصومكم أن يظهر لكم خلاف ما يضمره لمصلحة وسر له فيه ، وهذا لا محيص لهم عنه.

قال أبو حامد الغزالي رحمه‌الله : ينبغي أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه الفرقة هي أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال ، إذ لا تجد فرقة تنقض مذهبها بنفس المذهب سوى هذه التي هي الباطنية ، إذ مذهبها إبطال النظر ، وتغيير الألفاظ عن موضوعها بدعوى الرمز ، وكل ما يتصور أن تنطق به ألسنتهم فإما نظر أو نقل ، أما النظر فقد أبطلوه ، وأما النقل فقد جوّزوا أن يراد باللفظ غير موضوعه ، فلا يبقى لهم معتصم ، والتوفيق بيد الله.

وذكر ابن العربي في العواصم مأخذا آخر في الرد عليهم أسهل من هذا ، وقال : إنهم لا قبل لهم به ، وهو أن يسلط عليهم في كل ما يدعونه السؤال ب لم؟ خاصة ، فكل من وجهت عليه منهم سقط في يده ، وحكى في ذلك حكاية ظريفة يحسن موقعها هاهنا ، وتصور المذهب كاف في ظهور بطلانه إلا أنه مع ظهور فساده وبعده عن الشرع قد اعتمده طوائف وبنوا عليه بدعا فاحشة.

منها : مذهب المهدي المغربي ، فإنه عدّ نفسه الإمام المنتظر وأنه معصوم ، حتى أن من شك في عصمته ، أو في أنه المهديّ المنتظر كافر.

وقد زعم ذووه أنه ألّف في الإمامة كتابا ذكر فيه أن الله استخلف آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام ، وأن مدة الخلافة ثلاثون سنة ، وبعد ذلك فرق وأهواء ، وشح مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فلم يزل الأمر على ذلك ، والباطل ظاهر والحق كامن ، والعلم مرفوع ، ـ كما أخبر عليه الصلاة والسلام ـ والجهل ظاهر ، ولم يبق من الدين إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه حتى جاء الله بالإمام فأعاد الله به الدين ـ كما قال عليه الصلاة والسلام ـ : «بدئ الدين غريبا وسيعود غريبا كما

٢٠٧

بدئ فطوبى للغرباء» (١) وقال : إن طائفته هم الغرباء ، زعما من غير برهان زائد على الدعوى ، وقال في ذلك الكتاب : جاء الله بالمهدي ، وطاعته صافية نقية ، لم ير مثلها قبل ولا بعد ، وأن به قامت السموات ، والأرض به تقوم ، ولا ضد له ، ولا مثل ، ولا ند ، وكذب ، تعالى الله عن قوله ، وهذا كما نزل أحاديث الترمذي وأبي داود في الفاطمي على نفسه وأنه هو بلا شك.

وأول إظهاره لذلك أنه قام في أصحابه خطيبا فقال : الحمد لله الفعال لما يريد ، القاضي لما يشاء ، لا رادّ لأمره ، ولا معقب لحكمه ، وصلى الله على النبي المبشر بالمهدي يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وجورا ، يبعثه الله إذا نسخ الحق بالباطل ، وأزيل العدل بالجور ، مكانه بالمغرب الأقصى ، وزمانه آخر الأزمان ، واسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام ، ونسبه نسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ظهر جور الأمراء ، وامتلأت الأرض بالفساد ، وهذا آخر الزمان ، والاسم الاسم والنسب النسب والفعل الفعل ، يشير إلى ما جاء في أحاديث الفاطمي.

فلما فرغ بادر إليه من أصحابه عشرة ، فقالوا : هذه الصفة لا توجد إلا فيك ، فأنت المهدي ، فبايعوه على ذلك. وأحدث في دين الله أحداثا كثيرة زيادة إلى الإقرار بأنه المهدي المعلوم ، والتخصيص بالعصمة ، ثم وضع ذلك في الخطب ، وضرب في السكك ، بل كانت تلك الكلمة عندهم ثالثة الشهادة ، فمن لم يؤمن بها ، أو شك فيها ، فهو كافر كسائر الكفار ، وشرع القتل في مواضع لم يضعه الشرع فيها ، وهي نحو من ثمانية عشر موضعا ، كترك امتثال أمر من يستمع أمره ، وترك حضور مواعظه ثلاث مرات ، والمداهنة إذا ظهرت في أحد قتل ، وأشياء كثيرة.

وكان مذهبه البدعة الظاهرية ، ومع ذلك فابتدع أشياء ، كوجوه في التثويب ، إذ كانوا ينادون عند الصلاة بتاصاليت الإسلام وبقيام تاصاليت وسوردين وباردي وأصبح ولله الحمد وغيره ، فجرى العمل بجميعها في زمان الموحدين ، وبقي أكثرها بعد ما انقرضت دولتهم حتى إني أدركت بنفسي في جامع غرناطة الأعظم الرضا عن الإمام المعصوم ، المهدي المعلوم ، إلى أن أزيلت وبقيت أشياء كثيرة غفل عنها أو أغفلت.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٨ ، الحاشية : ١.

٢٠٨

وقد كان السلطان أبو العلاء إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي منهم ، ظهر له قبح ما هم عليه من هذه الابتداعات ، فأمر ـ حين استقر بمراكش ـ خليفته بإزالة جميع ما ابتدع من قبله ، وكتب بذلك رسالة إلى الأقطار يأمر فيها بتغيير تلك السنة ، ويوصي بتقوى الله والاستعانة به ، والتوكل عليه ، وأنه قد نبذ الباطل وأظهر الحق ، وأن لا مهدي إلا عيسى ، وأن ما ادعوه أنه المهدي بدعة أزالها ، وأسقط اسم من لا تثبت عصمته.

وذكر أن أباه المنصور همّ بأن يصدع بما به صدع ، وأن يرفع الحرف الذي رفع ، فلم يساعده الأجل لذلك ، ثم لما مات واستخلف ابنه أبو محمد عبد الواحد الملقب بالرشيد ، وفد إليه جماعة من أهل ذلك المذهب المتسمين بالموحدين ، فقتلوا منه في الذروة والغارب (١) ، وضمنوا على أنفسهم الدخول تحت طاعته ، والوقوف على قدم الخدمة بين يديه ، والمدافعة عنه بما استطاعوا ، لكن على شرط ذكر المهدي وتخصيصه بالعصمة في الخطبة والمخاطبات ، ونقش اسمه الخاص في السكك ، وإعادة الدعاء بعد الصلاة ، والنداء عليها بتاصاليت الإسلام عند كمال الأذان ، وبتقام تاصاليت وهي إقامة الصلاة ، وما أشبه ذلك من سودرين ، وقادري وأصبح ولله الحمد وغير ذلك.

وقد كان الرشيد استمر على العمل بما رسم أبوه من ترك ذلك كله ، فلما انتدب الموحدون إلى الطاعة اشترطوا إعادته ما ترك ، فأسعفوا فيه (٢) ، فلما احتلوا منازلهم أياما ولم يعد شيء من تلك العوائد ، ساءت ظنونهم ، وتوقعوا انقطاع ما هو عمدتهم في دينهم ، وبلغ ذلك الرشيد ، فجدد تأنيسهم بإعادتها.

قال المؤرخ : فيا لله! ما ذا بلغ من سرورهم وما كانوا فيه من الارتياح لسماع تلك الأمور ، وانطلقت ألسنتهم بالدعاء لخليفتهم بالنصر والتأييد ، وشملت الأفراح فيهم الكبير والصغير ، وهذا شأن صاحب البدعة ، فلن يسر بأعظم من انتشار بدعته وإظهارها (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) (٣) ، وهذا كله دائر على القول بالإمامة والعصمة الذي هو رأي الشيعة.

__________________

(١) الغارب : أعلى كل شيء.

(٢) أسعف : دنا وقرب.

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ٤١.

٢٠٩

فصل

ومنها : رأى قوم التغالي في تعظيم شيوخهم ، حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه ، فالمقتصد منهم يزعم أنه لا ولي لله أعظم من فلان ، وربما أغلقوا باب الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور ، وهو باطل محض ، وبدعة فاحشة ، لأنه لا يمكن أن يبلغ المتأخرون أبدا مبالغ المتقدمين ، فخير القرون الذين رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمنوا به ، ثم الذين يلونهم ، وهذا يكون الأمر أبدا إلى قيام الساعة ، فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام ، ثم لا زال ينقص شيئا فشيئا إلى آخر الدنيا ، لكن لا يذهب الحق جملة ، بل لا بدّ من طائفة تقوم به وتعتقده ، وتعمل بمقتضاه على حسبهم في إيمانهم ، لا ما كان عليه الأولون من كل وجه ، لأنه لو أنفق أحد من المتأخرين وزن أحد ذهبا ، ما بلغ مدّ أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا نصيفه ، وإذا كان ذلك في المال فكذلك في سائر شعب الإيمان ، بشهادة التجربة العادية.

ولما تقدم أول الكتاب أنه لا يزال الدين في نقص فهو أصليّ لا شك فيه ، وهو عند أهل السنة والجماعة ، فكيف يعتقد بعد ذلك في أنه ولي أهل الأرض؟ وليس في الأمة ولي غيره؟ لكن الجهل الغالب ، والغلو في التعظيم ، والتعصب للنحل ، يؤدي إلى مثله أو أعظم منه.

والمتوسط يزعم أنه مساو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا أنه لا يأتيه الوحي ، بلغني هذا عن طائفة من الغالين في شيخهم ، الحاملين لطريقتهم في زعمهم ، نظير ما ادعاه بعض تلامذة الحلاج في شيخهم على الاقتصاد منهم فيه ، والغالي يزعم فيه أشنع من هذا ، كما ادعى أصحاب الحلاج في الحلاج.

وقد حدثني بعض الشيوخ أهل العدالة والصدق في النقل أنه قال : أقمت زمانا في بعض القرى البادية ، وفيها من هذه الطائفة المشار إليها كثير قال : فخرجت يوما من منزلي لبعض شأني ، فرأيت رجلين منهم قاعدين ، فتوهمت أنهما يتحدثان في بعض فروع طريقتهم ، فقربت منهما على استخفاء لأسمع من كلامهم ـ إذ من شأنهم الاستخفاء بأسرارهم ـ فتحدثا في شيخهم وعظم منزلته ، وأنه لا أحد في الدنيا مثله ، وطربا لهذه المقابلة طربا عظيما ، ثم قال أحدهما للآخر : أتحب الحق؟ هو النبي ، قال : نعم ، هذا هو

٢١٠

الحق ، قال المخبر : فقمت من ذلك المكان فارّا أن يصيبني معهم قارعة.

وهذا نمط الشيعة الإمامية ، ولو لا الغلو في الدين والتكالب على نصر المذهب والتهالك في محبة المبتدع ، لما وسع ذلك عقل أحد ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» (١) ، الحديث ، فهؤلاء غلوا كما غلت النصارى في عيسى عليه‌السلام ، حيث قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ، فقال الله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٢). وفي الحديث : «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، ولكن قولوا : عبد الله ورسوله» (٣).

ومن تأمل هذه الأصناف وجد لها من البدع في فروع الشريعة كثيرا ، لأن البدعة إذا دخلت في الأصل سهلت مداخلتها الفروع.

فصل

پوأضعف هؤلاء احتجاجا قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات ، وأقبلوا وأعرضوا بسببها ، فيقولون : رأينا فلانا الرجل الصالح ، فقال لنا : اتركوا كذا ، واعملوا كذا.

ويتفق مثل هذا كثيرا للمتمرسين (٤) برسم التصوف ، وربما قال بعضهم : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم ، فقال لي كذا وأمرني بكذا ، فيعمل بها ويترك بها معرضا عن الحدود الموضوعة في الشريعة ، وهو خطأ ، لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعا على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية ، فإن سوغتها عمل بمقتضاها ، وإلا وجب تركها

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ١٢ ، الحاشية : ٣.

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٧٧.

(٣) أخرجه أحمد في المسند (١ / ٢٤).

(٤) تمرّس بدينه : لعب وتثبّت. والمتمرس : المتدرب.

٢١١

والإعراض عنها ، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة ، وأما استفادة الأحكام فلا ، كما يحكى عن الكتاني رحمه‌الله قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام ، فقلت : ادع الله أن لا يميت قلبي ، فقال : قل كل يوم أربعين مرة : «يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت» فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته ، وكون الذكر يحيي القلب صحيح شرعا ، وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير ، وهو من ناحية البشارة ، وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين ، وإذا لم يوجد على اللزوم استقام.

وعن أبي يزيد البسطامي رحمه‌الله ، قال : رأيت ربي في المنام ، فقلت : كيف الطريق إليك؟ فقال : اترك نفسك وتعال. وشأن هذا الكلام من الشرع موجود فالعمل بمقتضاه صحيح ، لأنه كالتنبيه لموضع الدليل ، لأن ترك النفس معناه ترك هواها بإطلاق ، والوقوف على قدم العبودية ، والآيات تدل على هذا المعنى ، كقوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (١) ، وما أشبه ذلك ، فلو رأى في النوم قائلا يقول : إن فلانا سرق فاقطعه ، أو عالم فاسأله ، أو اعمل بما يقول لك ، أو فلان زنى فحدّه ، وما أشبه ذلك ، لم يصح له العمل حتى يقوم له الشاهد في اليقظة ، وإلّا كان عاملا بغير شريعة ، إذ ليس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحي.

ولا يقال : إن الرؤيا من أجزاء النبوة ، فلا ينبغي أن تهمل ، وأيضا إن المخبر في المنام قد يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قد قال : «من رآني في النوم فقد رآني حقّا ، فإن الشيطان لا يتمثل بي» (٢) وإذا كان (؟) فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة.

لأنا نقول : إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي ، بل جزء من أجزائه ، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه ، بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه ، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة ، وفيها كاف.

وأيضا فإن الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح ، وحصول الشروط مما ينظر فيه ، فقد تتوفر ، وقد لا تتوفر.

__________________

(١) سورة : النازعات ، الآيتان : ٤٠ ـ ٤١.

(٢) أخرجه الترمذي في كتاب : الرؤيا ، باب : ما جاء في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رآني في المنام فقد رآني» (الحديث : ٢٢٧٧).

٢١٢

وأيضا فهي منقسمة إلى الحلم ، وهو من الشيطان ، وإلى حديث النفس ، وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط ، فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها وترك غير الصالحة؟

ويلزم أيضا على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو منهي عنه بالإجماع.

يحكى أن شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهديّ ، فلما رآه قال : عليّ بالسيف والنطع ، قال : ولم يا أمير المؤمنين؟ قال : رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني ، فقصصت رؤياي على من عبّرها ، فقال لي : يظهر لك الطاعة ويضمر معصية ، فقال له شريك : والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، ولا أن معبرك بيوسف الصديق عليه‌السلام ، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين؟ فاستحيى المهدي ، وقال : اخرج عني ، ثم صرفه وأبعده.

وحكى الغزالي عن بعض الأئمة أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق القرآن ، فروجع فيه فاستدل بأن رجلا رأى في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة ولم يدخلها؟ فقيل : هل دخلتها؟ فقال : أغناني عن دخولها رجل يقول بخلق القرآن ، فقام ذلك الرجل فقال : لو أفتى إبليس بوجوب قتلي في اليقظة هل تقلدونه في فتواه؟ فقالوا : لا ، فقال : قوله في المنام لا يزيد على قوله في اليقظة.

وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرائي بالحكم فلا بد من النظر فيها أيضا ، لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته ، فالحكم بما استقر ، وإن أخبر بمخالف ، فمحال ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته ، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية ، لأن ذلك باطل بالإجماع. فمن رأى شيئا من ذلك فلا عمل عليه ، وعند ذلك نقول : إن رؤياه غير صحيحة ، إذ لو رآه حقّا لم يخبره بما يخالف الشرع.

لكن يبقى النظر في معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رآني في النوم فقد رآني» (١) وفيه تأويلان :

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٢١٢ ، الحاشية : ٢.

٢١٣

أحدهما : ما ذكره ابن رشد إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في قضية ، فلما نام الحاكم ذكر أنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : ما تحكم بهذه الشهادة؟ فإنها باطلة ، فأجاب بأنه لا يحل له أن يترك العمل بتلك الشهادة ، لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا ، وذلك باطل لا يصح أن يعتقد ، إذ لا يعلم الغيب من ناحيتها إلا الأنبياء الذين رؤياهم وحي ، ومن سواهم إنما رؤياهم جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.

ثم قال : وليس معنى قوله : «من رآني فقد رآني حقّا» (١) أن كل من رأى في منامه أنه رآه فقد رآه حقيقة ، بدليل أن الرائي قد يراه مرات على صور مختلفة ، ويراه الرائي على صفة ، وغيره على صفة أخرى ، ولا يجوز أن تختلف صور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا صفاته ، وإنما معنى الحديث : «من رآني على صورتي التي خلقت عليها فقد رآني ، إذ لا يتمثل الشيطان بي» إذ لم يقل : من رآني أنه رآني ، فقد رآني ، وإنما قال : من رآني فقد رآني ، وأنى لهذا الرائي الذي رأى أنه رآه على صورة أنه رآه عليها؟ وإن ظن أنه رآه ، ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته بعينها ، وهذا ما لا طريق لأحد إلى معرفته.

فهذا ما نقل عن ابن رشد ، وحاصله يرجع إلى أن المرئي قد يكون غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن اعتقد الرائي أنه هو.

والتأويل الثاني : يقوله علماء التعبير : إن الشيطان قد يأتي النائم في صورة ما من معارف الرائي وغيرهم فيشير له إلى رجل آخر : هذا فلان النبي ، وهذا الملك الفلاني ، أو من أشبه هؤلاء ممن لا يتمثل الشيطان به ، فيوقف اللبس على الرائي بذلك وله علامة عندهم ، وإذا كان كذلك أمكن أن يكلمه المشار إليه بالأمر والنهي غير الموافقين للشرع ، فيظن الرائي أنه من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يكون كذلك ، فلا يوثق بما يقول له أو يأمر أو ينهى.

وما أحرى هذا الضرب أن يكون الأمر أو النهي فيه مخالفا لكمال الأول ، حقيق بأن يكون فيه موافقا ، وعند ذلك لا يبقى في المسألة إشكال ، نعم لا يحكم بمجرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم ، لإمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر وعلى الجملة فلا يستدل بالرؤيا

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٢١٢ ، الحاشية : ٢.

٢١٤

في الأحكام إلا ضعيف المنّة ، نعم يأتي المرئي تأنيسا وبشارة ونذارة خاصة ، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكما ، ولا يبنون عليها أصلا ، وهو الاعتدال في أخذها ، حسبما فهم من الشرع فيها ، والله أعلم.

فصل

وقد رأينا أن نختم الكلام في الباب بفصل جمع جملة من الاستدلالات المتقدمة ، وغيرها في معناها ، وفيه من نكت هذا الكتاب جملة أخرى ، فهو مما يحتاج إليه بحسب الوقت والحال ، وإن كان فيه طول ولكنه يخدم ما نحن فيه إن شاء الله تعالى.

وذلك أنه وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء يزعمون أنهم سلكوا طريق الصوفية ، فيجتمعون في بعض الليالي ويأخذون في الذكر الجهوري على صوت واحد ، ثم في الغناء والرقص ، إلى آخر الليل ، ويحضر معهم بعض المتسمين بالفقهاء ، يترسمون برسم الشيوخ الهداة إلى سلوك ذلك الطريق : هل هذا العمل صحيح في الشرع أم لا؟

فوقع الجواب بأن ذلك كله من البدع المحدثات ، المخالفة طريقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان ، فنفع الله بذلك من شاء من خلقه.

ثم إن الجواب وصل إلى بعض البلدان ، فقامت القيامة على العاملين بتلك البدع ، وخافوا اندراس طريقتهم ، وانقطاع أكلهم بها ، فأرادوا الانتصار لأنفسهم ، بعد أن راموا ذلك بالانتساب إلى شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم واشتهرت في الانقطاع إلى الله ، والعمل بالسنة طريقتهم ، فلم يستقر لهم الاستدلال لكونهم على ضد ما كان عليه القوم ، فإنهم كانوا بنوا نحلتهم على ثلاثة أصول : الاقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأخلاق والأفعال ، وأكل الحلال ، وإخلاص النية في جميع الأعمال ، وهؤلاء قد خالفوهم في هذه الأصول ، فلا يمكنهم الدخول تحت ترجمتهم.

وكان من قدر الله أن بعض الناس سأل بعض شيوخ الوقت في مسألة تشبه هذه ، لكن حسن ظاهرها بحيث يكاد باطنها يخفى على غير المتأمل ، فأجاب عفا الله عنه على مقتضى ظاهرها من غير تعرض إلى ما هم عليه من البدع والضلالات ، ولما سمع بعضهم بهذا الجواب أرسل به إلى بلدة أخرى ، فأتى به فرحل إلى غير بلده ، وشهر في شيعته أن بيده حجة

٢١٥

لطريقتهم تقهر كل حجة ، وأنه طالب للمناظرة فيها ، فدعي لذلك فلم يقم فيه ولا قعد ، غير أنه قال : إن هذه حجتي ، وألقى بالبطاقة التي بخط المجيب ، وكان هو ومحبه وأشياعه يطيرون بها فرحا ، فوصلت المسألة إلى غرناطة ، وطلب من الجميع النظر فيها ، فلم يسع أحد له قوة على النظر فيها إلّا أن يظهر وجه الصواب فيها الذي يدان الله به لأنه من النصيحة التي هي الدين القويم ، والصراط المستقيم.

ونص خلاصة السؤال : ما يقول الشيخ فلان في جماعة من المسلمين يجتمعون في رباط على ضفة البحر في الليالي الفاضلة ، يقرءون جزءا من القرآن ، ويستمعون من كتب الوعظ والرقائق ما أمكن في الوقت ، ويذكرون الله بأنواع التهليل والتسبيح والتقديس ، ثم يقوم من بينهم قوّال يذكر شيئا في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويلقى من السماع ما تتوق النفس إليه وتشتاق سماعه من صفات الصالحين ، وذكر آلاء الله ونعمائه ، ويشوقهم بذكر المنازل الحجازية ، والمعاهد النبوية ، فيتواجدون اشتياقا لذلك ، ثم يأكلون ما حضر من الطعام ، ويحمدون الله تعالى ، ويرددون الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويبتهلون بالأدعية إلى الله في صلاح أمورهم ، ويدعون للمسلمين ولإمامهم ويفترقون.

فهل يجوز اجتماعهم على ما ذكر؟ أم يمنعون وينكر عليهم؟ ومن دعاهم من المحبين إلى منزله بقصد التبرك ، هل يجيبون دعوته ويجتمعون على الوجه المذكور أم لا؟

فأجاب بما محصوله : مجالس تلاوة القرآن وذكر الله هي رياض الجنة ثم أتى بالشواهد على طلب ذكر الله. وأما الإنشادات الشعرية ، فإنما الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح ، وفي القرآن في شعراء الإسلام : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) (١) ، وذلك أن حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعبا لما سمعوا قوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) (٢) الآيات. بكوا عند سماعها فنزل الاستثناء وقد أنشد الشعر بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورقت نفسه الكريمة وذرفت عيناه لأبيات أخت النضر لما طبع عليه من الرأفة والرحمة.

__________________

(١) سورة : الشعراء ، الآية : ٢٢٧.

(٢) سورة : الشعراء ، الآية : ٢٢٤.

٢١٦

وأما التواجد عند السماع ، فهو في الأصل رقة النفس ، واضطراب القلب فيتأثر الظاهر بتأثر الباطن ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (١) ، أي اضطربت رغبا أو رهبا ، وعن اضطراب القلب يحصل اضطراب الجسم ، قال الله تعالى : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) (٢) الآية. وقال : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) (٣). فإنما التواجد رقة نفسية ، وهزة قلبية ، ونهضة روحانية ، وهذا هو التواجد عن وجد ، ولا يسمع فيه نكير في الشرع. وذكر السلمي أنه كان يستدل بهذه الآية على حركة الوجد في وقت السماع ، وهي : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا) (٤) الآية ، وكان يقول : إن القلوب مربوطة بالملكوت ، حركتها أنوار الأذكار ، وما يرد عليها من فنون السماع.

ووراء هذا تواجد لا عن وجد ، فهو مناط الذم لمخالفة ما ظهر لما بطن ، وقد يعزب فيه الأمر عند القصد إلى استنهاض العزائم ، وأعمال الحركة في يقظة القلب النائم : يا أيّها النّاس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ولكن شتان ما بينهما.

وأما من دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته ، وله في ذلك قصده ونيته ، فهذا ما ظهر تقييده على مقتضى الظاهر ، والله يتولى السرائر ، وإنما الأعمال بالنيات انتهى ما قيده.

فكان مما ظهر لي في هذا الجواب : أن ما ذكره في مجالس الذكر صحيح إذا كان على حسب ما اجتمع عليه السلف الصالح ، فإنهم كانوا يجتمعون لتدارس القرآن فيما بينهم ، حتى يتعلم بعضهم من بعض ، ويأخذ بعضهم من بعض ، فهو مجلس من مجالس الذكر التي جاء في مثلها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة ، وحفت بهم الملائكة وذكره الله فيمن عنده» (٥) وهو الذي فهمه الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الاجتماع على تلاوة كلام الله.

__________________

(١) سورة : الحج ، الآية : ٣٥.

(٢) سورة : الكهف ، الآية : ١٨.

(٣) سورة : الذاريات ، الآية : ٥٠.

(٤) سورة : الكهف ، الآية : ١٤.

(٥) أخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : في ثواب قراءة القرآن (الحديث : ١٤٥٥). وأخرجه

٢١٧

وكذلك الاجتماع على الذكر فإنه اجتماع على ذكر الله ففي رواية أخرى أنه قال : «لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة» الحديث المذكور ، لا الاجتماع للذكر على صوت واحد ، وإذا اجتمع القوم على التذكر لنعم الله ، أو التذاكر في العلم إن كانوا علماء ، أو كان فيهم عالم فجلس إليه متعلمون ، أو اجتمعوا يذكر بعضهم بعضا بالعمل بطاعة الله والبعد عن معصيته ـ وما أشبه ذلك مما كان يعمل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصحابه ، وعمل به الصحابة والتابعون ـ فهذه المجالس كلها مجالس ذكر وهي التي جاء فيها من الأجر ما جاء.

كما يحكى عن ابن أبي ليلى أنه سئل عن القصص ، فقال : أدركت أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلسون ويحدث هذا بما سمع وهذا بما سمع ـ فأما أن يجلسوا خطيبا فلا ـ وكان كالذي نراه معمولا به في المساجد من اجتماع الطلبة على معلم يقرئهم القرآن أو علما من العلوم الشرعية ، أو تجتمع إليه العامة فيعلمهم أمر دينهم ويذكرهم بالله ويبين لهم سنّة نبيهم ليعملوا بها ، ويبين لهم المحدثات التي هي ضلالة ليحذروا منها ، ويتجنبوا مواطنها والعمل بها.

فهذه مجالس الذكر على الحقيقة وهي التي حرمها الله أهل البدع من هؤلاء الفقراء الذين زعموا أنهم سلكوا طريق التصوف ، وقل ما تجد منهم من يحسن قراءة الفاتحة في الصلاة إلا على اللحن ، فضلا عن غيرها ، ولا يعرف كيف يتعبد ولا كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من الجنابة ، وكيف يعلمون ذلك وهم قد حرموا مجالس الذكر التي تغشاها الرحمة ، وتنزل فيها السكينة ، وتحف بها الملائكة فبانطماس هذا النور عنهم ضلوا ، فاقتدوا بجهال أمثالهم ، وأخذوا يقرءون الأحاديث النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم ، لا على ما قال أهل العلم فيها ، فخرجوا عن الصراط المستقيم ، إلى أن يجتمعوا ويقرأ أحدهم شيئا من القرآن يكون حسن الصوت طيب النغمة جيد التلحين تشبه قراءته الغناء المذموم ، ثم يقولون : تعالوا نذكر الله فيرفعون أصواتهم يمشون ذلك الذكر مداولة ، طائفة من جهة ، وطائفة من جهة أخرى ، على صوت واحد يشبه الغناء ، ويزعمون أن هذا من مجالس الذكر المندوب إليها ، وكذبوا : فإنه لو كان حقّا لكان السلف الصالح أولى بإدراكه وفهمه والعمل به ، وإلا فأين في الكتاب أو في السنّة الاجتماع للذكر على صوت واحد جهرا عاليا؟ وقد قال

__________________

ـ مسلم في كتاب : الذكر والدعاء ، باب : فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (الحديث : ٢٧٠).

٢١٨

تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (١). والمعتدون في التفسير هم الرافعون أصواتهم بالدعاء.

وعن أبي موسى قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا تدعون سميعا قريبا ، وهو معكم» (٢). وهذا الحديث من تمام تفسير الآية ، ولم يكونوا رضي الله عنهم يكبرون على صوت واحد ، ولكنه نهاهم عن رفع الصوت ليكونوا ممتثلين للآية. وقد جاء عن السلف أيضا النهي عن الاجتماع على الذكر ، والدعاء بالهيئة التي يجتمع عليها هؤلاء المبتدعون وجاء عنهم النهي عن المساجد المتخذة لذلك ، وهي الربط التي يسمونها بالصّفة. ذكر من ذلك ابن وهب وابن وضاح وغيرهما ما فيه كفاية لمن وفقه الله.

فالحاصل من هؤلاء : أنهم حسنوا الظن بأنهم فيما هم عليه مصيبون ، وأساءوا الظن بالسلف الصالح أهل العمل الراجح الصريح ، وأهل الدين الصحيح ، ثم لما طالبهم لسان الحال بالحجة أخذوا كلام المجيب وهم لا يعلمون ، وقوّلوه ما لا يرضى به العلماء.

وقد بين ذلك في كلام آخر إذ سئل عن ذكر فقراء زماننا ، فأجاب بأن مجالس الذكر المذكورة في الأحاديث أنها هي التي يتلى فيها القرآن ، والتي يتعلم فيها العلم والدين ، والتي تعمر بالعلم والتذكير بالآخرة والجنة والنار. كمجالس سفيان الثوري ، والحسن ، وابن سيرين ، وأضرابهم.

أما مجالس الذكر اللساني فقد صرح بها في حديث الملائكة السياحين ، لكن لم يذكر فيه جهرا بالكلمات ، ولا رفع أصوات ، وكذلك غيره. لكن الأصل المشروع إعلان الفرائض وإخفاء النوافل ، وأتى بالآية وبقوله تعالى : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) (٣) ، وبحديث : «أربعوا

__________________

(١) سورة : الأعراف ، الآية : ٥٥.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٢٠٣ ، الحاشية : ٣.

(٣) سورة : مريم ، الآية : ٣.

٢١٩

على أنفسكم» (١). قال : وفقراء الوقت قد تخيروا بآيات ، وتميزوا بأصوات ، هي إلى الاعتداء ، أقرب منها إلى الاقتداء ، وطريقتهم إلى اتخاذها مأكلة وصناعة ، أقرب منها إلى اعتدادها قربة وطاعة.

انتهى معناه على اختصار أكثر الشواهد ، وهي دليل على أن فتواه المحتج بها ليس معناها ما رام هؤلاء المبتدعة ، فإنه سئل في هذه عن فقراء الوقت ، فأجاب بذمهم ، وأن حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتناول عملهم. وفي الأولى إنما سئل عن قوم يجتمعون لقراءة القرآن ، أو لذكر الله. وهذا السؤال يصدق على قوم يجتمعون مثلا في المسجد فيذكرون الله كل واحد منهم في نفسه أو يتلو القرآن نفسه كما يصدق على مجالس المعلمين والمتعلمين ، وما أشبه ذلك مما تقدم التنبيه عليه فلا يسعه وغيره من العلماء إلا أن يذكر محاسن ذلك والثواب عليه. فلما سئل عن أهل البدع في الذكر والتلاوة بيّن ما ينبغي أن يعتمد عليه الموفق ، ولا توفيق إلا بالله العلي العظيم.

وأما ما ذكره في الإنشادات الشعرية ، فجائز للإنسان أن ينشد الشعر الذي لا رفث فيه ، ولا يذكر بمعصية ، وأن يسمعه من غيره إذا أنشد ، على الحد الذي كان ينشد بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عمل به الصحابة والتابعون ومن يقتدى به من العلماء ، وذلك أنه كان ينشد ويسمع لفوائد.

منها : المنافحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن الإسلام وأهله ، ولذلك كان حسان بن ثابت رضي الله عنه قد نصب له منبر في المسجد ينشد عليه إذا وفدت الوفود حتى يقولوا : خطيبه أخطب من خطيبنا ، وشاعره أشعر من شاعرنا ، ويقول له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اهجهم وجبريل معك» (٢) وهذا من باب الجهاد في سبيل الله ، ليس للفقراء من فضله في غنائهم بالشعر قليل ولا كثير.

ومنها : أنهم كانوا يتعرضون لحاجاتهم ويستشفعون بتقديم الأبيات بين يدي طلباتهم ،

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٢١٩ ، الحاشية : ٢.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : الأدب ، باب : هجاء المشركين ، وفي كتاب : بدء الخلق ، باب : ذكر الملائكة ، وفي كتاب : المغازي ، باب : مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحزاب (الحديث : ١٠ / ٤٥٣). وأخرجه مسلم في كتاب : فضائل الصحابة ، باب : فضائل حسان بن ثابت (الحديث : ٢٤٨٦).

٢٢٠