الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

أصناف الشهوات ، بل التعظيم على شهوات الدنيا ، ألا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات ، عن جميع الملذوذات ، ومقاساتهم في أصناف العبادات ، والكف عن الشهوات؟ وهم مع ذلك خالدون في جهنم.

قال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ* عامِلَةٌ ناصِبَةٌ* تَصْلى ناراً حامِيَةً) (١) ، وقال : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٢).

وما ذاك إلا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام ، ونشاط يداخلهم يستسهلون به الصعب بسبب ما داخل النفس من الهوى ، فإذا بدا للمبتدع ما هو عليه رآه محبوبا عنده لاستبعاده للشهوات وعمله من جملتها ورآه موافقا للدليل عنده ، فما الذي يصده عن الاستمساك به ، والازدياد منه؟ وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره ، واعتقاداته أوفق وأعلى؟ أفيفيد البرهان مطلبا؟ (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٣).

وأما أن المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله تعالى ، فلقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (٤) ، حسبما جاء في تفسير الآية عن بعض السلف وقد تقدم ، ووجهه ظاهر لأن المتخذين للعجل إنما ضلوا به حتى عبدوه ، لما سمعوا من خواره ، ولما ألقى إليهم السامريّ فيه ، فكان في حقهم شبهة خرجوا بها عن الحق الذي كان في أيديهم.

قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) فهو عموم فيهم وفيمن أشبههم ، من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله حسبما أخبر في كتابه في قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا

__________________

(١) سورة : الغاشية ، الآيات : ٢ ـ ٤.

(٢) سورة : الكهف ، الآيتان : ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٣) سورة : المدثر ، الآية : ٣١.

(٤) سورة : الأعراف ، الآية : ١٥٢.

١٠١

أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ) (١).

فإذا كل من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب بدعته وإن ظهر لبادي الرأي في عزه وجبريته فهم في أنفسهم أذلاء ، وأيضا فإن الذلة الحاضرة بين أيدينا موجودة في غالب الأحوال ، ألا ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين ، وفيما بعد ذلك؟ حتى تلبسوا بالسلاطين ولاذوا بأهل الدنيا ، ومن لم يقدر على ذلك استخفى ببدعته وهرب بها عن مخالطة الجمهور ، وعمل بأعمالها على التّقيّة.

وقد أخبر الله أن هؤلاء الذين اتخذوا العجل سينالهم ما وعدهم فأنجز الله وعده ، فقال : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) (٢) ، وصدق ذلك الواقع باليهود حيثما حلوا في أي مكان وزمان كانوا لا يزالون أذلاء مقهورين : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٣). ومن جملة الاعتداء اتخاذهم العجل ، هذا بالنسبة إلى الذلة ، وأما الغضب فمضمون بصادق الأخبار ، فيخاف أن يكون المبتدع داخلا في حكم الغضب والله الواقي بفضله.

وأما البعد عن حوض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلحديث الموطأ : «فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ...» (٤) الحديث. وفي البخاري ، عن أسماء ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنا على حوضي أنتظر من يرد عليّ ، فيؤخذ بناس من دوني ، فأقول : أمتي! فيقال : إنك لا تدري ، مشوا القهقرى» (٥). وفي حديث عبد الله : «أنا فرطكم على الحوض فليرفعن إليّ

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤٠.

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ٦١.

(٣) سورة : البقرة ، الآية : ٦١.

(٤) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب : الطهارة ، باب : جامع الوضوء (١ / ٢٨).

(٥) أخرجه البخاري في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء في قول الله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً). وأخرجه مسلم في كتاب : الطهارة ، باب : استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء (الحديث : ٢٤٩). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الطهارة ، باب : جامع الوضوء (١ / ٢٨ ، ٣٠). وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة ، باب : حلية الوضوء (١ / ٩٣ ، ٩٥). وأخرجه ابن ماجه في كتاب : الفتن ،

١٠٢

رجال منكم حتى إذا تأهبت لأتناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب! أصحابي ، يقول : لا تدري ما أحدثوه بعدك».

والأظهر أنهم من الداخلين في غمار هذه الأمة لأجل ما دل على ذلك فيهم وهو الغرة والتحجيل ، لأن ذلك لا يكون لأهل الكفر المحض ، كان كفرهم أصلا أو ارتدادا. ولقوله : «قد بدلوا بعدك» ولو كان الكفر لقال : قد كفروا بعدك. وأقرب ما يحمل عليه تبديل السنة ، وهو واقع على أهل البدع. ومن قال : إنه النفاق ، فذلك غير خارج عن مقصودنا ، لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تقية لا تعبدا ، فوضعوها غير مواضعها وهو عين الابتداع.

ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنّة والعمل بها حيلة وذريعة إلى نيل حطام الدنيا لا على التعبد بها لله تعالى ، لأنه تبديل لها وإخراج لها عن وضعها الشرعي.

وأما الخوف عليه من أن يكون كافرا ، فلأن العلماء من السلف الأول وغيرهم اختلفوا في تكفير كثير من فرقهم مثل الخوارج والقدرية وغيرهم ، ودل على ذلك ظاهر قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (١) ، وقوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (٢) ، الآية. وقد حكم العلماء بكفر جملة منهم كالباطنية (٣) وسواهم ، لأن مذهبهم راجع إلى مذهب الحلولية القائلين بما يشبه قول النصارى في اللاهوت (٤) والناسوت (٥) ، والعلماء إذا اختلفوا في أمر : هل هو كفر أم لا؟ فكل عاقل يربأ بنفسه أن ينسب إلى خطة خسف كهذه بحيث يقال له : إن العلماء اختلفوا : هل أنت كافر أم ضال غير كافر؟ أو يقال : إن جماعة من أهل العلم قالوا بكفرك وأنت حلال الدم.

__________________

ـ باب : (٥) ، وفي كتاب : الزهد ، باب : (٣٦). وأخرجه الإمام أحمد (١ / ٢٥٧ ، ٣٨٤).

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٦.

(٣) الباطنية : فرقة من الشيعة تعتقد أن للشريعة ظاهرا وباطنا.

(٤) اللاهوت : الألوهية ، علم اللاهوت : علم يبحث عن العقائد المتعلقة بالله.

(٥) الناسوت : لطبيعة الإنسان.

١٠٣

وأما أنه يخاف على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ بالله ، فلأن صاحبها مرتكب إثما ، وعاص لله تعالى حتما ، ولا نقول الآن : هو عاص بالكبائر أو بالصغائر ، بل نقول : هو مصر على ما نهى الله عنه ، والإصرار يعظم الصغيرة إن كانت صغيرة حتى تصير كبيرة ، وإن كانت كبيرة فأعظم. ومن مات مصرّا على المعصية فيخاف عليه ، فربما إذا كشف الغطاء وعاين علامات الآخرة استفزه الشيطان وغلبه على قلبه ، حتى يموت على التغيير والتبديل ، وخصوصا حين كان مطيعا له فيما تقدم من زمانه ، مع حب الدنيا المستولي عليه.

قال عبد الحق الإشبيلي : إن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ، ما سمع بهذا قط ولا علم به والحمد لله ، وإنما يكون لمن كان له فساد في العقل أو إصرار على الكبائر ، وإقدام على العظائم ، أو لمن كان مستقيما ثم تغيرت حاله وخرج عن سننه ، وأخذ في طريق غير طريقه ، فيكون عمله ذلك سببا لسوء خاتمته وسوء عاقبته ، والعياذ بالله. قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (١).

وقد سمعت بقصة بلعام بن باعوراء حيث آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان إلى آخر الآيات.

فهذا ظاهر إذا اغتر بالبدعة من حيث هي معصية ، فإذا نظرنا إلى كونها بدعة فذلك أعظم ، لأن المبتدع مع كونه مصرّا على ما نهي عنه يزيد على المصر بأنه معارض للشريعة بعقله ، غير مسلم لها في تحصيل أمره ، معتقدا في المعصية أنها طاعة ، حيث حسن ما قبحه الشارع ، وفي الطاعة أنها لا تكون طاعة إلا بضميمة نظره ، فهو قد قبح ما حسنه الشارع ، ومن كان هكذا فحقيق بالقرب من سوء الخاتمة إلا ما شاء الله. وقد قال تعالى في جملة من ذم : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٢) ، والمكر جلب السوء من حيث لا يفطن له ، وسوء الخاتمة من مكر الله ، إذ يأتي الإنسان من حيث لا يشعر به ، اللهم إنا نسألك العفو والعافية.

__________________

(١) سورة : الرعد ، الآية : ١١.

(٢) سورة : الأعراف ، الآية : ٩٩.

١٠٤

وأما اسوداد وجهه في الآخرة فقد تقدم في ذلك معنى قوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (١) ، وفيها أيضا الوعيد بالعذاب لقوله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٢) ، وقوله قبل ذلك : (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣).

حكى عياض عن مالك من رواية ابن نافع عنه قال : لو أن العبد ارتكب الكبائر كلها دون الإشراك بالله شيئا ثم نجا من هذه الأهواء لرجوت أن يكون في أعلى جنات الفردوس ، لأن كل كبيرة بين العبد وربه هو منها على رجاء ، وكل هوى ليس هو منه على رجاء إنما يهوي بصاحبه في نار جهنم.

وأما البراءة منه ففي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (٤). وفي الحديث : «أنا بريء منهم وهم برآء مني» (٥).

وقال ابن عمر رضي الله عنه في أهل القدر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني.

وجاء عن الحسن : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك.

وعن سفيان الثوري : من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث : إما أن يكون فتنة لغيره ، وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار ، وإما أن يقول : والله لا أبالي ما تكلموا به ، وإني واثق بنفسي ، فمن يأمن بغير الله طرفة عين على دينه سلبه إياه.

وعن يحيى بن أبي كثير قال : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر.

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٦.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٦.

(٣) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٥.

(٤) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

(٥) أخرجه أبو داود في كتاب : الأدب ، باب : من يؤمر أن يجالس (الحديث : ٤٨٣٣). وأخرجه الترمذي في كتاب : الزهد ، باب : (٤٥) (الحديث : ٢٣٧٩) وقال : إسناده حسن.

١٠٥

وعن أبي قلابة قال : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون.

وعن إبراهيم قال : لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تكلموهم فإذا أخاف أن ترتد قلوبكم.

والآثار في ذلك كثيرة ، ويعضدها ما روي عنه عليه‌السلام أنه قال : «المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل». ووجه ذلك ظاهر منبه عليه في كلام أبي قلابة ، إذ قد يكون المرء على يقين من أمر من أمور السنّة ، فيلقي له صاحب الهوى فيه هوى مما يحتمله اللفظ لا أصل له ، أو يزيد له فيه قيدا من رأيه ، فيقبله قلبه ، فإذا رجع إلى ما كان يعرفه وجده مظلما فإما أن يشعر به فيرده بالعلم ، أو لا يقدر على رده. وإما أن لا يشعر به فيمضي مع من هلك.

قال ابن وهب : وسمعت مالكا إذا جاءه بعض أهل الأهواء يقول : أما أنا فعلى بيّنة من ربي ، وأما أنت فشاكّ ، فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه ، ثم قرأ : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) (١).

فهذا شأن من تقدم من عدم تمكين زائغ القلب أن يسمع كلامه.

ومثل رده بالعلم جوابه لمن سأله في قوله : (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢) ، كيف استوى؟ فقال له : «الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ، وأراك صاحب بدعة» ثم أمر بإخراج السائل.

ومثل ما لا يقدر على رده ما حكى الباجي قال : قال مالك : كان يقال : لا تمكن زائغ القلب من أذنك ، فإنك لا تدري ما يعلقك من ذلك.

ولقد سمع رجل من الأنصار من أهل المدينة شيئا من بعض أهل القدر ، فعلق قلبه ، فكان يأتي إخوانه الذين يستنصحهم ، فإذا نهوه قال : فكيف بما علق قلبي لو علمت أن الله يرضى أن ألقي نفسي من فوق هذه المنارة فعلت.

__________________

(١) سورة : يوسف ، الآية : ١٠٨.

(٢) سورة : طه ، الآية : ٥.

١٠٦

ثم حكي أيضا عن مالك أنه قال : لا تجالس القدري ولا تكلمه إلا إن تجلس إليه ، فتغلظ عليه ، لقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) (١) ، فلا توادوهم.

وأما أنه يخشى عليه الفتنة ، فلما حكى عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال : سألت مالكا عمن أحرم من المدينة وراء الميقات؟ فقال : هذا مخالف لله ورسوله ، أخشى عليه الفتنة في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة. أما سمعت قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢) ، وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يهلّ من المواقيت.

وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال : سمعت مالك بن أنس ـ وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ ـ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد ، فقال : لا تفعل ، قال : فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة ، فقال : وأي فتنة هذه؟ إنما هي أميال أزيدها ، قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصّر عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ إني سمعت الله يقول : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وهذه الفتنة التي ذكرها مالك رحمه‌الله تفسير الآية هي شأن أهل البدع وقاعدتهم التي يؤسسون عليها بنيانهم ، فإنهم يرون أن ما ذكره الله في كتابه وما سنّه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون ما اهتدوا إليه بعقولهم.

وفي مثل ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما روي عن ابن وضاح : لقد هديتم لما لم يهتد له نبيكم ، وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة ـ إذ مرّ بقوم كان رجل يجمعهم يقول : رحم

__________________

(١) سورة : المجادلة ، الآية : ٢٢.

(٢) سورة : النور ، الآية : ٦٣.

١٠٧

الله من قال كذا وكذا مرة (سبحان الله) فيقول القوم. ويقول رحم الله من قال كذا وكذل مرة (الحمد لله) فيقول القوم.

ثم إن ما استدل به مالك من الآيات الكريمة نزلت في شأن المنافقين حين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحفر الخندق ، وهم الذين كانوا يتسللون لواذا.

وقد تقدم أن النفاق من أصله بدعة ، لأنه وضع بدعة في الشريعة على غير ما وضعها الله تعالى ، ولذلك لما أخبر تعالى عن المنافقين قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) (١) ، فمن حيث كانت عامة في المخالفين عن أمره يدخلون أيضا من باب أحرى.

فهذه جملة يستدل بها على ما بقي ، إذ ما تقدم من الآيات والأحاديث فيها مما يتعلق بهذا المعنى كثير ، وبسط معانيها طويل ، فلنقتصر على ما ذكرنا وبالله التوفيق.

فصل

وبقي مما هو محتاج إلى ذكره في هذا الموضع شرح معنى عام يتعلق بما تقدم ، وهو أن البدع ضلالة ، وأن المبتدع ضال ومضل ، والضلالة مذكورة في كثير من النقل المذكور ، ويشير إليها في آيات الاختلاف والتفرق شيعا وتفرق الطرق ، بخلاف سائر المعاصي ، فإنها لم توصف في الغالب بوصف الضلالة إلا أن تكون بدعة أو شبه بدعة. وكذلك الخطأ الواقع في المشروعات ـ وهو المعفوّ ـ لا يسمى ضلالا ، ولا يطلق على المخطئ اسم ضال ، كما لا يطلق على المعتمد لسائر المعاصي ، وإنما ذلك ـ والله أعلم ـ لحكمة قصد التنبيه عليها ، وذلك أن الضلال والضلالة ضد الهدي والهدى ، والعرب تطلق الهدى حقيقة في الظاهر المحسوس ، فتقول : هديته الطريق وهديته إلى الطريق. ومنه : نقل إلى طريق الخير والشر ، قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) (٢) ، (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٣) ، (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٤). والصراط والطريق والسبيل بمعنى واحد ، فهو حقيقة في الطريق

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ١٦.

(٢) سورة : الإنسان ، الآية : ٣.

(٣) سورة : البلد ، الآية : ١٠.

(٤) سورة : الفاتحة ، الآية : ٦.

١٠٨

المحسوس ، ومجاز في الطريق المعنوي ، وضده الضلال ؛ وهو الخروج عن الطريق ومنه البعير الضال ، والشاة الضالة. ورجل ضل عن الطريق إذا خرج عنه ، لأنه التبس عليه الأمر ولم يكن له هاد يهديه ، وهو الدليل.

فصاحب البدعة لما غلب الهوى مع الجهل بطريق السنّة توهم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القويم دون غيره ، فمضى عليه فحاد بسببه عن الطريق المستقيم ، فهو ضال من حيث ظن أنه راكب للجادة ، كالمار بالليل على الجادة وليس له دليل يهديه ، يوشك أن يضل عنها فيقع في متابعة ، وإن كان بزعمه يتحرى قصدها. فالمبتدع من هذه الأمة إنما ضلّ في أدلتها حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله ، وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره ، لأن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه ، وأخذ الأدلة بالتبع ، ومن شأن الأدلة أنها جارية على كلام العرب ومن شأن كلامها الاحتراز فيه بالظواهر ، فكما تجد فيه نصّا لا يحتمل التأويل تجد فيه الظاهر الذي يحتمله احتمالا مرجوحا حسبما قرره من تقدم في غير هذا العلم ، وكل ظاهر يمكن فيه أن يصرف عن مقتضاه في الظاهر المقصود ، ويتأول على غير ما قصد فيه ، فإذا انضم إلى ذلك الجهل بأصول الشريعة وعدم الاضطلاع بمقاصدها ، كان الأمر أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع.

فكان المدرك أعرق في الخروج عن السنّة ، وأمكن في ضلال البدعة ؛ فإذا غلب الهوى أمكن انقياد ألفاظ الأدلة إلى ما أراد منها.

والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعا ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته وهو أمر ثابت في الحكمة الأزلية التي لا مرد لها. قال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) (١) ، وقال : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢). لكن إنما ينساق لهم من الأدلة المتشابه منها لا الواضح ، والقليل منها كالكثير ، وهو أدل الدليل على اتباع الهوى فإن المعظم والجمهور من الأدلة إذا دلّ على أمر بظاهره فهو الحق ؛ فإن جاء على ما ظاهره الخلاف فهو النادر والقليل ، فكان من حق الظاهر

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٦.

(٢) سورة : المدثر ، الآية : ٣١.

١٠٩

رد القليل إلى الكثير ، والمتشابه إلى الواضح ، غير أن الهوى زاغ بمن أراد الله زيغه فهو في تيه ، من حيث يظن أنه على الطريق ، بخلاف غير المبتدع فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أول مطالبه ، وأخّر هواه ـ إن كان ـ فجعله بالتبع ، فوجد جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحا في الطلب الذي بحث عنه ، فوجد الجادة ، وما شذ له عن ذلك ، فإما أن يرده إليه ، وإما أن يكله إلى عالمه ولا يتكلف البحث عن تأويله.

وفيصل القضية بينهما قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) (١) ، إلى قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) (٢). فلا يصح أن يسمى من هذه حاله مبتدعا ولا ضالّا ، وإن حصل في الخلاف أو خفي عليه.

أما أنه غير مبتدع فلأنه اتبع الأدلة ملقيا إليه حكمة الانقياد ، باسطا يد الافتقار ، مؤخرا ، ومقدما لأمر الله.

وأما كونه غير ضال فلأنه على الجادة سلك ، وإليها لجأ ، فإن خرج عنها يوما فأخطأ فلا حرج عليه ، بل يكون مأجورا حسبما بيّنه الحديث الصحيح : «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران» (٣) وإن خرج متعمدا فليس على أن يجعل خروجه طريقا مسلوكا له أو لغيره ، وشرعا يدان به.

على أنه إذا وقع الذنب موقع الاقتداء قد يسمى استنانا فيعامل معاملة من سنّه كما جاء في الحديث : «من سنّ سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها» (٤) الحديث ، وقوله عليه

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الاعتصام ، باب : أجر الحاكم إذا اجتهد أو أخطأ (الحديث : ١٣ / ٢٦٨). وأخرجه مسلم في كتاب : الأقضية ، باب : بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (الحديث : ١٧١٦). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأقضية ، باب : في القاضي يخطئ (الحديث : ٣٥٧٤).

(٤) أخرجه ابن ماجه في المقدمة (الأحاديث : ١٤ ، ١٥). والدارمي في المقدمة (الحديث : ٤٤). وأحمد (٤ / ٣٥٧ ، ٣٥٩). وأخرجه مسلم في كتاب : الزكاة ، باب : (٦٩) ، وكتاب : العلم ، باب : (١٥). وأخرجه النسائي في كتاب : الزكاة ، باب : (٦٤).

١١٠

الصلاة والسلام : «ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سنّ القتل» (١) فسمي القتل سنّة بالنسبة إلى من عمل به عملا يقتدى به فيه لكنه لا يسمى بدعة لأنه لم يوضع على أن يكون تشريعا ولا يسمى ضلالا لأنه ليس في طريق المشروع أو في مضاهاته له.

وهذا تقرير واضح يشهد له الواقع في تسمية البدع ضلالات ، ويشهد له أيضا أحوال من تقدم قبل الإسلام ، وفي زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الله تعالى قال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) (٢) ، فإن الكفار لما أمروا بالإنفاق شحوا على أموالهم وأرادوا أن يجعلوا لذلك الشح مخرجا فقالوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟ ومعلوم أن الله لو شاء لم يحوج أحدا إلى أحد ، لكنه ابتلى عباده لينظر كيف يعملون ، فقص هواهم على هذا الأصل العظيم ، واتبعوا ما تشابه من الكتاب بالنسبة إليه فلذلك قيل لهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣).

وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) (٤) ، فكأن هؤلاء قد أقروا بالتحكيم ، غير أنهم أرادوا أن يكون التحكيم على وفق أغراضهم زيغا عن الحق وظنا منهم أن الجميع حكم ، وأن ما يحكم به كعب بن الأشرف أو غيره مثل ما يحكم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجهلوا أن حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو حكم الله الذي لا يرد ، وأن حكم غيره معه مردود ، إن لم يكن جاريا على حكم الله ، فلذلك قال تعالى : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (٥) ، لأن ظاهر الآية يدل على أنها نزلت فيمن دخل في الإسلام لقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) كذا ـ إلى آخره ، وجماعة من

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٦٢). ومسلم (٥ / ١٠٦). وأخرجه ابن ماجه (٢٦١٦). وأخرجه الترمذي (٢٦٧٣). وأخرجه النسائي (٧ / ٨١). وأخرجه أحمد في المسند (١ / ٣٨٣). وأخرجه الحميدي (الحديث : ١١٨).

(٢) سورة : يس ، الآية : ٤٧.

(٣) سورة : يس ، الآية : ٤٧.

(٤) سورة : النساء ، الآية : ٦٠.

(٥) سورة : النساء ، الآية : ٦٠.

١١١

المفسرين قالوا : إنما نزلت في رجل من المنافقين ، أو في رجل من الأنصار.

وقال سبحانه : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) (١). فهم شرعوا شرعة ؛ وابتدعوا في ملة إبراهيم عليه‌السلام هذه البدعة ، توهما أن ذلك يقربهم من الله كما يقرب من الله ما جاء به إبراهيم عليه‌السلام من الحق ، فزلوا وافتروا على الله الكذب ، إذ زعموا أن هذا من ذلك ، وتاهوا في المشروع ، فلذلك قال الله تعالى على أثر الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (٢) ، وقال سبحانه : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ) (٣) ، فهذه فذلكة لجملة بعد تفصيل تقدم ، وهو قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) (٤) ، الآية. فهذا تشريع كالمذكور قبل هذا ، ثم قال : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) (٥) ، وهو تشريع أيضا بالرأي مثل الأول ، ثم قال : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ) (٦) ، إلى آخرها ، فحاصل الأمر أنهم قتلوا أولادهم بغير علم وحرموا ما أعطاهم الله من الرزق بالرأي على جهة التشريع فلذلك قال تعالى : (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٧) ، ثم قال تعالى بعد تعزيزهم على هذه المحرمات التي حرموها وهي ما في قوله : (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) ، إلى قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٨) ، وقوله : (لا يَهْدِي) يعني : أنه يضله.

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٣.

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٥.

(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤٠.

(٤) سورة : الأنعام ، الآية : ١٣٦.

(٥) سورة : الأنعام ، الآية : ١٣٧.

(٦) سورة : الأنعام ، الآية : ١٣٨.

(٧) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤٠.

(٨) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤٤.

١١٢

والآيات التي قرر فيها حال المشركين في إشراكهم أتى فيها بذكر الضلال لأن حقيقته أنه خروج عن الصراط المستقيم ، لأنهم وضعوا آلهتهم لتقربهم إلى الله زلفى في زعمهم ، فقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١) ، فوضعوهم موضع من يتوسل به حتى عبدوهم من دون الله ، إذ كان أول وضعها فيما ذكر العلماء صورا لقوم يودونهم ويتبركون بهم ثم عبدت فأخذتها العرب من غيرها على ذلك القصد ، وهو الضلال المبين.

وقال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) (٢) ، فزعموا في الإله الحق ما زعموا من الباطل ، بناء على دليل عندهم متشابه في نفس الأمر حسبما ذكره أهل السير ، فتاهوا بالشبهة عن الحق ، لتركهم الواضحات ، وميلهم إلى المتشابهات ، كما أخبر الله تعالى في آية آل عمران ؛ فلذلك قال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٣) ، وهم النصارى ، ضلوا في عيسى عليه‌السلام ، ومن ثم قال تعالى بعد ذكر شواهد العبودية في عيسى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) (٤). وبعد ذكر دلائل التوحيد وتقديس الواحد تبارك وتعالى عن اتخاذ الولد وذكر اختلافهم في مقالاتهم الشنيعة قال : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٥).

وذكر الله المنافقين وأنهم يخادعون الله والذين آمنوا ، وذلك لكونهم يدخلون معهم في أحوال التكاليف على كسل وتقيّة أن ذلك يخلصهم ، أو أنه يغني عنهم شيئا وهم في الحقيقة إنما يخادعون أنفسهم ، وهذا هو الضلال بعينه ، لأنه إذا كان يفعل شيئا يظن أنه له ، فإذا هو عليه ، فليس على هدى من عمله ، ولا هو سالك على سبيله ، فلذلك قال :

__________________

(١) سورة : الزمر ، الآية : ٣.

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٧٣.

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ٧٧.

(٤) سورة : مريم ، الآية : ٣٤.

(٥) سورة : مريم : الآية : ٣٨.

١١٣

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (١) ، إلى قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (٢).

وقال تعالى حكاية عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) (٣) معناه كيف أعبد من دون الله ما لا يغني شيئا ، وأترك إفراد الرب الذي بيده الضر والنفع؟ هذا خروج عن طريق إلى غير طريق (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤).

والأمثلة في تقرر هذا الأصل كثيرة ، جميعها يشهد بأن الضلال في غالب الأمر إنما يستعمل في موضوع يزل صاحبه لشبهة تعرض له ، أو تقليد من عرضت له الشبهة ، فيتخذ ذلك الزلل شرعا ودينا يدين به ، مع وجود واضحة الطريق الحق ومحض الصواب.

ولما لم يكن الكفر في الواقع مقتصرا على هذا الطريق بل ثم طريق آخر وهو الكفر بعد العرفان عنادا أو ظلما ، ذكر الله تعالى الصنفين في السورة الجامعة وهي أم القرآن فقال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (٥) ، فهذه هي الحجة العظمى التي دعا الأنبياء عليهم‌السلام إليها. ثم قال : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٦) ، فالمغضوب عليهم هم اليهود لأنهم كفروا بعد معرفتهم نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ألا ترى إلى قول الله فيهم : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (٧) يعني : اليهود ، والضالون هم النصارى لأنهم ضلوا في الحجة في عيسى عليه‌السلام ، وعلى هذا التفسير أكثر المفسرين وهو مروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويلحق بهم في الضلال المشركون الذين أشركوا مع الله إلها غيره ، لأنه قد جاء في

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ١٤٢.

(٢) سورة : النساء ، الآية : ١٤٣.

(٣) سورة : يس ، الآية : ٢٣.

(٤) سورة : يس ، الآية : ٢٤.

(٥) سورة : الفاتحة ، الآيتان : ٦ ـ ٧.

(٦) سورة : الفاتحة ، الآية : ٧.

(٧) سورة : البقرة ، الآية : ١٤٦.

١١٤

أثناء القرآن ما يدل على ذلك ، ولأن لفظ القرآن في قوله : (وَلَا الضَّالِّينَ) يعمهم وغيرهم ، فكل من ضلّ عن سواء السبيل داخل فيه.

ولا يبعد أن يقال : إن الضالين يدخل فيه كل من ضلّ عن الصراط المستقيم كان من هذه الأمة أو لا ، إذ قد تقدم في الآيات المذكورة قبل هذا مثله ، فقوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (١) ، عامّ في كل ضال كان ضلاله كضلال الشرك أو النفاق ، أو كضلال الفرق المعدودة في الملة الإسلامية ، وهو أبلغ وأعلى في قصد حصر أهل الضلال ، وهو اللائق بكلية فاتحة الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم ، الذي أوتيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد خرجنا عن المقصود بعض خروج ، ولكنه عاضد لما نحن فيه وبالله التوفيق.

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٣.

١١٥

٣ ـ باب : في أن ذم البدع والمحدثات عامّ

لا يخص محدثة دون غيرها ويدخل تحت هذه الترجمة

جملة من شبه المبتدعة التي احتجوا بها

فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن ما تقدم من الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه :

أحدها : أنها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء البتة ، ولم يأت فيها ما يقتضي أن منها ما هو هدى ، ولا جاء فيها : كل بدعة ضلالة إلا كذا وكذا ، ولا شيء من هذه المعاني ، فلو كان هنالك محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان أو أنها لاحقة بالمشروعات ، لذكر ذلك في آية أو حديث ، لكنه لا يوجد ، فدلّ على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد.

والثاني : أنه قد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية ، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص ، مع تكررها ، وإعادة تقررها ، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعالى : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (١) ، وما أشبه ذلك. وبسط الاستدلال على ذلك هنالك ، فما نحن بصدده من هذا القبيل ، إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال المختلفة : أن كل بدعة ضلالة ، وأن كل محدثة بدعة. وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع مذمومة ، ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها ، فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها.

والثالث : إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها كذلك ،

__________________

(١) سورة : النجم ، الآيتان : ٣٨ ـ ٣٩.

١١٦

وتقبيحها والهروب عنها ، وعمن اتّسم بشيء منها ، ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا مثنوية ، فهو ـ بحسب الاستقراء ـ إجماع ثابت ، فدلّ على أن كل بدعة ليست بحق ، بل هي من الباطل.

والرابع : أن متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه ، لأنه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع ، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح ، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم ، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقّة الشارع ، وقد تقدم بسط هذا في أول الباب الثاني. وأيضا فلو فرض أنه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم لم يتصور لأن البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك ، وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها ، إذ لو قال الشارع : المحدثة الفلانية حسنة لصارت مشروعة ، كما أشاروا إليه في الاستحسان حسبما يأتي إن شاء الله.

ولما ثبت ذمها ثبت ذم صاحبها لأنها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط ، بل من حيث اتصف بها المتصف ، فهو إذا المذموم على الحقيقة ، والذم خاص التأثيم ، فالمبتدع مذموم آثم ، وذلك على الإطلاق والعموم ، ويدل على ذلك أربعة أوجه :

أحدها : أن الأدلة المذكورة إن جاءت فيهم نصا فظاهر ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (١) ، وقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) (٢) ، إلى آخر الآية.

وقوله عليه الصلاة والسلام : «فليذادن رجال عن حوضي» (٣) الحديث ، إلى سائر ما نص فيه عليهم ، وإن كانت نصّا في البدعة فراجعة المعنى إلى المبتدع من غير إشكال ، وإذا رجع الجميع إلى ذمهم ، رجع الجميع إلى تأثيمهم.

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٥.

(٣) تقدم تخريجه ص : ٥٤ ، الحاشية : ٤.

١١٧

والثاني : أن الشرع قد دلّ على أن الهوى هو المتبع الأول في البدع ، وهو المقصود السابق في حقهم ودليل الشرع كالتبع في حقهم ، ولذلك تجدهم يتأوّلون كل دليل خالف هواهم ، ويتبعون كل شبهة وافقت أغراضهم. ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (١) ، فأثبت لهم الزيغ أولا ، وهو الميل عن الصواب ، ثم اتباع المتشابه وهو خلاف المحكم الواضح المعنى ، الذي هو أم الكتاب ومعظمه ، ومتشابهه على هذا قليل ، فتركوا اتباع المعظم إلى اتباع الأقل المتشابه الذي لا يعطي مفهوما واضحا ابتغاء تأويله ، وطلبا لمعناه الذي لا يعلمه إلا الله ؛ أو يعلمه الله والراسخون في العلم ، وليس إلا بردّه إلى المحكم ولم يفعل المبتدعة ذلك ، فانظروا كيف اتبعوا أهواءهم أولا في مطالبة الشرع ، بشهادة الله.

وقال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) (٢) ، الآية. فنسب إليهم التفريق ، ولو كان التفريق من مقتضى الدليل لم ينسبه إليهم ولا أتى به في معرض الذم وليس ذلك إلا باتباع الهوى.

وقال تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٣) ، فجعل طريق الحق واضحا مستقيما ونهى عن البنيّات ، والواضح من الطرق والبنيّات ، كل ذلك معلوم بالعوائد الجارية ، فإذا وقع التشبيه بها بطريق الحق مع البنيّات في الشرع فواضح أيضا ، فمن ترك الواضح واتبع غيره فهو متبع لهواه لا للشرع.

وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) (٤).

فهذا دليل على مجيء البيان الشافي ، وأن التفرق إنما حصل من جهة المتفرقين لا من جهة الدليل ، فهو إذا من تلقاء أنفسهم ، وهو اتباع الهوى بعينه. والأدلة على هذا كثيرة تشير أو تصرح بأن كل مبتدع إنما يتبع هواه ، وإذا اتبع هواه كان مذموما وآثما. والأدلة عليه أيضا

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٣.

(٤) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٥.

١١٨

كثيرة ، كقوله : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) (١) ، وقوله : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (٢) ، وقوله : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ) (٣) ، وما أشبه ذلك ، فإذا كل مبتدع مذموم آثم.

والثالث : أن عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح ، فهو عمدتهم الأولى وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع ، فهو المقدم في نحلهم بحيث لا يتهمون العقل ، وقد يتهمون الأدلة إذا لم توافقهم في الظاهر ، حتى يردوا كثيرا من الأدلة الشرعية.

وقد علمت ـ أيها الناظر ـ أنه ليس كل ما يقضي به العقل يكون حقّا ، ولذلك تراهم يرتضون اليوم مذهبا ويرجعون عنه غدا ، ثم يصيرون بعد غد إلى رأي ثالث. ولو كان كل ما يقضي به حقّا لكفى في إصلاح معاش الخلق ومعادهم ، ولم يكن لبعثة الرسل عليهم‌السلام فائدة ؛ ولكان على هذا الأصل تعد الرسالة عبثا لا معنى له ، وهو كله باطل ، فما أدى إليه مثله.

فأنت ترى أنهم قدموا أهواءهم على الشرع ، ولذلك سمّوا في بعض الأحاديث وفي إشارة القرآن أهل الأهواء ، وذلك لغلبة الهوى على عقولهم واشتهاره فيهم ، لأن التسمية بالمشتق إنما يطلق إطلاق اللقب إذا غلب ما اشتقت منه على المسمى بها ، فإذا تأثيم من هذه صفته ظاهر ، لأن مرجعه إلى اتباع الرأي وهو اتباع الهوى المذكور آنفا.

والرابع : أن كل راسخ لا يبتدع أبدا ، وإنما يقع الابتداع ممن لم يتمكن من العلم الذي ابتدع فيه ، حسبما دل عليه الحديث ويأتي تقريره بحول الله ، فإنما يؤتى الناس من قبل جهالهم الذين يحسبون أنهم علماء ، وإذا كان كذلك فاجتهاد من اجتهد منهيّ عنه إذ لم يستكمل شروط الاجتهاد ، فهو على أصل العمومية ، ولما كان العامي حراما عليه النظر في الأدلة والاستنباط ، كان المخضرم الذي بقي عليه كثير من الجهلات مثله في تحريم الاستنباط والنظر المعمول به ، فإذا أقدم على محرم عليه كان آثما بإطلاق.

__________________

(١) سورة : القصص ، الآية : ٥٠.

(٢) سورة : ص ، الآية : ٢٦.

(٣) سورة : الكهف ، الآية : ٢٨.

١١٩

وبهذه الأوجه الأخيرة ظهر وجه تأثيمه ، وتبين الفرق بينه وبين المجتهد المخطئ في اجتهاده ، وسيأتي له تقرير أبسط من هذا إن شاء الله.

وحاصل ما ذكر هنا أن كل مبتدع آثم ولو فرض عاملا بالبدعة المكروهة ـ إن ثبت فيها كراهة التنزيه ـ لأنه إما مستنبط لها فاستنباطه على الترتيب المذكور غير جائز ، وإما نائب عن صاحبها مناضل عنه فيها بما قدر عليه ، وذلك يجري مجرى المستنبط الأول لها ، فهو آثم على كل تقدير.

لكن يبقى هنا نظر في المبتدع وصاحب الهوى بحيث يتنزل دليل الشرع على مدلول اللفظ في العرف الذي وقع التخاطب به ، إذ يقع الغلط أو التساهل فيسمى من ليس بمبتدع مبتدعا ، وبالعكس إن تصور ، فلا بد من فضل اعتناء بهذا المطلب حتى يتضح بحول الله ، وبالله التوفيق ، ولنفرده في فصل فنقول :

فصل

لا يخلو المنسوب إلى البدعة أن يكون مجتهدا فيها أو مقلدا ، والمقلد إما مقلد مع الإقرار بالدليل الذي زعمه المجتهد دليلا والأخذ فيه بالنظر ، وإما مقلد له فيه من غير نظر كالعامي الصرف ؛ فهذه ثلاثة أقسام :

فالقسم الأول : على ضربين :

أحدهما : أن يصح كونه مجتهدا ، فالابتداع منه لا يقع إلا فلتة وبالعرض لا بالذات ، وإنما تسمى غلطة أو زلة لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الكتاب ، أي لم يتبع هواه ولا جعله عمدة ، والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق أذعن له وأقرّ به.

ومثاله ما يذكر عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان يقول بالإرجاء ثم رجع عنه ، وقال : وأول ما أفارق ـ غير شاك ـ أفارق ما يقول المرجئون.

وذكر مسلم عن يزيد بن صهيب الفقير قال : كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج ، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ، ثم نخرج على الناس. قال : فمررنا على المدينة ، فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم جالسا إلى سارية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : وإذا

١٢٠