الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

فاجلد رأسه بالسيف ، وإن بايع أربعة ونكص رجلان فاجلد رءوسهما حتى يستوثقوا على رجل» (١).

قال : فالجماعة التي أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلزومها وسمى المنفرد عنها مفارقا لها نظير الجماعة التي أوجب عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه ، وأمر صهيبا بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف ، فهم في معنى كثرة العدد المجتمع على بيعته وقلة العدد المنفرد عنهم.

قال : وما أخبر الذي ذكر فيه أن لا تجتمع الأمة على ضلالة فمعناه أن لا يجمعهم على إضلال الحق فيما نابهم من أمر دينهم حتى يضل جميعهم عن العلم ويخطئوه ، ذلك لا يكون في الأمة.

هذا تمام كلامه وهو منقول بالمعنى وتحرّ في أكثر اللفظ.

وحاصله : أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنّة وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنّة خارج عن معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث المذكورة ، كالخوارج ومن جرى مجراهم.

فهذه خمسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنّة والاتباع ، وأنهم المرادون بالأحاديث ، فلنأخذ ذلك أصلا ويبنى عليه معنى آخر ، وهي :

المسألة السابعة عشرة :

وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا ، فإن لم يضموا إليهم فلا إشكال أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم ، فمن شذّ عنهم فمات فميتته جاهلية ، وإن ضموا إليهم العوام فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة ، فلا بد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء ، فإنهم لو تمالئوا على مخالفة العلماء فيما حدوا لهم لكانوا هم الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر ، لقلة

__________________

(١) أخرج نحوه البخاري في كتاب : فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب : قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان ، وأخرجه في كتاب : الجنائز ، باب : ما جاء في قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر ، وأخرجه في كتاب : الجهاد ، باب : يقاتل أهل الذمة ولا يسترقون (الأحاديث : ٧ / ٤٩ ، ٥٧).

٥٢١

العلماء وكثرة الجهال ، فلا يقول أحد : إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب ، وإن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث ، بل الأمر بالعكس ، وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا ، والعوام هم المفارقون للجماعة إن خالفوا ، فإن وافقوا فهو الواجب عليهم.

ومن هنا لما سئل ابن المبارك عن الجماعة الذين يقتدى بهم أجاب بأن قال : أبو بكر وعمر ـ قال ـ : فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد ، قيل : فهؤلاء ماتوا! فمن الأحياء؟ قال : أبو حمزة السكري وهو محمد بن ميمون المروزي ، فلا يمكن أن يعتبر العوام في هذه المعاني بإطلاق ، وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يمكن اتباع العوام لأمثالهم ، ولا عدّ سوادهم أنه السواد الأعظم المنبه عليه في الحديث الذي من خالفه فميتته جاهلية ، بل يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين ، فالذي يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان المفروض الخالي عن المجتهد.

وأيضا ، فاتباع نظر من لا نظر له واجتهاد من لا اجتهاد له محض ضلالة ، ورمي في عماية ، وهو مقتضى الحديث الصحيح : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا» (١) الحديث.

روى أبو نعيم عن محمد بن القاسم الطوسي قال : سمعت إسحاق بن راهويه وذكر في حديث رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة ، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم» (٢) ، فقال رجل : يا أبا يعقوب! من السواد الأعظم؟ فقال : محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم ، ثم قال : سأل رجل ابن المبارك : من السواد الأعظم؟ قال : أبو حمزة السكري ، ثم قال إسحاق : في ذلك الزمان (يعني : أبا حمزة). وفي زماننا محمد بن أسلم ، ومن تبعه ، ثم قال إسحاق : لو سألت الجهال عن السواد الأعظم لقالوا : جماعة الناس ، ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٧٠ ، الحاشية : ١.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٣٦٣ ، الحاشية : ١.

٥٢٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطريقه ، فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة ، ثم قال إسحاق : لم أسمع عالما منذ خمسين سنة كان أشد تمسكا بأثر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من محمد بن أسلم.

فانظر في حكايته تتبيّن غلط من ظن أن الجماعة هي جماعة الناس وإن لم يكن فيهم عالم ، وهو وهم العوام ، لا فهم العلماء ، فليثبت الموفق في هذه المزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل ، ولا توفيق إلا بالله.

المسألة الثامنة عشرة :

في بيان معنى رواية أبي داود وهي قوله عليه الصلاة والسلام : «وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» (١).

وذلك أن معنى هذه الرواية أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما سيكون في أمته من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق ، وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنها وتوبتهم منها ، على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه ولا مفصل ولا غيرهما إلا دخله ذلك الداء ، وهو جريان لا يقبل العلاج ولا ينفع فيه الدواء ، فكذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبه ، وأشرب حبّه ، لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ، ولا يكترث بمن خالفه ، واعتبر ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء كمعبد الجهني وعمرو بن عبيد وسواهما ، فإنهم كانوا حيث لقوا مطرودين من كل جهة ، محجوبين عن كل لسان ، مبعدين عند كل مسلم ، ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تماديا على ضلالهم ، ومداومة على ما هم عليه (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) (٢).

وحاصل ما عولوا عيه تحكيم العقول مجردة ، فشركوها مع الشرع في التحسين والتقبيح ، ثم قصروا أفعال الله على ما ظهر لهم ووجهوا عليها أحكام العقل فقالوا : يجب

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٥٧ ، الحاشية : ١.

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٤١.

٥٢٣

على الله كذا ولا يجوز أن يفعل كذا ، فجعلوه محكوما عليه كسائر المكلفين ، ومنهم من لم يبلغ هذا المقدار ، بل استحسن شيئا يفعله واستقبح آخر وألحقها بالمشروعات ، ولكن الجميع بقوا على تحكيم العقول ، ولو وقفوا هنالك لكانت الداهية على عظمتها أيسر ، ولكنهم تجاوزوا هذه الحدود كلها إلى أن نصبوا المحاربة لله ورسوله ، باعتراضهم على كتاب الله وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وادعائهم عليهما من التناقض والاختلاف ومنافاة العقول وفساد النظم ما هم له أهل.

قال العتبي : وقد اعترض على كتاب الله تعالى بالطعن ملحدون ، ولغوا وهجروا ، واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، بأفهام كليلة ، وأبصار عليلة ، ونظر مدخول فحرفوا الكلم عن مواضعه ، وعدلوا به عن سبيله ، ثم قضوا عليه بالتناقض ، والاستحالة واللحن ، وفساد النظم والاختلاف ، وأدلوا بذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر ، والحديث الغرّ ، واعترضت بالشبه في القلوب ، وقدحت بالشكوك في الصدور ، قال : ولو كان ما لحنوا إليه ، على تقريرهم وتأويلهم لسبق إلى الطعن فيه من لم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتج بالقرآن عليهم ، ويجعله علم نبوته ، والدليل على صدقه ، ويتحداهم في مواطن على أن يأتوا بسورة من مثله ، وهم الفصحاء والبلغاء ، والخطباء والشعراء ، والمخصوصون من بين جميع الأنام ، بالألسنة الحداد واللدد في الخصام ، مع اللب والنّهى وأصالة الرأي ، فقد وصفهم الله بذلك في غير موضع من الكتاب ، وكانوا يقولون مرة : هو سحرة. ومرة : هو شعر. ومرة : هو قول الكهنة ، ومرة : أساطير الأولين ، ولم يحك الله عنهم الاعتراض على الأحاديث ودعوى التناقض والاختلاف فيها ، وحكى عنهم ، لأجل ذلك القدح في خير أمة أخرجت للناس وهم الصحابة رضي الله عنهم ، واتبعوهم بالحدس قالوا : ما شان ، أو جروا في الطعن على الحديث جري من لا يرى عليه محتسبا في الدنيا ولا محاسبا في الآخرة.

وقد بسط الكلام في الرد عليهم والجواب عما اعترضوا فبه أبو محمد بن قتيبة في كتابين صنفهما لهذا المعنى ، وهما من محاسن كتبه رحمه‌الله ، ولم أرو قط تلك الاعتراضات تعزيزا للمعترض فيه ، لم أعن بردها لأن غيري ـ والحمد لله ـ قد تجرد له ، ولكن أردت بالحكاية عنهم على الجملة بيان معنى قوله : «تجارى بهم تلك الأهواء كما

٥٢٤

يتجارى الكلب بصاحبه» (١) وقبل وبعد فأهل الأهواء إذا استحكمت فيهم أهواؤهم لم يبالوا بشيء ، ولم يعدوا خلاف أنظارهم شيئا ، ولا راجعوا عقولهم مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف في موارد الإشكال (وهو شأن المعتبرين من أهل العقول) وهؤلاء صنف من أصناف من اتبع هواه ، ولم يعبأ بعذل العاذل فيه ، ثم أصناف أخر تجمعهم مع هؤلاء إشراب الهوى في قلوبهم ، حتى لا يبالوا بغير ما هو عليه.

فإذا تقرر معنى الرواية بالتمثيل ، صرنا فيه إلى معنى آخر ، وهي :

المسألة التاسعة عشرة :

إن قوله : «تتجارى بهم تلك الأهواء» فيه الإشارة ب (تلك) فلا تكون إشارة إلى غير مذكور ، ولا محالا بها على غير معلوم ، بل لا بد لها من متقدم ترجع إليه ، وليس إلا الأحوال التي كانت السبب في الافتراق ، فجاءت الزيادة في الحديث مبينة أنها الأهواء ، وذلك قوله : «تتجارى بهم تلك الأهواء» فدلّ على أن كل خارج عما هو عليه وأصحابه إنما خرج باتباع الهوى عن الشرع وقد مرّ بيان هذا قبل فلا نعيده.

المسألة العشرون :

إن قوله عليه الصلاة والسلام : «وأنه سيخرج في أمتي أقوام على وصف كذا» ، يحتمل أمرين.

أحدهما : أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى من تلك الأهواء ورآها وذهب إليها ، فإن هواه يجري فيه مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع أبدا عن هواه ولا يتوب من بدعته.

والثاني : أن يريد أن من أمته من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة ومنهم من لا يكون كذلك ، فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها.

والذي يدل على صحة الأول هو النقل المقتضي الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم ، كقوله عليه الصلاة والسلام : «يمرقون من الدين ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه» (٢) وقوله : إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة ، وما أشبه ذلك ، ويشهد له

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٥٧ ، الحاشية : ١.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : استتابة المرتدين ، باب : قتال الخوارج (الحديث : ٩ / ٨٦). وأخرجه ـ

٥٢٥

الواقع ، فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها ، بل هو يزداد بضلالتها بصيرة.

روي عن الشافعي أنه قال : مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منها مثل المجنون الذي عولج حتى برئ ، فأعقل ما يكون قد هاج.

ويدل على صحة الثاني أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له أصلا ، لأن العقل يجوز ذلك والشرع إن يشأ على ما ظاهره العموم فعمومه إنما يعتبر عاديا ، والعادة إنما تقتضي في العموم الأكثرية ، لا نحتاج الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق ، وهذا مبين في الأصول.

والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملا ببدع ثم تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها ، كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم ابن عباس رضي الله عنهما ، وكما رجع المهتدي والواثق وغيرهم ممن كان قد خرج عن السنّة ثم رجع إليها ، وإذا جعل تخصيص العموم بفرد لم يبق اللفظ عامّا وحصل الانقسام.

وهذا الثاني هو الظاهر ، لأن الحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق من غير إشعار بإشراب أو عدمه ، ثم بين أن في أمته المفترقين عن الجماعة من يشرب تلك الأهواء ، فدل أن فيهم من لا يشربها ، وإن كان من أهلها ، ويبعد أن يريد أن في مطلق الأمة من يشرب تلك الأهواء ، إذ كان يكون في الكلام نوع من التداخل الذي لا فائدة فيه ، فإذا بين أن المعنى أن يخرج في الأمة المفترقة بسبب الهوى من يتجارى به ذلك الهوى استقام الكلام واتسق ، وعند ذلك يتصور الانقسام ، وذلك بأن يكون في الفرقة من يتجارى به الهوى كتجاري الكلب ، ومن لا يتجارى به ذلك المقدار ، لأنه يصح أن يختلف التجاري ، فمنه ما يكون في الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد ، ومنه ما لا يكون كذلك.

__________________

ـ مسلم في كتاب : الزكاة ، باب : ذكر الخوارج وصفاتهم (الحديث : ١٠٦٤). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : القرآن ، باب : ما جاء في القرآن (الأحاديث : ١ / ٢٠٤ ، ٢٠٥). وأخرج نحوه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في قتال الخوارج (الحديث : ٤٧٦٤). وأخرج نحوه النسائي في كتاب : الزكاة ، باب : في المؤلفة قلوبهم ، وفي كتاب : تحريم الدم ، باب من شهر سيفه ثم وضعه في الناس (الحديث : ٥ / ٨٧).

٥٢٦

فمن القسم الأول : الخوارج بشهادة الصادق المصدوق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال :

«يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (١) ، ومنه هؤلاء الذين أعرقوا في البدعة حتى اعترضوا على كتاب الله وسنّة نبيه ، وهم بالتفكير أحق من غيرهم ممن لم يبلغ مبلغهم.

ومن القسم الثاني : أهل التحسين والتقبيح على الجملة ، إذا لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم.

ومنه ما ذهب إليه الظاهرية : على رأي من عدها من البدع ـ وما أشبه ذلك. وذلك أنه يقول : من خرج عن الفرق ببدعته وإن كانت جزئية فلا يخلو صاحبها من تجاريها في قلبه وإشرابها له ، لكن على قدرها ، وبذلك أيضا تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على أن لا توبة له ، لكن التجاري المشبه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة ، إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعة من البدع ذلك الإشراب ، وبين من لم يبلغ ممن هو معدود في الفرق ، فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التي هي نتيجة العداوة والبغضاء.

وسبب التفريق بينهما : والله أعلم ـ أمران : إما أن يقال : إن الذي أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته فيظهر بسببها المعاداة ، والذي لم يشربها لا يدعو إليها ولا ينتصب للدعاء إليها ووجه ذلك أن الأول لم يدع إليها إلا وهي قد بلغت من قلبه مبلغا عظيما بحيث يطرح ما سواها في جنبها ، حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثني عنها ، وقد أعمت بصره وأصمت سمعه واستولت على كلّيته ، وهي غاية المحبة ، ومن أحب شيئا من هذا النوع من المحبة والى بسببه وعادى ، ولم يبال بما لقي في طريقه ، بخلاف من لم يبلغ ذلك المبلغ ، فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها ، ونكتة اهتدى إليها ، فهي مدخرة في خزانة حفظه يحكم بها على من وافق وخالف ، لكن بحيث يقدر على إمساك نفسه عن الإظهار مخافة النكال ، والقيام عليه بأنواع الإضرار ، ومعلوم أن كل من داهن على نفسه في شيء وهو قادر على إظهاره لم يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الاستيلاء ، فكذلك البدعة إذا استخفى بها صاحبها.

وإما أن يقال : إن من أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسواد الأعظم ، وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر من كان على رأيهم.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٥٢٥ ، الحاشية : ١.

٥٢٧

ومثل ما حكى ابن العربي في العواصم قال : أخبرني جماعة من أهل السنّة بمدينة السلام : أنه ورد بها الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الصوفي من نيسابور (١) فعقد مجلسا للذكر ، وحضر فيه كافة الخلق ، وقرأ القارئ : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢) قال لي أخصهم : من أنت ـ يعني : الحنابلة ـ يقومون في أثناء المجلس ويقولون قاعد! قاعد! بأرفع صوت وأبعده مدى ، وثار إليهم أهل السنّة من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة ، وتثاور الفئتان وغلبت العامة ، فأجحروهم إلى المدرسة النظامية وحصروهم فيها ورموهم بالنشاب ، فمات منهم قوم ، وركب زعيم الكفاة وبعض الدادية فسكنوا ثورانهم.

فهذا أيضا ممن أشرب قلبه حب البدعة حتى أداه ذلك إلى القتل ، فكل من بلغ هذا المبلغ حقيق أن يوصف بالوصف الذي وصف به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن بلغ من ذلك الحرب. وكذلك هؤلاء الذين داخلوا الملوك فأدلوا إليهم بالحجة الواهية ، وصغروا في أنفسهم حملة السنّة وحماة الملة ، حتى وقفوهم مواقف البلوى ، وأذاقوهم مرارة البأساء والضراء ، وانتهى بأقوام إلى القتل ، حسبما وقعت المحنة به زمان بشر المريسي في حضرة المأمون وابن أبي دؤاد وغيرهما.

فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه كالمثال في الحديث ، وكم من أهل بدعة لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم ، بل استتروا بها جدّا ، ولم يتعرضوا للدعاء إليها جهارا ، كما فعل غيرهم ، ومنهم من يعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم شهرتهم بما انتحلوه.

فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب ، وبالله التوفيق.

المسألة الحادية والعشرون :

إن هذا الإشراب المشار إليه هل يختص ببعض البدع دون بعض أم لا يختص؟ وذلك

__________________

(١) نيسابور : مدينة عظيمة فتحها المسلمون أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه ، بينها وبين الرّي حوالى ١٦٠ فرسخا.

(٢) سورة : طه ، الآية : ٥.

٥٢٨

أنه يمكن أن يعض البدع من شأنها أن تشرب قلب صاحبها جدّا ، ومنها ما لا يكون كذلك ، فالبدعة الفلانية مثلا من شأنها أن تتجارى بصاحبها كما يتجارى الكلب بصاحبه والبدعة الفلانية ليست كذلك.

فبدعة : الخوارج مثلا في طرف الإشراب كبدعة المنكرين للقياس في الفروع الملتزمين الظاهر في الطرف الآخر ، ويمكن أن يتجارى ذلك في كل بدعة على العموم فيكون من أهلها من تجارت به كما يتجارى الكلب بصاحبه ، كعمرو بن عبيد ، حسبما تقدم النقل عنه أنه أنكر بسبب القول به سورة (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) (١) وقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (٢) ومنهم من لم يبلغ به الحال إلى هذا النحو كجملة من علماء المسلمين ، كالفارسي والنحوي وابن جني.

والثاني : بدعة الظاهرية فإنها تجارت بقوم حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى : (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٣) قاعد! قاعد! وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه ، ولم يبلغ بقوم آخرين ذلك المقدار ، كداود بن علي في الفروع وأشباهه.

والثالث : بدعة التزام الدعاء بإثر الصلوات دائما على الهيئة الاجتماعية ، فإنها بلغت بأصحابها إلى أن كان الترك لها موجبا للقتل عنده ، فحكى القاضي أبو الخطاب بن خليل حكاية عن أبي عبد الله بن مجاهد العابد : أن رجلا من عظماء الدولة وأهل الوجاهة فيها ـ وكان موصوفا بشدة السطوة وبسط اليد ـ نزل في جوار ابن مجاهد وصلّى في مسجده الذي كان يؤمّ فيه ، وكان لا يدعو في أخريات الصلوات تصميما في ذلك على المذهب (يعني : مذهب مالك) لأنه مكروه في مذهبه. وكان ابن مجاهد محافظا عليه ، فكره ذلك الرجل منه ترك الدعاء ، وأمره أن يدعو فأبى ، وبقي على عادته في تركه في أعقاب الصلوات ، فلما كان في بعض الليالي صلّى ذلك الرجل العتمة في المسجد ، فلما انقضت وخرج ذلك الرجل إلى داره قال لمن حضره من أهل المسجد : قد قلنا لهذا الرجل يدعو إثر الصلوات فأبى ، فإذا كان في غدوة غد أضرب رقبته بهذا السيف وأشار إلى سيف في يده فخافوا على ابن مجاهد من

__________________

(١) سورة : المسد ، الآية : ١.

(٢) سورة : المدثر ، الآية : ١١.

(٣) سورة : طه ، الآية : ٥.

٥٢٩

قوله لما علموا منه ، فرجعت الجماعة بجملتها إلى دار ابن مجاهد ، فخرج إليهم وقال : ما شأنكم؟ فقالوا : والله لقد خفنا من هذا الرجل ، وقد اشتد الآن غضبه عليك في ترك الدعاء ، فقال لهم : لا أخرج عن عادتي ، فأخبروه بالقصة ، فقال لهم ـ وهو متبسم ـ : انصرفوا ولا تخافوا فهو الذي تضرب رقبته في غدوة غد بذلك السيف بحول الله ، ودخل داره ، وانصرفت الجماعة على ذعر من قول ذلك الرجل ، فلما كان مع الصبح وصل إلى دار الرجل قوم من أهل المسجد ومن علم حال البارحة حتى وصلوا إليه إلى دار الإمامة بباب جوهر من أشبيلية ، وهناك أمر بضرب رقبته بسيفه ، فكان ذلك تحقيقا للإجابة وإثباتا للكرامة.

وقد روى بعض الإشبيليين (١) الحكاية بمعنى هذه لكن على نحو آخر.

ولما رد ولد ابن الصقر على الخطيب في خطبته وذلك حين فاه باسم المهدي وعصمته ، أراد المرتضى من ذرية عبد المؤمن ـ وهو إذ ذاك خليفة ـ أن يسجنه على قوله ، فأبى الأشياخ والوزراء من فرقة الموحدين إلا قتله ، فغلبوا على أمره فقتلوه خوفا أن يقول ذلك غيره ، فتختل عليهم القاعدة التي بنوا دينهم عليها.

وقد لا تبلغ البدعة في الإشراب ذلك المقدار فلا يتفق الخلاف فيها بما يؤدي إلى مثل ذلك. فهذه الأمثلة بينت بالواقع مراد الحديث ـ على فرض صحته ـ فإن أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما تكون ابتناء على وفق مخبره من غير تخلف البتة.

ويشهد لهذا التفسير استقراء أحوال الخلق من انقسامها إلى الأعلى والأدنى والأوسط ، كالعلم والجهل ، والشجاعة والجبن ، والعدل والجور ، والجود والبخل ، والغنى والفقر ، والعز والذل ، غير ذلك من الأحوال والأوصاف فإنها تتردد ما بين الطرفين : فعالم في أعلى درجات العلم ، وآخر في أدنى درجاته وجاهل كذلك ، وشجاع كذلك ، إلى سائرها.

فكذلك سقوط البدع بالنفوس ، إلا أن في ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها فائدة أخرى ، وهي التحذير من مقاربتها ومقاربة أصحابها وهي :

__________________

(١) إشبيلية : مدينة كبيرة بالأندلس كان بها بنو عباد وهي قريبة من البحر عليها جبل كثير الشجر وهي على شاطئ نهر كبير.

٥٣٠

المسألة الثانية والعشرون :

وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى ، فإن أصل الكلب واقع بالكلب. ثم إذا عض ذلك الكلب أحدا صار مثله ولم يقدر على الانفصال منه في الغالب إلا بالهلكة ، فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته ، بل إما أن يقع معه في مذهبه ويصير من شيعته ، وإما أن يثبت في قلبه شكّا يطمع في الانفصال عنه فلا يقدر.

هذا بخلاف سائر المعاصي فإن صاحبها لا يضره ولا يدخله فيها غالبا إلا مع طول الصحبة والأنس به ، والاعتياد لحضور معصيته. وقد أتى في الآثار ما يدل على هذا المعنى ، فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم ومكالمتهم وكلام مكالمهم ، وأغلظوا في ذلك ، وقد تقدم منه في الباب الثاني آثار جمة.

ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود قال : من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة الشيطان ومجالسة أصحاب الأهواء فإن مجالستهم ألصق من الجرب.

وعن حميد الأعرج قال : قدم غيلان مكة يجاور بها ، فأتى غيلان مجاهدا فقال : يا أبا الحجاج ، بلغني أنك تنهي الناس عني وتذكرني ، وأنه بلغك عني شيء لا أقوله؟ إنما أقول كذا ، فجاء بشيء لا ينكر ، فلما قام قال مجاهد : لا تجالسوه فإنه قدري ، قال حميد : فإني لما كنت ذات يوم في الطواف لحقني غيلان من خلفي يجذب ردائي ، فالتفتّ فقال : كيف يقول مجاهد خرفا كذا وكذا فأخبرته ، فمشى معي ، فبصر بي مجاهد معه ، فأتيته فجعلت أكلمه فلا يرد عليّ ، وأسأله فلا يجيبني؟. فقال ـ : فغدوت إليه فوجدته على تلك الحال ، فقلت : يا أبا الحجاج! أبلغك عني شيء؟ ما أحدثت حدثا ، ما لي! قال : ألم أرك مع غيلان وقد نهيتكم أن تكلموه أو تجالسوه؟ ـ قال ـ : قلت : يا أبا الحجاج ما أنكرت قولك ، وما بدأته ، وهو بدأني ، قال : والله يا حميد لو لا أنك عندي مصدق ما نظرت لي في وجه منبسط ما عشت ، ولئن عدت لا تنظر لي في وجه منبسط ما عشت.

وعن أيوب قال : كنت يوما عند محمد بن سيرين إذا جاء عمرو بن عبيد فدخل فلما جلس وضع محمد يده في بطنه وقام ، فقلت لعمرو : انطلق بنا ـ قال ـ : فخرجنا فلما مضى عمرو رجعت فقلت : يا أبا بكر؟ قد فطنت إلى ما صنعت ، قال : أقد فطنت؟ قلت : نعم! قال : أما إنه لم يكن ليضمني معه سقف بيت.

٥٣١

وعن بعضهم قال : كنت أمشي مع عمرو بن عبيد فرآني ابن عون فأعرض عني. وقيل : دخل ابن عبيد دار ابن عون فسكت ابن عون لما رآه ، وسكت عمرو عنه فلم يسأله عن شيء ، فمكث هنيهة ثم قال ابن عون : بم استحل أن دخل داري بغير إذني؟ ـ مرارا يرددها ـ أما إنه لو تكلم.

وعن مؤمل بن إسماعيل قال : قال بعض أصحابنا لحماد بن زيد : ما لك لم ترو عن عبد الكريم إلا حديثا واحدا؟ قال : ما أتيته إلا مرة واحدة لمساقه في هذا الحديث ، وما أحب أن أيوب علم بإتياني إليه وأن لي كذا وكذا ، وإني لأظنه لو علم لكانت الفصيلة بيني وبينه.

وعن إبراهيم ، أنه قال لمحمد بن السائب : لا تقربنا ما دمت على رأيك هذا. وكان مرجئا.

وعن حماد بن زيد قال : لقيني سعيد بن جبير فقال : ألم أرك مع طلق؟ قلت : بلى! فما له؟ قال : لا تجالسه فإنه مرجئ.

وعن محمد بن واسع قال : رأيت صفوان بن محرز وقريب منه شيبة ، فرآهما يتجادلان ، فرأيته قائما ينفض ثيابه ويقول : إنما أنتم جرب.

وعن أيوب قال : دخل رجل على ابن سيرين فقال : يا أبا بكر! أقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد أن أقرأها ثم أخرج؟ فوضع إصبعيه في أذنيه ثم قال : أعزم عليك إن كنت مسلما إلا خرجت من بيتي ـ قال ـ فقال : يا أبا بكر! لا أزيد على أن أقرأ (آية) ثم أخرج. فقام لإزاره يشده وتهيأ للقيام فأقبلنا على الرجل ، فقلنا : قد عزم عليك إلّا خرجت ، أفيحل لك أن تخرج رجلا من بيته؟ قال : فخرج ، فقلنا : يا أبا بكر! ما عليك لو قرأ آية ثم خرج؟ قال : إني والله لو طننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ ، ولكن خفت أن يلقى في قلبي شيئا أجهد في إخراجه من قلبي فلا أستطيع.

وعن الأوزاعي قال : لا تكلموا صاحب بدعة من جدل فيورث قلوبكم من فتنته. فهذه آثار تنبهك على ما تقدمت إشارة الحديث إليه إن كان مقصودا والله أعلم.

تأثير كلام صاحب البدعة في القلوب معلوم. وثمّ معنى آخر قد يكون من فوائد تنبيه الحديث بمثال داء الكلب وهي :

٥٣٢

المسألة الثالثة والعشرون :

وهو التنبيه على السبب في بعد صاحب البدعة عن التوبة ، إذ كان مثل المعاصي الواقعة بأعمال العباد قولا أو فعلا أو اعتقادا ، كمثل الأمراض النازلة بجسمه أو روحه ، فأدوية الأمراض البدنية معلومة ، وأدوية الأمراض العملية التوبة والأعمال الصالحة ، وكما أن من الأمراض البدنية ما يمكن فيه التداوي ، ومنه ما لا يمكن فيه التداوي أو يعسر ، كذلك الكلب الذي في أمراض الأعمال ، فمنها ما يمكن فيه التوبة عادة ، ومنها ما لا يمكن.

فالمعاصي كلها ـ غير البدع ـ يمكن فيها التوبة من أعلاها ـ وهي الكبائر ـ إلى أدناها ـ وهي اللمم ـ والبدع أخبرنا فيها إخبارين كلاهما يفيد أن لا توبة منها.

الإخبار الأول : ما تقدم في ذم البدع من أن المبتدع لا توبة له ، من غير تخصيص والآخر : ما نحن في تفسيره ، وهو تشبيه البدع بما لا نجح فيه من الأمراض كالكلب ، فأفاد أن لا نجح من ذنب البدع في الجملة من غير اقتضاء عموم ، بل اقتضى أن عدم التوبة مخصوص بمن تجارى به الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه ، وقد مرّ أن من أولئك من يتجارى به الهوى على ذلك الوجه وتبين الشاهد عليه ، ونشأ من ذلك معنى زائد هو من فوائد الحديث ، وهي :

المسألة الرابعة والعشرين :

وهو أن من تلك الفرق من لا يشرب هوى البدعة ذلك الإشراب ، فإذا يمكن فيه التوبة ، وإذا أمكن في أهل الفرق أمكن فيمن خرج عنهم ، وهم أهل البدع الجزئية.

فإما أن يرجح ما تقدم من الأخبار على هذا الحديث ، لأن هذه الرواية في إسنادها شيء ، وأعلى ما يجري في الحسان ، وفي الأحاديث الأخر ما هو صحيح ، كقوله : «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ثم لا يعودون كما يعود السهم على فوقه» (١) وما أشبه

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٥٢٥ ، الحاشية : ٢.

٥٣٣

وأما أن يجمع بينهما ، فتجعل النقل الأول عمدة في عموم قبول التوبة ، ويكون هذا الإخبار أمرا آخرا زائدا على ذلك ، إذ لا يتنافيان ، بسبب أن من شأن البدع مصاحبة الهوى ، وغلبة الهوى للإنسان في الشيء المفعول أو المتروك له أبدا أثر فيه.

والبدع كلها تصاحب الهوى ، ولذلك سمي أصحابها أهل الأهواء ، فوقعت التسمية بها ، وهو الغالب عليهم ، إذ العمل المبتدع إنما نشأ عن الهوى مع شبهة دليل ، لا عن الدليل بالعرض فصار هوى يصاحبه دليل شرعي في الظاهر ، فكان أجرى في البدع من القلب موقع السويداء فأشرب حبّه ، ثم إنه يتفاوت ، إذ ليس في رتبة واحدة ولكنه تشريع كله ، واستحق صاحبه أن لا توبة له ، عافانا الله من النار بفضله ومنّه.

وإما أن يعمل هذا الحديث مع الأحاديث الأول ـ على فرض العمل به ـ ونقول : إن ما تقدم من الأخبار عامة ، وهذا يفيد الخصوص كما تفيده ، أو يفيد معنى يفهم منهم الخصوص ، وهو الإشراب في أعلى المراتب مسوقا مساق التبغيض ، قوله : «وإنه سيخرج في أمتي أقوام» (١) إلى آخره ، فدل أن ثمّ أقواما أخر لا تتجارى بهم تلك الأهواء على ما قال ، بل هي أدنى من ذلك ، وقد لا تتجارى بهم ذلك.

وهذا التفسير بحسب ما أعطاه الموضع ، وتمام المسألة قد مرّ في الباب الثاني والحمد لله ، لكن على وجه لا يكون في الأحاديث كلها تخصيص ، وبالله التوفيق.

المسألة الخامسة والعشرون :

إنه جاء في بعض روايات الحديث : «أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمر برأيهم ، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال» (٢) فجعل أعظم تلك الفرق فتنة على الأمة أهل القياس ، ولا كل قياس ، بل القياس على غير أصل ، فإن أهل القياس متفقون على أنه على غير أصل لا يصح ، وإنما يكون على أصل من كتاب أو سنّة صحيحة أو إجماع معتبر ، فإذا لم يكن للقياس

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٥٧ ، الحاشية : ١.

(٢) عزاه في مجمع الزوائد (١ / ١٧٩) إلى البزار والطبراني في الكبير.

٥٣٤

أصل ـ وهو القياس الفاسد ـ فهو الذي لا يصح أن يوضع في الدين ، فإنه يؤدي إلى مخالفة الشرع ، وأن يصير الحلال بالشرع حراما بذلك القياس ، والحرام حلالا ، فإن الرأي من حيث هو رأي لا ينضبط إلى قانون شرعي إذا لم يكن له أصل شرعي فإن العقول تستحسن ما لا يستحسن شرعا ، وتستقبح ما لا يستقبح شرعا ، وإذا كان كذلك صار القياس على غير أصل فتنة على الناس.

ثم أخبر في الحديث أن المعلمين لهذا القياس أضر على الناس من سائر أهل الفرق ، وأشد فتنة ، وبيانه أن مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردها واستفاضت ، وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصة والعامة ، بخلاف الفتيا ، فإن أدلتها من الكتاب والسنّة لا يعرفها إلا الأفراد ، ولا يميز ضعيفها من قويها إلا الخاصة ، وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممن يخالفها كثير.

وقد جاء مثل معناه محفوظا من حديث ابن مسعود أنه قال : «ليس عام إلا والذي بعده شر منه لا أقول : عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن : ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام ويثلم».

وهذا الذي في حديث ابن مسعود موجود في الحديث الصحيح ، حيث قال عليه الصلاة والسلام : «ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون برأيهم ، فيضلون ويضلون» (١).

وقد تقدم في ذم الرأي آثار مشهورة عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين تبين فيها أن الأخذ بالرأي يحل الحرام ويحرم الحلال.

ومعلوم أن هذه الآثار الذامّة للرأي لا يمكن أن يكون المقصود بها ذم الاجتهاد على

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٧٠ ، الحاشية : ١.

٥٣٥

الأصول في نازلة لم توجد في كتاب ولا سنّة ولا إجماع ، ممن يعرف الأشباه والنظائر ، ويفهم معاني الأحكام فيقيس قياس تشبيه وتعليل ، قياسا لم يعارضه ما هو أولى منه ، فإن هذا ليس فيه تحليل وتحريم ولا العكس ، وإنما القياس الهادم للإسلام ما عارض الكتاب والسنّة ، أو ما عليه سلف الأمة ، أو معانيها المعتبرة.

ثم إن مخالفة هذه الأصول على قسمين :

أحدهما : أن يخالف أصلا مخالفة ظاهرة من غير استمساك بأصل آخر ، فهذا لا يقع من مفت مشهور إلا إذا كان الأصل لم يبلغه ، كما وقع لكثير من الأئمة حيث لم يبلغهم بعض السنن فخالفوها خطأ ، وأما الأصول المشهورة فلا يخالفها مسلم خلافا ظاهرا من غير معارضة بأصل آخر ، فضلا عن أن يخالفها بعض المشهورين بالفتيا.

والثاني : أن يخالف الأصل بنوع من التأويل هو فيه مخطئ ، بأن يضع الاسم على غير مواضعه أو على بعض مواضعه ، أو يراعي فيه مجرد اللفظ دون اعتبار المقصود ، أو غير ذلك من أنواع التأويل.

والدليل على أن هذا هو المراد بالحديث وما في معناه أن تحليل الشيء إذا كان مشهورا فحرمة بغير تأويل ، أو التحريم مشهورا فحلله بغير تأويل كان كفرا وعنادا ، ومثل هذا لا تتخذه الأمة رأسا قط ، إلا أن تكون الأمة قد كفرت ، والأمة لا تكفر أبدا.

وإذا بعث الله ريحا تقبض أرواح المؤمنين لم يبق حينئذ من يسأل عن حرام أو حلال.

وإذا كان التحليل أو التحريم غير مشهور فخالفه مخالف لم يبلغه دليله ، فمثل هذا لم يزل موجودا من لدن زمان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذا إنما يكون في آحاد المسائل ، فلا تضل الأمة ولا ينهدم الإسلام ولا يقال لهذا : إنه محدث عن قبض العلماء.

فظهر أن المراد إنما هو استحلال المحرمات الظاهرة أو المعلومة عنده بنوع تأويل ، وهذا بيّن في المبتدعة الذين تركوا معظم الكتاب والذي تضافرت عليه أدلته ، وتواطأت على معناه شواهده ، وأخذوا في اتباع بعض المتشابهات وترك أم الكتاب.

فإذا هذا ـ كما قال الله تعالى ـ زيغ وميل عن الصراط المستقيم ؛ فإن تقدموا أئمة يفتون

٥٣٦

ويقتدى بهم بأقوالهم وأعمالهم سكنت إليهم الدهماء (١) ظنا أنهم بالغوا لهم في الاحتياط على الدين ، وهم يضلونهم بغير علم ، ولا شيء أعظم على الإنسان من داهية تقع به من حيث لا يحتسب ، فإنه لو علم طريقها لتوقّاها ما استطاع ، فإذا جاءته على غرّة فهي أدهى وأعظم على من وقعت به ، وهو ظاهر ، فكذلك البدعة إذا جاءت العامي من طريق الفتيا ، لأنه يستند في دينه إلى من ظهر في رتبة أهل العلم ، فيضل من حيث يطلب الهداية : اللهم اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم.

المسألة السادسة والعشرون :

إن هاهنا نظرا لفظيّا في الحديث هو من تمام الكلام فيه ، وذلك أنه لما أخبر عليه الصلاة والسلام إن جميع الفرق في النار إلا فرقة واحدة ، وهي الجماعة المفسرة في الحديث الآخر ، فجاء في الرواية الأخرى السؤال عنها ـ سؤال التعيين ـ فقالوا : من هي يا رسول الله؟ فأصل الجواب أن يقال : أنا وأصحابي ، ومن عمل مثل عملنا. أو ما أشبه ذلك مما يعطي تعيين الفرقة ، إما بالإشارة إليها أو بوصف من أوصافها ، إلا أن ذلك لم يقع ، وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف ، فلذلك أتى بما أتى ، فظاهرها الوقوع على غير العاقل من الأوصاف وغيرها ، والمراد هنا الأوصاف التي هو عليها صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، فلم يطابق السؤال الجواب في اللفظ ، والعذر عن هذا أن العرب لا تلتزم ذلك النوع إذا فهم المعنى ، لأنهم لما سألوا عن تعيين الفرقة الناجية بيّن لهم الوصف الذي به صارت ناجية ، فقال : «ما أنا عليه وأصحابي» (٢).

ومما جاء غير مطابق في الظاهر وهو في المعنى مطالب قول الله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) فإن هذا الكلام معناه : هل أخبركم بما هو أفضل من متاع الدنيا؟ فكأنه قيل : نعم! أخبرنا ، فقال الله تعالى : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (٣) الآية ، أي : للذين اتقوا استقر لهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، فأعطى مضمون الكلام معنى الجواب على غير لفظه ، وهذا التقرير على قول جماعة من المفسرين.

__________________

(١) الدهماء : عامة الناس.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٣٤٩ ، الحاشية : ١.

(٣) سورة : آل عمران ، الآية : ١٥.

٥٣٧

وقال تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ) (١) الآية فقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) يقتضي المثل لا المثل ، كما قال تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) (٢) ولأنه كلما كان المقصود الممثّل جاء به بعينه.

ويمكن أن يقال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ذكر الفرق وذكر أن فيها فرقة ناجية ، كان الأولى السؤال عن أعمال الفرقة الناجية ، لا عن نفس الفرقة. لأن التعريف فيها من حيث هي لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التي نجت بها ، فالمقدم في الاعتبار هو العمل لا العامل ، فلو سألوا : ما وصفها؟ أو ما عملها؟ أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة في اللفظ والمعنى ، فلما فهم عليه الصلاة والسلام منهم ما قصدوا أجابهم على ذلك.

ونقول : لما تركوا السؤال عما كان الأولى في حقهم ، أتى به جوابا عن سؤالهم ، حرصا منه عليه الصلاة والسلام على تعليمهم ما ينبغي لهم تعلمه والسؤال عنه.

ويمكن أن يقال : إن ما سألوا عنه لا يتعين ، إذ لا تختص النجاة بمن تقدم دون من تأخر ، إذ كانوا قد اتصفوا بوصف التأخير.

ومن شأن هذا السؤال التعيين وعدم انحصارهم بزمان أو مكان لا يقتضي التعيين ، وانصرف القصد إلى تعيين الوصف الضابط للجميع ، وهو ما كان عليه هو وأصحابه.

وهذا الجواب : بالنسبة إلينا كالمبهم ، وهو بالنسبة إلى السائل معين ، لأن أعمالهم كانت للحاضرين معهم رأي عين ، فلم يحتج إلى أكثر من ذلك ، لأنه غاية التعيين اللائق بمن حضر ، فأما غيرهم ممن لم يشاهد أحوالهم ولم ينظر أعمالهم فليس مثلهم ، ولا يخرج الجواب بذلك عن التعيين المقصود ، والله أعلم. انتهى.

__________________

(١) سورة : محمد ، الآية : ١٥.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٧.

٥٣٨

١٠ ـ باب : في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت

عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان

قد تقدم قبل هذا أن كل فرقة وكل طائفة تدعي أنها على الصراط المستقيم وأن ما سواها منحرف عن الجادة وراكب بنيّات الطريق ، فوقع بينهم الاختلاف إذا في تعيينه وبيانه ، حتى أشكلت المسألة على كل من نظر فيها ، حتى قال من قال : كل مجتهد في العقليات أو النقليات مصيب ، فعدد الأقوال في تعيين هذا المطلب على عدد الفرق ، وذلك من أعظم الاختلاف ، إذ لا تكاد تجد في الشريعة مسألة يختلف العلماء فيها على بضع وسبعين قولا إلا هذه المسألة فتحرير النظر حتى تتضح الفرقة الناجية التي كان عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من أغمض المسائل.

ووجه ثان : إن الطريق المستقيم لو تعين بالنسبة إلى من بعد الصحابة لم يقع اختلاف أصلا ، لأن الاختلاف مع تعيين محله محال ، والفرض أن الخلاف ليس بقصد العناد ، لأنه على ذلك الوجه مخرج عن الإسلام ، وكلامنا في الفرق.

ووجه ثالث : إنه قد تقدم أن البدع لا تقع من راسخ في العلم ، وإنما تقع ممن لم يبلغ مبلغ أهل الشريعة المتصرفين في أدلتها ، والشهادة بأن فلانا راسخ في العلم وفلانا غير راسخ ، في غاية الصعوبة ، فإن كل من خالف وانحاز إلى فرقة يزعم أنه الراسخ ، وغير قاصر النظر ، فإن فرض على ذلك المطلب علامة وقع النزاع إما في العلامة ، وإما في مناطها.

ومثال ذلك : إن علامة الخروج من الجماعة الفرقة المنبه عليها بقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) (١) والفرقة ـ بشهادة الجميع ـ إضافية فكل

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٥.

٥٣٩

طائفة تزعم أنها هي الجماعة ومن سواها مفارق للجماعة.

ومن العلامات : اتباع ما تشابه من الأدلة ، وكل طائفة ترمي صاحبتها بذلك وأنها هي التي اتبعت أم الكتاب دون الأخرى فتجعل دليلها عمدة وترد إليه سائر المواضع بالتأويل على عكس الأخرى.

ومنها اتباع الهوى الذي ترمي به كل فرقة صاحبتها وتبرئ نفسها منه : فلا يمكن في الظاهر مع هذا أن يتفقوا على مناط هذه العلامات ، وإذا لم يتفقوا عليها لم يمكن ضبطهم بها بحيث يشير إليهم بتلك العلامات ، وأنهم في التحصيل متفقون عليها ، وبذلك صارت علامات : فكيف يمكن مع اختلافهم في المناط الضبط بالعلامات.

ووجه رابع : وهو ما تقدم من فهمنا من مقاصد الشرع في الستر على هذه الأمة وإن حصل التعيين بالاجتهاد ، فالاجتهاد لا يقتضي الاتفاق على محله.

ألا ترى أن العلماء جزموا القول بأن النظرين لا يمكن الاتفاق عليهما عادة؟ فلو تعينوا بالنص لم يبق إشكال ، بل أمر الخوارج على ما كانوا عليه ، وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عينهم وعين علامتهم في المخدج حيث قال : «آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ، ومثل البضعة تدردر (١)» (٢) الحديث ، وهم الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، إذ لم يرجعوا عما كانوا عليه ولم ينتهوا ، فما الظن بمن ليس له في النقل تعيين؟

ووجه خامس : وهو ما تقدم تقريره في قوله سبحانه وتعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (٣) الآية ، يشعر في هذا المطلوب إن الخلاف لا يرتفع ، مع ما يعضده من الحديث الذي فرغنا من بيانه ، وهو حديث الفرق ، إذ الآية لا تشعر بخصوص مواضع الخلاف ، لإمكان أن يبقى الخلاف في

__________________

(١) تدردر : التدردر : التحرك والترجرج.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٣٧٨ ، الحاشية : ١.

(٣) سورة هود ، الآيتان : ١١٨ ـ ١١٩.

٥٤٠