الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

درجة العامي ، والعامي إنما اتبع المجتهد من جهة توجهه إلى صوب العلم الحاكم ، فكذلك من نزل منزلته.

ثم نقول : إن هذا مذهب الصحابة ، أما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتباعه للوحي أشهر من أن يذكر ، وأما أصحابه فاتباعهم له في ذلك من غير اعتبار بمؤالف أو مخالف شهير عنهم ، فلا نطيل الاستدلال عليه.

فعلى كل تقدير لا يتبع أحد من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة قائم بحجتها ، حاكم بأحكامها جملة وتفصيلا ، وأنه من وجد متوجها غير تلك الوجه في جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع لم يكن حاكما ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة البتة.

فيجب إذا على الناظر في هذا الموضع أمران إذا كان غير مجتهد :

أحدهما : أن لا يتبع العالم إلا من جهة ما هو عالم بالعلم المحتاج إليه ، ومن حيث هو طريق إلى استفادة ذلك العلم ، إذ ليس لصاحبه منه إلا كونه مودعا له ، ومأخوذا بأداء تلك الأمانة ، حتى إذا علم أو غلب على الظن أنه مخطئ فيما يلقى ، أو تارك لإلقاء تلك الوديعة على ما هي عليه ، أو منحرف عن صوبها بوجه من وجوه الانحراف ، توقف ولم يصر على الاتباع إلا بعد التبيين ، إذ ليس كل ما يلقيه العالم يكون حقا على الإطلاق ، لإمكان الزلل والخطأ وغلبة الظن في بعض الأمور ، وما أشبه ذلك.

أما إذا كان هذا المتبع ناظرا في العلم ومتبصرا فيما يلقى إليه كأهل العلم في زماننا ، فإن توصله إلى الحق سهل ، لأن المنقولات في الكتب إما تحت حفظه ، وإما معدة لأن يحققها بالمطالعة أو المذاكرة.

وأما إن كان عامّيّا صرفا فيظهر له الإشكال عند ما يرى الاختلاف بين الناقلين للشريعة ، فلا بد له هاهنا من الرجوع آخرا إلى تقليد بعضهم ، إذ لا يمكن في المسألة الواحدة تقليد مختلفين في زمان واحد ، لأنه محال وخرق للإجماع ، فلا يخلو أن يمكنه الجمع بينهما في العمل أو لا يمكنه ، فإن لم يمكنه بهما كان عمله بهما معا محالا ، وإن أمكنه صار عمله ليس على قول واحد منهما ، بل هو قول ثالث لا قائل به ، ويعضد ذلك أنه لا نجد صورة ذلك العمل معمولا بها في المتقدمين من السلف الصالح فهو مخالف للإجماع.

٥٨١

وإذا ثبت أنه لا يقلد إلا واحدا ، فكل واحد منهما يدعي أنه أقرب إلى الحق من صاحبه ، ولذلك خالفه ، وإلا لم يخالفه ، والعاميّ جاهل بمواقع الاجتهاد ، فلا بدّ له ممن يرشده إلى من هو أقرب منهما ، وذلك إنما يثبت للعامي بطريق جملي ، وهو ترجيح أحدهما على الآخر بالأعلمية والأفضلية ، ويظهر ذلك من جمهور العلماء والطالبين لا يخفى عليهم مثل ذلك ، لأن الأعلمية تغلب على ظن العامي أن صاحبها أقرب إلى صوب العلم الحاكم لا من جهة أخرى ، فإذا لا يقلد إلا باعتبار كونه حاكما بالعلم الحاكم.

والأمر الثاني : إن لا يصمم على تقليد من تبين له في تقليده الخطأ شرعا وذلك أن العاميّ ومن جرى مجراه قد يكون متبعا لبعض العلماء ، إما لكونه أرجح من غيره ، أو عند أهل قطره ، وإما لأنه هو الذي اعتمده أهل قطره في التفقه في مذهبه دون مذهب غيره.

وعلى كل تقدير فإذا تبين له في بعض مسائل متنوعة الخطأ والخروج عن صوب العلم الحاكم فلا يتعصب لمتبوعه بالتمادي على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه ، لأن تعصبه يؤدي إلى مخالفة الشرع أولا ، ثم إلى مخالفة متبوعه ، أما خلافه للشرع فبالعرض ، وأما خلافه لمتبوعه فلخروجه عن شرط الاتباع ، لأن كل عالم يصرح أو يعرّض بأن اتباعه إنما يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة لا بغيرها ، فإذا ظهر أنه حاكم بخلاف الشريعة خرج عن شرط متبوعه بالتصميم على تقليده.

ومن معنى كلام مالك رحمه‌الله : ما كان من كلامي موافقا للكتاب والسنّة فخذوا به ، وما لم يوافق فاتركوه. هذا معنى كلامه دون لفظه.

ومن كلام الشافعي رحمه : الحديث مذهبي فما خالفه فاضربوا به الحائط أو كما قال قال العلماء : وهذا لسان حال الجميع. ومعناه أن كل ما تتكلمون به على تحري أنه طابق الشريعة الحاكمة ، فإن كان كذلك فبها ونعمت ، وما لا فليس بمنسوب إلى الشريعة ولا هم أيضا ممن يرضى أن تنسب إليهم مخالفتها.

لكن يتصور هذا المقام وجهان : أن يكون المتبوع مجتهدا ، فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى ما اجتهد فيه ، وهو الشريعة ، وأن يكون مقلدا لبعض العلماء ، كالمتأخرين الذين من شأنهم تقليد المتقدمين بالنقل من كتبهم والتفقه في مذاهبهم ، فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى صحة النقل عمن نقلوا عنه وموافقتهم لمن قلدوا ؛ أو خلاف ذلك ، لأن هذا

٥٨٢

القسم مقلدون بالعرض ، فلا يسعهم الاجتهاد في استنباط الأحكام ، إذ لم يبلغوا درجته ، فلا يصح تعرضهم للاجتهاد في الشريعة مع قصورهم عن درجته ، فإن فرض انتصابه للاجتهاد ، فهو مخطئ آثم أصاب أم لم يصب ، لأنه أتى الأمر من غيره ، وانتهك حرمة الدرجة وقفا ما ليس له به علم فإصابته ـ إن أصاب ـ من حيث لا يدري ، وخطؤه هو المعتاد ، فلا يصح اتباعه كسائر العوام إذا راموا الاجتهاد في أحكام الله ، ولا خلاف أن مثل هذا الاجتهاد غير معتبر ، وأن مخالفة العاميّ كالعدمي ، وأنه في مخالفته لأهل العلم آثم مخطئ ، فكيف يصح ـ مع هذا التقرير ـ تقليد غير مجتهد في مسألة أتى فيها باجتهاده؟

ولقد زل ـ بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال ـ أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين ، واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل.

ولنذكر لذلك عشرة أمثلة :

أحدها : وهو أشدها ، قول من جعل اتباع الآباء في أصل الدين هو المرجوع إليه دون غيره ، حتى ردوا بذلك براهين الرسالة ، وحجة القرآن ودليل العقل فقالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) (١) الآية ، فحين نبّهوا على وجه الحجة بقوله تعالى : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) (٢) لم يكن لهم جواب إلا الإنكار ، اعتمادا على اتباع الآباء واطّراحا لما سواه ، ولم يزل مثل هذا مذموما في الشرائع ، كما حكى الله عن قوم نوح عليه‌السلام بقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) (٣) وعن قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى : (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٤) إلى آخر ذلك مما في معناه ، فكان الجميع مذمومين حين اعتبروا واعتقدوا أن الحق تابع لهم ولم يلتفتوا إلى أن الحق هو المقدم.

__________________

(١) سورة : الزخرف ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة : الزخرف ، الآية : ٢٤.

(٣) سورة : المؤمنون ، الآية : ٢٤.

(٤) سورة : الشعراء ، الآيات : ٧٢ ـ ٧٤.

٥٨٣

والثاني : رأي الإمامية في اتباع الإمام المعصوم ـ في زعمهم ـ وإن خالف ما جاء به النبي المعصوم حقّا ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحكموا الرجال على الشريعة ولم يحكموا الشريعة على الرجال ، وإنما أنزل الكتاب ليكون حكما على الخلق على الإطلاق والعموم.

والثالث : لاحق بالثاني ، وهو مذهب الفرقة المهدوية التي جعلت أفعال مهديّهم حجة ، وافقت حكم الشريعة أو خالفت ، بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة (؟) في عقد إيمانهم من خالفهم كفروه وجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي ، وقد تقدم من ذلك أمثله.

والرابع : رأي المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة ، بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم ، حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير ، وفوقوا إليه سهام النقد ، وعدوه من الخارجين عن الجادة ، والمفارقين للجماعة من غير استدلال منهم بدليل ، بل بمجرد الاعتياد العامي.

ولقد لقي الإمام بقيّ بن مخلد حين دخل الأندلس آتيا من المشرق من هذا الصنف الأمرّين ، حتى أصاروه مهجور الفناء مهتضم الجانب ، لأنه من العلم بما لا يدي لهم به ، إذ لقي بالمشرق الإمام أحمد بن حنبل وأخذ عنه مصنفه وتفقه عليه ، ولقي أيضا غيره ، حتى صنف المسند المصنف الذي لم يصنف في الإسلام مثله ، وكان هؤلاء المقلدة قد صمموا على مذهب مالك ، بحيث أنكروا ما عداه ، وهذا تحكيم الرجال على الحق ، والغلو في محبة المذهب ، وعين الإنصاف ترى أن الجميع أئمة فضلاء ، فمن كان متبعا لمذهب مجتهد لكونه لم يبلغ درجة الاجتهاد فلا يضره مخالفة غير إمامه لإمامه ، لأن الجميع سالك على الطريق المكلف به ، فقد يؤدي التغالي في التقليد إلى إنكار لما أجمع الناس على ترك إنكاره.

والخامس : رأي نابتة متأخرة الزمان ممن يدّعي التخلق بخلق أهل التصوف المتقدمين ، أو يروم الدخول فيهم ، يعمدون إلى ما نقل عنهم في الكتب من الأحوال الجارية عليهم أو الأقوال الصادرة عنهم ، فيتخذونها دينا وشريعة لأهل الطريقة ، وإن كان كانت مخالفة للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة ، أو مخالفة لما جاء عن السلف الصالح ، لا يلتفتون معها إلى فتيا مفت ولا نظر عالم ، بل يقولون : إن صاحب هذا الكلام ثبتت ولايته ،

٥٨٤

فكل ما يفعله أو يقوله حق ، وإن كان مخالفا فهو أيضا ممن يقتدي به ؛ والفقه للعموم ؛ وهذه طريقة الخصوص!

فتراهم يحسنون الظن بتلك الأقوال والأفعال ولا يحسنون الظن بشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو عين أتباع الرجال وترك الحق ، مع أن أولئك المتصوفة الذين ينقل عنهم لم يثبت أن ما نقل عنهم كان في النهاية دون البداية ، ولا علم أنهم كانوا مقرين بصحة ما صدر عنهم أم لا ، وأيضا فقد يكون من أئمة التصوف وغيرهم من زل زلة يجب سترها عليه ، فينقلها عنه من لا يعلم حاله ممن لم يتأدب بطريق القوم كل التأدب.

وقد حذر السلف الصالح من زلة العالم ، وجعلوها من الأمور التي تهدم الدين ، فإنه ربما ظهرت فتطير في الناس كل مطار ، فيعدونها دينا ، وهي ضد الدين ، فتكون الزلة حجة في الدين.

فكذلك أهل التصوف لا بدّ في الاقتداء بالصوفي من عرض أقواله وأفعاله على حاكم يحكم عليها : هل هي من جملة ما يتخذ دينا أم لا؟ والحاكم هو الشرع وأقوال العالم تعرض على الشرع أيضا ، وأقل ذلك في الصوفي أن نسأله عن تلك الأعمال إن كان عالما بالفقه ، كالجنيد وغيره رحمهم‌الله.

ولكن هؤلاء الرجال النابتة لا يفعلون ذلك ، فصاروا متبعين الرجال من حيث هم رجال لا من حيث هم راجحون بالحاكم الحق ، وهو خلاف ما عليه السلف الصالح وما عليه المتصوفة أيضا ، إذ قال إمامهم سهل بن عبد الله التستري : «مذهبنا مبني على ثلاثة أصول :

الاقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأخلاق والأفعال ، والأكل من الحلال ، وإخلاص النية في جميع الأعمال». ولم يثبت في طريقهم اتباع الرجال على انحراف ، وحاشاهم من ذلك ، بل اتباع الرجال ، شأن أهل الضلال.

والسادس : رأي نابتة في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر في العلم الذي هم أرادوا الكلام فيه والعمل بحسبه ، ثم رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ الذين أخذوا عنهم في زمان الصبا الذي هو مظنة لعدم التثبت من الآخذ ، أو التغافل من المأخوذ عنه ، ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات الكمال ، ونسبوا إليهم ما نسبوا به من الخطإ ، أو فهموا عنهم على غير تثبت ولا سؤال عن تحقيق المسألة المروية ، وردوا جميع ما نقل عن الأولين مما هو

٥٨٥

الحق والصواب ، كمسألة الباء الواقعة في هذه الأزمنة ، فإن طائفة ممن تظاهر بالانتصاب للإقراء زعم أنها الرخوة التي اتفق القراء ـ وهم أهل صناعة الأداء ، والنحويون أيضا ـ وهم الناقلون عن العرب ـ على أنها لم تأت إلا في لغة مرذولة لا يؤخذ بها ولا يقرأ بها القرآن ، ولا نقلت القراءة بها عن أحد من العلماء بذلك الشأن ، وإنما الباء التي يقرأ بها ـ وهي الموجودة في كل لغة فصيحة ـ الباء الشديدة ، فأبى هؤلاء من القراءة والإقراء بها ، بناء على أن التي قرءوا بها على الشيوخ الذين لقوهم هي تلك لا هذه ، محتجين بأنهم كانوا علماء وفضلاء ، فلو كانت خطأ لردوها علينا ، وأسقطوا النظر والبحث عن أقوال المتقدمين فيها رأسا تحسين ظن الرجال ، وتهمة للعلم ، فصارت بدعة جارية ـ أعني : القراءة بالباء الرخوة ـ مصرحا بأنها الحق الصريح ، فنعوذ بالله من المخالفة.

ولقد لج بعضهم حين ووجهوا بالنصيحة فلم يرجعوا ، فكان القرشي المقرئ أقرب مراما منهم. حكي عن يوسف بن عبد الله بن مغيث أنه قال : أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي ، وكان لا يحسن النحو فقرأ عليه قارئ يوما : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١) فرد عليه القرشي تحيد بالتنوين ، فراجعه القارئ ـ وكان يحسن النحو ـ فلج عليه المقرئ وثبت على التنوين ، فانتشر الخبر إلى أن بلغ يحيى بن مجاهد الألبيري الزاهد ـ وكان صديقا لهذا المقرئ ـ فنهض إليه ، فلما سلم عليه وسأله عن حاله قال له ابن مجاهد : إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرئ فأردت تجديد ذلك عليك فأجابه إليه ، فقال : أريد أن أبتدئ بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات ، فقال المقرئ : ما شئت ، فقرأ عليه من أول المفصل ، فلما بلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرئ بالتنوين ، فقال له ابن مجاهد : لا تفعل ، ما هي إلا غير منونة بلا شك ، فلج المقرئ ، فلما رأى ابن مجاهد تصميمه قال له : يا أخي إني لم يحملني على القراءة عليك إلا لتراجع الحق في لطف ، وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو ، فإن الأفعال لا يدخلها التنوين ، فتحير المقرئ ، إلا أنه لم يقنع بهذا ، فقال له ابن مجاهد : بيني وبينك المصاحف ، فأحضر منها جملة فوجدوها مشكولة بغير تنوين ، فرجع المقرئ إلى الحق. انتهت الحكاية ، ويا ليت مسألتنا مثل هذه ، ولكنهم عفا الله عنهم أبوا الانقياد إلى الصواب.

__________________

(١) سورة : ق ، الآية : ١٩.

٥٨٦

والسابع : رأي نابتة أيضا يرون أن عمل الجمهور اليوم ـ من التزام الدعاء بهيئة الاجتماع بإثر الصلوات ، والتزام المؤذنين التثويب بعد الأذان ـ صحيح بإطلاق ، من غير اعتبار بمخالفة الشريعة أو موافقتها ، وأن من خالفهم بدليل شرعي اجتهادي أو تقليدي خارج عن سنة المسلمين ، بناء منهم على أمور تخبطوا فيها من غير دليل معتبر ، فمنهم من يميل إلى أن هذا العمل المعمول به في الجمهور ثابت عن فضلاء وصالحين علماء ، فلو كان خطأ لم يعملوا به.

وهذا مما نحن فيه اليوم ، تتم الأدلة وأقوال العلماء المتقدمين ، ويحسن الظن بمن تأخر ، وربما نوزع بأقوال من تقدم ، فيرميها الرامي بالظنون واحتمال الخطإ ، ولا يرمي بذلك المتأخرين ، الذين هم أولى به بإجماع المسلمين. وإذا سئل عن أصل هذا العمل المتأخر :

هي عليه دليل من الشريعة؟ لم يأت بشيء ، أو يأتي بأدلة محتملة لا علم له بتفصيلها ، كقوله هذا خير أو حسن ، وقد قال تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (١) أو يقول : هذا برّ ، وقال تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) (٢) فإذا سئل عن أصل كونه خيرا أو برّا وقف ، وميله إلى أنه ظهر له بعقله أنه خير وبر ، فجعل التحسين عقليّا ، وهو مذهب أهل الزيغ ، وثابت عند أهل السنة أنه من البدع المحدثات.

ومنهم من طالع كلام القرافي وابن عبد السلام في أن البدع خمسة أقسام ، فنقول : هذا من المحدث المستحسن. وربما رشح ذلك بما جاء في الحديث : «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» (٣) وقد مر ما فيه. وأما الحديث فإنما معناه عند العلماء أن علماء الإسلام إذا نظروا في مسألة مجتهد فيها فما رأوه فيها حسنا فهو عند الله حسن ، لأنه جار على أصول الشريعة ، والدليل على ذلك الاتفاق ، على أن العوام لو نظروا فأداهم اجتهادهم إلى استحسان حكم شرعي لم يكن عند الله حسنا حتى يوافق الشريعة. والذين نتكلم معهم في هذه المسألة ليسوا من المجتهدين باتفاق منّا ومنهم ، فلا

__________________

(١) سورة : الزمر ، الآية : ١٨.

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٢.

(٣) أخرج نحوه أحمد في المسند (١ / ٣٧٩) ولفظه : «فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رأوا سيّئا فهو عند الله سيئ».

٥٨٧

اعتبار بالاحتجاج بالحديث على استحسان شيء واستقباحه بغير دليل شرعي.

ومنهم من ترقى في الدعوى حتى يدعي فيها الإجماع من أهل الأقطار ، وهو لم يبرح من قطره ، ولا بحث عن علماء أهل الأقطار ، ولا عن تبيانهم فيما عليه الجمهور ، ولا عرف من أخبار الأقطار خبرا ، فهو ممّن يسأل عن ذلك يوم القيامة.

وهذا الاضطراب كله منشؤه تحسين الظن بأعمال المتأخرين ـ وإن جاءت الشريعة بخلاف ذلك ـ والوقوف مع الرجال دون التحري للحق.

والثامن : رأي قوم ممن تقدم زماننا هذا ـ فضلا عن زماننا ـ اتخذوا الرجال ذريعة لأهوائهم وأهواء من داناهم ، ومن رغب إليهم في ذلك ، فإذا عرفوا غرض بعض هؤلاء في حكم حاكم أو فتيا تعبدا وغير ذلك ، بحثوا عن أقوال العلماء في المسألة المسئول عنها حتى يجدوا القول الموافق للسائل فأفتوا به ، زاعمين أن الحجة في ذلك لهم قول من قال : اختلاف العلماء رحمة ، ثم ما زال هذا الشر يستطير في الأتباع وأتباعهم ، حتى لقد حكى الخطابي عن بعضهم أنه يقول : كل مسألة ثبت لأحد من العلماء فيها القول بالجواز ـ شذ عن الجماعة أولا ـ فالمسألة جائزة ، وقد تقررت هذه المسألة على وجهها في كتاب (الموافقات) ، والحمد لله.

والتاسع : ما حكى الله عن الأحبار والرهبان قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (١) فخرج الترمذي عن عديّ بن حاتم قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفي عنقي صليب من ذهب ـ فقال : «يا عدي ، اطرح عنك هذا الوثن» وسمعته يقرأ في سورة براءة : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) قال : «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكن إذا أحلّوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرموه» (٢) حديث غريب.

وفي تفسير سعيد بن منصور قيل لحذيفة : أرأيت قول الله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ)؟ قال حذيفة : أما أنهم لم يصلوا لهم ، ولكنهم كانوا ما أحلوا

__________________

(١) سورة : التوبة ، الآية : ٣١.

(٢) أخرجه الترمذي في كتاب : التفسير ، باب : ومن سورة براءة (الحديث : ٣٠٩٤). وأخرجه ابن جرير (رقم : ١٦٦٣١ ، ١٦٦٣٢ ، ١٦٦٣٣). وأورده السيوطي في الدرر المنثور (٣ / ٢٣٠).

٥٨٨

لهم من حرام استحلوه ، وما حرموا عليهم من حلال حرموه ، فتلك ربوبيتهم.

وحكى الطبري عن عدي مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قول ابن عباس أيضا وأبي العالية.

فتأملوا يا أولي الألباب! كيف حال الاعتقاد في الفتوى على الرجال من غير تحرّ للدليل الشرعي ، بل لمجرد العرض العاجل ، عافانا الله من ذلك بفضله.

والعاشر : رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين ، فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع ، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين ، بحيث إن الشرع إن وافق آراءهم قبلوه ، وإلّا ردوه.

فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال ، وما توفيقي إلا بالله ، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غير.

ثم نقول : إن هذا مذهب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم علم ذلك علما يقينا ، ألا ترى أصحاب السقيفة لما تنازعوا في الإمارة ، حتى قال بعض الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فأتى الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الأئمة من قريش أذعنوا لطاعة الله ورسوله ولم يعبئوا برأي من رأي غير ذلك ، لعلمهم بأن الحق هو المقدم على آراء الرجال.

ولما أراد أبو بكر رضي الله عنه قتال مانعي الزكاة احتجوا عليه بالحديث المشهور ، فرد عليهم ما استدلوا به بغير ما استدلوا به وذلك قوله : إلا بحقها ، فقال : الزكاة حق المال ، ثم قال : «والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقاتلتهم عليه» (١).

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الاعتصام ، باب : الاقتداء بسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرجه في كتاب : الزكاة ، باب : وجوب الزكاة ، وأخرجه في كتاب : المرتدين ، باب : قتل من أبي قبول الفرائض (الحديث : ١٣ / ٢١٧). وأخرجه مسلم في كتاب : الإيمان ، باب : الأمر بقتال الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله (الحديث : ٢٠). وأخرجه الإمام مالك في كتاب : الزكاة ، باب : ما جاء في أخذ الصدقات والتشديد فيها (الحديث : ١ / ٢٦٩). وأخرجه الترمذي ـ

٥٨٩

فتأملوا هذا المعنى فإن فيه نكتتين مما نحن فيه :

إحداهما : إنه لم يجعل لأحد سبيلا إلى جريان الأمر في زمانه على غير ما كان يجري في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان بتأويل ، لأن من لم يرتد من المانعين إنما منع تأويلا ، وفي القسم وقع النزاع بين الصحابة لا فيمن ارتد رأسا. ولكن أبا بكر لم يعذر بالتأويل والجهل ، ونظر إلى حقيقة ما كان الأمر عليه فطلبه إلى أقصاه حتى قال : والله لو منعوني عقالا ... إلى آخره. مع أن الذين أشاروا عليه بترك قتالهم إنما أشاروا عليه بأمر مصلحيّ ظاهر تعضده مسائل شرعية ، وقواعد أصولية ، لكن الدليل الشرعي الصريح كان عنده ظاهرا ، فلم تقو عند آراء الرجال أن تعارض الدليل الظاهر ، فالتزمه ، ثم رجع المشيرون عليه بالترك إلى صحة دليله تقديما للحاكم الحق ، وهو الشرع.

والثانية : إن أبا بكر رضي الله عنه لم يلتفت إلى ما يلقى هو والمسلمون في طريق طلب الزكاة من مانعيها من المشقة إذ لما امتنعوا صار مظنة للقتال وهلاك من شاء الله من الفرقتين ، ودخول المشقة على المسلمين في الأنفس والأموال والأولاد ولكنه رضي الله عنه لم يعتبر إلّا إقامة الملة على حسب ما كانت قبل ، فكان ذلك أصلا في أنه لا يعتبر العوارض الطارئة في إقامة الدين وشعائر الإسلام ، نظير ما قال الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا. وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١) الآية ، فإن الله لم يعذرهم في ترك منع المشركين خوف العيلة ، فكذلك لم يعدّ أبو بكر ما يلقى المسلمون من المشقة عذرا يترك به المطالبة بإقامة شعائر الدين حسبما كانت في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاء في القصة أن الصحابة أشاروا عليه بردّ البعث الذي بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أسامة بن زيد ـ ولم يكونوا بعد مضوا لوجهتهم ـ ليكونوا معه عونا على قتال أهل الردة ، فأبى من ذلك ، وقال : ما كنت لأرد بعثا أنفذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوقف مع شرع الله ولم يحكم غيره.

__________________

ـ في كتاب : الإيمان ، باب : ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله (الحديث : ٢٦١٠). وأخرجه أبو داود في كتاب : الزكاة (الحديث : ١٥٥٦). وأخرجه النسائي في كتاب : الزكاة ، باب : مانع الزكاة (الحديث : ٥ / ١٤).

(١) سورة : التوبة ، الآية : ٢٨. والعيلة : الفقر.

٥٩٠

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إني أخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة. قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : أخاف عليكم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع» (١) وإنما زلة العالم بأن يخرج عن طريق الشرع ، فإذا كان ممن يخرج عنه فكيف يجعل حجة على الشرع؟ هذا مضاد لذلك.

ولقد كان كافيا من ذلك خطاب الله لنبيه وأصحابه : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (٢) الآية ، مع أنه قال تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣) وقوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٤) الآية ؛ ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول : أغد عالما أو متعلما ، ولا تغد إمّعة فيما بين ذلك. قال ابن وهب : فسألت سفيان عن الإمعة فقال : الإمعة في الجاهلية الذي يدعي إلى الطعام فيذهب معه بغيره وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال.

وعن كميل بن زياد أن عليّا رضي الله عنه قال : يا كميل : إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير ، والناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق ، الحديث إلى أن قال فيه : أفّ لحامل حق لا بصيرة له ، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا يدري أين الحق ، إن قال أخطأ ، وإن أخطأ لم يدر ، مشغوف بما لا يدري حقيقته ، فهو فتنة لمن فتن به ، وإن من الخير كله ، فأعرف الله دينه وكفى أن لا يعرف دينه.

وعن علي رضي الله عنه قال : إياكم والاستنان بالرجال ، فإن الرجل ليعمل بعمل أهل

__________________

(١) أخرج نحوه الطبراني في حديث أبي الدرداء ، ولابن حبان في حديث عمران بن حصين ، والغزالي في الإحياء كتاب : العلم ، باب : آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء.

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٥٩.

(٣) سورة : النساء ، الآية : ٥٩.

(٤) سورة : الأحزاب ، الآية : ٣٦.

٥٩١

الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة ، فإن كنتم لا بدّ فاعلين فبالأموات لا بالأحياء ، وأشار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه الكرام ، وهو جار في كل زمان يعدم فيه المجتهدون.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ألا لا يقلدنّ أحدكم دينه رجلا ، إن آمن آمن ، وإن كفر كفر ، فإنه لا أسوة في الشر. وهذا الكلام من ابن مسعود بيّن مراد ما تقدم ذكره من كلام السلف ، وهو النهي عن اتباع السلف من غير التفات إلى غير ذلك.

وفي الصحيح عن أبي وائل قال : جلست إلى شيبة في هذا المسجد قال : جلس إليّ عمر في مجلسك هذا قال : هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين ، قلت : ما أنت بفاعل ، قال : لم؟ قلت : لم يفعله صاحباك ، قال : هما المرءان اهتدي بهما. يعني : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر رضي الله عنه.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث عيينة بن حصن حين استؤذن له على عمر ، قال فيه : فلما دخل قال : يا ابن الخطاب؟ والله ما تعطينا الجزل ، وما تحكم بيننا بالعدل ، فغضب عمر حتى همّ بأن يقع فيه ، فقال الحرّ بن قيس : يا أمير المؤمنين ، إن الله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١) فو الله ما جاوز عمر حين تلاها عليه ، وكان وقّافا عند كتاب الله.

وحديث فتنة القبور حيث قال عليه الصلاة والسلام : «فأما المؤمن ـ أو المسلم ـ فيقول : محمد جاءنا بالبينات فأجبناه وآمنا ، فيقال : نم صالحا قد علمنا أنك موقن ، وأما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» (٢).

وحديث مخاصمة عليّ والعباس عمر في ميراث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله للرهط الحاضرين : هل تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا نورث ما تركناه صدقة» (٣)؟ فأقروا

__________________

(١) سورة : الأعراف ، الآية : ١٩٩.

(٢) أخرج نحوه الترمذي في كتاب : الجنائز ، باب : ما جاء في عذاب القبر (الحديث : ١٠٧١).

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الفرائض ، باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نورث ما تركناه صدقة» ، ـ

٥٩٢

بذلك ـ إلى أن قال لعلي والعباس : أفتلتسمان مني قضاء غير ذلك؟ فو الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ـ إلى آخر الحديث.

وترجم البخاري في هذا المعنى ترجمة تقتضي أن حكم الشارع إذا وقع وظهر فلا خيرة للرجال ولا اعتبار بهم ، وأن المشاورة إنما تكون قبل التبيين ، فقال : باب قول الله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) (١) (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (٢) وأن المشاورة قبل العزم والتبيين لقوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (٣) فإذا عزم الرسول لم يكن لبشر التقدّم على الله ورسوله. وشاور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه يوم أحد في المقام والخروج ، فرأوا له الخروج ، فلما لبس لأمته قالوا : أقم ، فلم يمل إليهم بعد العزم ، وقال : «لا ينبغي لنبي يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله». وشاور عليّا وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة رضي الله عنها ، فسمع منهما حتى نزل القرآن فجلد الرامين ولم يلتفت إلى تنازعهم ، ولكن حكم بما أمره الله.

وكانت الأئمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، فإذا وقع في الكتاب والسنّة ، لم يتعدوه إلى غيره ، اقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأى

__________________

ـ وأخرجه في كتاب : الجهاد ، باب : ومن يترس بترس صاحبه ، وأخرجه في كتاب : المغازي ، باب : حديث بني النضير ومخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم في دية الرجلين ، وأخرجه في كتاب : تفسير سورة الحشر ، باب : قوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) ، وأخرجه في كتاب : النفقات ، باب : حبس الرجل قوت سنة على أهله ، وأخرجه في كتاب : الاعتصام ، باب : ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع (حديث : ١٢ / ٤ ، ٥). وأخرجه مسلم في كتاب : الجهاد ، باب : حكم الفيء (الحديث : ١٧٥٧). وأخرجه الترمذي في كتاب : السير ، باب : ما جاء في تركة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الحديث : ١٦١٠). وأخرجه أبو داود في كتاب : الخراج والإمارة ، باب : في صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأموال (الحديث : ٢٩٦٣). وأخرجه النسائي في كتاب : الفيء (الأحاديث : ٧ / ١٣٦ ، ١٣٧).

(١) سورة : الشورى ، الآية : ٣٨.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ١٥٩.

(٣) سورة : آل عمران ، الآية : ١٥٩.

٥٩٣

أبو بكر قتال من منع الزكاة فقال عمر : كيف تقاتل وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوا : (لا إله إلا الله) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (١) ثم تابعه بعد عمر ، فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة ، إذ كان عنده حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابتا في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من بدّل دينه فاقتلوه» (٢) وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولا كانوا أو شبانا ، وكان وقّافا عند كتاب الله.

هذا جملة ما قال في جملة تلك الترجمة مما يليق بهذا الموضع ، مما يدل على أن الصحابة لم يأخذوا أقوال الرجال في طريق الحق إلا من حديث هم وسائل للتوصل إلى شرع الله ، لا من حيث أهم أصحاب رتب أو كذا أو كذا أو كذا وهو ما تقدم.

وذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار ، عن ابن القاسم ، عن مالك أنه قال : ليس كل ما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله عزوجل : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (٣).

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الإيمان ، باب : فإن تابوا وأقاموا الصلاة (الأحاديث : ١ / ٧٠ ، ٧١). وأخرجه مسلم في كتاب : الإيمان ، باب : الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله (الحديث : ٢٢).

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : استتابة المرتدين ، باب : حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم ، وأخرجه في كتاب : الجهاد ، باب : لا يعذب بعذاب الله (الأحاديث : ١٢ / ٢٣٨ ، ٢٣٩). وأخرجه الترمذي في كتاب : الحدود ، باب : ما جاء في المرتد (الحديث : ١٤٥٨). وأخرجه أبو داود في كتاب : الحدود ، باب : الحكم فيمن ارتد (الحديث : ٤٣٥١). وأخرجه النسائي في كتاب : تحريم الدم ، باب : الحكم في المرتد (الأحاديث : ٧ / ١٠٤ ، ١٠٥). وأخرجه أحمد في المسند (الحديث : ١ / ٢٨٢).

(٣) سورة : الزمر ، الآية : ١٨.

٥٩٤

فصل

إذ ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق أيضا لا يعرف دون وسائطهم بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلاء على طريقة.

انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف ولم يكمله المؤلف رحمه‌الله تعالى.

هذا ما جاء في آخر النسخة المخطوطة التي وجدت في مكتبة الشنقيطي ، وقد تم نسخها في ٢٥ المحرم سنة ١٢٩٥ من هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٩٥
٥٩٦

فهرس الموضوعات

المقدمة.......................................................................... ٥

خطبة الكتاب................................................................... ٧

مقدمة في معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بدئ الإسلام غريبا» إلخ................................. ٨

الباب الأول : في تعريف البدع وبيان معناها........................................ ٢٣

فصل : في الحد معنى آخر....................................................... ٢٨

الباب الثاني : في ذم البدع وسوء منقلب أهلها...................................... ٣١

فصل : وأما النقل فمن وجوه..................................................... ٣٧

فصل : الوجه الثاني من النقل ، إلخ............................................... ٥١

فصل : الوجه الثالث من النقل ، إلخ.............................................. ٦٠

فصل : الوجه الرابع من النقل ، إلخ............................................... ٦٩

فصل : الوجه الخامس من النقل ، إلخ............................................. ٧٨

فصل : الوجه السادس.......................................................... ٨٣

فصل : وبقي مما هو محتاج إلى ذكره في هذا الموضع................................ ١٠٨

الباب الثالث : في أن ذم البدع والمحدثات عام ، إلخ............................... ١١٦

فصل : لا يخلو المنسوب إلى البدعة أن يكون مجتهدا أو مقلدا...................... ١٢٠

فصل : ولنزد هذا الموضع شيئا من البيان......................................... ١٣٢

فصل : إذا ثبت أن المبتدع آثم.................................................. ١٣٥

فصل : ويتعلق بهذا الفصل أمر آخر............................................. ١٤٠

فصل : فإن قيل : كيف هذا وقد ثبت في الشريعة ، إلخ........................... ١٤٢

فصل : ومما يورد في هذا الموضع................................................. ١٥١

فصل : وأما ما قاله عز الدين.................................................. ١٦٠

فصل : ومما يتعلق به بعض المتكلفين............................................. ١٧٢

الباب الرابع : في مأخذ أهل البدع بالاستدلال.................................... ١٧٨

٥٩٧

فصل : إذا ثبت هذا رجعنا إلى معنى آخر........................................ ١٨٠

فصل : ومنها ضد هذا وهو ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم........ ١٨٦

فصل : ومنها تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة............................... ١٩١

فصل : ومنها انحرافهم عن الأصول الواضحة...................................... ١٩٣

فصل : وعند ذلك نقول....................................................... ١٩٨

فصل : ومنها تحريف الأدلة عن مواضعها........................................ ٢٠٢

فصل : ومنها بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل............... ٢٠٥

فصل : ومنها رأى قوم التغالي في تعظيم شيوخهم.................................. ٢١٠

فصل : وأضعف هؤلاء احتجاجا قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات........... ٢١١

فصل : وقد رأينا أن نختم الكلام في الباب بفصل جمع جملة من الاستدلالات المتقدمة.. ٢١٥

الباب الخامس : في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما ولا بدّ قبل النظر في ذلك من تفسير البدعة ، إلخ    ٢٣٤

فصل : من فصول البدع الإضافية قال الله تعالى في شأن عيسى عليه‌السلام ومن اتبعه : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً) إلى آخر الآية............................................................................ ٢٣٥

والدليل على صحة الأخذ بالرفق ، إلخ........................................... ٢٩٤

فصل : فأما أن التزم ذلك أحد التزاما ، إلخ...................................... ٢٤٥

فصل : إذا ثبت هذا فالدخول في عمل على نية الالتزام له إن كان في المعتاد بحيث إذا داوم عليه ، إلخ        ٢٤٧

فصل : فالحاصل أن هذا القسم الذي هو مظنة للمشقة ، إلخ...................... ٢٥٤

فصل : الإشكال الأول : أن ما تقدم من الأدلة على كراهية الالتزامات ، إلخ......... ٢٥٥

فصل : والجواب أن ما تقدم من أدلة النهي صحيح ، إلخ........................... ٢٥٨

فصل : لكن يبقى النظر في تعليل النهي ، إلخ.................................... ٢٦١

فصل : إذا ما تقدم ورد الإشكال الثاني.......................................... ٢٦٥

فصل : قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) إلى آخر الآيتين  ٢٦٩

فصل : ويتعلق بهذا الموضع مسائل :............................................. ٢٧٣

إحداها : أن تحريم الحلال ، إلخ................................................. ٢٧٣

٥٩٨

المسألة الثانية : أن الآية التي نحن بصددها ، إلخ.................................. ٢٧٥

والمسألة الثالثة : أن هذه الآية يشكل معناها ، إلخ................................ ٢٧٧

والمسألة الرابعة : أن نقول : مما يسأل عنه ، إلخ................................... ٢٧٨

فصل : إذا ثبت هذا فكل من عمل على هذا ، إلخ............................... ٢٧٩

فصل : ثبت بمضمون هذه الفصول المتقدمة آنفا أن الحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلا ٢٨٤

فصل : قد يكون أصل العمل مشروعا ولكنه يصير جاريا مجرى البدعة من باب الذرائع. ٢٨٨

فصل : من تمام ما قبله ، وذلك أنه وقعت نازلة ، إلخ............................. ٢٩٢

فصل : ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال ، إلخ................................... ٣٠٠

فصل : ثم استدل المستنصر بالقياس............................................. ٣٠٦

فصل : ثم استدل على جواز الدعاء أثر الصلوات ، إلخ............................ ٣٠٨

فصل : ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة ، إلخ ٣٠٩

فصل : ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقة أن يكون أصل العبادة مشروعا ، إلخ ٣١٢

فصل : فإن قيل : فالبدع الإضافية هي يعتد بها ، إلخ.............................. ٣١٩

فهذه أربعة أقسام إلخ.......................................................... ٣٢٠

القسم الأول : وهو أن تنفرد البدعة عن العمل ، إلخ.............................. ٣٢٠

وأما القسم الثاني : وهو أن يصير العمل العادي أو غيره كالوصف للعمل المشروع ، إلخ ٣٢٣

وأما القسم الثالث : وهو أن يصير الوصف عرضة ، إلخ........................... ٣٢٧

الباب السادس : في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة...................... ٣٣١

فصل : وإذا كان كذلك : فالبدع من جملة المعاصي................................ ٣٣٣

فصل : ومثال ما يقع في النفس ما ذكر في نحل الهند في تعذيبها أنفسها ، إلخ......... ٣٣٤

فصل : ومثال ما يقع في النسل ما ذكر من أنكحة الجاهلية ، إلخ.................... ٣٣٦

فصل : ومثال ما يقع في العقل أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع......... ٣٣٨

فصل : ومثال ما يقع في المال أن الكفار قالوا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا)............. ٣٤٠

فصل : إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في النهي على رتبة واحدة ، إلخ.......... ٣٤٢

والجواب : أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ، إلخ................................ ٣٤٣

فصل : إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر.................................... ٣٤٨

فصل : وإذا قلنا : إن من البدع ما يكون صغيرة ، إلخ............................. ٣٥٦

٥٩٩

الباب السابع : في الابتداع : هل يدخل في الأمور العادية أم يختص بالأمور العبادية... ٣٦٢

فصل : أفعال المكلفين بحسب النظر الشرعي فيها على ضربين ، إلخ................. ٣٦٨

النكتة التي يدور عليها حكم الباب ويتبين ذلك بالأمثلة ، إلخ...................... ٣٦٩

فأما الثاني : فظاهر أنه بدعة................................................... ٣٦٩

تقديم الجهال على العلماء...................................................... ٣٦٩

إقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمر............................................ ٣٧٠

وجه النظر في أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول الابتداع في العاديات............... ٣٧١

قلة العلم وظهور الجهل........................................................ ٣٧١

الشح....................................................................... ٣٧٢

قبض الأمانة................................................................. ٣٧٤

تحليل الدماء والربا والخنزير والغناء والخمر......................................... ٣٧٥

كون الزكاة مغرما.............................................................. ٣٧٩

ارتفاع الأصوات في المساجد.................................................... ٣٧٩

تقديم الأحداث على غيرهم.................................................... ٣٨٢

لعن آخر هذه الأمة أولها....................................................... ٣٨٣

بعث الدجالين............................................................... ٣٨٤

مفارقة الجماعة................................................................ ٣٨٥

فصل : فإن قيل : أما الابتداع بمعنى أنه نوع من التشريع ، إلخ...................... ٣٨٥

وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه....................................... ٣٩٣

الباب الثامن : في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان..................... ٣٩٥

ولنقتصر على عشرة أمثلة «للمصالح المرسلة»..................................... ٣٩٨

أحدها : أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتفقوا على جمع المصحف ، إلخ................ ٣٩٨

المثال الثاني : اتفاق أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حد شارب الخمر.................. ٤٠٠

المثال الثالث : أن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع.......................... ٤٠١

المثال الرابع : أن العلماء اختلفوا في الضرب بالتهم ، إلخ............................ ٤٠٢

المثال الخامس : أنا إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود..................... ٤٠٣

المثال السادس : أن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال............................ ٤٠٥

٦٠٠