الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

يزاد عليه لا ينقص منه ، كما جاء في كثير من المعاصي ، كالسرقة والحرابة والقتل والقذف والجراح والخمر وغير ذلك ، لا جرم أن المجتهدين من الأمة نظروا فيها بحسب النوازل ، وحكموا باجتهاد الرأي ، تفريعا على ما تقدم لهم في بعضها من النص ، كما جاء في الخوارج من الأثر بقتلهم ، وما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صبيغ العراقي.

فخرج من مجموع ما تكلم فيه العلماء أنواع :

أحدها : الإرشاد والتعليم وإقامة الحجة كمسألة ابن عباس رضي الله عنه حين ذهب إلى الخوارج فكلمهم حتى رجع منهم ألفان أو ثلاثة آلاف.

والثاني : الهجران وترك الكلام والسلام حسبما تقدم عن جملة من السلف في هجرانهم لمن تلبس ببدعة ؛ وما جاء عن عمر رضي الله عنه من قصة صبيغ العراقي.

والثالث : كما غرّب عمر صبيغا. ويجري مجراه السجن وهو :

الرابع : كما سجنوا الحلاج قبل قتله سنين عديدة.

والخامس : ذكرهم بما هم عليه وإشاعة بدعتهم كي يحذروا ، ولئلا يغتر بكلامهم ، كما جاء عن كثير من السلف في ذلك.

والسادس : القتال إذا ناصبوا المسلمين وخرجوا عليهم كما قاتل عليّ رضي الله عنه الخوارج ، وغيره من خلفاء السنة.

والسابع : القتل إن لم يرجعوا من الاستتابة ، وهو قد أظهر بدعته وأما من أسرّها وكانت كفرا أو ما يرجع إليه فالقتل بلا استتابة وهو :

الثامن : لأنه من باب النفاق كالزنادقة.

والتاسع : تكفير ما دل الدليل على كفره ، كما إذا كانت البدعة صريحة في الكفر كالإباحية (١) والقائلين بالحلول كالباطنية ، أو كانت المسألة في باب التكفير بالمآل ، فذهب المجتهد إلى التكفير كابن الطيب في تكفيره جملة من الفرق ، وينبني على ذلك :

__________________

(١) الإباحية : فرقة تبطل قدرة العبد على اجتناب المنهيات والإتيان بالمأمورات وتنفي ملكية الفرد ، وتشرك الجميع في الأموال والأزواج.

١٤١

الوجه العاشر : وذلك أنه لا يرثهم ورثتهم من المسلمين ولا يرثون أحدا منهم ، ولا يغسلون إذا ماتوا ، ولا يصلى عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين ، ما لم يكن المستتر ، فإن المستتر يحكم له بحكم الظاهر ، وورثته أعرف بالنسبة إلى الميراث.

والحادي عشر : الأمر بأن لا يناكحوا ، وهو من ناحية الهجران ، وعدم المواصلة.

والثاني عشر : تجريحهم على الجملة ، فلا تقبل شهادتهم ولا روايتهم ، ولا يكونون ولاة ولا قضاة ، ولا ينصبون في مناصب العدالة من إمامة أو خطابة ، إلا أنه قد ثبت عن جملة من السلف رواية جماعة منهم ، واختلفوا في الصلاة خلفهم من باب الأدب ليرجعوا عما هم عليه.

والثالث عشر : ترك عيادة مرضاهم ، وهو من باب الزجر والعقوبة.

والرابع عشر : ترك شهود جنائزهم كذلك.

والخامس عشر : الضرب كما ضرب عمر رضي الله عنه صبيغا.

وروي عن مالك رضي الله عنه في القائل بالمخلوق : أنه يوجع ضربا ويسجن حتى يموت.

ورأيت في بعض تواريخ بغداد عن الشافعي أنه قال : حكم في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجرائد (١) ، ويحلموا على الإبل ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنّة ، وأخذ في الكلام يعني : أهل البدع.

فصل

فإن قيل : كيف هذا وقد ثبت في الشريعة ما يدل على تخصيص تلك العمومات وتقييد تلك المطلقات وفرع العلماء منها كثيرا من المسائل وأصّلوا منها أصولا يحتذى حذوها ، على وفق ما ثبت نقله؟ إذ الظواهر تخرج على مقتضى ظهورها بالاجتهاد ، وبالحريّ إن كان ما يستنبط بالاجتهاد مقيسا على محل التخصيص ، فلذلك قسم الناس البدع ولم يقولوا بذمها على الإطلاق.

__________________

(١) الجرائد : السعف الطويلة المقشورة.

١٤٢

وحاصل ما ذكروا من ذلك يرجع إلى أوجه :

أحدها : ما في الصحيح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن سنّ سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» (١).

وخرّج الترمذي وصححه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من دلّ على خير فله أجر فاعله» (٢).

وخرّج أيضا عن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سنّ سنّة خير فاتّبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئا ، ومن سنّ سنّة شر فاتّبع عليها كان عليه وزرها ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئا» (٣) حسن صحيح.

فهذه الأحاديث صريحة في أن من سنّ سنّة خير فذلك خير ، ودل على أنه فيمن ابتدع «من سنّ» فنسب الاستنان إلى المكلف دون الشارع ولو كان المراد : «من عمل سنة ثابتة في الشرع» لما قال : «من سن» ويدل على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم كفل من دمها لأنه أول من سنّ القتل» (٤) فسن ـ هاهنا ـ على حقيقته لأنه اخترع ما لم يكن قبل معمولا به في الأرض بعد وجود آدم عليه‌السلام.

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب : الزكاة ، باب : الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة (الحديث : ١٠١٧). وأخرجه النسائي في كتاب : الزكاة ، باب : التحريض على الصدقة (الحديث : ٥ / ٧٥ ، ٧٦).

(٢) أخرجه مسلم في كتاب : الإمارة ، باب : فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره (الحديث : ١٨٩٣). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأدب ، باب : الدال على الخير (الحديث : ٥١٣٩).

(٣) أخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : فيمن دعا إلى هدى أو إلى ضلالة (الحديث : ٢٦٧٧). وأخرجه مسلم مطولا (الحديث : ١٠١٧).

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ١٦٢). وأخرجه مسلم (٥ / ١٠٦). وأخرجه الترمذي (٣ / ٢٦٧). وأخرجه ابن ماجه (٢٦١٦). وأخرجه النسائي (٧ / ٨١). وأخرجه أحمد في المسند (١ / ٣٨٣ ، ٤٣٠).

١٤٣

فكذلك قوله : «من سن سنة حسنة» (١) أي من اخترعها من نفسه لكن بشرط أن تكون حسنة فله من الأجر ما ذكر ، فليس المراد : من عمل سنّة ثابتة.

وإنما العبارة عن هذا المعنى أن يقال : من عمل بسنتي أو سنّة من سنتي ، وما أشبه ذلك. كما خرّج الترمذي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لبلال بن الحارث : «اعلم» قال : أعلم يا رسول الله (؟) ، قال : «اعلم يا بلال» قال : أعلم يا رسول الله ، قال : «إنه من أحيا سنّة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئا» (٢) حديث حسن.

وعن أنس رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا بني ، إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل ـ ثم قال لي ـ : يا بني وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحبني ، ومن أحبني كان معي في الجنة» (٣) حديث حسن.

فقوله : «من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي» واضح في العمل بما ثبت أنه سنة ، وكذلك قوله : «من أحيا سنتي فقد أحبني» ، ظاهر في السنن الثابتة ، بخلاف قوله : من سن كذا ، فإنه ظاهر في الاختراع أولا من غير أن يكون ثابتا في السنة.

وأما قوله لبلال بن الحارث : «ومن ابتدع بدعة ضلالة» فظاهر أن البدعة لا تذم بإطلاق بل بشرط أن تكون ضلالة ، وأن تكون لا يرضاها الله ورسوله ، فاقتضى هذا كله أن البدعة إذا لم تكن كذلك لم يلحقها ذم ، ولا تبع صاحبها وزر ، فعادت إلى أنها سنة حسنة ، ودخلت تحت الوعد بالأجر.

والثاني : أن السلف الصالح رضي الله عنهم ـ وأعلاهم الصحابة ـ قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنّة مما رأوه حسنا وأجمعوا عليه ، ولا تجتمع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ضلالة ، وإنما يجتمعون على هدى وما هو حسن.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ١٤٣ ، الحاشية : ١.

(٢) تقدم تخريجه ص : ١٩ ، الحاشية : ١.

(٣) تقدم تخريجه ص : ١٩ ، الحاشية : ١.

١٤٤

فقد أجمعوا على جمع القرآن وكتبه في المصاحف ، وعلى جمع الناس على المصاحف العثمانية ، واطّراح ما سوى ذلك من القراءات التي كانت مستعملة في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن في ذلك نص ولا حظر ، ثم اقتفى الناس أثرهم في ذلك الرأي الحسن ، فجمعوا العلم ودونوه وكتبوه ، ومن سبّاقهم في ذلك مالك بن أنس رضي الله عنه ، وقد كان من أشدهم اتّباعا وأبعدهم من الابتداع.

هذا وإن كان قد نقل عنهم كراهية كتب العلم من الحديث وغيره ، فإنما هو محمول إما على الخوف من الاتكال على الكتب استغناء به عن الحفظ والتحصيل ، وإما على ما كان رأيا دون ما كان نقلا من كتاب أو سنّة.

ثم اتفق الناس بعد ذلك على تدوين الجميع لما ضعف الأمر ، وقلّ المجتهدون في التحصيل ، فخافوا على الدين جملة.

قال اللخمي لما ذكر كلام مالك وغيره في كراهية بيع كتب العلم والإجارة على تعليمه ، وخرّج عليه الإجارة على كتبه ، وحكى الخلاف وقال : لا أرى اليوم أن يختلف في ذلك أنه جائز ، لأن حفظ الناس وأفهامهم قد نقصت ، وقد كان كثير ممن تقدم ليست لهم كتب.

قال مالك : ولم يكن للقاسم ولا لسعيد كتب ، وما كنت أقرأ على أحد يكتب في هذه الألواح ، ولقد قلت لابن شهاب : أكنت تكتب العلم؟ فقال : لا ، فقلت : أكنت تحب أن يقيدوا عليك الحديث؟ فقال : لا. فهذا كان شأن الناس فلو سار الناس سيرتهم لضاع العلم ولم يكن بيننا منه ولو رسمه أو اسمه ، وهذا الناس اليوم يقرءون كتبهم ، ثم هم في التقصير على ما هم عليه.

وأيضا فإنه لا خلاف عندنا في مسائل الفروع أن القول فيها بالاجتهاد والقياس واجب ، وإذا كان كذلك كان إهمال كتبها وبيعها يؤدي إلى التقصير في الاجتهاد وأن لا يوضع مواضعه ، لأن في معرفة أقوال المتقدمين والترجيح بين أقاويلهم قوى وزيادة في وضع الاجتهاد مواضعه.

انتهى ما قاله اللخمي ، وفيه إجازة العمل بما لم يكن عليه من تقدم لأن له وجها

١٤٥

صحيحا ، فكذلك نقول : كل ما كان من المحدثات له وجه صحيح فليس بمذموم ، بل هو محمود ، وصاحبه الذي سنه ممدوح ، فأين ذمها بإطلاق أو على العموم؟

وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.

فأجاز ـ كما ترى ـ إحداث الأقضية واختراعها على قدر اختراع الفجار للفجور ، وإن لم يكن لتلك المحدثات أصل ، وقتل الجماعة بالواحد وهو محكيّ عن عمر وعلي وابن عباس والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم.

وأخذ مالك وأصحابه بقول الميت : دمي عند فلان ، ولم يأت له في الموطأ بأصل سماعيّ ، وإنما علل مصطلحي ، وفي مذهبه من ذلك مسائل كثيرة ، فإن كان ذلك جائزا مع أنه مخترع ، فلم لا يجوز مثله ـ وقد اجتمعا في العلة ـ لأن الجميع مصالح معتبرة في الجملة ، وإن لم يكن شيء من ذلك جائزا فلم اجتمعوا على جملة وفرع غيرهم على بعضها؟

ولا يبقى إلا أن يقال : إنهم يتابعون على ما عمل هؤلاء دون غيرهم وإن اجتمعا في العلة المسوغة للقياس ، وعند ذلك يصير الاقتصار تحكما ، وهو باطل فما أدى إليه مثله ، فثبت أن البدع تنقسم.

فالجواب وبالله التوفيق أن نقول :

أما الوجه الأول : وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سنّ سنة حسنة» الحديث ، فليس المراد به الاختراع البتة ، وإلا لزم من ذلك التعارض بين الأدلة القطعية ـ إن زعم مورد السؤال أن ما ذكره من الدليل مقطوع به ، فإن زعم أنه مظنون فيما تقدم من الدليل على ذم البدع مقطوع به ، فيلزم التعارض بين القطعي والظني ، والاتفاق من المحققين ، ولكن فيه بحثا ـ أو نظرا ـ من وجهين :

أحدهما : أنه يقال : إنه من قبيل المتعارضين ، إذ تقدم أولا أن أدلة الذم تكرر عمومها في أحاديث كثيرة من غير تخصيص ، وإذا تعارضت أدلة العموم والتخصيص ، لم يقبل بعد ذلك التخصيص.

والثاني : على التنزل لفقد التعارض ، فليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى

١٤٦

الاختراع ، وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية ، وذلك لوجهين :

أحدهما : أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة ، بدليل ما في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النّمار ـ أو العباء ـ متقلدي السيوف ، عامتهم مضر ، بل كلهم من مضر ، فتمعّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رآهم من الفاقة ، فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذّن وأقام ، فصلى ثم خطب فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (١) الآية ، والآية في سورة الحشر : (اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (٢) ، تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره» ، حتى قال : «ولو بشق تمرة» قال : فجاءه رجل من الأنصار بصره كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت ، قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتهلل كأنه مذهبة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنّ سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (٣).

فتأملوا أين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سنّ سنّة سيئة»؟ تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه حتى بتلك الصرّة ، فانفتح بسبب باب الصدقة على الوجه الأبلغ ، فسر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قال : «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة» الحديث ، فدلّ على أن السنة هاهنا مثل ما فعل ذلك الصحابي وهو العمل بما ثبت كونه سنّة ، وأن الحديث مطابق لقوله في الحديث الآخر : «من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي» ـ الحديث إلى قوله ـ : «ومن ابتدع بدعة ضلالة» (٤) فجعل مقابل تلك السنة : الابتداع ، فظهر أنّ السنة الحسنة ليست بمبتدعة ، وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ومن أحيا سنتي فقد

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ١.

(٢) سورة : الحشر ، الآية : ١٨.

(٣) تقدم تخريجه ص : ٥٣ ، الحاشية : ٢.

(٤) أخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (الحديث :

٢٦٧٧).

١٤٧

أحبني» (١). ووجه ذلك في الحديث الأول ظاهر ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما مضى على الصدقة أولا ثم جاء ذلك الأنصاري بما جاء به فانثال بعده العطاء إلى الكفاية ، فكأنها كانت سنة أيقظها رضي الله تعالى عنه بفعله ، فليس معناه من اخترع سنة وابتدعها ولم تكن ثابتة.

ونحو هذا الحديث في رقائق ابن المبارك مما يوضح معناه عن حذيفة رضي الله عنه قال : قام سائل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأل ، فسكت القوم ، ثم إنّ رجلا أعطاه فأعطاه القوم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من استنّ خيرا فاستنّ به فله أجره ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ، ومن استنّ شرّا فاستنّ به فعليه وزره ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم» (٢) فإذا قوله : «من سنّ سنة» معناه من عمل بسنة ، لا من اخترع سنة.

والوجه الثاني من وجهي الجواب : أن قوله : «من سنّ سنة حسنة ومن سنّ سنة سيئة» لا يمكن حمله على الاختراع من أصل ، لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف من جهة الشرع ، لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع ، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة ، وإنما يقول به المبتدعة ، أعني : التحسين والتقبيح بالعقل فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع وإما قبيحة بالشرع ، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة ، وما أشبهها من السنن المشروعة. وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي ، كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم حيث قال عليه‌السلام : «لأنه أول من سنّ القتل» (٣) وعلى البدع لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع كما تقدم.

وأما قوله : «من ابتدع بدعة ضلالة» فهو على ظاهره ، لأن سبب الحديث لم يقيده بشيء فلا بد من حمله على ظاهر اللفظ كالعمومات المبتدأة التي لم تثبت لها أسباب ، ويصح

__________________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (الحديث : ٢٦٧٨).

(٢) تقدم تخريجه ص : ١٤٧ ، الحاشية : ٣.

(٣) تقدم تخريجه ص : ١٤٣ ، الحاشية : ٤.

١٤٨

أن يحمل على نحو ذلك قوله : «ومن سنّ سنّة سيئة» أي من اخترعها. وشمل ما كان منها مخترعا ابتداء من المعاصي كالقتل من أحد ابني آدم ، وما كان مخترعا بحكم الحال ، إذ كانت قبل مهملة متناساة ، فأثارها عمل هذا العامل.

فقد عاد الحديث ـ والحمد لله ـ حجة على أهل البدع من جهة لفظه ، وشرح الأحاديث الأخر له.

وإنما يبقى النظر في قوله : «ومن ابتدع بدعة ضلالة» وإن تقييد البدعة بالضلالة يفيد مفهوما ، والأمر فيه قريب لأن الإضافة فيه لم تفد مفهوما ، وإن قلنا بالمفهوم على رأي طائفة من أهل الأصول ، فإن الدليل دل على تعطيله في هذا الموضع كما دل دليل تحريم الربا قليله وكثيره على تعطيل المفهوم في قول الله تعالى : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) (١) ، ولأن الضلالة لازمة للبدعة بإطلاق ، بالأدلة المتقدمة ، فلا مفهوم أيضا.

والجواب عن الإشكال الثاني : أن جميع ما ذكر فيه من قبيل المصالح المرسلة ، لا من قبيل البدعة المحدثة. والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم ، فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول ، وإن كان فيها خلاف بينهم ، ولكن لا يعد ذلك قدحا على ما نحن فيه.

أما جمع المصحف وقصر الناس عليه فهو على الحقيقة من هذا الباب ، إذ أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف تسهيلا على العرب المختلفات اللغات ، فكانت المصلحة في ذلك ظاهرة ؛ إلا أنه عرض في إباحة ذلك بعد زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتح لباب الاختلاف في القرآن ، حيث اختلفوا في القراءة حسبما يأتي بحول الله تعالى : فخاف الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ اختلاف الأمة في ينبوع الملة ، فقصروا الناس على ما ثبت منها في مصاحف عثمان رضي الله عنه ، واطّرحوا ما سوى ذلك ، علما بأن ما اطرحوه ، مضمن فيما أثبتوه ؛ لأنه من قبيل القراءات التي يؤدى بها القرآن.

ثم ضبطوا ذلك بالرواية حين فسدت الألسنة ؛ ودخل في الإسلام أهل العجمة خوفا

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ١٣٠.

١٤٩

من فتح باب آخر من الفساد ، وهو أن يدخل أهل الإلحاد في القرآن أو في القراءات ما ليس منها فيستعينون بذلك في بث إلحادهم. ألا ترى أنه لما لم يمكنهم الدخول من هذا الباب دخلوا من جهة التأويل والدعوى في معاني القرآن ، حسبما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

فحقّ ما فعل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن له أصلا يشهد له في الجملة ، وهو الأمر بتبليغ الشريعة ، وذلك لا خلاف فيه ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (١) ، وأمته مثله ، وفي الحديث : «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» (٢) وأشباهه ، والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة لأنه من قبيل المعقول المعنى ، فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها ، كذلك لا يتقيد حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى ، إذا لم يعد على الأصل بإبطال كمسألة المصحف ولذلك أجمع عليه السلف الصالح.

وأما ما سوى المصحف فالأمر فيه أسهل ، فقد ثبت في السنة كتابة العلم ، ففي الصحيح قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتبوا لأبي شاه» (٣) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر حديثا مني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب.

وذكر أهل السير أنه كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتّاب يكتبون له الوحي وغيره ، منهم عثمان وعلي ومعاوية والمغيرة بن شعبة وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهم ، وأيضا فإن الكتابة من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به إذا تعين لضعف الحفظ ، وخوف اندراس العلم ، كما خيف دروسه حينئذ ، وهو الذي نبه عليه اللخمي فيما تقدم.

وإنما كره المتقدمون كتب العلم لأمر آخر لا لكونه بدعة ، فكل من سمى كتب العلم

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٦٧.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : الحج ، باب : الخطبة أيام منى (الحديث : ٣ / ٤٥٩). وأخرجه مسلم في كتاب : القسامة ، باب : تحريم الدماء (الحديث : ١٦٧٩). وأخرجه أبو داود في كتاب : الحج ، باب : الأشهر الحرم (الحديث : ١٩٤٧).

(٣) أخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : كتابة العلم (الحديث : ١ / ١٨٤). وأخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : ما جاء في الرخصة في كتابة العلم (الحديث : ٢٦٧٠).

١٥٠

بدعة فإما متجوز ، وإما غير عارف بوضع لفظ البدعة ، فلا يصح الاستدلال بهذه الأشياء على صحة العمل بالبدع.

وإن تعلق بما ورد من الخلاف في المصالح المرسلة ، وأن البناء عليها غير صحيح عند جماعة من الأصوليين ، فالحجة عليهم إجماع الصحابة على المصحف والرجوع إليه ، وإذا ثبت اعتبارها في صورة ثبت اعتبارها مطلقا ، ولا يبقى بين المختلفين نزاع إلّا في الفروع.

وفي الصحيح قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور» (١) فأعطى الحديث ـ كما ترى ـ أن ما سنه الخلفاء الراشدون لاحق بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن ما سنوه لا يعدو أحد أمرين : إما أن يكون مقصودا بدليل شرعي ، فلذلك سنة لا بدعة ، وإما بغير دليل ـ ومعاذ الله من ذلك ـ ولكن هذا الحديث دليل على إثباته سنة ، إذ قد أثبته كذلك صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودليله من الشرع ثابت فليس ببدعة ، ولذلك أردف اتباعهم بالنهي عن البدع بإطلاق ، ولو كان عملهم ذلك بدعة لوقع في الحديث التدافع.

وبذلك يجاب عن مسألة قتل الجماعة بالواحد لأنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو أحد الخلفاء الراشدين ، وتضمين الصناع وهو منقول عن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم.

وأما ما يروى عن عمرو بن عبد العزيز فلم أره ثابتا من طريق صحيح ، وإن سلم فراجع إما لأصل المصالح المرسلة ـ إن لم نقل : إن أصله قصة البقرة ، وإن ثبت أن المصالح المرسلة مقول بها عند السلف ، مع أن القائلين بها يذمون البدع وأهلها ويتبرءون منهم ـ دل على أن البدع مباينة لها وليست منها في شيء ولهذه المسألة باب تذكر فيه.

فصل

ومما يورد في هذا الموضع أن العلماء قسموا البدع بأقسام أحكام الشريعة الخمسة ولم

__________________

(١) تقدم تخرجه ص : ٣٣ ، الحاشية : ٢.

١٥١

يعدوها قسما واحدا مذموما ، فجعلوا منها ما هو واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرّم ، وبسط ذلك القرافي بسطا شافيا ـ وأصل ما أتى به من ذلك شيخه عز الدين بن عبد السلام ، وها أنا آتي به على نصه ـ فقال : «اعلم أن الأصحاب ـ فيما رأيت ـ متفقون على إنكار البدع ، نص على ذلك ابن أبي زيد وغيره ، والحق التفصيل وأنها خمسة أقسام :

قسم واجب : وهو ما تناولته قواعد الوجوب وأدلته من الشرع ، كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضياع ، وأن التبليغ لمن بعدنا من القرون واجب إجماعا ، وإهمال ذلك حرام إجماعا فمثل هذا النوع لا ينبغي أن يختلف في وجوبه.

القسم الثاني المحرم : وهو كل بدعة تناولتها قواعد التحريم وأدلته من الشريعة ، كالمكوس والمحدثات من المظالم ، والمحدثات المنافية لقواعد الشريعة ، كتقديم الجهال على العلماء ، وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح بطريق التوريث ، وجعل المستند في ذلك كون المنصب كان لأبيه ، وهو في نفسه ليس بأهل.

القسم الثالث : أن من البدع ما هو مندوب إليه ، وهو ما تناولته قواعد الندب وأدلته ، كصلاة التراويح ، وإقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمور على خلاف ما كانت عليه الصحابة رضوان الله عليهم ، بسبب أن المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل إلا بعظمة الولاة في نفوس الناس ، وكان الناس في زمن الصحابة رضي الله عنهم معظم تعظيمهم إنما هو بالدين وسبق الهجرة.

ثم اختل النظام وذهب ذلك القرن ، وحدث قرن آخر لا يعظمون إلا بالصور ، فتعين تفخيم الصور حتى تحصل المصالح.

وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأكل خبز الشعير والملح ، ويفرض لعامله نصف شاة كل يوم ، لعلمه بأن الحالة التي هو عليها لو عملها غيره لهان في نفوس الناس ولم يحترموه ، وتجاسروا عليه بالمخالفة ، فاحتاج إلى أن يضع غيره في صورة أخرى تحفظ النظام ، ولذلك لما قدم الشام وجد معاوية بن أبي سفيان قد اتخذ الحجّاب واتخذ المراكب النفيسة والثياب الهائلة العلية ، وسلك ما سلكه الملوك ، فسأله عن ذلك ، فقال : إنا بأرض

١٥٢

نحن فيها محتاجون لهذا ، فقال له : لا آمرك ولا أنهاك ، ومعناه أنت أعلم بحالك هل أنت محتاج إليه. فدل ذلك من عمر وغيره على أن أحوال الأئمة وولاة الأمور تختلف باختلاف الأمصار والقرون والأحوال ، فكذلك يحتاج إلى تجديد زخارف وسياسات لم تكن قديمة ، وربما وجبت في بعض الأحوال.

القسم الرابع : بدعة مكروهة وهي ما تناولته أدلة الكراهة من الشريعة وقواعدها كتخصيص الأيام الفاضلة أو غيرها بنوع من العبادة ، ولذلك ورد في الصحيح ـ خرّجه مسلم وغيره ـ «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصيام ، أو ليله بقيام» (١).

ومن هذا الباب الزيادة في المندوبات المحدودات ، كما ورد في التسبيح عقب الفريضة ثلاثا وثلاثين ، فتفعل مائة ، وورد صاع في زكاة الفطر فيجعل عشرة أصواع ، بسبب أن الزيادة فيها إظهار الاستظهار على الشارع وقلة أدب معه ، بل شأن العظماء إذا حددوا شيئا وقف عنده وعد الخروج عنه قلة أدب.

والزيادة في الواجب أو عليه أشد في المنع ، لأنه يؤدي إلى أن يعتقد أن الواجب هو الأصل والمزيد عليه ، ولذلك نهى مالك رضي الله عنه عن إيصال ستة أيام من شوال ، لئلا يعتقد أنها من رمضان وخرج أبو داود في مسنده (٢) أن رجلا دخل إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى الفرض وقام ليصلي ركعتين ، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك ، فهكذا هلك من قبلنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصاب الله بك يا ابن الخطاب» (٣) يريد عمر أن من قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض واعتقدوا الجميع واجبا ؛ وذلك تغيير للشرائع ، وهو حرام إجماعا.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الصوم ، باب : صوم يوم الجمعة (الحديث : ٤ / ٢٠٣). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصوم ، باب : النهي أن يخص يوم الجمعة بصوم (الحديث : ٢٤٢٠). وأخرجه الترمذي في كتاب : الصوم ، باب : ما جاء في كراهية صوم يوم الجمعة وحده (الحديث : ٧٤٣).

(٢) المقصود به : أبو داود الطيالسي. لأنه صاحب المسند.

(٣) أخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : في الرجل يتطوع في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة (الحديث : ١٠٠٧).

١٥٣

القسم الخامس : البدع المباحة ، وهي ما تناولته أدلة الإباحة وقواعدها من الشريعة ، كاتخاذ المناخل للدقيق ، ففي الآثار : أول شيء أحدثه الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتخاذ المناخل ، لأن تليين العيش وإصلاحه من المباحات فوسائله مباحة.

فالبدعة إذا عرضت تعرض على قواعد الشرع وأدلته ، فأي شيء تناولها من الأدلة والقواعد ألحقت به من إيجاب أو تحريم أو غيرهما ، وإن نظر إليها من حيث الجملة بالنظر إلى كونها بدعة مع قطع النظر فيما يتقاضاها كرهت ، فإن الخير كله في الاتباع ، والشر كله في الابتداع.

وذكر شيخه في قواعده في فصل البدع منها ـ بعد ما قسم أحكامها إلى الخمسة ـ أن الطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة ، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة إلى أن قال : «وللبدع الواجبة أمثلة».

أحدها : الاشتغال بالذي يفهم به كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وذلك واجب لأن حفظ الشريعة واجب.

والثاني : حفظ غريب الكتاب والسنّة من اللغة.

والثالث : تدوين أصول الفقه.

والرابع : الكلام في الجرح والتعديل لتمييز الصحيح من السقيم.

ثم قال : وللبدع المحرمة أمثلة :

منها : مذهب القدرية ومذهب الجبرية والمرجئة والمجسمة ، والرد على هؤلاء من البدع الواجبة.

قال : وللمندوب أمثلة :

منها : إحداث الربط والمدارس وبناء القناطر.

ومنها : كل إحسان لم يعهد في الصدر الأول.

ومنها : الكلام في دقائق التصوف والكلام في الجدل.

ومنها : جمع المحافل ، للاستدلال في المسائل ، إن قصد بذلك وجهه تعالى.

قال : وللكراهة أمثلة :

١٥٤

منها : زخرفة المساجد وتزويق المصاحف ، وأما تلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي فالأصح أنه من البدع المحرمة.

قال : وللبدع المباحة أمثلة :

منها : المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر.

ومنها : التوسع في اللذيذ من المأكل والمشرب والملابس والمساكن ، ولبس الطيالسة وتوسيع الأكمام. وقد اختلف في بعض ذلك ، فجعله بعض العلماء من البدع المكروهة ، وجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما بعده كالاستعاذة والبسملة في الصلاة. انتهى محصول ما قال.

وهو يصرح مع ما قبله بأن البدع تنقسم بأقسام الشريعة ، فلا يصح أن تحمل أدلة ذم البدع على العموم بل لها مخصصات.

والجواب : أن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي بل هو في نفسه متدافع ، لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده ، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثمّ بدعة ، ولكان العمل داخلا في عموم الأعمال المأمور بها أو المخير فيها ، فالجمع بين عدّ تلك الأشياء بدعا ، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين.

أما المكروه منها والمحرم فمسلم من جهة كونها بدعا لا من جهة أخرى ، إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته لم يثبت ذلك كونه بدعة ، لإمكان أن يكون معصية ، كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها ، فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم البتة ، إلا الكراهية والتحريم حسبما يذكر في بابه.

فما ذكره القرافي عن الأصحاب من الاتفاق على إنكار البدع صحيح ، وما قسمه فيها غير صحيح. ومن العجب حكاية الاتفاق مع المصادمة بالخلاف ومع معرفته بما يلزمه في خرق الإجماع ، وكأنه إنما اتبع في هذا التقسيم شيخه من غير تأمل ، فإن ابن عبد السلام ظاهر منه أنه سمى المصالح المرسلة بدعا ، بناء ـ والله أعلم ـ على أنها لم تدخل أعيانها تحت النصوص المعينة ، وإن كانت تلائم قواعد الشرع ، فمن هنالك جعل القواعد هي الدالة على استحسانها بتسميته لها بلفظ البدع وهو من حيث فقدان الدليل المعين على المسألة ،

١٥٥

واستحسانها من حيث دخولها تحت القواعد. ولما بنى على اعتماد تلك القواعد استوت عنده مع الأعمال الداخلة تحت النصوص المعينة ، وصار من القائلين بالمصالح المرسلة ، وسماها بدعا في اللفظ ، كما سمى عمر رضي الله عنه الجمع في قيام رمضان في المسجد بدعة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

أما القرافي فلا عذر له في نقل تلك الأقسام على غير مراد شيخه ، ولا على مراد الناس ، لأنه خالف الكل في ذلك التقسيم فصار مخالفا للإجماع.

ثم نقول : أما قسم الواجب فقد تقدم ما فيه آنفا فلا نعيده ، وأما قسم التحريم فليس فيه ما هو بدعة هكذا بإطلاق ، بل ذلك كله مخالفة للأمر المشروع ، فلا يزيد على تحريم أكل المال بالباطل إلا من جهة كونه موضوعا على وزان الأحكام الشرعية اللازمة ، كالزكوات المفروضة ، والنفقات المقدرة ، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ، وقد تقدم في الباب الأول منه طرف.

فإذا لا يصح أن يطلق القول في هذا القسم بأنه بدعة دون أن يقسم الأمر في ذلك.

وأما قسم المندوب فليس من البدع بحال وتبيين ذلك بالنظر في الأمثلة التي مثل لها بصلاة التراويح في رمضان جماعة في المسجد ، فقد قام بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد واجتمع الناس خلفه.

فخرّج أبو داود عن أبي ذر قال : صمنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رمضان ؛ فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع ، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ؛ فلما كانت السادسة لم يقم بنا؟ فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلنا : يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة؟ ـ قال ـ فقال : «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة» (١) ، قال : فلما كانت الرابعة لم يقم ، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس ، فقام بنا حتى خشينا أن

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : في قيام شهر رمضان (الحديث : ١٣٧٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : الصوم ، باب : ما جاء في قيام شهر رمضان (الحديث : ٨٠٦). وأخرجه النسائي في كتاب : السهو ، باب : ثواب من صلى مع الإمام حتى ينصرف ، وفي كتاب : قيام الليل ، باب : قيام شهر رمضان (الأحاديث : ٣ / ٨٣ ، ٨٤).

١٥٦

يفوتنا الفلاح ـ قال ـ قلت : وما الفلاح؟ قال : السجود ، ثم لم يقم بنا بقية الشهر ، ونحوه في الترمذي ، وقال فيه : حسن صحيح.

لكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك ، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ، ثم صلى القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أصبح قال : «قد رأيت الذي صنعتم ، فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن يفرض عليكم» (١) وذلك في رمضان ، وخرّجه مالك في الموطأ.

فتأملوا ففي هذا الحديث ما يدل على كونها سنة ، فإن قيامه أولا بهم دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقا ، لأن زمانه كان زمان وحي وتشريع ، فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس بالإلزام ، فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجع الأمر إلى أصله ، وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له.

وإنما لم يقم ذلك أبو بكر رضي الله عنه لأحد أمرين : إما لأنه رأى أن قيام الناس آخر الليل وما هم به عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل ذكره الطرطوشي ، وإما لضيق زمانه رضي الله عنه عن النظر في هذه الفروع ، مع شغله بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح.

فلما تمهد الإسلام في زمن عمر رضي الله عنه ورأى الناس في المسجد أوزاعا ـ كما جاء في الخبر ـ قال : لو جمعت الناس على قارئ واحد لكان أمثل (٢) ، فلما تم له ذلك نبه

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : صلاة التراويح ، باب : فضل من قام رمضان (الحديث : ٣ / ٢٢٠). وأخرجه في كتاب : صلاة التهجد ، باب : تحريض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صلاة الليل والنوافل. وأخرجه مسلم في كتاب : صلاة المسافرين ، باب : الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (الحديث : ٧٦١). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : في قيام شهر رمضان (الحديث : ١٣٧٣). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الصلاة في رمضان ، باب : ما جاء في قيام رمضان (الأحاديث : ١٣٧٣ ، ١٣٧٤). وأخرجه النسائي في كتاب : قيام الليل ، باب : قيام شهر رمضان (٣ / ٢٠٢).

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : صلاة التراويح ، باب : فضل من قام رمضان (الحديث : ٤ / ٢١٨).

١٥٧

على أن قيامهم آخر الليل أفضل ، ثم اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره ، والأمة لا تجتمع على ضلالة.

وقد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي.

فإن قيل : فقد سماها عمر رضي الله عنه بدعة وحسنها بقوله : نعمت البدعة هذه وإذا ثبتت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع.

فالجواب : إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه ، لا أنها بدعة في المعنى ؛ فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة (١) في الأسامي ، وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه ؛ لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه ؛ فقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.

وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوصال رحمة بالأمة وقال : «إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (٢) وواصل الناس بعده لعلمهم بوجه علة النهي حسبما يأتي إن شاء الله تعالى.

وذكر القرافي من جملة الأمثلة إقامة صور الأئمة والقضاة الخ ما قال ، وليس ذلك من قبيل البدع بسبيل.

أما أولا : فإن التجمل بالنسبة إلى ذوي الهيئات والمناصب الرفيعة مطلوب ، وقد كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلة يتجمل بها للوفود ، ومن العلة في ذلك ما قاله القرافي من أن ذلك أهيب وأوقع في النفوس ، من تعظيم العظماء ، ومثله التجمل للقاء العظماء كما جاء في حديث أشج عبد القيس.

__________________

ـ وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الصلاة في رمضان ، باب : ما جاء في قيام رمضان (الحديث : ١ / ١١٤).

(١) يقال : لا مشاحة في الاصطلاح : لا مجادلة فيما تعارف عليه العلماء.

(٢) عزاه في جمع الفوائد (١ / ٤١٨) للشيخين. وأخرج نحوه أبو داود في كتاب : الصوم ، باب : الرخصة للصائم أن يحتجم (الحديث : ٢٣٧٤).

١٥٨

وأما ثانيا : فإن سلمنا أن لا دليل عليه بخصوصه فهو من قبيل المصالح المرسلة ، وقد مر أنها ثابتة في الشرع. وما قاله من أن عمر كان يأكل خبز الشعير ويفرض لعامله نصف شاة ، فليس فيه تفخيم صورة الإمام ولا عدمه ، بل فرض له ما يحتاج إليه خاصة ، وإلّا فنصف شاة لبعض العمال قد لا يكفيه لكثرة عيال وطروق ضيف وسائر ما يحتاج إليه من لباس وركوب وغيرهما ؛ فذلك قريب من أكل الشعير في المعنى ، وأيضا فإن ما يرجع إلى المأكول والمشروب لا تجمل فيه بالنسبة إلى الظهور للناس.

وقوله : فكذلك يحتاجون إلى تجديد زخارف وسياسات لم تكن قديمة ، وربما وجبت في بعض الأحوال ، مفتقر إلى التأمل ، ففيه ـ على الجملة ـ أنه مناقض لقوله في آخر الفصل : الخير كله في الاتباع ، والشر كله في الابتداع مع ما ذكر قبله.

فهذا كلام يقتضي أن الابتداع شر كله ، فلا يمكن أن يجتمع مع فرض الوجوب. وهو قد ذكر أن البدعة قد تجب ، وإذا وجبت لزم العمل بها ، وهي لما فاتت ضمن الشر كله فقد اجتمع فيها الأمر بها والأمر بتركها ، ولا يمكن فيهما الانفكاك ـ وإن كانا من جهتين ـ لأن الوقوع يستلزم الاجتماع ، وليسا كالصلاة في الدار المغصوبة ، لأن الانفكاك في الوقوع ممكن ، وهاهنا : إذا وجبت فإنما تجب على الخصوص ، وقد فرض أن الشر فيها على الخصوص فلزم التناقض ، وأما على التفصيل فإن تجديد الزخارف فيه من الخطأ ما لا يخفى.

وأما السياسات ، فإن كانت جارية على مقتضى الدليل الشرعي فليست ببدع ، وإن خرجت عن ذلك فكيف يندب إليها؟ وهي مسألة النزاع.

وذكر في قسم المكروه أشياء هي من قبيل البدع في الجملة ولا كلام فيها ، أو من قبيل الاحتياط على العبادات المحضة أن لا يزاد فيها ولا ينقص منها ، وذلك صحيح ، لأن الزيادة فيها والنقصان منها بدع منكرة ، فحالاتها وذرائعها يحتاط بها في جانب النهي.

وذكر في قسم المباح مسألة المناخل ، وليست ـ في الحقيقة ـ من البدع بل هي من باب التنعم ، ولا يقال فيمن تنعم بمباح : إنه قد ابتدع ، وإنما يرجع ذلك ـ إذا اعتبر ـ إلى جهة الإسراف في المأكول ، لأن الإسراف كما يكون في جهة الكمية يكون في جهة الكيفية ،

١٥٩

فالمناخل لا تعدو القسمين ، فإن كان الإسراف من ماله ، فإن كره ، وإلا اغتفر مع أن الأصل الجواز.

ومما يحكيه أهل التذكير من الآثار أن أول ما أحدث الناس أربعة أشياء : المناخل ، والشبع ، وغسل اليدين بالأشنان بعد الطعام ، والأكل على الموائد ، وهذا كله ـ إن ثبت نقلا ـ ليس ببدعة ، وإنما يرجع إلى أمر آخر ، وإن سلم أنه بدعة فلا نسلم إنها مباحة ، بل هي ضلالة ومنهي عنها ، ولكنا نقول بذلك.

فصل

وأما ما قاله عز الدين : فالكلام فيه على ما تقدم ، فأمثلة الواجب منها من قبل ما لا يتم الواجب إلا به ـ كما قال ـ فلا يشترط أن يكون معمولا به في السلف ولا أن يكون له أصل في الشريعة على الخصوص ، لأنه من باب المصالح المرسلة لا البدع.

أما هذا الثاني فقد تقدم ، وأما الأول فلأنه لو كان ثمّ من يسير إلى فريضة الحج طيرانا في الهواء أو مشيا على الماء لم يعدّ مبتدأ بمشيه كذلك ، لأن المقصود إنما هو التوصل إلى مكة لأداء الفرض وقد حصل على الكمال ، فكذلك هذا.

على أن هذه أشياء قد ذمها بعض من تقدم من المصنفين في طريقة التصوف وعدها من جملة ما ابتدع الناس ، وذلك غير صحيح ، ويكفي في رده إجماع الناس قبله على خلاف ما قال.

على أنه نقل عن القاسم بن مخيمرة أنه ذكرت عنده العربية فقال : أولها كبر ، وآخرها بغي ، وحكي أن بعض السلف قال : النحو يذهب الخشوع من القلب ، ومن أراد أن يزدري الناس كلهم فلينظر في النحو ، ونقل نحو من هذه ، وهذه كلها لا دليل فيها على الذم لأنه لم يذم النحو من حيث هو بدعة بل من حيث ما يكتسب به أمر زائد ، كما يذم سائر علماء السوء لا لأجل علومهم بل لأجل ما يحدث لهم بالعرض من الكبر به والعجب وغيرهما ، ولا يلزم من ذلك كون العلم بدعة ، فتسمية العلوم التي يكتسب بها أمر مذموم بدعا إما على المجاز المحض من حيث لم يحتج إليها أولا ثم احتيج بعد ، أو من عدم المعرفة بموضوع البدعة ، إذ من العلوم الشرعية ما يداخل صاحبها الكبر والزهو وغيرهما ، ولا يعود ذلك عليها بذم.

١٦٠