الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

أن فرقا ثلاثا نجت من تلك الفرق المعدودة والباقية هلكت.

وخرّج ابن وهب من حديث علي رضي الله عنه أنه دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى فقال : إني سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتما ، يل رأس جالوت! أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى ، وأطعمكم المن والسلوى ، وضرب لكم في البحر طريقا يبسا ، وجعل لكم الحجر الطوري يخرج لكم منه اثنتي عشرة عينا لكل سبط من بني إسرائيل عين! إلا ما أخبرتني على كم افترقت اليهود من فرقة بعد موسى؟ فقال له : ولا فرقة واحدة ، فقال له عليّ : كذبت والذي لا إله إلا هو ، لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة.

ثم دعا الأسقف ، فقال : أنشدك الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، وجعل على رجله البركة ، وأراكم العبرة ، فأبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى ، وصنع لكم من الطين طيورا وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ، فقال : دون هذا الصدق يا أمير المؤمنين ، فقال له علي رضي الله عنه : كم افترقت النصارى بعد عيسى ابن مريم من فرقة؟ قال : لا! والله ولا فرقة ، فقال ثلاث مرات : كذبت والله الذي لا إله إلا الله ، لقد افترقت على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، فقال : أما أنت يا يهودي! فإن الله يقول : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١) فهي التي تنجو ، وأما نحن فيقول الله فينا : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٢) فهذه التي تنجو من هذه الأمة. ففي هذا أيضا دليل.

وخرّجه الآجري أيضا من طريق أنس بمعنى حديث علي رضي الله عنه : إن واحدة من فرق اليهود ومن فرق النصارى في الجنة.

__________________

ـ وتعالى ، وأخرجه في كتاب : الجهاد ، باب : اسم الفرس والحمار ، وأخرجه في كتاب : اللباس ، باب : حمل صاحب الدابة غيره بين يديه ، وأخرجه في كتاب : الاستئذان ، باب : من أجاب بلبيك وسعديك ، وأخرجه في كتاب : الرقاق ، باب : من جاهد نفسه ، وأخرجه في كتاب : العلم ، باب : من خص بالعلم قوما دون قوم (الحديث : ١٣ / ٣٠٠). وأخرجه مسلم في كتاب : الإيمان ، باب : الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا (الحديث : ٣٠). وأخرجه الترمذي في كتاب : الإيمان ، باب : ما جاء في افتراق هذه الأمة (الحديث : ٢٦٤٥).

(١) سورة : الأعراف ، الآية : ١٥٩.

(٢) سورة : الأعراف ، الآية : ١٨١.

٥٠١

وخرّج سعيد بن منصور في تفسيره من حديث عبد الله : أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابا من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم ، وكان الحق يحول بين كثير من شهواتهم ، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، فقالوا : اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فاتركوهم ، وإن خالفوكم فاقتلوهم ، قالوا : لا! بل أرسلوا إلى فلان ـ رجل من علمائهم ـ فاعرضوا عليه هذا الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده ، وإن خالفكم فاقتلوه فلن يختلف عليكم بعده أحد ، فأرسلوا إليه فأخذوا ورقة فكتب فيها الكتاب ، ثم جعلها في قرن ، ثم علقها في عنقه ، ثم لبس عليها الثياب ، ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب ، فقالوا : أتؤمن بهذا؟ فأومأ إلى صدره فقال : آمنت بهذا ، وما لي لا أؤمن بهذا؟ (يعني : الكتاب الذي في القرن) فخلّوا سبيله ، وكان له أصحاب يغشونه ، فلما مات نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا الكتاب ، فقالوا : ألا ترون قوله : آمنت بهذا ، وما لي لا أؤمن بهذا؟ وإنما عنى هذا الكتاب ، فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة ، وخير مللهم أصحاب ذلك القرن ـ قال عبد الله ـ : وإن من بقي منكم سيرى منكرا بحسب أمره ، يرى منكرا لا يستطيع أن يغيره ، إن يعلم الله من قلبه خيرا كاره.

فهذا الخبر يدل على أن في بني إسرائيل فرقة كانت على الحق الصريح في زمانهم ، لكن لا أضمن عهدة صحته ولا صحة ما قبله.

وإذا ثبت أن في اليهود والنصارى فرقة ناجية لزم من ذلك أن يكون في هذه الأمة فرقة ناجية زائدة على رواية الثنتين والسبعين ، أو فرقتين بناء على رواية الإحدى والسبعين ، فيكون لها نوع من التفرق لم يكن لمن تقدم من أهل الكتاب ، لأن الحديث المتقدم أثبت أن هذه الأمة تبعت من قبلها من أهل الكتابين في أعيان مخالفتها ، فثبت أنها تبعتها في أمثال بدعتها ، وهذه هي :

المسألة الحادية عشرة :

فإن الحديث الصحيح قال : «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا في جحر لا تبعتموهم ـ قلنا : يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ ـ قال :

٥٠٢

فمن؟» (١) زيادة إلى حديث الترمذي الغريب ، فدلّ ضرب المثال في التعيين على أن الاتباع في أعيان أفعالهم.

وفي الصحيح عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل خيبر ونحن حديثو عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها : (ذات أنواط) فقلنا : يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر كما قالت بنو إسرائيل : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، لتركبن سنن من كان قبلكم» (٢) وصار حديث الفرق بهذا التفسير صادقا على أمثال البدع التي تقدمت لليهود والنصارى ، وأن هذه الأمة تبتدع في دين الله مثل تلك البدع وتزيد عليها ببدعة لم تتقدمها واحدة من الطائفتين ، ولكن هذه البدعة الزائدة إنما تعرف بعد معرفة البدع الأخر ، وقد مرّ أن ذلك لا يعرف ، أو لا يسوغ التعريف به وإن عرف ، فكذلك لا تتعين البدعة الزائدة ، والله أعلم.

وفي الحديث أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع ، فقال رجل : يا رسول الله! كما فعلت الفرس والروم؟ قال : وهل الناس إلا أولئك؟» (٣) وهو بمعنى الأول ، إلا أنه ليس فيه ضرب مثل ، فقوله : «حتى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها» يدل على أنها تأخذ بمثل ما أخذوا به ، إلا أنه لا يتعين في الاتباع لهم أعيان بدعهم ، بل قد تتبعها في أعيانها وتتبعها في أشباهها ، فالذي يدل على الأول قوله : «لتتبعن سنن من كان قبلكم» الحديث فإنه قال فيه : «حتى لو دخلوا في جحر ضب خرب لا تبعتموهم».

والذي يدل على الثاني قوله : فقلنا : يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط ، فقال عليه

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٤٦١ ، الحاشية : ٢.

(٢) أخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم (الحديث : ٢١٨١).

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الاعتصام ، باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لتتبعن سنن من كان قبلكم» (الحديث : ١٣ / ٢٥٤).

٥٠٣

الصلاة والسلام : «هذا كما قالت بنو إسرائيل : اجعل لنا إلها» الحديث. فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله ، لا أنه هو بنفسه ، فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه ما لم ينص عليه مثله من كل وجه ، والله أعلم.

المسألة الثانية عشرة :

أنه عليه الصلاة والسلام أخبر أنها كلها في النار ، وهذا وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت كل واحدة منها معصية كبيرة أو ذنبا عظيما ، إذ قد تقرر في الأصول أن ما يتوعد الشر عليه فخصوصيته كبيرة ، إذ لم يقل : كلها في النار ، إلا من جهة الوصف الذي افترقت بسببه عن السواد الأعظم وعن جماعته ، وليس ذلك إلا لبدعة مفرقة ، إلا أنه ينظر في هذا الوعيد ، هل هو أبديّ أم لا؟ وإذا قلنا : إنه غير أبدي ، هل هو نافذ أم في المشيئة؟

أما المطلب الأول : فينبني على أن بعض البدع مخرجة من الإسلام ، أو ليست مخرجة ، والخلاف في الخوارج وغيرهم من المخالفين في العقائد موجود ـ وقد تقدم ذكره قبل هذه ـ فحيث نقول بالتكفير لزم منه تأبيد التحريم على القاعدة إن الكفر والشرك لا يغفره الله سبحانه. وإذا قلنا بعدم التكفير فيحتمل ـ على مذهب أهل السنة ـ أمرين :

أحدهما : نفوذ الوعيد من غير غفران ، ويدل على ذلك ظواهر الأحاديث ، وقوله هنا : كلها في النار» (١) أي مستقرة ثابتة فيها.

فإن قيل : ليس إنفاذ الوعيد بمذهب أهل السنة.

قيل : بلى قد قال به طائفة منهم في بعض الكبائر في مشيئة الله تعالى ، لكن دلهم الدليل في خصوص كبائر على أنها خارجة عن ذلك الحكم ، ولا بدّ من ذلك ، فإن المتّبع هو الدليل ، فكما دلهم على أن أهل الكبائر على الجملة في المشيئة كذلك دلهم على تخصيص ذلك العموم الذي في قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٢) فإن الله تعالى قال :

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٤٥٨ ، الحاشية : ١.

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٤٨.

٥٠٤

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) (١) ، فأخبر أولا أن جزاءه جهنم ، وبالغ في ذلك بقوله تعالى : (خالِداً فِيها) عبارة عن طول المكث فيها ، ثم عطف بالغضب ، ثم بلعنته ، ثم ختم بقوله تعالى : (وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٢) والإعداد قبل البلوغ إلى المعدّ مما يدل على حصوله للمعدّ له ، ولأن القتل اجتمع فيه حق لله وحق المخلوق وهو المقتول.

قال ابن رشد : ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو ردّ التباعات إليهم. وهذا مما لا سبيل إلى القاتل إليه إلا بأن يدرك المقتول حيّا فيعفو عنه نفسه.

وأولى من هذه العبارة أن نقول : ومن شرط خروجه من تباعة القتل مع التوبة استدراك ما فات على المجني عليه : إما ببذل القيمة له ، وهو أمر لا يمكن بعد فوت المقتول ، فكذلك لا يمكن في صاحب البدعة من جهة الأدلة ، فراجع ما تقدم في الباب الثاني تجد فيه كثيرا من التهديد والوعيد المخوف جدّا.

وانظر في قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣) فهذا وعيد ، ثم قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (٤) وتسويد الوجوه علامة الخزي ودخول النار ، ثم قال تعالى : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) وهو تقريع وتوبيخ ، ثم قال تعالى : (فَذُوقُوا الْعَذابَ) الآية. وهو تأكيد آخر.

وكل هذا التقرير بناء على أن المراد بالآيات أهل القبلة من أهل البدع.

لأن المبتدع إذا اتّبع في بدعته لا يمكنه التلافي ـ غالبا ـ فيها ، ولم يزل أثرها في الأرض يستطيل إلى قيام الساعة ، وذلك كله بسببه ، فهي أدهى من قتل النفس.

قال مالك رحمة الله عليه : إن العبد لو ارتكب جميع الكبائر بعد أن لا يشرك بالله شيئا وجبت له أرفع المنازل ، لأن كل ذنب بين العبد وربه هو منه على رجاء ، وصاحب البدعة ليس هو منها على رجاء ، إنما يهوى به في نار جهنم فهذا منه نص في إنفاذ الوعيد.

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٩٣.

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٩٣.

(٣) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٥.

(٤) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٦.

٥٠٥

والثاني : أن يكون مقيدا بأن يشاء الله تعالى إصلاءهم في النار ، وإنما حمل قوله : «كلها في النار» أي هي ممن يستحق النار ، كما قالت الطائفة الأخرى في قوله تعالى :

(فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) أي ذلك جزاؤه إن لم يعف الله عنه ، فإن عفا عنه فله العفو إن شاء الله ، لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) فكما ذهبت طائفة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة ، وإن لم يكن الاستدراك ، كذلك يصح أن يقال هنا بمثله.

المسألة الثالثة عشرة :

إن قوله عليه الصلاة والسلام : «إلا واحدة» (٢) قد أعطى بنصه أن الحق واحد لا يختلف ، إذ لو كان للحقّ فرق أيضا لم يقل : «إلا واحدة» ولأن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق ، لأنها الحاكمة بين المختلفين ، لقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (٣) إذ رد التنازع إلى الشريعة ، فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة. وقوله : (فِي شَيْءٍ) نكرة في سياق الشرط ، فهي صيغة من صيغ العموم ، فتنتظم كل تنازع على العموم ، فالرد فيها لا يكون إلا لأمر واحد فلا يسع أن يكون أهل الحق فرقا ، وقال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) (٤) وهو نص فيما نحن فيه ، فإن السبيل الواحد لا يقتضي الافتراق ، بخلاف السبل المختلفة.

فإن قيل : فقد تقدم في المسألة العاشرة في حديث ابن مسعود : «واختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث وهلك سائرها» (٥) إلى آخر الحديث ، فلو لزم ما قلت لم يجعل أولئك الفرق ثلاثا ، وكانوا فرقة واحدة ، وحين بينوا ظهر أنهم كلهم على الحق

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٩٣.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٤٥٨ ، الحاشية : ١.

(٣) سورة : النساء ، الآية : ٥٩.

(٤) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٣.

(٥) تقدم تخريجه ص : ٥٠٠ ، الحاشية : ٥.

٥٠٦

والصواب ، فكذلك يجوز أن تكون الفرق في هذه الأمة ، لو لا أن الحديث أخبر أن الناجية واحدة.

فالجواب :

أولا : أن ذلك الحديث لم نشترط الصحة في نقله ، إذ لم نجده في الكتب التي لدينا المشترط فيها الصحة.

وثانيا : أن تلك الفرق إن عدت هنا ثلاثا فإنما عدت هناك واحدة لعدم الاختلاف بينهم في أصل الاتباع ، وإنما الاختلاف في القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو عدمها ، وفي كيفية الأمر والنهي خاصة.

فهذه الفرق لا تنافي صحة الجمع بينهما ، فنحن نعلم أن المخاطبين في ملتنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مراتب : فمنهم من يقدر على ذلك باليد وهم الملوك والحكام ومن أشبههم ، ومنهم من يقدر باللسان كالعلماء ومن قام مقامهم ، ومنهم من لا يقدر إلا بالقلب ـ إما مع البقاء بين ظهرانيهم إذ لم يقدر على الهجرة أو مع الهجرة إن قدر عليها ـ وجميع ذلك خصلة واحدة من خصال الإيمان ، ولذلك جاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام : «ليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل» (١).

فإذا كان كذلك فلا يضرنا عدّ الناجية في بعض الأحاديث ثلاثا باعتبار ، وعدها واحدة باعتبار آخر ، وإنما يبقى النظر في عدها اثنتين وسبعين فتصير بهذا الاعتبار سبعين ، وهو معارض لما تقدم من جهة الجمع بين فرق هذه الأمة وفرق غيرها ، مع قوله : «لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» (٢).

ويمكن أن يكون في الجواب أحد أمرين : إما أن يترك الكلام في هذا رأسا إذا خالف

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب : الإيمان ، باب : كون النهي عن المنكر من الإيمان (الحديث : ٥٠).

(٢) تقدم تخريجه ص : ٥٠٣ ، الحاشية : ٢.

٥٠٧

الحديث الصحيح ، لأنه ثبت فيه «إحدى وسبعين» (١) ، وفي حديث ابن مسعود : «ثنتين وسبعين».

وإما أن يتأول أن الثلاثة التي نجت ليست فرقا ثلاثا ، وإنما هي فرقة واحدة انقسمت إلى المراتب الثلاثة ، لأن الرواية الواقعة في تفسير عبد بن حميد هي قوله : «نجا منها ثلاث» ولم يفسرها بثلاث فرق وإن كان هو ظاهر المساق ، ولكن قصد الجمع بين الروايات ومعاني الحديث ألجأ إلى ذلك والله أعلم بما أراد رسوله من ذلك.

وقوله عليه الصلاة والسلام : «كلها في النار إلا واحدة» (٢) ظاهر في العموم ، لأن كلّا من صيغ العموم ، وفسره الحديث الآخر : «ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة» (٣) وهذا نص لا يحتمل التأويل.

المسألة الرابعة عشرة :

أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة ، وإنما تعرض لعدها خاصة ، وأشار إلى الفرقة الناجية حين سئل عنها ، وإنما وقع ذلك كذلك ولم يكن الأمر بالعكس لأمور :

أحدها : أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان بالنسبة إلى تعبد المكلف والأحق بالذكر ، إذ لا يلزم تعيين الفرق الباقية إذا عينت الواحدة ، وأيضا لو عينت الفرق كلها إلا هذه الأمة لم يكن بدّ من بيانها ، لأن الكلام فيها يقتضي ترك أمور وهي بدع ، والترك للشيء لا يقتضي فعل شيء آخر لا ضدّا ولا خلافا ، فذكر الواحدة هو المفيد على الإطلاق.

والثاني : أن ذلك أوجز لأنه إذا ذكرت نحلة الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها مما يخالفها ليس بناج ، وحصل التعيين بالاجتهاد ، بخلاف ما إذا ذكرت الفرق إلا الناجية فإنه يقتضي شرحا كثيرا ، ولا يقتضي في الفرقة الناجية اجتهاد ، لأن

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : شرح السنة (الحديث : ٤٥٩٦).

(٢) تقدم تخريجه ص : ٣٤٩ ، الحاشية : ١.

(٣) تقدم تخريجه ص : ٣٥٧ ، الحاشية : ١.

٥٠٨

إثبات العبادات التي تكون مخالفتها بدعا لا حظ للعقل في الاجتهاد فيها.

والثالث : أن ذلك أحرى بالستر ، كما تقدم بيانه في مسألة الفرق ، ولو فسرت لناقض ذلك قصد الستر ، ففسر ما يحتاج إليه وترك ما لا يحتاج إليه إلا من جهة المخالفة ، فللعقل وراء ذلك مرمى تحت أذيال الستر ، والحمد لله ، فبيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك بقوله : «ما أنا عليه وأصحابي» (١) ووقع ذلك جوابا للسؤال الذي سألوه إذ قالوا : من هي يا رسول الله؟ فأجاب بأن الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه عليه الصلاة والسلام وأوصاف أصحابه ، وكان ذلك معلوما عندهم غير خفي فاكتفوا به ، وربما يحتاج إلى تفسيره بالنسبة إلى من بعد تلك الأزمان.

وحاصل الأمر أن أصحابه كانوا مقتدين به مهتدين بهداه ، وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم وأثنى على متبوعهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ، فقال تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٢) ، فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة ، وجاءت السنّة مبينة له ، فالمتبع للسنّة متبع للقرآن ، والصحابة كانوا أولى الناس بذلك ، فكل من اقتدى بهم فهو في الفرقة الناجية الداخلة للجنة بفضل الله ، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام : «ما أنا عليه وأصحابي» فالكتاب والسنّة هو الطريق المستقيم ، وما سواهما من الإجماع وغيره فناشئ عنهما ، هذا هو الوصف الذي كان عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وهو معنى ما جاء في الرواية الأخرى من قوله : «وهي الجماعة» لأن الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف ، إلا أن في لفظ الجماعة معنى تراه بعد إن شاء الله.

ثم إن هذا التعريف نظرا لا بدّ من الكلام عليه فيه وذلك أن كل داخل تحت ترجمة الإسلام من سنّي أو مبتدع مدّع أنه هو الذي نال رتبة النجاة ودخل في غمار تلك الفرقة ، إذ لا يدعي خلاف ذلك إلا من خلع ربقة الإسلام ، وانحاز إلى فئة الكفر ، كاليهود والنصارى ، وفي معناهم من دخل بظاهره وهو معتقد غيره كالمنافقين. وأما من لم يرض لنفسه إلا بوصف الإسلام وقاتل سائر الملل على هذه الملة ، فلا يمكن أن يرضى لنفسه بأخس مراتبها ـ وهو مدع أحسنها ـ وهو المعلم ، فلو علم المبتدع أنه مبتدع لم يبق على تلك الحالة ولم

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٤٩ ، الحاشية : ١.

(٢) سورة : القلم ، الآية : ٤.

٥٠٩

يصاحب أهلها ، فضلا عن أن يتخذها دينا يدين به الله ، وهو أمر مركوز في الفطرة لا يخالف فيه عاقل.

فإن كان كذلك فإن كل فرقة تنازع صاحبتها في فرقة النجاة. ألا ترى أن المبتدع آخذ أبدا في تحسين حالته شرعا وتقبيح حالة غيره؟ فالظاهر : يدعي أنه المبتدع للسنّة.

والغاش : يدعي أنه الذي فهم الشريعة ، وصاحب نفي الصفات يدعي أنه الموحد.

والقائل باستقلال العبد : يدعي أنه صاحب العدل ، وكذلك سمى المعتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد.

والمشبه : يدعي أنه المثبت لذات الباري وصفاته ، لأن نفي التشبيه عنده نفي محض ، وهو العدم. وكذلك كل طائفة من الطوائف التي ثبت لها اتباع الشريعة أو لم يثبت لها.

وإذا رجعنا إلى الاستدلالات القرآنية أو السنية على الخصوص ، فكل طائفة تتعلق بذلك أيضا.

فالخوارج : تحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله» (١) وفي رواية : «لا يضرهم خلاف من خالفهم ، ومن قتل منهم دون ماله فهو شهيد».

والقاعد : يحتج بقوله : «عليكم بالجماعة ، فإن يد الله مع الجماعة ، ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (٢) وقوله : «كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» (٣).

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب : الفتن ، باب : هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (الحديث : ٢٨٨٩). وأخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء في سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا في أمته (الحديث : ٢١٧٧). وأخرجه أبو داود في كتاب : الفتن ، باب : ذكر الفتن ودلائلها (الحديث : ٤٢٥٢).

(٢) إن حديثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد خرج بعدة طرق فقد أخرج الترمذي قوله : «عليكم بالجماعة» بحديث طويل في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء في لزوم السنة (الحديث : ٢١٦٦). وأخرج الترمذي قوله : «يد الله مع الجماعة» في كتاب : الفتن ، باب : ٧ (الحديث : ٢١٦٧). وأخرج أبو داود باقي الحديث في كتاب : السنة ، باب : في قتل الخوارج (الحديث : ٤٧٥٨).

(٣) أخرج نحوه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء أن تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ـ

٥١٠

والمرجئيّ : يحتج بقوله : «من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق» (١) والمخالف له محتج بقوله : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (٢).

والقدري : يحتج بقوله تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (٣) وبحديث : «كل مولود يولد على الفطرة» (٤) الحديث.

والمفوض : يحتج بقوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٥) وبحديث : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» (٦).

__________________

ـ (الحديث : ٢١٩٥). وأخرج نحوه أبو داود في كتاب : الفتن ، باب : في النهي عن السعي في الفتنة (الحديث : ٤٢٥٧).

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الرقاق ، باب : المكثرون هم المقلون ، وباب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا» ، وأخرجه في كتاب : الاستقراض ، باب : أداء الديون ، وأخرجه في كتاب : بدء الخلق ، باب : ذكر الملائكة ، وأخرجه في كتاب : الاستئذان ، باب : من أجاب بلبيك وسعديك (الأحاديث : ١١ / ٢٢٢ ، ٢٢٣). وأخرجه مسلم في كتاب : الإيمان ، باب : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا لم يدخل الجنة ، وأخرجه في كتاب : الزكاة ، باب : الترغيب في الصدقة (الحديث : ٩٤).

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : الحدود ، باب : السارق حين يسرق ، وأخرجه في كتاب : المحاربين ، باب : إثم الزناة (الحديث : ١٢ / ٧١). وأخرجه النسائي في كتاب : القسامة ، باب : تأويل قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) (الأحاديث : ٨ / ١٣ ، ١٤).

(٣) سورة : الروم ، الآية : ٣٠.

(٤) أخرجه البخاري في كتاب : الجنائز ، باب : إذا أسلم الصبي ، وباب : ما قيل في أولاد المشركين (الأحاديث : ٣ / ١٧٦ ، ١٩٧ ، ١٩٩). وأخرجه مسلم في كتاب : القدر ، باب : معنى كل مولود يولد على الفطرة (الحديث : ٢٦٥٨). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الجنائز ، باب : جامع الجنائز (الحديث : ٥٢). وأخرجه الترمذي في كتاب : القدر ، باب : كل مولود يولد على الملة (الحديث : ٢١٣٩). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : ذراري المشركين (الحديث : ٤٧١٤).

(٥) سورة : الشمس ، الآيتان : ٧ ـ ٨.

(٦) أخرجه البخاري في كتاب : تفسير سورة (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) ، وأخرجه في كتاب : الجنائز ، باب : موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله ، وأخرجه في كتاب : الأدب ، باب : الرجل ينكت الشيء بيده في الأرض ، وأخرجه في كتاب : القدر ، باب : وكان أمر الله قدرا ـ

٥١١

والرافضة : تحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : «ليردن الحوض أقوام ثم ليتخلفنّ دوني ، فأقول : يا رب أصحابي! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، ثم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» (١) ويحتجون في تقديم عليّ رضي الله عنه ب : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، غير أنه لا نبي بعدي» (٢) و : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» (٣) ومخالفوهم يحتجون في تقديم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بقوله : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ويأبى المسلمون إلا أبا بكر» (٤) إلى أشباه ذلك ، مما يرجع إلى معناه.

والجميع محومون ـ في زعمهم ـ على الانتظام في سلك الفرقة الناجية ، وإذا كان كذلك أشكل على المبتدع في النظر ما كان عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ولا يمكن أن يكون مذهبهم مقتضى هذه الظواهر ؛ فإنها متدافعة متناقضة ، وإنما يمكن الجمع فيها إذا جعل بعضها أصلا ، فيردّ البعض الآخر إلى ذلك الأصل بالتأويل.

__________________

ـ مقدورا ، وأخرجه في كتاب : التوحيد ، باب : قول الله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) (الحديث : ٧ / ٥٤٤). وأخرجه مسلم في كتاب : القدر ، باب : كيفية خلق الآدمي في بطن أمه (الحديث : ٢٦٤٧). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في القدر (الحديث : ٤٦٩٤). وأخرجه الترمذي في كتاب : القدر ، باب : ما جاء في الشقاء والسعادة ، وأخرجه في كتاب : التفسير ، باب : ومن سورة (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (الأحاديث : ٢١٣٧ ، ٣٣٤١).

(١) أخرجه البخاري في كتاب : تفسير سورة (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) ، وأخرجه في كتاب : الرقاق ، باب : الحوض (الأحاديث : ٨ / ٥٦٢ ، ٥٦٣). وأخرجه مسلم في كتاب : الصلاة ، باب : حجة من قال : البسملة آية من أول كل سورة (الحديث : ٤٠٠). وأخرجه الترمذي في كتاب : التفسير ، باب : ومن سورة (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (الحديث : ٣٣٥٧). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في الحوض (الأحاديث : ٤٧٤٧ ، ٤٧٤٨). وأخرجه النسائي في كتاب : الصلاة ، باب : قراءة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (الأحاديث : ٣ / ١٣٣ ، ١٣٤).

(٢) أخرجه الترمذي في كتاب : المناقب ، باب : مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه (الحديث : ٣٧٣٢).

(٣) أخرجه الترمذي في كتاب : المناقب ، باب : مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه (الحديث : ٣٧١٤). وأخرجه أحمد في المسند (الأحاديث : ٤ / ٣٦٨ ، ٣٧٠ ، ٣٨٢).

(٤) أخرجه الترمذي في كتاب : المناقب ، باب : مناقب عبد الله بن مسعود (الحديث : ٣٨٠٧). وأخرجه أحمد في المسند (الحديث : ٥ / ٣٩٩).

٥١٢

وكذلك فعل كل واحدة من تلك الفرق تستمسك ببعض تلك الأدلة وترد ما سواها إليها ، أو تهمل اعتبارها بالترجيح ، إن كان الموضع من الظنيات التي يسوغ فيها الترجيح ، أو تدعي أن أصلها الذي ترجع إليه قطعي والمعارض له ظنّي فلا يتعارضان.

وإنما كانت طريقة الصحابة ظاهرة في الأزمنة المتقدمة ، أما وقد استقرت مآخذ الخلاف فمحال ، وهذا الموضع مما يتضمنه قول الله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١).

فتأملوا ـ رحمكم الله ـ كيف صار الاتفاق محالا في العادة ليصدّق العقل بصحة ما أخبر الله به.

والحاصل : أن تعيين الفرقة الناجية في مثل زماننا صعب ، ومع ذلك فلا بدّ من النظر فيه ، وهو نكتة هذا الكتاب ، فليقع به فضل اعتناء بحسب ما هيأه الله ، وبالله التوفيق.

ولما كان ذلك يقتضي كلاما كثيرا أرجأنا القول فيه إلى باب آخر ، وذكره فيه على حدته إذ ليس هذا موضع ذكره ، والله المستعان.

المسألة الخامسة عشرة :

أنه قال عليه الصلاة والسلام : «كلّها في النار إلا واحدة» (٢) وختم ذلك. وقد تقدم أنه لا يعد من الفرق إلا المخالف في أمر كلي وقاعدة عامة ، ولم ينتظم الحديث ـ على الخصوص ـ إلا أهل البدع المخالفين للقواعد ، وأما من ابتدع في الدين لكنه لم يبتدع ما ينقض أمرا كليّا ، أو يخرم أصلا من الشرع عامّا ، فلا دخول له في النص المذكور ، فينظر في حكمه ، هل يلحق بمن ذكر أو لا؟

والذي يظهر في المسألة أحد أمرين : إما أن نقول : إن الحديث لم يتعرض لتلك الواسطة بلفظ ولا معنى ، إلا أن ذلك يؤخذ من عموم الأدلة المتقدمة ، كقوله : «كل بدعة

__________________

(١) سورة : هود ، الآيتان : ١١٨ ـ ١١٩.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٣٤٩ ، الحاشية : ١.

٥١٣

ضلالة» وما أشبه ذلك. وإما أن نقول : إن الحديث وإن لم يكن في لفظه دلالة ففي معناه ما يدل على قصده في الجملة ، وبيانه تعرض لذكر الطرفين الواضحين.

أحدهما : طرف السلامة والنجدة من غير داخلة شبهة ولا إلمام بدعة ، وهو قوله : «ما أنا عليه وأصحابي».

والثاني : طرف الإغراق في البدعة ، وهو الذي تكون فيه البدعة كلية أو تخرم أصلا كليا ، جريا على عادة الله في كتابه العزيز ، لأنه تعالى لما ذكر أهل الخير وأهل الشرّ ذكر كل فريق منهم بأهلي ما يحمل من خير أو شر ، ليبقى المؤمن فيها بين الطرفين خائفا راجيا ، إذ جعل التنبيه بالطرفين الواضحين ، فإن الخير على مراتب بعضها أعلى من بعض ، والشر على مراتب بعضها أشد من بعض ، فإذا ذكر أهل الخير الذين في أعلى الدرجات خاف أهل الخير الذين دونهم أن لا يلحقوا بهم ، أو رجوا أن يلحقوا بهم ، وإذا ذكر أهل الشر الذين في أسفل المراتب خاف أهل الشر الذين دونهم أن يلحقوا بهم ، أو رجوا أن لا يلحقوا بهم.

وهذا المعنى معلوم بالاستقراء ، وذلك الاستقراء ـ إذا تم ـ يدل على قصد الشارع إلى ذلك المعنى ؛ ويقويه ما روى سعيد بن منصور في تفسيره عن عبد الرحمن بن ساباط قال : لما بلغ الناس أن أبا بكر يريد أن يستخلف عمر قالوا : ما ذا يقول لربه إذا لقيه؟ استخلف علينا فظا غليظا ـ وهو لا يقدر على شيء ـ فكيف لو قدر. فبلغ ذلك أبا بكر فقال : أبربي تخوفوني؟ أقول : استخلفت خير خلقك. ثم أرسل إلى عمر فقال : إن لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار ، وعملا بالنهار لا يقبله بالليل ، واعلم أنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة ، ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم! وذلك أنه ردّ عليهم حسنة فلم يقبل منهم حتى يقول القائل : عملي خير من هذا ؛ ألم تر أن الله أنزل الرغبة والرهبة لكي يرغب المؤمن فيعمل ويرهب ، فلا يلقي بيده إلى التهلكة؟ ألم تر إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وتركهم الباطل فثقل عملهم؟ وحقّ لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يثقل ، ألم تر إنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل وتركهم الحق؟ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف ـ ثم قال ـ : أما إن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت ، وأنت لا بد لاقيه ، وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولا تعجزه.

٥١٤

وهذا الحديث وإن لم يكن هنالك ، ولكن معناه صحيح يشهد له الاستقراء لمن تتبع آيات القرآن الكريم ، ويشهد لما تقدم من أن هذا المعنى مقصود استشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمثله ، إذ رأى بعض أصحابه وقد اشترى لحما بدرهم : أين تذهب بكم هذه الآية : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) ، والآية إنما نزلت في الكفار ، لقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ) الآية ، إلى أن قال تعالى : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (١) ولم يمنعه رضي الله عنه إنزالها في الكفار من الاستشهاد بها في مواضع اعتبارا بما تقدم ، وهو أصل شرعي تبين في كتاب (الموافقات).

فالحاصل : أن من عدّ الفرق من المبتدعة الابتداع الجزئي لا يبلغ مبلغ أهل البدع في الكليات ، في الذم والتصريح بالوعيد بالنار ، ولكنهم اشتركوا في المعنى المقتضي للذم والوعيد ، كما اشترك في اللفظ صاحب اللحم ـ حين تناول بعض الطيبات على وجه فيه كراهية ما في اجتهاد عمر ـ مع أنه أذهب طيّباته في حياته الدنيا من الكفار ، وإن كان ما بينهما من البون البعيد ، والقرب والبعد من العارف المذموم بحسب ما يظهر من الأدلة للمجتهد ، وقد تقدم بسط ذلك في بابه ، والحمد لله.

المسألة السادسة عشرة :

أن رواية من روى في تفسير الفرقة الناجية «وهي الجماعة» محتاجة إلى التفسير لأنه إن كان معناه بينا من جهة تفسير الرواية الأخرى ـ وهي قوله : «ما أنا عليه وأصحابي» (٢) ـ فمعنى لفظ : «الجماعة» من حيث المراد به في إطلاق الشرع محتاج إلى التفسير.

فقد جاء في أحاديث كثيرة منها الحديث الذي نحن في تفسيره ، ومنها ما صحّ عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإنه من فارق الجماعة شيئا فمات مات ميتة جاهلية» (٣).

__________________

(١) سورة : الأحقاف ، الآية : ٢٠.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٣٤٩ ، الحاشية : ١.

(٣) تقدم تخريجه ص : ٣٦٣ ، الحاشية : ٣.

٥١٥

وصحّ من حديث حذيفة ، قال : قلت : يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال : «نعم» قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال : «نعم ، وفيه دخن» قلت : وما دخنه؟ قال : «قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر» قلت : فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال : «نعم! دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها» قلت : يا رسول الله! صفهم لنا ، قال : «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا» قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال : «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال : «فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (١).

وخرّج الترمذي والطبري عن ابن عمر قال : خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية فقال : إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينا ، فقال : «أوصيكم بأصحابي ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ، ويشهد ولا يستشهد ، عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة ، لا يخلونّ رجل بامرأة ، فإنه لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ، الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك هو المؤمن» (٢).

وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا يجمع

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الفتن ، باب : كيف الأمر إذا لم تكن جماعة ، وأخرجه في كتاب : أحاديث الأنبياء ، باب : علامات النبوة في الإسلام (الأحاديث : ١١ / ٣٠ ، ٣١). وأخرجه مسلم في كتاب : الإمارة ، باب : وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن (الحديث : ١٨٤٧). وأخرجه أبو داود في كتاب : الفتن ، باب : ذكر الفتن ودلائلها (الأحاديث : ٤٢٤٤ ، ٤٢٤٥ ، ٤٢٤٦ ، ٤٢٤٧).

(٢) أخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء في لزوم الجماعة (الحديث : ٢١٦٦). وأخرجه أحمد في المسند (الأحاديث : ١١٤ ، ١٧٧). وأخرجه الحاكم في كتاب : الإيمان.

٥١٦

أمتي على ضلالة ، ويد الله مع الجماعة ، ومن شذّ شذ إلى النار» (١) ، وخرّج أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (٢).

وعن عرفجة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سيكون في أمتي هنيات وهنيات ، فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان» (٣).

فاختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال :

أحدها : أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام وهو الذي يدل عليه كلام أبي غالب : إن السواد الأعظم هم الناجون من الفرق ، فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق ، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية ، سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم ، فهو مخالف للحق.

وممن قال بهذا أبو مسعود الأنصاري وابن مسعود ، فروى أنه لما قتل عثمان سئل أبو مسعود الأنصاري عن الفتنة ، فقال : عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ضلالة ، واصبر حتى تستريح أو يستراح من فاجر. وقال : وإياك والفرقة فإن الفرقة هي الضلالة. وقال ابن مسعود : عليكم بالسمع والطاعة فإنها حبل الله الذي أمر به. ثم قبض يده وقال : إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذين تحبون في الفرقة.

وعن الحسين قبل له : أبو بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : إي والذي لا إله إلا هو ، ما كان الله ليجمع أمة محمد على ضلالة.

فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها ، ومن سواهم داخلون في حكمهم ، لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم ، فكل من خرج عن

__________________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء في لزوم الجماعة (الحديث : ٢١٦٨).

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في قتل الخوارج (الحديث : ٤٧٥٨).

(٣) أخرجه مسلم في كتاب : الإمارة ، باب : حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع (الحديث : ١٨٥٢). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في قتل الخوارج (الحديث : ٤٧٦٢) ، وأخرجه في كتاب : تحريم الدم ، باب : قتل من فارق الجماعة (الحديث : ٧ / ٩٣).

٥١٧

جماعتهم فهو الذين شذوا وهم نهبة الشيطان ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة ، لم يدخلوا في سوادهم بحال.

والثاني : إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين ، فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميتة جاهلية ، لأن جماعة الله العلماء ، جعلهم الله حجة على العالمين ، وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام : «إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة» (١) وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها ، وإليها تفزع من النوازل ، وهي تبع لها. فمعنى قوله : «لن تجتمع أمتي» لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة.

وممن قال بهذا عبد الله بن المبارك ، وإسحاق بن راهويه ، وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين ، فقيل لعبد الله بن المبارك : من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدى بهم؟ قال : أبو بكر وعمر ـ فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد ـ فقيل : هؤلاء ماتوا : فمن الأحياء؟ قال : أبو حمزة السكري.

وعن المسيب بن رافع قال : كانوا إذا جاءهم شيء من القضاء ليس في كتاب الله ولا سنّة رسول الله سموه صوافي الأمراء فجمعوا له أهل العلم ، فما أجمع رأيهم عليه فهو الحق ، وعن إسحاق بن راهويه نحو مما قال ابن المبارك.

فعلى هذا القول لا مدخل في السؤال لمن ليس بعالم مجتهد ، لأنه داخل في أهل التقليد ، فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية ، ولا يدخل أيضا أحد من المبتدعين ، لأن العالم أولا لا يبتدع ، وإنما يبتدع من ادّعى لنفسه العلم وليس كذلك ، ولأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله ، وهذا بناء على القول بأن المبتدع لا يعتد به في الإجماع ، وإن قيل بالاعتداد به فيه ففي غير المسألة التي ابتدع فيها ، لأنهم في نفس البدعة مخالفون للإجماع : فعلى كل تقدير لا يدخلون في السواد الأعظم رأسا.

والثالث : إن الجماعة هي الصحابة على الخصوص ، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده ، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلا ، وقد يمكن فيمن سواهم ذلك ،

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٥١٧ ، الحاشية : ١.

٥١٨

ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام : «ولا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله» (١) وقوله : «لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» (٢) فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من الأزمان أزمانا يجتمعون فيها على ضلالة وكفر. قالوا : وممن قال بهذا القول عمر بن عبد العزيز ، فروى ابن وهب عن مالك قال : كان عمر بن عبد العزيز يقول : سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وولاة الأمر من بعده سننا ، الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ، ولا النظر فيما خالفها! من اهتدى بها مهتد ، ومن استنصر بها منصور ، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. فقال مالك : فأعجبني عزم عمر على ذلك.

فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة والسلام : «ما أنا عليه وأصحابي» (٣) فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنّوه ، وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق ، وبشهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم بذلك خصوصا في قوله : «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين» (٤) وأشباهه ، أو لأنهم المتقلدون لكلام النبوة ، المهتدون للشريعة ، الذين فهموا أمر دين الله بالتّلقّي من نبيه مشافهة ، على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال ، بخلاف غيرهم : فإذا كل ما سنّوه فهو سنّة من غير نظير فيه ، بخلاف غيرهم ، فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالا للنظر ردّا وقبولا ، فأهل البدع إذا غير داخلين في الجماعة قطعا على هذا القول.

والرابع : إن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام ، إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم ، وهم الذين ضمن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب : الإيمان ، باب : ذهاب الإيمان آخر الزمان (الحديث : ١٤٨). وأخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ٣٥ (الحديث : ٨ / ٣٢).

(٢) أخرجه مسلم في كتاب : الفتن ، باب : قرب الساعة (الحديث : ٢٩٤٩).

(٣) تقدم تخريجه ص : ٣٤٩ ، الحاشية : ١.

(٤) تقدم تخريجه ص : ٣٣١ ، الحاشية : ١.

٥١٩

على ضلالة ، فإن وقع بينهم اختلاف فواجب تعرّف الصواب فيما اختلفوا فيه. قال الشافعي : الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله ، ولا سنّة ولا قياس ، وإنما تكون الغفلة في الفرقة.

وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني وهو يقتضي أيضا ما يقتضيه ، أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر ، وفيه من المعنى ما في الأول من أنه لا بدّ من كون المجتهدين فيهم ، وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلا ، فهم ـ إذا ـ الفرقة الناجية.

والخامس : ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير ، فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم ، لأن فراقهم لا يعدو إحدى حالتين ، إما للنكير عليهم في طاعة أميرهم والطعن عليه في سيرته المرضية لغير موجب ، بل بالتأويل في إحداث بدعة في الدين ، كالحرورية التي أمرت الأمة بقتالها وسماها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مارقة من الدين ، وإما لطلب إمارة من انعقاد البيعة لأمير الجماعة ، فإنه نكث عهد ونقض عهد بعد وجوبه.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنا من كان» (١). قال الطبري : فهذا معنى الأمر بلزوم الجماعة.

قال : وأما الجماعة التي إذا اجتمعت على الرضى بتقديم أمير كان المفارق لها ميتا ميتة جاهلية ، فهي الجماعة ، التي وصفها أبو مسعود الأنصاري ، وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين وغيرهم ، وهم السواد الأعظم.

قال : وقد بيّن ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فروي عن عمرو بن ميمون الأودي : قال : قال عمر حين طعن لصهيب : صلّ بالناس ثلاثا وليدخل عليّ عثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ، وليدخل ابن عمر في جانب البيت وليس له من الأمر شيء ، فقم يا صهيب على رءوسهم بالسيف فإن بايع خمسة ونكص واحد

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٥١٧ ، الحاشية : ٣.

٥٢٠