الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

شرعنا ، لما تقدم من الأدلة على نسخها ، كانت لعارض أو لغير عارض ، إذ لا رهبانية في الإسلام ، وقد ردّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم التبتل حسبما تقدم.

وإن كانت بمعنى الانقطاع إلى الله حسبما شرع وعلى حدّ ما انقطع إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المخاطب بقوله : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) فهذا هو الذي نحن في تقريره وأنه السنة المتبعة والهدي الصالح والصراط المستقيم ، وليس في كلام زيد بن أسلم وغيره في معنى التبتل ما يناقض هذا المعنى ، لأن رفض الدنيا ليس بمعنى طرح اتخاذها جملة وترك الاستمتاع بها ، بل بمعنى ترك الشغل بها عما كلف الإنسان به من الوظائف الشرعية.

واجعل سير السلف الصالح مرآة لك تنظر فيها معنى التبتل على وجه الاقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلقد كانوا رضي الله تعالى عنهم مكتسبين للمال به فيما أبيح لهم منفقين له حيث ندبوا لم يتعلق بقلوبهم منه شيء ، إذا عنّ لهم أمر أو نهي ، بل قدموا أمر الله ونهيه على حظوظ أنفسهم الباطلة على وجه لم يخل بحظوظهم فيه ، وهو التوسط الذي تقدم ذكره.

ثم ندبهم الشارع إلى اتخاذ الأهل والولد فبادروا إلى الامتثال ، ولم يقولوا : هو شاغل لنا عما أمرنا به ، لأن هذا القول مشعر بالغفلة عن معنى التكليف به ، فإن الأصل الشرعي أن كل مطلوب هو من جملة ما يتعبد به إلى الله تعالى ويتقرب به إليه ، فالعبادات المحضة ظاهر فيها ذلك ، والعادات كلها إذا قصد بها امتثال أمر الله عبادات ؛ إلا أنه إذا لم يقصد بها ذلك القصد ، ويجيء بها نحو الحظ مجردا ، فإذ ذاك لا تقع متعبدا بها ، ولا مثابا عليها ، وإن صح وقوعها شرعا.

فالصحابة رضي الله تعالى عنهم قد فهموا هذا المعنى ولا يمكن مع فهمهم أن تتعارض الأوامر في حقهم ولا في حق من فهم منها ما فهموا منها. فالتبتل على هذا الوجه صحيح أصيل في الجريان على السنة ، وكذلك كلام الحسن وغيره في تفسير الآية صحيح إذا أخذ هذا المأخذ ، أي : اتبع الهدى واتبع أمر ربك فإنه العليم بما يصلح لك والقائم على تدبيرك ، ولذلك قال على أثرها : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (١) أي : بك ، وإنه وكيل لك بالنسبة إلى ما ليس من كسبك ، فكذلك هو وكيل على ما هو داخل تحت

__________________

(١) سورة : المزمل ، الآية : ٩.

٢٨١

كسبك ، مما هو تكليف في حقك ، ومن جملة ما توكل لك فيه أن لا تدخل نفسك في عمل تحرج بسببه حالا ومآلا.

وقد فسر التبتل بأنه الإخلاص ، وهو قول مجاهد والضحاك.

وقال قتادة : أخلص له العبادة والدعوة ، فعلى هذا التفسير لا تعلق فيها لمورد السؤال.

وإذا تقرر هذا فالسياحة واتخاذ الصوامع وسكنى الجبال والكهوف إن كان على شرط أن لا يحرموا ما أحل الله من الأمور التي حرمها الرهبان ، بل على حد ما كانوا عليه في الحواضر ومجامع الناس : لا يشددون على أنفسهم بمقدار ما يشق عليهم ، فلا إشكال في صحة هذه الرهبانية ، غير أنها لا تسمى رهبانية إلا بنوع من المجاز ، أو النقل العرفي الذي لم يجر عليه معتاد اللغة ، فلا تدخل في مقتضى قوله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) (١) لا في الاسم ولا في المعنى.

وإن كان على التزام ما التزمه الرهبان ، فلا نسلم أنه في هذه الشريعة مندوب إليه ولا مباح ، بل هو مما لا يجوز ، لأنه كالشرع بغير شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا ينتظمه معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رغب عن سنتي فليس مني» (٢).

وأما ما ذكره الغزالي وغيره من تفضيله العزلة على المخالطة ، وترجيح الغربة على اتخاذ أهل عند اعتوار العوارض ، فذلك يستمد من أصل آخر لا من هنا.

وبيانه أن المطلوبات الشرعية لا تخلو أن يكون المكلف قادرا على الامتثال فيها مع سلامته عند العمل لها من وقوعه في منهي عنه أو لا ، فإن كان قادرا في مجاري العادات بحيث لا يعارضه مكروه أو محرم ، فلا إشكال في كون الطلب متوجها عليه بقدر استطاعته على حدّ ما كان السلف الصالح عليه قبل وقوع الفتن ، وإن لم يقدر على ذلك إلا بوقوعه في مكروه أو محرم ، ففي بقاء الطلب هنا تفصيل ـ بحسب ما يظهر من كلام أبي حامد رحمه‌الله

__________________

(١) سورة : الحديد ، الآية : ٢٧.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٢٩ ، الحاشية : ٢.

٢٨٢

تعالى ـ إذ يكون المطلوب مندوبا ، لكنه لا يعمل به إلا بوقوعه في ممنوع ، فالمندوب ساقط عنه بلا إشكال ، كالمندوب للصدقة على المحتاج لا مال بيده إلا مال الغير ، فلا يجوز له العمل بالندب ؛ لأنه يقع بسببه في التصرف في مال الغير بغير إذنه ، وذلك لا يجوز فهو كالفاقد لما يتصدق به ، وكالقادم على مريضه المشرف ، أو دفن ميت يخاف تغييره بتركه ، ثم يقوم يصلي نافلة ، والمتزوج لا يجد إلا مالا حراما ، وأشباه ذلك.

وقد يكون المطلوب واجبا إلا أن وقوعه فيه يدخله في مكروه ، وهذا غير معتد به ، لأن القيام بالواجب آكد ، أو يوقعه في ممنوع ، فهذا هو الذي يتعارض على الحقيقة ، إلا أن الواجبات ليست على وزان واحد كما أن المحرمات كذلك ، فلا بد من الموازنة ، فإن ترجح جانب الواجب صار المحرم في حكم العفو ، أو في حكم التلافي إن كان مما تتلافى مفسدته ، وإن ترجح جانب المحرم سقط حكم الواجب ، أو طلب بالتلافي ، وإن تعادلا في نظر المجتهد فهو مجال نظر المجتهدين ، والأولى ـ عند جماعة ـ رعاية جانب المحرم لأن درء المفاسد آكد من جلب المصالح ، فإذا كانت العزلة مؤدية إلى السلامة فهي الأولى في أزمنة الفتن ، والفتن لا تختص بفتن الحروب فقط فهي جارية في الجاه والمال وغيرهما من مكتسبات الدنيا ، وضابطها ما صد عن طاعة الله ، ومثل هذا يجري بين المندوب والمكروه ، وبين المكروهين.

وإن كانت العزلة مؤدية إلى ترك الجمعيات والجماعات ، والتعاون على الطاعات وأشباه ذلك فإنها أيضا سلامة من جهة أخرى ، ويقع التوازن بين المأمورات والمنهيات ، وكذلك النكاح ، إذا أدى إلى العمل بالمعاصي ولم يكن في تركه معصية كان تركه أولى.

ومن أمثلة ذلك ـ غير أنه مشكل ـ ما ذكره الوليد بن مسلم بسنده إلى حبيب بن مسلمة أنه قال لمعن بن ثور : هل تدري لم اتخذت النصارى الديارات؟ قال معن : ولم؟ قال : إنه لما أحدث الملوك البدع ، وضيعوا أمر النبيين ، وأكلوا الخنازير ، اعتزلوهم في الديارات وتركوهم وما ابتدعوا ، فتخلوا للعبادة ، قال حبيب لمعن : فهل لك؟ ... قال : ليس بيوم ذلك.

فاقتضى أن مثل ما فعلته النصارى مشروع في ديننا كذلك ، ومراده أن اعتزال الناس عند اشتهارهم بالبدع وغلبة الأهواء على حد ما شرع في ديننا ، لا أن نفس ما فعلت النصارى

٢٨٣

في رهبانيتها متيسر لنا ، لما ثبت من نسخه ، فعلى هذه الأحرف جرى كلام الإمام أبي حامد وغيره ممن نقل هو عنهم واحتج بهم ، ويدل على ذلك أن جماعة ممن نقل عنهم الترغيب في العزلة كانوا متزوجين ولم يكن ذلك مانعا من البقاء على ما هم عليه ، بناء منهم على التحري في الموازنة بين ما يلحقهم بسبب التزوج ؛ فلا إشكال إذا على هذا التقرير في كلام الغزالي ولا غيره ممن سلك مسلكه ، لأنهم بنوا على أصل قطعي في الشرع ، محكم لا ينسخه شيء وليس من مسألتنا بسبيل ، ولكن ثم تحقيق زائد لا يسع إيراده هاهنا ، وأصله مأخوذ من كتاب «الموافقات» من تمرن فيه حقق هذا المعنى على التمام ، وبالله تعالى التوفيق.

والحاصل : أن مضمون هذا الفصل يقتضي أن العمل على الرهبانية المنفية في الآية بدعة من البدع الحقيقية لا الإضافية ، لرد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها أصلا وفرعا.

فصل

ثبت بمضمون هذه الفصول المتقدمة آنفا أن الحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلا ـ وإن كان قد ثبت أيضا في الأصول الفقهية على وجه من البرهان أبلغ ـ فلنبن عليه فنقول :

قد فهم قوم من السلف الصالح وأهل الانقطاع إلى الله ممن ثبتت ولايتهم أنهم كانوا يشددون على أنفسهم ، ويلزمون غيرهم الشدة أيضا والتزام لحرج ديدنا في سلوك طريق الآخرة ، وعدوا من لم يدخل تحت هذا الالتزام مقصرا مطرودا ومحروما ، وربما فهموا ذلك من بعض الإطلاقات الشرعية ، فرشحوا بذلك ما التزموه ، فأفضى الأمر بهم إلى الخروج عن السنة إلى البدعة الحقيقية أو الإضافية.

فمن ذلك أن يكون للمكلف طريقان في سلوكه للآخرة ، أحدهما سهل والآخر صعب ، وكلاهما في التوصل إلى المطلوب على حد واحد ؛ فيأخذ بعض المتشددين بالطريق الأصعب الذي يشق على المكلف مثله ، ويترك الطريق الأسهل بناء على التشديد على النفس ، كالذي يجد للطهارة ماءين : سخنا وباردا فيتحرى البارد الشاق استعماله ، ويترك الآخر ؛ فهذا لم يعط النفس حقها الذي طلبه الشارع منه ، وخالف دليل رفع الحرج من غير معنى زائد ، فالشارع لم يرض بشرعية مثله ، وقد قال الله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ

٢٨٤

كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (١) فصار متبعا لهواه ، ولا حجة له في قوله عليه الصلاة والسلام : «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء عند الكريهات» (٢) الحديث.

من حيث كان الإسباغ مع كراهية النفس سببا لمحو الخطايا ورفع الدرجات ، ففيه دليل على أن الإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الأجر بإكراه النفس ، ولا يكون إلا بتحري إدخال الكراهية عليها ، لأنا نقول : لا دليل في الحديث على ما قلتم ، وإنما فيه أن الإسباغ مع وجود الكراهية ، ففيه أمر زائد ، كالرجل يجد ماء باردا في زمان الشتاء ولا يجده سخنا فلا يمنعه شدة برده عن كمال الإسباغ.

وأما القصد إلى الكراهية فليس في الحديث ما يقتضيه ، بل في الأدلة المتقدمة ما يدل على أنه مرفوع عن العباد ، ولو سلم أن الحديث يقتضيه لكانت أدلة رفع الحرج تعارضه وهي قطعية وخبر الواحد ظني ، فلا تعارض بينهما للاتفاق على تقديم القطعي ، ومثل الحديث قول الله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ) (٣) الآية.

ومن ذلك الاقتصار من المأكول على أخشنه وأفظعه لمجرد التشديد لا لغرض سواه ، فهو من النمط المذكور فوقه ، لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس في التكليف ، وهو أيضا مخالف لقوله عليه الصلاة والسلام : «إن لنفسك عليك حقّا» (٤) وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكل الطيب إذا وجده ، وكان يحب الحلواء والعسل ، ويعجبه لحم الذراع ، ويستعذب له الماء ، فأين التشديد من هذا؟

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٢٩.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب : الطهارة ، باب : فضل إسباغ الوضوء (الحديث : ٢٥١). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : قصر الصلاة في السفر ، باب : انتظار الصلاة والمشي إليها (الحديث : ١٠ / ١٦١). وأخرجه الترمذي في كتاب : الطهارة ، باب : ما جاء في إسباغ الوضوء (الحديث : ٥١). وأخرجه النسائي في كتاب : الطهارة ، باب : فضل إسباغ الوضوء (الأحاديث : ١٠ / ٨٩ ، ٩٠).

(٣) سورة : التوبة ، الآية : ١٢٠.

(٤) تقدم تخريجه ص : ٢٦٢ ، الحاشية : ١.

٢٨٥

ولا يدخل الاستعمال المباح في قوله تعالى : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) (١) ، لأن المراد به الإسراف الخارج عن حد المباح ، بدليل ما تقدم ، فإذا الاقتصار على البشيع في المأكل من غير عذر تنطع ، وقد مرّ ما فيه في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (٢) الآية.

ومن ذلك الاقتصار في الملبس على الخشن من غير ضرورة ، فإنه من قبيل التشديد والتنطع المذموم ، وفيه أيضا من قصد الشهرة ما فيه.

وقد روي عن الربيع بن زياد الحارثي أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أغد بي على أخي عاصم. قال : ما باله؟ قال : لبس العباء يريد النسك. فقال علي رضي الله عنه : عليّ به. فأتي به مؤتزرا بعباءة ، مرتديا بالأخرى ، شعث الرأس واللحية ، فعبس في وجهه وقال : ويحك! أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا؟ بل أنت أهون على الله من ذلك ، أما سمعت الله يقول في كتابه : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) إلى قوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٣)؟ أفترى الله أباح هذه لعباده إلا ليبتذلوه ويحمدوا الله عليه فيثبتهم عليه؟ وإن ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه بالقول. قال عاصم : فما بالك في خشونة مأكلك وخشونة ملبسك ، قال : ويحك! إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس.

فتأملوا كيف لم يطالب الله العباد بترك الملذوذات! وإنما طالبهم بالشكر عليها إذا تناولوها ؛ فالمتحرّي للامتناع من تناول ما أباحه الله من غير موجب شرعي مفتات على الشارع وكل ما جاء عن المتقدمين من الامتناع عن بعض المتناولات من هذه الجهة ، وإنما امتنعوا منه لعارض شرعي يشهد الدليل باعتباره ، كالامتناع من التوسع لضيق الحال في يده ، أو لأن المتناول ذريعة إلى ما يكره أو يمنع ، أو لأن في المتناول وجه شبهة تفطن إليه التارك ولم يتفطن إليه غيره ممن علم بامتناعه ، وقضايا الأحوال لا تعارض الأدلة بمجردها ،

__________________

(١) سورة : الأحقاف ، الآية : ٢٠.

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٨٧.

(٣) سورة : الرحمن ، الآيات : ١٠ ـ ٢٢.

٢٨٦

لاحتمالها في أنفسها. وهذه المسألة مذكورة على وجهها في كتاب (الموافقات).

ومن ذلك الاقتصار في الأفعال والأحوال على ما يخالف محبة النفوس وحملها على ذلك في كل شيء من غير استثناء ، فهو من قبيل التشديد. ألا ترى أن الشارع أباح أشياء مما فيه قضاء نهمة النفس وتمتعها واستلذاذها؟ فلو كانت مخالفتها برّا لشرع ، ولندب الناس إلى تركه ، فلم يكن مباحا ، بل مندوب الترك أو مكروه الفعل.

وأيضا فإن الله تعالى وضع في الأمور المتناولة إيجابا أو ندبا أشياء من المستلذات الحاملة على تناول تلك الأمور ، لتكون تلك اللذات كالحادي إلى القيام بتلك الأمور ، كما جعل في الأوامر إذا امتثلت وفي النواهي إذا اجتنبت أجورا منتظرة ولو شاء لم يفعل ، وجعل في الأوامر إذا تركت والنواهي إذا ارتكبت جزاء على خلاف الأول ، ليكون جميع ذلك منهضا لعزائم المكلفين في الامتثال ، حتى إنه وضع لأهل الامتثال الثائرين على المبايعة في أنفس التكاليف أنواعا من اللذات العاجلة ، والأنوار الشارحة للصدور ، ما لا يعد له من لذات الدنيا شيء ، حتى يكون سببا لاستلذاذ الطاعة والفرار إليها وتفضيلها على غيرها ، فيخف على العامل العمل حتى يتحمل منه ما لم يكن قادرا قبل على تحمله إلا بالمشقة المنهي عنها ، فإذا سقطت سقط النهي.

بل تأملوا كيف وضع للأطعمة على اختلافها لذات مختلفات الألوان ، وللأشربة كذلك ، وللوقوع الموضوع سببا لاكتساب العيال ـ وهو أشد تعبا عن النفس ـ لذة أعلى من لذة المطعم والمشرب ، إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن نفس المتناول ، كوضع القبول في الأرض وترفيع المنازل ، والتقدم على سائر الناس في الأمور العظائم وهي أيضا تقتضي لذات تستصغر في جنبها لذات الدنيا.

وإذا كان كذلك ، فأين هذا الموضع الكريم من الرب اللطيف الخبير؟ فمن يأتي متعبدا بزعمه بخلاف ما وضع الشارع له من الرفق والتيسير والأسباب الموصلة إلى محبته ، فيأخذ بالأشق والأصعب ، ويجعله هو السلم الموصل والطريق الأخص هل هذا كله إلا غاية في الجهالة ، وتلف في تيه الضلالة؟ عفانا الله من ذلك بفضله فإذا سمعتم بحكاية تقتضي تشديدا على هذا السبيل ، أو يظهر منها تنطع أو تكلف فإما أن يكون صاحبها ممن يعتبر كالسلف الصالح ، أو من غيرهم ممن لا يعرف ولا ثبت اعتباره عند أهل الحل والعقد من العلماء ، فإن

٢٨٧

كان الأول فلا بد أن يكون على خلاف ما ظهر لبادي الرأي ـ كما تقدم ـ إن كان الثاني فلا حجة فيه ، وإنما الحجة في المقتدين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فهذه خمسة في التشديد في سلوك طريق الآخرة يقاس عليها ما سواها.

فصل

قد يكون أصل العمل مشروعا ولكنه يصير جاريا مجرى البدعة من باب الذرائع ، ولكن على غير الوجه الذي فرغنا من ذكره. وبيانه أن العمل يكون مندوبا إليه ـ مثلا ـ فيعمل به العامل في خاصة نفسه على وضعه الأول من الندبية فلو اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن به بأس ، ويجري مجراه إذا دام عليه في خاصيته غير مظهر له دائما ، بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات من السنن الرواتب والفرائض اللوازم ، فهذا صحيح لا إشكال فيه ، وأصله ندب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإخفاء النوافل والعمل بها في البيوت ، وقوله : «أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة» (١) فاقتصر في الإظهار على المكتوبات ـ كما ترى ـ وإن كان ذلك في مسجده عليه‌السلام أو في المسجد الحرام أو في مسجد بيت المقدس ، حتى قالوا : إن النافلة في البيت أفضل منها في أحد هذه المساجد الثلاثة بما اقتضاه ظاهر الحديث ، وجرى مجرى الفرائض في الإظهار السنن كالعيدين والخسوف والاستسقاء وشبه ذلك ، فبقي ما سوى ذلك حكمه الإخفاء ، ومن هنا ثابر السلف الصالح رضي الله عنهم على إخفاء الأعمال فيما استطاعوا أو خف عليهم الاقتداء بالحديث وبفعله عليه الصلاة والسلام ، لأنه القدوة والأسوة.

ومع ذلك فلم يثبت فيها إذا عمل بها في البيوت دائما أن يقام جماعة في المساجد البتة ، ما عدا رمضان ـ حسبما تقدم ـ ولا في البيوت دائما ، وإن وقع ذلك في الزمان الأول في الفرط كقيام ابن عباس رضي الله عنهما مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما بات عند خالته ميمونة ، وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام : «قوموا فلأصلّ لكم».

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : صلاة الرجل التطوع في بيته (الحديث : ١٠٤٤). وأخرجه الترمذي في كتاب : الصلاة ، باب : ما جاء في فضل صلاة التطوع في البيت (الحديث : ٤٥٠). وأخرجه مالك في الموطأ وقوفا في كتاب : صلاة الجماعة ، باب : فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ (الحديث : ١ / ١٣٠).

٢٨٨

وما في الموطإ من صلاة يرفأ ـ هو خادم عمر ـ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الضحى ، فمن فعله في بيته وقتا ما فلا حرج ، ونص العلماء على جواز ذلك بهذا القيد المذكور ، وإن كان الجواز قد وقع في (المدونة) مطلقا ، فما ذكره تقييد له ، وأظن ابن حبيب نقله عن مالك مقيدا ، فإذا اجتمع في النافلة أن تلتزم التزام السنن الرواتب إما دائما وإما في أوقات محدودة وعلى وجه محدود ، وأقيمت في الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض ، أو المواضع التي تقام فيها السنن الرواتب فذلك ابتداع ، والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان فعل هذا المجموع هكذا مجموعا ، وأن أتى مطلقا من غير تلك التقييدات ، فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت بدليل الشرع تقييدها رأي في التشريع ، فكيف إذا عارضه الدليل ، وهو الأمر بإخفاء النوافل مثلا؟

ووجه دخول الابتداع هنا أن كل ما واظب عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النوافل وأظهره في الجماعات فهو سنّة ، فالعمل بالنافلة التي ليست بسنّة على طريق العمل بالسنّة ، إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعا ، ثم يلزم من ذلك اعتقاد العوام فيها ومن لا علم عنده أنها سنّة ، وهذا فساد عظيم ، لأن اعتقاد ما ليس بسنة والعمل بها على حد العمل بالسنة نحو من تبديل الشريعة ، كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض ، أو فيما ليس بفرض أنه فرض ، ثم عمل على وفق اعتقاده فإنه فاسد ، فهب العمل في الأصل صحيحا فإخراجه عن بابه اعتقادا وعملا من باب إفساد الأحكام الشرعية ، ومن هنا ظهر عذر السلف الصالح في تركهم سننا قصدا لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض كالأضحية وغيرها ـ كما تقدم ذلك ـ.

ولأجله أيضا نهى أكثرهم عن اتباع الآثار ، كما خرّج الطحاوي وابن وضاح وغيرهما عن معرور بن سويد الأسدي قال : وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما انصرفنا إلى المدينة انصرفت معه فلما صلى لنا صلاة الغداة فقرأ فيها : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) (١) ، و (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) (٢) ثم رأى ناسا يذهبون مذهبا ، فقال : أين يذهب

__________________

(١) سورة : الفيل ، الآية : ١.

(٢) سورة : قريش ، الآية : ١.

٢٨٩

هؤلاء؟ قالوا : يأتون مسجدا هاهنا صلى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعا ، من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليصل فيها وإلا فلا يتعمدها.

وقال ابن وضاح : سمعت عيسى بن يونس مفتي أهل طرسوس يقول : أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة.

قال ابن وضاح : وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عدا قباء وحده. وقال : وسمعتهم يذكرون أن سفيان دخل مسجد بيت المقدس فصلّى ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها ، وكذلك فعل غيره أيضا ممن يقتدى به ، وقدم وكيع أيضا مسجد بيت المقدس فلم يعد فعل سفيان. قال ابن وضاح : فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين ، فقد قال بعض من مضى : كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكرا عند من مضى. وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير.

وجميع هذا ذريعة لئلا يتخذ سنة ما ليس بسنة ، أو يعد مشروعا ما ليس معروفا.

وقد كان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة ، وكان يكره مجيء قبور الشهداء ، ويكره مجيء قباء خوفا من ذلك ، مع ما جاء في الآثار من الترغيب فيه ، ولكن لما خاف العلماء عاقبة ذلك تركوه.

وقال ابن كنانة وأشهب : سمعنا مالكا يقول لما أتاه سعد بن أبي وقاص قال : وددت أن رجلي تكسرت وأني لم أفعل.

وسئل ابن كنانة عن الآثار التي تركوا بالمدينة فقال : أثبت ما في ذلك عندنا قباء ، إلا أن مالكا كان يكره مجيئها خوفا من أن يتخذ سنّة.

وقال سعيد بن حسان : كنت أقرأ على ابن نافع ، فلما مررت بحديث التوسعة ليلة عاشوراء قال لي : حوّق عليه قلت : ولم ذلك يا أبا محمد؟ قال : خوفا من أن يتخذ سنّة.

فهذه أمور جائزة أو مندوب إليها ، ولكنهم كرهوا فعلها خوفا من البدعة لأن اتخاذها

٢٩٠

سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها ، وهذا شأن السنة ، وإذا جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شك.

فإن قيل : كيف صارت هذه الأشياء من البدع الإضافية؟ والظاهر منها أنها بدع حقيقية! لأن تلك الأشياء إذا عمل بها على اعتقاد أنها سنّة فهي حقيقية إذا لم يضعها صاحب السنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذا الوجه ، فصارت مثل ما إذا صلّى الظهر على أنها غير واجبة واعتقدها عبادة فإنها بدعة من غير إشكال ، هذا إذا نظرنا إليها بمآلها ، وإذا نظرنا إليها أولا فهي مشروعة من غير نسبة إلى بدعة أصلا.

فالجواب : أن السؤال صحيح ، إلا أن لوضعها أولا نظرين :

أحدهما : من حيث هي مشروعة فلا كلام فيها.

والثاني : من حيث صارت كالسبب الموضوع لاعتقاد البدعة أو للعمل بها على غير السنة ، فهي من هذا القبيل غير مشروعة ، لأن وضع الأسباب للشارع لا للمكلف والشارع لم يضع الصلاة في مسجد قباء أو بيت المقدس ـ مثلا ـ سببا لأن تتخذ سنة فوضع المكلف لها كذلك رأي غير مستند إلى الشرع ، فكان ابتداعا. وهذا معنى كونها بدعة إضافية.

أما إذا استقر السبب وظهر عنه مسببه الذي هو اعتقاد العمل سنّة ، والعمل على وفقه ، فذلك بدعة حقيقة لا إضافية ، ولهذا الأصل أمثلة كثيرة وقعت الإشارة إليها في أثناء الكلام ، فلا معنى للتكرار.

وإذا ثبت في الأمور المشروعة أنها قد تعد بدعا بالإضافة ، فما ظنك بالبدع الحقيقية ؛ فإنها قد تجتمع فيها أن تكون حقيقية وإضافية معا ، لكن من جهتين ، فإذا بدعة أصبح ولله الحمد في نداء الصبح ظاهرة ، ثم لما عمل بها في المساجد والجماعات مواظبا عليها لا تترك كما لا تترك الواجبات وما أشبهها ، كان تشريعا أولا يلزمه أن يعتقد فيه الوجوب أو السنّة ، وهذا ابتداع ثان إضافي. ثم إذا اعتقد فيها ثانيا السنية أو الفرضية صارت بدعة من ثلاثة أوجه ، ومثله يلزم في كل بدعة أظهرت والتزمت ، وأما إذا خفيت واختص بها صاحبها فالأمر عليه أخف ، فيا لله ويا للمسلمين! ما ذا يجني المبتدع على نفسه مما لا يكون في حسابه؟ وقانا الله شرور أنفسنا بفضله.

٢٩١

فصل

من تمام ما قبله :

وذلك أنه وقعت نازلة : إمام مسجد ترك ما عليه الناس بالأندلس من الدعاء للناس بآثار الصلوات بالهيئة الاجتماعية على الدوام ، وهو أيضا معهود في أكثر البلاد ، فإن الإمام إذا سلم من الصلاة يدعو للناس ويؤمّن الحاضرون ، وزعم التارك أن تركه بناء منه على أنه لم يكن من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا فعل الأئمة بعده حسبما نقله العلماء في دواوينهم عن السلف والفقهاء. أما أنه لم يكن من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فظاهر ، لأن حاله عليه الصلاة والسلام في أدبار الصلوات مكتوبات أو نوافل كانت بين أمرين : إما أن يذكر الله تعالى ذكرا هو في العرف غير دعاء فليس للجماعة منه حظ ، إلا أن يقولوا مثل قوله ، أو نحوا من قوله كما في غير أدبار الصلوات ، كما جاء أنه كان يقول في دبر كل صلاة : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» (١) ، وقوله : «اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام» (٢) ، قوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٣) الآية ، ونحو ذلك ، فإنما كان يقول في خاصة نفسه كسائر الأذكار ، فمن قال مثل قوله ، فحسن ولا يمكن في هذا كله هيئة اجتماع.

وإن كان دعاء فعامة ما جاء من دعائه عليه‌السلام بعد الصلاة مما سمع منه إنما كان يخص به نفسه دون الحاضرين ، كما في الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : صفة الصلاة ، باب : الذكر بعد الصلاة ، وفي كتاب : الدعوات ، باب : الدعاء بعد الصلاة (الحديث : ٢ / ٢٧٥). وأخرجه مسلم في كتاب : المساجد ، باب : استحباب الذكر بعد الصلاة (الحديث : ٥٩٣). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : ما يقول الرجل إذا سلّم (الحديث : ١٥٠٥). وأخرجه النسائي في كتاب : السهو ، باب : نوع آخر من القول عند انقضاء الصلاة (الحديث : ٣ / ٧٠).

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : ما يقول الرجل إذا سلّم (الحديث : ١٥١٢). وأخرجه النسائي في كتاب : السهو ، باب : الذكر بعد الاستغفار (الحديث : ٣ / ٦٩).

(٣) سورة : الصافات ، الآية : ١٨٠.

٢٩٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة رفع يديه ... الحديث ، إلى قوله : ويقول عند انصرافه من الصلاة : «اللهم اغفر لي ما قدّمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت إلهي لا إله إلا أنت» حسن صحيح. وفي رواية أبي داود : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سلّم من الصلاة قال : «اللهم اغفر لي ما قدّمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت» (١).

وخرّج أبو داود : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول دبر كل صلاة : «اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك ، اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العبادة كلهم إخوة ، اللهم ربنا ورب كل شيء اجعلني مخلصا لك وأهلي في كل ساعة في الدنيا والآخرة ، يا ذا الجلال والإكرام أسمع واستجب ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله نور السموات والأرض ، الله أكبر ، الله أكبر ، حسبي الله ونعم الوكيل» (٢).

ولأبي داود في رواية : «رب أعنّي ولا تعن عليّ ، وانصرني ولا تنصر عليّ ، وأمكن لي ولا تمكن عليّ ، واهدني ويسّر هداي إليّ وانصرني على من بغى عليّ» إلى آخر الحديث.

وفي النسائي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول في دبر الفجر إذا صلى : «اللهم إني أسألك علما نافعا ، وعملا متقبلا ، ورزقا طيبا» (٣). وعن بعض الأنصار قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في دبر الصلاة : «اللهم اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الغفور» (٤) حتى يبلغ مائة مرة ، وفي رواية ، أن هذه الصلاة كانت صلاة الضحى.

فتأملوا سياق هذه الأدعية كلها مساق تخصيص نفسه بها دون الناس! فيكون مثل هذا حجة لفعل الناس اليوم إلا أن يقال : قد جاء الدعاء للناس في مواطن ، كما في الخطبة التي استسقى فيها ، ونحو ذلك ، فيقال : نعم ، فأين التزام ذلك جهرا للحاضرين في دبر كل صلاة؟

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : ما يقول الرجل إذا سلّم (الحديث : ١٥٠٩). وأخرجه الترمذي بحديث طويل في كتاب : الدعوات ، باب : الدعاء في أول الصلاة (الحديث : ٣٤١٧).

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : ما يقول الرجل إذا سلّم (الحديث : ١٥٠٨).

(٣) أخرجه أحمد في المسند (٦ / ٢٩٤). وأخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب : إقامة الصلاة ، باب : ما يقال بعد التسليم (الحديث : ٩٢٥).

(٤) أخرجه رزين.

٢٩٣

ثم نقول : إن العلماء يقولون في مثل الدعاء والذكر الوارد على أثر الصلاة : إنه مستحب لا سنة ولا واجب ، وهو دليل على أمرين :

أحدهما : أن هذه الأدعية لم تكن منه عليه‌السلام على الدوام.

والثاني : أنه لم يكن يجهر بها دائما ولا يظهرها للناس في غير مواطن التعليم ، إذ لو كانت على الدوام ، وعلى الإظهار لكانت سنة ولم يسع العلماء أن يقولوا فيها بغير السنّة ، إذ خاصيته ـ حسبما ذكروه ـ الدوام والإظهار في مجامع الناس ، ولا يقال : لو كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام سرّا لم يؤخذ عنه ، لأنا نقول : من كانت عادته الإسرار فلا بد أن يظهر منه إما بحكم العادة وإما بقصد التنبيه على التشريع.

فإن قيل : ظواهر الأحاديث تدل على الدوام بقول الرواة : «كان يفعل» فإنه يدل على الدوام كقولهم : كان حاتم يكرم الضيفان.

قلنا : ليس كذلك ، بل يطلق على الدوام وعلى الكثير والتكرار على الجملة ، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة. وروت أيضا أنه كان عليه الصلاة والسلام ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء ، بل قد يأتي في بعض الأحاديث : «كان يفعل فيما لم يفعله إلا مرة واحدة» (١) نص عليه أهل الحديث.

ولو كان يداوم المداومة التامة للحق بالسنن كالوتر وغيره ، ولو سلم : فأين هيئة الاجتماع؟

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الغسل ، باب : الجنب يتوضأ ثم ينام (الحديث : ١ / ٣٣٥). وأخرجه مسلم في كتاب : الحيض ، باب : جواز نوم الجنب (الأحاديث : ٣٠٥ ، ٣٠٧). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الطهارة ، باب : وضوء الجنب إذا أراد أن ينام أو يطعم (الأحاديث : ١ / ٤٧ ، ٤٨). وأخرجه أبو داود في كتاب : الطهارة ، باب : الجنب يأكل (الأحاديث : ٢٢٢ ، ٢٢٣ ، ٢٢٤ ، ٢٢٦) وأخرجه في كتاب : الصلاة ، باب : في وقت الوتر (الحديث : ١٤٣٧). وأخرجه الترمذي في كتاب : الطهارة ، باب : ما جاء في الجنب ينام قبل أن يغتسل (الأحاديث : ١١٨ ، ١١٩). وأخرجه النسائي في كتاب : الطهارة ، باب : وضوء الجنب إذا أراد أن يأكل (الحديث : ١ / ١٣٨).

٢٩٤

فقد حصل أن الدعاء بهيئة الاجتماع دائما لم يكن من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما لم يكن قوله ولا إقراره.

وروى البخاري من حديث أم سلمة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمكث إذا سلم يسيرا. قال ابن شهاب : حتى ينصرف الناس فيما نرى. وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها : كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول : «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» (١).

وأما فعل الأئمة بعده فقد نقل الفقهاء من حديث أنس في غير كتب الصحيح : صليت خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان إذا سلم يقوم ، وصليت خلف أبي بكر رضي الله عنه فكان إذا سلم وثب كأنه على رضفة ـ يعني : الحجر المحمى ـ ونقل ابن يونس الصقلي عن ابن وهب عن خارجة أنه كان يعيب على الأئمة قعودهم بعد السلام وقال : إنما كانت الأئمة ساعة تسلم تقوم ، وقال ابن عمر : جلوسه بدعة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : لأن يجلس على الرضف خير له من ذلك. وقال مالك في (المدونة) : إذا سلم فليقم ولا يقعد إلا أن يكون في سفر أو في فنائه.

وعدّ الفقهاء إسراع القيام ساعة يسلم من فضائل الصلاة ، ووجهوا ذلك بأن جلوسه هنالك يدخل عليه ، فبه كبر وترفع على الجماعة ، وانفراده بموضوع عنهم يرى به الداخل أنه إمامهم ، وأما انفراده به حال الصلاة فضروري. قال بعض شيوخنا الذين استفدنا منهم : وإذا كان هذا في انفراده في الموضع ، فكيف بما انضاف إليه من تقدمه أمامهم في التوسل به بالدعاء والرغبة وتأمينهم على دعائه جهرا؟ قال : ولو كان هذا حسنا لفعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولم ينقل ذلك أحد من العلماء مع تواطئهم على نقل جميع أموره حتى : هل كان ينصرف من الصلاة عن اليمين أو عن الشمال؟

وقد نقل ابن بطال عن علماء السلف إنكار ذلك والتشديد فيه على من فعله بما فيه كفاية.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٢٩٢ ، الحاشية : ٢.

٢٩٥

هذا ما نقله الشيخ بعد أن جعل الدعاء بإثر الصلاة بهيئة الاجتماع دائما بدعة قبيحة ، واستدل على عدم ذلك في الزمان الأول بسرعة القيام والانصراف ، لأنه مناف للدعاء لهم وتأمينهم على دعائه ، بخلاف الذكر ، ودعاء الإنسان لنفسه ، فإن الانصراف وذهاب الانصراف لحاجته غير مناف لهما.

فبلغت الكائنة بعض شيوخ العصر ، فردّ على ذلك الإمام ردا أمرع فيه على خلاف ما عليه الراسخون ، وبلغ من الرد ـ على زعمه ـ إلى أقصى غاية ما قدر عليه. واستدل بأمور إذا تأملها الفطن عرف ما فيها ، كالأمر بالدعاء إثر الصلاة قرآنا وسنة ، وهو ـ كما تقدم ـ لا دليل فيه ، ثم ضم إلى ذلك جواز الدعاء بهيئة الاجتماع في الجملة إلا في أدبار الصلوات ولا دليل فيه أيضا ـ كما تقدم ـ لاختلاف المتأصلين.

وأما في التفصيل فزعم أنه ما زال معمولا به في جميع أقطار الأرض أو في جلها من الأئمة في مساجد الجماعات من غير نكير إلا نكير أبي عبد الله ، ثم أخذ في ذمه وهذا النقل تهور بلا شك ، لأنه نقل إجماع يجب على الناظر فيه والمحتج به قبل التزام عهدته أن يبحث عنه بحث أصل عن الإجماع ، لأنه لا بدّ من النقل عن جميع المجتهدين من هذه الأمة من أول زمان الصحابة رضي الله عنهم إلى الآن ، هذا أمر مقطوع به ، ولا خلاف أنه لا اعتبار بإجماع العوام وإن ادعوا الإمامة.

وقوله : من غير نكير ، تجوز ، بل ما زال الإنكار عليهم من الأئمة فقد نقل الطرطوشي عن مالك في ذلك أشياء تخدم المسألة فحصل إنكار مالك لها في زمانه ، وإنكار الإمام الطرطوشي في زمانه ، واتبع هذا أصحابه وهذا أصحابه ، ثم القرافي قد عدّ ذلك من البدع المكروهة على مذهب مالك ، وسلمه ولم ينكره عليه أهل زمانه ـ فيما نعلمه ـ مع زعمه أن من البدع ما هو حسن.

ثم الشيوخ الذين كانوا بالأندلس حين دخلتها هذه البدعة ـ حسبما يذكر بحول الله ـ وقد أنكروها ، وكان من معتقدهم في ذلك أنه مذهب مالك. وكان الزاهد أبو عبد الله بن مجاهد وتلميذه أبو عمران الميرتلي رحمهما‌الله ملتزمين لتركها ، حتى اتفق للشيخ أبي عبد الله في ذلك ما سنذكره إن شاء الله.

٢٩٦

قال بعض شيوخنا رادّا على بعض من نصر هذا العمل : فإنا قد شاهدنا العمل من الأئمة الفقهاء الصلحاء المتبعين للسنة المتحفظين بأمور دينهم يفعلون ذلك أئمة ومأمورين ، ولم نر من ترك ذلك إلا من شذّ في أحواله ـ فقال ـ وأما احتجاج منكر ذلك بأن هذا لم يزل الناس يفعلونه فلم يأت بشيء ، لأن الناس الذين يقتدى بهم ثبت أنهم لم يكونوا يفعلونه. قال : ولما كانت البدع والمخالفات وتواطأ الناس عليها صار الجاهل يقول : لو كان هذا منكرا لما فعله الناس. ثم حكى أثر الموطأ : ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة ـ قال : فإذا كان هذا في عهد التابعين يقول : كثرت الإحداثات فكيف بزماننا؟ ثم هذا الإجماع لو ثبت لزم منه محظور ، لأنه مخالف لما نقل عن الأولين من تركه ، فصار نسخ إجماع بإجماع ، وهذا محال في الأصول.

وأيضا فلا تكون مخالفة المتأخرين لإجماع المتقدمين على سنة حجة على تلك السنة أبدا ، فما أشبه هذه المسألة بما حكي عن أبي علي بشاذان بسند يرفعه إلى أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري ، قال : كان عبد الله بن الحسن ـ يعني : ابن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ـ يكثر الجلوس إلى ربيعة ، فتذاكروا يوما فقال رجل كان في المجلس : ليس العمل على هذا فقال عبد الله : أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام ، أفهم الحجة على السنة؟ فقال ربيعة : أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء انتهى. إلا أني أقول : أرأيت إن كثر المقلدون ثم أحدثوا بآرائهم فحكموا بها ، أفهم الحجة على السنّة ولا كرامة؟

ثم عضد ما ادعاه بأشياء من جملتها (قوله). ومن أمثال الناس : أخطئ مع الناس ولا تصب وحدك ، أي : أن خطأهم هو الصواب ، وصوابك هو الخطأ. قال : ومعنى ما جاء في حديث : «عليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» (١). فجعل تارك الدعاء على الكيفية المذكورة مخالفا للإجماع ـ كما ترى ـ وحض على اتباع الناس وترك المخالفة لقوله عليه الصلاة والسلام : «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» (٢) ، وكل ذلك مبني على الإجماع الذي ذكروا ، وأن الجماعة هم جماعة الناس كيف كانوا ، وسيأتي معنى الجماعة المذكورة في

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ، ومجمع الزوائد (٥ / ٢١٩).

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : تسوية الصفوف (الحديث : ٦٦٤). وأخرجه النسائي في كتاب : الإمامة ، باب : كيف يقوم الإمام الصفوف (الأحاديث : ٢ / ٨٩ ، ٩٠).

٢٩٧

حديث الفرق ، وأنها المتبعة للسنة وإن كانت رجلا واحدا في العالم.

قال بعض الحنابلة : لا تعبأ بما يعرض من المسائل ويدعي فيها الصحة بمجرد التهويل أو بدعوى أن لا خلاف في ذلك : وقائل ذلك لا يعلم أحدا قال فيها بالصحة فضلا عن نفي الخلاف فيها ، وليس الحكم فيها من الجليات التي لا يقدر المخالف ، قال : وفي مثل هذه المسائل قال الإمام أحمد بن حنبل : من ادّعى الإجماع فهو كاذب وإنما هذه دعوى كثير ، وابن علية يريدون أن يبطلوا السنن بذلك ، يعني أحمد : أن المتكلمين في الفقه على أهل البدع إذا ناظرتهم بالسنن والآثار قالوا : هذا خلاف الإجماع ، وذلك القول الذي يخالف ذلك الحديث لا يحفظونه إلا عن بعض فقهاء المدينة أو فقهاء الكوفة ـ مثلا ـ فيدعون الإجماع من قلة معرفتهم بأقاويل العلماء واجترائهم على رد السنن بالآراء ، حتى كان بعضهم يسرد عليه الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الأحكام فلا يجد لها معتصما إلا أن يقول : هذا لم يقل به أحد من العلماء ، وهو لا يعرف إلا أبا حنيفة أو مالكا ، لم يقولوا بذلك ، ولو كان له علم لرأى من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن قال بذلك خلقا كثيرا.

ففي هذا الكلام إرشاد لمعنى ما نحن فيه ، وأنه لا ينبغي أن ينقل حكم شرعي عن أحد من أهل العلم إلا بعد تحققه والتثبت ، لأنه مخبر عن حكم الله ، فإياكم والتساهل فإنه مظنة الخروج عن الطريق الواضح إلى السيئات.

ثم عدّ من المفاسد في مخالفة الجمهور أنه يرميهم بالتجهيل والتضليل ، وهذا دعوى من خالفه فيما قال ، وعلى تسليمها ، فليست بمفسدة على فرض اتباع السنة ، وقد جاء عن السلف الحض على العمل بالحق ، وعدم الاستيحاش من قلة أهله.

وأيضا فمن شنع على المبتدع بلفظ الابتداع فاطلق العبارة بالنسبة إلى المجتمعين يوم عرفة بعد العصر للدعاء في غير عرفة ـ إلى نظائرها ـ فتشنيعه حق كما يقول بالنسبة إلى بشر المريسي ومعبد الجهني وفلان ، ولا يدخل بذلك ـ إن شاء الله ـ في حديث : «من قال : هلك الناس فهو أهلكهم» (١) لأن المراد أن يقول ذلك ترفعا على الناس واستحقارا ، وأما إن قاله

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب : البر والصلة ، باب : النهي عن قول هلك الناس (الحديث : ٢٦٢٣). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الكلام ، باب : ما يكره من الكلام (الحديث : ٢ / ٩٨٤). وأخرجه ـ

٢٩٨

تحزنا وتحسرا فلا بأس. قال بعضهم : ونحن نرجو أن نعرج على ذلك ـ إن شاء الله ـ فالاستدلال به ليس على وجهه.

وعدّ من المفاسد الخوف من فساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة المنهي عنها ، فكأنه يقول : أترك اتباع السنّة في زمان الغربة خوف الشهرة ودخول العجب. وهذا شديد من القول وهو معارض بمثله ، فإن انتصابه لأن يكون داعيا للناس بإثر صلواتهم دائما مظنة لفساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة ، وهو تعليل القرافي ، وهو أولى في طريق الاتباع ، فصار تركه للدعاء لهم مقرونا بالاقتداء بخلاف الداعي فإنه في غير طريق من تقدم فهو أقرب إلى فساد النية.

وعدّ منها ما يظن به من القول برأي أهل البدع القائلين بأن الدعاء غير نافع ، وهذا كالذي قبله ، لأنه يقول للناس : اتركوا اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ترك الدعاء بهيئة الاجتماع بعد الصلوات لئلا يظن بكم الابتداع. وهذا كما ترى.

قال ابن العربي : ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس منه ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وتفعله الشيعة ـ قال ـ فحضر عندي يوما في محرس أبي الشعراء بالثغر موضع تدريسي عند صلاة الظهر ، ودخل المسجد من المحرس المذكور ، فتقدم إلى الصف الأول وأنا في مؤخره قاعدا على طاقات البحر ، أتنسم الريح من شدة الحر ، ومعي في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده في نفر من أصحابه ينتظر الصلاة ، ويتطلع على مراكب المنار ، فلما رفع الشيخ الفهري يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه ، قال أبو ثمنة وأصحابه : ألا ترى إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا؟ قوموا إليه فاقتلوه وارموا به في البحر فلا يراكم أحد ، فطار قلبي من بين جوانحي ، وقلت : سبحان الله! هذا الطرطوشي فقيه الوقت ، فقالوا لي : ولم يرفع يديه؟ فقلت : كذلك كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل ، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه ، وجعلت أسكنهم وأسكنهم حتى فرغ من صلاته ، وقمت معه إلى المسكن من المحرس ، ورأى تغير وجهي فأنكره ، وسألني فأعلمته فضحك ، وقال : من أين لي أن أقتل على سنّة؟ فقلت له : ويحل لك هذا ، فإنك بين

__________________

ـ أبو داود في كتاب : الأدب ، باب : لا يقال خبثت نفسي (الحديث : ٤٩٨٣).

٢٩٩

قوم إن قمت بها قاموا عليك ، وربما ذهب دمك ، فقال : دع هذا الكلام وخذ في غيره.

فتأملوا في هذه القصة ففيها الشفاء ، إذ لا مفسدة في الدنيا توازي مفسدة إماتة السنّة ، وقد حصلت النسبة إلى البدعة ؛ ولكن الطرطوشي رحمه‌الله لم ير ذلك شيئا فكلامه للاتباع أولى من كلام هذا الراد ، إذ بينهما في العلم ما بينهما.

وأيضا فلو اعتبر ما قال لزم اعتباره بمثله في كل من أنكر الدعاء بهيئة الاجتماع يوم عرفة في غير عرفة ، ومنهم نافع مولى ابن عمر ومالك والليث وعطاء وغيرهم من السلف ، ولما كان ذلك غير لازم فمسألتنا كذلك.

ثم ختم هذا الاستدلال الإجماعي بقوله : وقد اجتمع أئمة الإسلام في مساجد الجماعات في هذه الأعصار في جميع الأقطار على الدعاء أدبار الصلاة : فيشبه أن يدخل ذلك مدخل حجة إجماعية عصرية.

فإن أراد الدعاء على هيئة الاجتماع دائما لا يترك كما يفعل بالسنن ـ وهي مسألتنا المفروضة ـ فقد تقدم ما فيه.

فصل

ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال على صحة ما زعم ، وهو أن الدعاء على ذلك الوجه لم يرد في الشرع نهي عنه مع وجود الترغيب فيه على الجملة ، ووجود العمل به ، فإن صح أن السلف لم يعملوا به ، فالترك ليس بموجب لحكم في المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج خاصة ، لا تحريم ولا كراهية.

وجميع ما قاله مشكل على قواعد العلم وخصوصا في العبادات ـ التي هي مسألتنا ـ إذ ليس لأحد من خلق الله أن يخترع في الشريعة من رأيه أمرا لا يوجد عليه منها دليل ، لأنه عين البدعة ، وهذا كذلك ، إذ لا دليل فيها على اتخاذ الدعاء جهرا للحاضرين في آثار الصلوات دائما ، على حد ما تقام ، بحيث يعد الخارج عنه خارجا عن جماعة أهل الإسلام متحيزا ومتميزا إلى سائر ما ذكر ، وكل ما لا يدل عليه دليل فهو البدعة.

وعلى هذا فإن ذلك الكلام يوهم أن اتباع المتأخرين المقلدين خير من اتباع الصالحين من السلف ، ولو كان في أحد جائزين ، فكيف إذا كان أمرين أحدهما متيقن أنه صحيح

٣٠٠