الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

والآخر مشكوك فيه؟ فيتبع المشكوك في صحته ، ويترك ما لا مرية في صحته ، ولو لعا من يتبعه.

ثم إطلاقه بأن الترك لا يوجب حكما في المتروك إلا جواز الترك ، غير جار على أصول الشرع الثابتة ، فنقول إن هنا أصلا لهذه المسألة لعل الله ينفع به من أنصف في نفسه ، وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم في مسألة أو تركه لأمر ما على ضربين :

أحدهما : أن يسكت عنه أو يتركه لأنه لا داعية له تقتضيه ، ولا موجب يقرر لأجله ، ولا وقع سبب تقريره ، كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها ، وإنما حدثت بعد ذلك ، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين ، وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح مما لم يسنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الخصوص مما هو معقول المعنى ، كتضمين الصناع ، ومسألة الحرام والجد مع الإخوة ، وعول الفرائض ، ومنه جمع المصحف ثم تدوين الشرائع ، وما أشبه ذلك مما لم يحتج في زمانه عليه‌السلام إلى تقريره للتقديم كلياته التي تستنبط بها منها ، وإذا لم تقع أسباب الحكم فيها ولا الفتوى بها منه عليه الصلاة والسلام ، فلم يذكر لها حكم مخصوص.

فهذا الضرب إذا حدثت أسبابه فلا بد من النظر فيه وإجرائه على أصوله إن كان من العاديات ، أو من العبادات التي لا يمكن الاقتصار فيها على ما سمع ، كمسائل السهو والنسيان في إجراء العبادات ، ولا إشكال في هذا الضرب ، لأن أصول الشرع عتيدة وأسباب تلك الأحكام لم تكن في زمان الوحي ، فالسكوت عنها على الخصوص ليس بحكم يقتضي جواز الترك أو غير ذلك ، بل إذا عرضت النوازل روجع بها أصولها فوجدت فيها ولا يجدها من ليس بمجتهد ، وإنما يجدها المجتهدون الموصوفون في علم أصول الفقه.

والضرب الثاني : أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمرا ما من الأمور ، وموجبه المقتضى له قائم ، وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت إلا أنه لم يحدد فيه أمر زائد على ما كان من الحكم العام في أمثاله ولا ينقص منه ، لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العقلي الخاص موجودا ، ثم لم يشرع ولا نبه على السبطا كان صريحا في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة زائدة ومخالفة لقصد الشارع ، إذ فهم من

٣٠١

قصده الوقوف عند ما حدّ هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه.

ولذلك مثال فيما نقل عن مالك بن أنس في سماع أشهب وابن نافع هو غاية فيما نحن فيه ، وذلك أن مذهبه في سجود الشكر الكراهية وأنه ليس بمشروع ، وعليه بني كلامه. قال في العتبية : وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عزوجل شكرا؟ فقال لا يفعل هذا مما مضى من أمر الناس ، قيل له : إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ـ فيما يذكرونه ـ سجد يوم اليمامة شكرا لله ، أفسمعت ذلك قال : ما سمعت ذلك وأنا أرى أنهم قد كذبوا على أبي بكر ، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول : هذا لم تسمعه مني ، قد فتح الله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المسلمين بعده ، أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا؟ إذ ما قد كان في الناس وجرى على أيديهم سمع عنهم فيه شيء ، فعليك بذلك فإنه لو كان لذكر ، لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم ، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد؟ فهذا إجماع ، وإذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه ـ تمام الرواية ـ وقد احتوت على فرض سؤال والجواب بما تقدم.

وتقرير السؤال : أن يقال في البدعة ـ مثلا ـ إنها فعلت سكت الشارع عن حكمه في الفعل والترك ، فلم يحكم عليه بحكم على الخصوص ، فالأصل جواز فعله ، كما أن الأصل جواز تركه ، إذ هو معنى الجائز. فإن كان له أصل جملي فأحرى أن يجوز فعله حتى يقوم الدليل على منعه أو كراهته ، وإذا كان كذلك ، فليس هنا مخالفة لقصد الشارع ، ولا ثمّ دليل خالفه هذا النطر ، بل حقيقة ما نحن فيه أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع ، والسكوت عند الشارع لا يقتضي مخالفة ولا موافقة ، ولا يعين الشارع قصدا ما دون ضده وخلافه ، وإذا ثبت هذا فالعمل به ليس بمخالف إذ لم يثبت في الشريعة نهي عنه.

وتقرير الجواب : معنى ما ذكره مالك رحمه‌الله ، وهو أن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضى له إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان ، إذ لو كان ذلك لائقا شرعا أو سائغا لفعلوه ، فهم كانوا أحق بإدراكه والسبق إلى العمل به وذلك إذا نظرنا إلى المصلحة فإنه لا يخلو إما أن يكون في هذه الأحداث مصلحة أو لا ، والثاني لا يقول به أحد ، والأول إما أن تكون تلك المصلحة الحادثة آكد من المصلحة الموجودة في زمان التكليف أو لا ، ولا يمكن أن يكون مع كون المحدثة زيادة تكليف ، ونقصه عن المكلف أحرى بالأزمنة المتأخرة لما يعلم من قصور الهمم واستيلاء الكسل ، ولأنه خلاف

٣٠٢

بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحنفية السمحة ، ورفع الحرج عن الأمة وذلك في تكليف العبادات ، لأن العادات أمر آخر ـ كما سيأتي ـ وقد مرّ شيء منه فلم يبق إلا أن تكون المصلحة الظاهرة الآن مساوية للمصلحة الموجودة في زمان التشريع أو أضعف منها ، وعند ذلك تصير الأحداث عبثا أو استدراكا على الشارع ، لأن تلك المصلحة الموجودة في زمان التشريع إن حصلت للأولين من غير هذا الإحداث فهي إذا عبث إذ لا يصح أن يحصل للأولين دون الآخرين ، فقد صارت هذه الزيادة تشريعا بعد الشارع إلّا بسبب الآخرين ما فات الأولين فلم يكمل الدين إذا دونها ، ومعاذ الله من هذا المأخذ.

وقد ظهر من العادات الجارية فيما نحن فيه أن ترك الأولين لأمر ما من غير أن يعينوا فيه وجها مع احتماله في الأدلة الجملية ووجود المظنة ، دليل على أن ذلك الأمر لا يعمل به ، وأنه إجماع منهم على تركه.

قال ابن رشد في شرح مسألة العتبية : الوجه في ذلك أنه لم يرد؟ مما شرع في الدين ـ يعني : سجود الشكر ـ فرضا ولا نفلا ، إذ لم يأمر بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا فعله ، ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله ، والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الأمور ، قال : واستدلاله على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده ، بأن ذلك لو كان لنقل صحيح ، إذ لا يصح أن تتوفر الدواعي على ترك نقل شريعة من شرائع الدين ، وقد أمر بالتبليغ ، قال : وهذا أصل من الأصول وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجود الزكاة فيها ، لعموم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر» (١) ، لأنا نزلنا ترك نقل أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها ، فكذلك نزّل ترك نقل السجود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشكر كالسنّة القائمة في أن لا سجود فيها ، ثم حكي خلاف الشافعي والكلام عليه ، والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة ، لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق.

وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل ، وأنه بدعة منكرة فمن حيث وجد في زمانه عليه‌السلام المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل

__________________

(١) أخرجه النسائي في كتاب : الزكاة ، باب : في الصدقة فيما يسقى بالأنهار وغيره (الحديث : ٦٣٩).

٣٠٣

ليتراجعا كما كان أول مرة ، وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها ، وهو أصل صحيح إذا اعتبر وضح به ما نحن بصدده لأن التزام الدعاء بآثار الصلوات جهرا للحاضرين في مساجد الجماعات لو كان صحيحا شرعا أو جائزا لكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بذلك أن يفعله.

وقد علل المنكر هذا الموضع بعلل تقتضي المشروعية ، وبنى على فرض أنه لم يأت ما يخالفه وأن الأصل الجواز في كل مسكوت عنه.

أما أن الأصل الجواز فيمتنع ، لأن طائفة من العلماء يذهبون إلى أن الأشياء قبل وجود الشرع على المنع دون الإباحة ، فما الدليل على ما قال من الجواز؟ وإن سلمنا له ما قال : فهل هو على الإطلاق أو لا؟ أما في العاديات فمسلم ، ولا نسلم أن ما نحن فيه من العاديات بل من العبادات ، ولا يصح أن يقال فيما فيه تعبد : إنه مختلف فيه على قولين هل هو على المنع؟ أم هو على الإباحة؟ بل هو أمر زائد على المنع ، لأن التعبديات إنما وضعها للشارع فلا يقال في صلاة سادسة ـ مثلا ـ إنها على الإباحة ، فللمكلف وضعها ـ على أحد القولين ليتعبد بها لله ، لأنه باطل بإطلاق ، وهو أصل كل مبتدع يريد أن يستدرك على الشارع ، ولو سلم أنه من قبيل العاديات أو من قبيل ما يعقل معناه ؛ فلا يصح العمل به أيضا لأن ترك العمل به من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع عمره ، وترك السلف الصالح له على توالي أزمنتهم قد تقدم أنه نص في الترك وإجماع من كل من ترك ، لأن عمل الإجماع كنصه ، كما أشار إليه مالك في كلامه.

وأيضا فيما يعلل له لا يصح التعليل به ، وقد أتى الرادّ بأوجه منه :

أحدها : أن الدعاء بتلك الهيئة ليظهر وجه التشريع في الدعاء ، وأنه بآثار الصلوات مطلوب ، وما قاله يقتضي أن يكون سنة بسبب الدوام والإظهار في الجماعات والمساجد وليس بسنّة اتفاقا منا ومنه ، فانقلب إذا وجه التشريع.

وأيضا فإن إظهار التشريع كان في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى ، فكانت تلك الكيفية المتكلّم فيها أولى للإظهار ، ولما لم يفعله عليه الصلاة والسلام دل على الترك مع وجود المعنى المقتضي ، فلا يمكن بعد زمانه في تلك الكيفية إلا الترك.

والثاني : أن الإمام يجمعهم على الدعاء ليكون باجتماعهم أقرب إلى الإجابة ، وهذه العلة كانت في زمانه عليه الصلاة والسلام ، لأنه لا يكون أحد أسرع إجابة لدعائه منه ، إذا كان

٣٠٤

مجاب الدعوة بلا إشكال ، بخلاف غيره ، وإن عظم قدره في الدين فلا يبلغ رتبته ، فهو كان أحق بأن يزيدهم الدعاء لهم خمس مرات في اليوم والليلة زيادة إلى دعائهم لأنفسهم.

وأيضا فإن قصد الاجتماع على الدعاء لا يكون بعد زمانه أبلغ في البركة من اجتماع يكون فيه سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فكانوا بالتنبيه لهذه المنقبة أولى.

والثالث : قصد التعليم للدعاء ليأخذوا من دعائه ما يدعون به لأنفسهم لئلا يدعوا بما لا يجوز عقلا أو شرعا ، وهذا التعليل لا ينهض فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان المعلم الأول ، ومنه تلقينا ألفاظ الأدعية ومعانيها ، وقد كان من العرب من يجهل قدر الربوبية فيقول :

رب العباد ما لنا وما لك

أنزل علينا الغيث لا أبالك

وقال الآخر :

لا همّ إن كنت الذي بعهدي

ولم تغيرك الأمور بعدي

وقال الآخر :

أبنيّ ليتي لا أحبكم

وجد الإله بكم كما أجد

وهي ألفاظ يفتقر أصحابها إلى التعليم ، وكانوا أقرب عهد بجاهلية تعامل الأصنام معاملة الرب الواحد سبحانه ، ولا تنزهه كما يليق بجلاله ، فلم يشرع لهم دعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات دائما ليعلمهم أو يعينهم على التعلم إذ صلوا معه ، بل علم في مجالس التعليم ، ودعا لنفسه إثر الصلاة حين بدا له ذلك ، ولم يلتفت إذ ذاك إلى النظر للجماعة ، وهو كان أولى الخلق بذلك.

والرابع : أن في الاجتماع على الدعاء تعاونا على البر والتقوى ، وهو مأمور به ، وهذا الاجتماع ضعيف ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي أنزل عليه : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) (١) وكذلك فعل ، ولو كان الاجتماع لدعاء إثر الصلاة جهرا للحاضرين من باب البرّ والتقوى لكان أول سابق إليه ، لكنه لم يفعله أصلا ولا أحد بعده حتى حدث ما حدث ، فدلّ على أنه ليس على ذلك الوجه بر ولا تقوى.

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٢.

٣٠٥

والخامس : إن عامة الناس لا علم لهم باللسان العربي ، فربما لحن فيكون اللحن سبب عدم الإجابة ، وحكي عن الأصمعي في ذلك حكاية شعرية لا فقهية ، وهذا الاجتماع إلى اللعب أقرب منه إلى الجد ، وأقرب ما فيه أن أحدا من العلماء لا يشترط في الدعاء أن لا يلحن كما يشترط الإخلاص وصدق التوجيه وعزم المسألة ، وغير ذلك من الشروط ، وتعلم اللسان العربي لإصلاح الألفاظ في الدعاء ، وإن كان الإمام أعرف به هو كسائر ما يحتاج إليه الإنسان من أمر دينه ، فإن كان الدعاء مستحبّا فالقراءة واجبة ، والفقه في الصلاة كذلك ، فإن كان تعليم الدعاء إثر الصلاة مطلوبا ، فتعليم فقه الصلاة آكد ، فكان من حقه أن يجعل ذلك من وظائف آثار الصلاة.

فإن قيل بموجبه في المحرف المتعارف ، فهذه القاعدة تجتث أصله ، لأن السلف الصالح كانوا أحق بالسبق إلى فضله لجميع ما ذكر فيه من الفوائد ، ولذلك قال مالك فيها : أترى الناس اليوم كانوا أرغب في الخير ممن مضى؟ وهو إشارة إلى الأصل المذكور ، وهو أن المعنى المتقضى للإحداث ـ وهو الرغبة في الخير ـ كان أتم في السلف الصالح وهو لم يفعلوه ، فدل على أنه لا يفعل.

وأما ما ذكر من آداب الدعاء فكله لا يتعين له إثر الصلاة. بدليل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم منها جملة كافية ولم يعلم منها شيئا إثر الصلاة ، ولا تركهم دون تعليم ليأخذوا ذلك منه في آخر الصلاة ، أو ليستغنوا بدعائه عن تعليم ذلك ، ومع أن الحاضرين للدعاء لا يحصل لهم في الإمام في ذلك كبير شيء ، وإن حصل فلمن كان قريبا منه دون من بعد.

فصل

ثم استدل المستنصر بالقياس فقال : وإن صح أن السلف لم يعملوا به فقد عمل السلف بما لم يعمل به من قبلهم مما هو خير ـ ثم قال بعد ـ قد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : «تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور» فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما أحدثوا من الفتور.

وهذا الاستدلال غير جار على الأصول :

٣٠٦

أما أولا : فإنه في مقابلة النص ، وهو ما أشار إليه مالك في مسألة العتبية ، فذلك من باب فساد الاعتبار.

وأما ثانيا : فإنه قياس على نص لم يثبت بعد من طريق مرضيّ ، وهذا ليس كذلك.

وأما ثالثا : فإن كلام عمر بن عبد العزيز فرع اجتهادي جاء عن رجل مجتهد يمكن أن يخطئ فيه كما يمكن أن يصيب ، وإنما حقيقة الأصل أن يأتي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عن أهل الإجماع ، وهذا ليس عن واحد منهما.

وأما رابعا : فإنه قياس بغير معنى جامع أو بمعنى جامع غير طردي ، ولكن الكلام فيه سيأتي ـ إن شاء الله ـ في الفرق بين المصالح المرسلة والبدع.

وقوله : إن السلف عملوا بما لم يعمل به من قبلهم حاش لله أن يكونوا ممن يدخل تحت هذه الترجمة.

وقوله : مما هو خير أما بالنسبة إلى السلف فما عملوا خير ، وأما فرعه المقيس فكونه خيرا دعوى ، لأن كون الشيء خيرا أو شرّا لا يثبت إلا بالشرع ، أو لأن الدعاء على تلك الهيئة خير شرعا.

وأما قياسه على قوله : تحدث للناس أقضية فمما تقدم يعلم بطلانه وفيه أمر آخر ، وهو التصريح بأن إحداث العبادات جائز قياسا على قول عمر ، وإنما كلام عمر بعد تسليم القياس عليه في معنى عادي يختلف فيه مناط الحكم الثابت فيما تقدم ، كتضمين الصناع ، أو الظنة في توجيه الأيمان ، دون مجرد الدعاوى ، فيقول :

إن الأولين توجهت عليهم بعض الأحكام لصحة الأمانة والديانة والفضيلة ، فلما حدثت أضدادها اختلف المناط فوجب اختلاف الحكم ، وهو حكم رادع أهل الباطل عن باطلهم ، فأثر هذا المعنى ظاهر مناسب بخلاف ما نحن فيه ، فإنه على الضد من ذلك ، ألا ترى أن الناس إذا وقع فيهم الفتور عن الفرائض فضلا عن النوافل ـ وهي ما هي من القلة والسهولة ـ فما ظنك بهم إذا زيد عليهم أشياء أخرى يرغبون فيها ، ويحضون على استعمالها ، فلا شك أن الوظائف تتكاثر حتى يؤدي إلى أعظم من الكسل الأول ، وإلى ترك

٣٠٧

الجميع ، فإن حدث للعامل بالبدعة هو في بدعته ، أو لمن شايعه فيها ، فلا بد من كسله مما هو أولى.

فنحن نعلم أن ساهر ليلة النصف من شعبان لتلك الصلاة المحدثة لا يأتيه الصبح إلا وهو نائم أو في غاية الكسل فيخل بصلاة الصبح ، وكذلك سائر المحدثات فصارت هذه الزيادة عائدة على ما هو أولى عنها بالإبطال أو الإخلال ، وقد مرّ أن ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنّة ما هو خير منها.

وأيضا : فإن هذا القياس مخالف لأصل شرعي ، وهو طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السهولة والرفق والتيسير وعدم التشديد ، وزيادة وظيفة لم تشرع فتظهر ويعمل بها دائما في مواطن السنن ، فهو تشديد بلا شك ، وإن سلمنا ما قال : فقد وجد كل مبتدع من العامة السبيل إلى إحداث البدع ، وأخذ هذا الكلام بيده حجة وبرهانا على صحة ما يحدثه كائنا ما كان ، وهو مرمى بعيد.

ثم استدل على جواز الدعاء إثر الصلاة في الجملة ، ونقل في ذلك عن مالك وغيره أنواعا من الكلام ، وليس هذا محل النزاع بل جعل الأدلة شاملة لتلك الكيفية المذكورة ، وعقب ذلك بقوله : وقد تظاهرت الأحاديث والآثار وعمل الناس وكلام العلماء على هذا المعنى ، كما قد ظهر ـ قال ـ ومن المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان الإمام في الصلوات ، وأنه لم يكن ليخص نفسه بتلك الدعوات ، إذ قد جاء من سنته : «لا يحل لرجل أن يؤم قوما إلا بإذنهم ، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم ؛ فإن فعل فقد خانهم» (١) فتأملوا يا أولي الألباب! فإن عامة النصوص فيما سمع من أدعيته في أدبار الصلوات إنما كان دعاء لنفسه ، وهذا الكلام يقول فيه : إنه لم يكن ليخص نفسه بالدعاء دون الجماعة ، وهذا تناقض ، ومن الله نسأل التوفيق.

وإنما حمل الناس الحديث على دعاء الإمام في نفس الصلاة من السجود وغيره ، لا

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب : الطهارة ، باب : أيصلي الرجل وهو حاقن (الحديث : ٩١). ولفظه : «لا يحل أن يؤم قوما إلا بإذنهم ، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم ، فإن فعل فقد خانهم».

٣٠٨

فيما حمله عليه هذا المتأول ، ولما لم يصح العمل بذلك الحديث عند مالك أجاز للإمام أن يخص نفسه بالدعاء دون المأمومين ، ذكره في النوادر ، ولما اعترضه كلام العلماء وكلام السلف مما تقدم ذكره ، أخذ يتأول ويوجه كلامهم على طريقته المرتبكة ووقع له في كلام على غير تأمل لا يسلم ظاهره من التناقض والتدافع لوضوح أمره ، وكذلك في تأويل الأحاديث التي نقلها ، لكن تركت هنا استيفاء الكلام عليها لطوله ، وقد ذكرته في غير هذا الموضع ، والحمد لله على ذلك.

فصل

ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة فينهى عنه؟ أم غير بدعة فيعمل به؟ فإنا إذا اعتبرناه بالأحكام الشرعية وجدناه من المشتبهات التي قد ندبنا إلى تركها حذرا من الوقوع في المحظور ، والمحظور هنا هو العمل بالبدعة ، فإذا العامل به لا يقطع أنه عمل ببدعة ، كما أنه لا يقطع أنه عمل بسنّة ، فصار من جهة هذا التردد غير عامل ببدعة حقيقية ، ولا يقال أيضا : إنه خارج عن العمل بها جملة.

وبيان ذلك أن النهي الوارد في المشتبهات إنما هو حماية أن يقع في ذلك الممنوع الواقع فيه الاشتباه ، فإذا اختلطت الميتة بالذكية نهيناه عن الإقدام ، فإن أقدم أمكن عندنا أن يكون آكلا للميتة في الاشتباه ؛ فالنهي الأخف إذا منصرف نحو الميتة في الاشتباه ، كما انصرف إليها النهي الأشد في التحقق.

وكذلك اختلاط الرضيعة بالأجنبية : النهي في الاشتباه منصرف إلى الرضيعة كما انصرف إليها في التحقق ، وكذلك سائر المشتبهات إنما ينصرف نهي الإقدام على المشتبه إلى خصوص الممنوع المشتبه ، فإذا الفعل الدائر بين كونه سنّة أو بدعة إذا نهي عنه في باب الاشتباه نهي عن البدعة في الجملة ؛ فمن أقدم على منهي عنه في باب البدعة لأنه محتمل أن يكون بدعة في نفس الأمر ، فصار من هذا الوجه كالعامل بالبدعة المنهي عنها ، وقد مرّ أن البدعة الإضافية هي الواقعة ذات وجهين ، فلذلك قيل : إن هذا القسم من قبيل البدع الإضافية ، ولهذا النوع أمثلة :

أحدها : إذا تعارضت الأدلة على المجتهد في أن العمل الفلاني مشروع يتعبد به ، أو غير مشروع فلا يتعبد به ، ولم يتبين له جمع بين الدليلين ، أو إسقاط أحدهما بنسخ أو ترجيح

٣٠٩

أو غيرهما ، فقد ثبت في الأصول أن فرضه التوقف ، فلو عمل بمقتضى دليل التشريع من غير مرجح لكان عاملا بمتشابه ، لإمكان صحة الدليل بعدم المشروعية ، فالصواب الوقوف عن الحكم رأسا ، وهو الفرض في حقه.

الثاني : إذا تعارضت الأقوال على المقلد في المسألة بعينها ؛ فقال بعض العلماء : يكون العمل بدعة ، وقال بعضهم : ليس ببدعة ، ولم يتبين له الأرجح من العالمين بأعلمية أو غيرها ؛ فحقه الوقوف والسؤال عنهما حتى يتبين له الأرجح فيميل إلى تقليده دون الآخر ؛ فإن أقدم على تقليد أحدهما من غير مرجح كان حكمه حكم المجتهد إذا أقدم على العمل بأحد الدليلين من غير ترجيح ، فالمثالان في المعنى واحد.

والثالث : أنه ثبت في الصحاح عن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبركون بأشياء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي البخاري عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال : «خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به» ، الحديث ، وفيه : كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه. وعن المسور رضي الله عنه في حديث الحديبية : «وما انتخم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده (١)» ، وخرّج غيره من ذلك كثيرا في التبرك بشعره وثوبه وغيرهما ، حتى أنه مس بإصبعه أحدهم بيده فلم يحلق ذلك الشعر الذي مسه عليه الصلاة والسلام حتى مات.

وبالغ بعضهم في ذلك حتى شرب دم حجامته ، إلى أشياء كهذا كثيرة ، فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعا في حق من ثبتت ولايته واتباعه لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن يتبرك بفضل وضوئه ، ويتدلك بنخامته ، ويستشفي بآثاره كلها ، ويرجي نحو مما كان في آثار المتبوع الأصل صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه ، مشكل في تنزيله ، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه الصلاة والسلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه ، إذ لم يترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فهو كان خليفته ، ولم يفعل به شيء من ذلك ولا عمر رضي الله عنهما ، وهو كان أفضل الأمة

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند (٤ / ٣٢٩ ، ٣٣٠).

٣١٠

بعده ، ثم كذلك عثمان ثم عليّ ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة ، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركا تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها ، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء.

وبقي النظر في وجه ترك ما تركوا منه ، ويحتمل وجهين :

أحدهما : أن يعقدوا فيه الاختصاص وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير ، لأنه عليه‌السلام كان نورا كله في ظاهره وباطنه ، فمن التمس منه نورا وجده على أي جهة التمسه ، بخلاف غيره من الأمة ـ وإن حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهداه ما شاء الله ـ لا يبلغ مبلغه على حال توازيه في مرتبته ، ولا تقاربه ، فصار هذا النوع مختصا به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع ، وإحلال بضع الواهبة نفسها له ، وعدم وجوب القسم عليه للزوجات وشبه ذلك ، فعلى هذا المأخذ : لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها ، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة ، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة.

الثاني : أن لا يعتقدوا الاختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب الذرائع خوفا من أن يجعل ذلك سنّة ـ كما تقدم ذكره في اتباع الآثار ـ والنهي عن ذلك ، أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد ، بل تتجاوز فيه الحدود ، وتبالغ بجهلها في التماس البركة ؛ حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد فربما اعتقد في المتبرك به ما ليس فيه ، وهذا التبرك هو أصل العبادة ، ولأجله قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية ـ حسبما ذكره أهل السير ـ فخاف عمر رضي الله عنه أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة حتى تعبد من دون الله ، فكذلك يتفق عند التوغل في التعظيم.

ولقد حكى الفرغاني مذيل تاريخ الطبري عن الحلاج أن أصحابه بالغوا في التبرك به حتى كانوا يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته ، حتى ادعوا فيه الإلهية تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

ولأن الولاية وإن ظهر لها في الظاهر آثار فقد يخفى أمرها ، لأنها في الحقيقة راجعة

٣١١

إلى أمر باطن لا يعلمه إلا الله ، فربما ادعيت الولاية لمن ليس بوليّ ، أو ادعاها هو لنفسه ، أو أظهر خارقة من خوارق العادات هي من باب الشعوذة لا من باب الكرامة ، أو من باب السحر ، أو الخواص أو غير ذلك ، والجمهور لا يعرف الفرق بين الكرامة والسحر فيعظمون من ليس بعظيم ويقتدون بمن لا قدوة فيه ـ وهو الضلال البعيد ـ إلى غير ذلك من المفاسد ، فتركوا العمل بما تقدم ـ وإن كان له أصل ـ لما يلزم عليه من الفساد في الدين.

وقد يظهر بأول وهلة أن هذا الوجه الثاني أرجح ، لما ثبت في الأصول العلمية أن كل قربة أعطيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن لأمته أنموذجا منها ، ما لم يدل دليل على الاختصاص.

إلا أن الوجه الأول أيضا راجح من جهة أخرى ، وهو إطباقهم على الترك إذا لو كان اعتقادهم التشريع لعمل به بعضهم بعده ، أو عملوا به ولو في بعض الأحوال إما وقوفا مع أصل المشروعية ، وإما بناء على اعتقاد انتقاء العلة الموجبة للامتناع.

وقد خرّج ابن وهب في جامعه من حديث يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب قال : حدثني رجل من الأنصار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم ، فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم : «لم تفعلون هذا؟» قالوا : نلتمس الطهور والبركة بذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان منكم يحب أن يحبه الله ورسوله فليصدق الحديث ، وليؤد الأمانة ولا يؤذ جاره» ، فإن صحّ هذا النقل فهو مشعر بأن الأولى تركه وأن يتحرى ما هو الآكد والأحرى من وظائف التكليف ، ولا يلزم الإنسان في خاصة نفسه ، ولم يثبت من ذلك كله إلا ما كان من قبيل الرقية وما يتبعها ، أو دعاء الرجل لغيره على وجه سيأتي بحول الله.

فقد صارت المسألة من أصلها دائرة بين أمرين : أن تكون مشروعة ، فدخلت تحت حكم المتشابه أو تكون غير مشروعة والله أعلم.

فصل

ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية أن يكون أصل العبادة مشروعا إلا أنها تخرج عن أصل شريعتها بغير دليل توهما أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل ، وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي ، أو يطلق تقييدها ، وبالجملة فتخرج عن حدها الذي حدّ لها.

ومثال ذلك أن يقال : إن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصه الشارع بوقت دون

٣١٢

وقت ، ولا حد فيه زمانا دون زمان ، ما عدا ما نهي عن صيامه على الخصوص كالعيدين ، وندب إليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء بقول ، فإذا خص منه يوما من الجمعة بعينه ، أو أياما من الشهر بأعيانها ـ لا من جهة ما عينه الشارع ـ فإن ذلك ظاهر بأنه من جهة اختيار المكلف ، كيوم الأربعاء مثلا في الجمعة ، والسابع والثامن في الشهر ، وما أشبه ذلك ، بحيث لا يقصد بذلك وجها بعينه مما لا ينثني عنه ، فإذا قيل له : لم خصصت تلك الأيام دون غيرها؟ لم يكن له بذلك حجة غير التصميم ، أو يقول : إن الشيخ الفلاني مات فيه أو ما أشبه ذلك ، فلا شك أنه رأي محض بغير دليل ، ضاهى به تخصيص الشارع أياما بأعيانها دون غيرها ، فصار التخصيص من المكلف بدعة ، إذ هي تشريع بغير مستند.

ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصا ، كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذا من الركعات ، أو بصدقة كذا وكذا ، أو الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة ، أو بختم القرآن فيها أو ما أشبه ذلك فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط ، كان تشريعا زائدا.

ولا حجة له في أن يقول : إن هذا الزمان ثبت فضله على غيره فيحسن فيه إيقاع العبادات لأنا نقول : هذا الحسن هل ثبت له أصل أم لا؟ فإن ثبت فهو مسألتنا كما ثبت الفضل في قيام ليالي رمضان ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وصيام الاثنين والخميس ، فإن لم يثبت فما مستندك فيه والعقل لا يحسن ولا يقبح ، ولا شرع يستند إليه؟ فلم يبق إلا أنه ابتدع في التخصيص ، كإحداث الخطب وتحرّي ختم القرآن في بعض ليالي رمضان.

ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه ، فإنه من باب وضع الحكمة غير موضعها ، فسامعها إما أن يفهمها على غير وجهها ـ وهو الغالب ـ وهو فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق ، وإلى العمل بالباطل ، وإما لا يفهم منها شيئا وهو أسلم ، ولكن المحدث لم يعط الحكمة حقها من الصون ، بل صار في التحدث بها كالعابث بنعمة الله.

ثم إن ألقاها لمن لا يعقلها في معرض الانتفاع بعد تعقلها كان من باب التكليف بما لا يطاق ، وقد جاء النهي عن ذلك ، فخرّج أبو داود حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن الغلوطات ، قالوا : وهي صعاب المسائل أو شرار المسائل ، وفي الترمذي ـ أو غيره ـ أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! أتيتك لتعلمني من غرائب العلم ، فقال عليه‌السلام : «ما

٣١٣

صنعت في رأس العلم؟ قال : وما رأس العلم؟ قال : هل عرفت الرب؟ قال : نعم ، قال : فما صنعت في حقه؟ قال : ما شاء الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اذهب فأحكم ما هنالك ثم تعال أعلمك من غرائب العلم» ، وهذا المعنى هو مقتضى الحكمة ، لا تعلم الغرائب إلا بعد إحكام الأصول ، وإلّا دخلت الفتنة ، وقد قالوا في العالم الرباني : إنه الذي يربي بصغار العلم قبل كباره.

وهذه الجملة شاهدها في الحديث الصحيح مشهور ، وقد ترجم على ذلك البخاري فقال : (باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا) ، ثم أسند عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ (١) ثم ذكر حديث معاذ الذي أخبر به عند موته تأثما ، وإنما لم يذكره إلا عند موته لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأذن له في ذلك لما خشي من تنزيله غير منزلته ، وعلمه معاذا لأنه من أهله.

وفي مسلم مرفوعا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» (٢). قال ابن وهب : وذلك أن يتأولوه غير تأويله ويحملوه على غير وجهه.

وخرّج شعبة عن كثير بن مرة الحضرمي أنه قال : إن عليك في علمك حقّا كما أن عليك في مالك حقّا ، لا تحدث بالعلم غير أهله فتجهل ، ولا تمنع العلم أهله فتأثم ، ولا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك ، ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك.

وقد ذكر العلماء هذا المعنى في كتبهم وبسطوه بسطا شافيا والحمد لله ، وإنما نبهنا عليه لأن كثيرا ممن لا يقدر قدر هذا الموضع يزل فيه فيحدث الناس بما لا تبلغه عقولهم ، وهو على خلاف الشرع ، وما كان عليه سلف هذه الأمة.

ومن ذلك أيضا جميع ما تقدم في فضل السنّة ، التي يكون العمل بها ذريعة إلى البدعة ، من حيث إنها عمل بها ولم يعمل بها سلف هذه الأمة.

ومنه تكرار السورة الواحدة في التلاوة أو في الركعة الواحدة ، فإن التلاوة لم تشرع

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : العلم ، باب : من خصّ قوما دون قوم في العلم (الحديث : ١ / ١٩٩).

(٢) أخرجه مسلم في المقدمة ، باب : في النهي عن الحديث بكل ما سمع (الحديث : ١ / ١١).

٣١٤

على ذلك الوجه ولا أن يخص من القرآن شيئا دون شيء لا في صلاة ولا في غيرها ، فصار المخصص لها عاملا برأيه في التعبد لله.

وخرّج ابن وضاح عن مصعب قال : سئل سفيان عن رجل يكثر قراءة : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) لا يقرأ غيرها كما يقرؤها ، فكرهه وقال : إنما أنتم متبعون فاتبعوا الأولين ، ولم يبلغنا عنهم نحو هذا ، وإنما أنزل القرآن ليقرأ ولا يخص شيء دون شيء.

وخرّج أيضا ـ وهو في العتبية من سماع ابن القاسم ـ عن مالك رحمه‌الله أنه سئل عن قراءة : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) مرارا في الركعة الواحدة فكره ذلك وقال : هذا من محدثات الأمور التي أحدثوا.

ومحمل هذا عند ابن رشد من باب الذريعة ، ولأجل ذلك لم يأت مثله عن السلف ، وإن كانت تعدل ثلث القرآن ـ كما في الصحيح ـ وهو صحيح فتأمله في الشرح.

وفي الحديث أيضا ما يشعر بأن التكرار كذلك عمل محدث في مشروع الأصل بناء على ما قاله ابن رشد فيه.

ومن ذلك قراءة القرآن بهيئة الاجتماع عشية عرفة في المسجد للدعاء تشبها بأهل عرفة ، ونقل الأذان يوم الجمعة من المنار وجعله قدام الإمام. ففي سماع ابن القاسم وسئل عن القرى التي لا يكون فيها إمام إذا صلّى بهم رجل منهم الجمعة : أيخطب بهم؟ قال : نعم! لا تكون الجمعة إلا بخطبة ، فقيل له : أفيؤذن قدامه؟ قال : لا ، واحتج على ذلك بفعل أهل المدينة.

قال ابن رشد : الأذان بين يدي الإمام في الجمعة مكروه لأنه محدث ، قال : وأول من أحدثه هشام بن عبد الملك ، وإنما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا زالت الشمس وخرج فرقي المنبر ، فإذا رآه المؤذنون ـ وكانوا ثلاثة ـ قاموا فأذنوا في المشرفة واحدا بعد واحد كما يؤذن في غير الجمعة ، فإذا فرغوا أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته ، ثم تلاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فزاد عثمان رضي الله عنه لما كثر الناس أذانا بالزوراء عند زوال الشمس ، يؤذن الناس فيه بذلك أن الصلاة قد حضرت ، وترك الأذان في المشرفة بعد جلوسه على المنبر على ما كان

__________________

(١) سورة : الإخلاص ، الآية : ١.

٣١٥

عليه ، فاستمر الأمر على ذلك إلى زمان هشام ، فنقل الأذان الذي كان بالزوراء إلى المشرفة ونقل الأذان الذي بالمشرفة بين يديه ، وأمرهم أن يؤذنوا صفا ، وتلاه على ذلك من بعده من الخلفاء إلى زماننا هذا. قال ابن رشد : وهو بدعة ، قال : والذي فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء الراشدون بعده هو السنة.

وذكر ابن حبيب ما كان فعله عليه‌السلام وفعل الخلفاء بعده كما ذكر ابن رشد وكأنه نقله من كتابه ، وذكر قصة هشام ، ثم قال : والذي كان فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي السنّة. وقد حدثني أسد بن موسى ، عن يحيى بن سليم ، عن جعفر بن محمد بن جابر بن عبيد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبته : «أفضل الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة» (١).

وما قاله ابن حبيب من أن الأذان عند صعود الإمام على المنبر كان باقيا في زمان عثمان رضي الله عنه موافق لما نقله أرباب النقل الصحيح ، وأن عثمان لم يزد على ما كان قبله إلا الأذان على الزوراء ، فصار إذا نقل هشام الأذان المشروع في المنار إلى ما بين يديه بدعة في ذلك المشروع.

فإن قيل : فكذلك أذان الزوراء محدث أيضا ، بل هو محدث من أصله غير منقول من موضعه ، فالذي يقال هنا يقال مثله في أذان هشام ، بل هو أخف منه.

فالجواب : أن أذان الزوراء وضع هنالك على أصله من الإعلام بوقت الصلاة وجعله بذلك الموضع لأنه لم يكن ليسمع إذا وضع بالمسجد كما كان في زمان من قبله ، فصارت كائنة أخرى لم تكن فيما تقدم ، فاجتهد لها كسائر مسائل الاجتهاد ، وحين كان مقصود الأذان الإعلام فهو باق كما كان ، فليس وضعه هنالك بمناف ، إذ لم تخترع فيه أقاويل محدثة ؛ ولا ثبت أن الأذان بالمنار أو في سطح المسجد تعبد غير معقول المعنى ، فهو الملائم من أقسام المناسب ، بخلاف نقله من المنار إلى ما بين يدي الإمام ، فإنه قد أخرج بذلك أولا عن أصله من الإعلام ، إذ لم يشرع لأهل المسجد إعلام بالصلاة إلا بالإقامة ، وأذان جمع الصلاتين موقوف على محله ، ثم أذانهم على صوت واحد زيادة في الكيفية.

__________________

(١) أخرج نحوه النسائي في كتاب : السهو ، باب : نوع آخر من الذكر بعد التشهد (الحديث : ٣ / ٥٨).

٣١٦

ومن ذلك الأذان والإقامة في العيدين ، فقد نقل ابن عبد البر اتفاق الفقهاء على أن لا أذان ولا إقامة فيهما ، ولا في شيء من الصلوات المسنونات والنوافل ، وإنما الأذان للمكتوبات ، وعلى هذا مضى عمل الخلفاء : أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، وجماعة الصحابة رضي الله عنهم ، وعلماء التابعين ، وفقهاء الأمصار ، وأول من أحدث الأذان والإقامة في العيدين ـ فيما ذكر ابن حبيب ـ هشام بن عبد الملك أراد أن يؤذن الناس بالأذان بمجيء الإمام ، ثم بدأ بالخطبة قبل الصلاة كما بدأ بها مروان ، ثم أمر بالإقامة بعد فراغه من الخطبة ليؤذن الناس بفراغه من الخطبة ودخوله في الصلاة لبعدهم عنه. قال : ولم يرد مروان وهشام إلّا الاجتهاد فيما رأيا ، إلا أنه لا يجوز اجتهاد في خلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وقد حدثني ابن الماجشون أنه سمع مالكا يقول : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها ، فقد زعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خان الرسالة ، لأن الله يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا.

وقد روي أن الذي أحدث الأذان معاوية ، وقيل : زياد ، وأن ابن الزبير فعله آخر إمارته ، والناس على خلاف هذا النقل.

ولقائل أن يقول : إن الأذان هنا نظير أذان الزوراء لعثمان رضي الله عنه ، فما تقدم فيه من التوجيه الاجتهادي جار هنا ، ولا يكون بسبب ذلك مخالفا للسنّة ، لأن قصة هشام نازلة لا عهد بها فيما تقدم ، لأن الأذان إعلام بمجيء الإمام لخفاء مجيئه عن الناس لبعدهم عنه ، ثم الإقامة للإعلام بالصلاة ، إذ لولاها لم يعرفوا دخوله في الصلاة ، فصار ذلك أمرا لا بدّ منه كأذان الزوراء.

والجواب : أن مجيء الإمام لم يشرع فيه الأذان وإن خفي على بعض الناس لبعده بكثرة الناس ، فكذلك لا يشرع فيما بعد ، لأن العلة كانت موجودة ثم لم تشرع ، إذ لا يصح أن تكون العلة غير مؤثرة في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء بعده ثم تصير مؤثرة ، وأيضا فإحداث الأذان والإقامة انبنى على إحداث تقديم الخطبة على الصلاة ، وما انبنى على المحدث

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٣.

٣١٧

محدث ، ولأنه لما لم يشرع في النوافل أذان ولا إقامة على حال فهمنا من الشرع التفرقة بين النفل والفرض لئلا تكون النوافل كالفرائض في الدعاء إليها ، فكان إحداث الدعاء إلى النوافل لم يصادف محلا ، وبهذه الأوجه الثلاثة يحصل الفرق بين أذان الزوراء وبين ما نحن فيه ، فلا يصح أن يقاس أحدهما على الآخر ، والأمثلة في هذا المعنى كثيرة.

ومن نوادرها التي لا ينبغي أن تغفل ما جرى به عمل جملة ممن ينتمي إلى طريقة الصوفية في تربصهم ببعض العبادات أوقاتا مخصوصة غير ما وقته الشرع فيها ، فيضعون نوعا من العبادات المشروعة في زمن الربيع ، ونوعا آخر في زمن الصيف ، ونوعا آخر في زمن الخريف ، ونوعا آخر في زمن الشتاء.

وربما وضعوا الأنواع من العبادات لباسا مخصوصا ، وأشباه ذلك من الأوضاع الفلسفية يضعونها شرعية ، أي متقربا بها إلى الحضرة الإلهية في زعمهم ، وربما وضعوها على مقاصد غير شرعية ، كأهل التصريف بالأذكار والدعوات ليستجلبوا بها الدنيا من المال والجاه والحظوة ورفعة المنزلة ، بل ليقتلوا بها إن شاءوا أو يمرضوا ، أو يتصرفوا وفق أغراضهم ، فهذه كلها بدع محدثات بعضها أشد من بعض ، لبعد هذه الأغراض عن مقاصد الشريعة الإسلامية الموضوعة مبرأة عن مقاصد المتخرصين (١) ، مطهرة لمن تمسك بها عن أوضار اتباع الهوى ، إذ كل متدين بها عارف بمقاصدها ، ينزهها عن أمثال هذه المقاصد الواهية ، فالاستدلال على بطلان دعاويهم فيها من باب شغل الزمان بغير ما هو أولى ، وقد تقرر ـ بحول الله ـ في أصل المقاصد من كتاب (الموافقات) (٢) ما يؤخذ منه حكم هذا النمط والبرهان على بطلانه ، لكن على وجه كلي مفيد وبالله التوفيق.

وهذا كله إن فرضنا أصل العبادة مشروعا ، فإن كان أصلها غير مشروع فهي بدعة حقيقية مركبة كالأذكار والأدعية بزعم العلماء أنها مبنية على علم الحروف ، وهو الذي اعتنى به البوني وغيره ممن حذا حذوه أو قاربه ، فإن ذلك العلم فلسفة ألطف من فلسفة معلمهم الأول وهو أرسطاطاليس ، فردوها إلى أوضاع الحروف ، وجعلوها هي الحاكمة في العالم ، وربما أشاروا عند العمل بمقتضى تلك الأذكار وما قصد بها إلى تحري الأوقات والأحوال

__________________

(١) تخرّص : تكذّب بالباطل.

(٢) الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي.

٣١٨

الملائمة لطبائع الكواكب ليحصل التأثير عندهم وحيا ، فحكموا العقول والطبائع ـ كما ترى ـ وتوجهوا شطرها ، وأعرضوا عن رب العقل والطبائع ، وإن ظنوا أنهم يقصدونه اعتقادا في استدلالهم لصحة ما انتحلوا على وقوع الأمر وفق ما يقصدون ، فإذا توجهوا بالذكر والدعاء المفروض على الغرض المطلوب حصل ، سواء عليهم أنفعا كان أم ضرّا ، وخيرا كان أم شرّا ، ويبنون على ذلك اعتقاد بلوغ النهاية في إجابة الدعاء ، أو حصل نوع من كرامات الأولياء ، كلا! ليس طريق ذلك التأثير من مرادهم ، ولا كرامات الأولياء أو إجابة الدعاء من نتائج أورادهم ، فلا تلاقي بين الأرض والسماء ، ولا مناسبة بين النار والماء.

فإن قلت : فلم يحصل التأثير حسبما قصدوا؟ فالجواب : إن ذلك في الأصل من قبيل الفتنة التي اقتضاها في الخلق (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١). فالنظر إلى وضع الأسباب والمسببات أحكام وضعها الباري تعالى في النفوس يظهر عندها ما شاء الله من التأثيرات ، على نحو ما يظهر على المعيون عند الإصابة ، وعلى المسحور عند عمل السحر ، بل هو بالسحر أشبه لاستمدادهما من أصل واحد ، وشاهده ما جاء في الصحيح خرّجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يقول : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني» (٢) ـ وفي بعض الروايات ـ «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» وشرح هذه المعاني لا يليق بما نحن فيه.

والحاصل : أن وضع الأذكار والدعوات ، على نحو ما تقدم من البدع المحدثات ، لكن تارة تكون البدعة فيها إضافية ، باعتبار أصل المشروعية.

فصل

فإن قيل : فالبدع الإضافية هي يعتد بها عبادات حتى تكون من تلك الجهة متقربا بها إلى الله تعالى أم لا تكون كذلك؟ فإن كان الأول فلا تأثير إذا لكونها بدعة ، ولا فائدة في

__________________

(١) سورة : يس ، الآية : ٣٨.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : التوحيد ، باب : ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروايته عن ربه (الحديث : ١٣ / ٤٢٨). وأخرجه مسلم في كتاب : الذكر والدعاء ، باب : الحث على ذكر الله تعالى (الحديث : ٢٦٧٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : الدعوات ، باب : حسن الظن بالله (الحديث : ٣٥٩٨).

٣١٩

ذكره ، إذ لا يخلو من أحد الأمرين : إما أن لا يعتبر بجهة الابتداع في العبادة المفروضة ، فتقع مشروعة يثاب عليها ، فتصير جهة الابتداع مغتفرة ، فلا على المبتدع فيها أن يبتدع ، وإما أن يعتبر بجهة الابتداع ، فقد صار للابتداع أثر في ترتب الثواب ، فلا يصح أن يكون منفيا عنه بإطلاق ، وهو خلاف ما تقرر من عموم الذم فيه ، وإن كان الثاني فقد تحدث البدعة الإضافية مع الحقيقية بالتقسيم الذي انبنى عليه الباب الذي نحن في شرحه ولا فائدة فيه.

فالجواب : أن حاصل البدعة الإضافية أنها لا تنحاز إلى جانب مخصوص في الجملة ، بل ينحاز بها الأصلان ـ أصل السنة وأصل البدعة ـ لكن من وجهين ، وإذا كان كذلك اقتضى النظر السابق للذهن أو يثاب العامل بها من جهة ما هو مشروع ، ويعاتب من جهة ما هو غير مشروع ، إلا أن هذا النظر لا يتحصل لأنه مجمل.

والذي ينبغي أن يقال في جهة البدعة في العمل : لا يخلو أن تنفرد أو تلتصق وإن التصقت فلا تخلو أن تصير وصفا للمشروع غير منفك ، إما بالقصد أو بالوضع الشرعي العادي أو لا تصير وصفا ، وإن لم تصر وصفا فإما أن يكون وضعها إلى أن تصير وصفا أولا.

فهذه أربعة أقسام لا بدّ من بيانها في تحصيل هذا المطلوب بحول الله.

فأما القسم الأول : وهو أن تنفرد البدعة عن العمل المشروع فالكلام فيه ظاهر مما تقدم ، إلا إن كان وضعه على جهة التعبد فبدعة حقيقية ، وإلّا فهو فعل من جملة الأفعال العادية لا مدخل له فيما نحن فيه ، فالعبادة سالمة والعمل العادي خارج من كل وجه ، مثاله الرجل يريد القيام إلى الصلاة فيتنحنح مثلا أو يتمخط أو يمشي خطوات أو يفعل شيئا ولا يقصد بذا وجها راجعا إلى الصلاة ، وإنما يفعل ذلك عادة أو تقززا ، فمثل هذا لا حرج فيه في نفسه ولا بالنسبة إلى الصلاة ، وهو من جملة العادات الجائزة ، إلا أنه يشترط فيه أيضا أن لا يكون بحيث يفهم منه الانضمام إلى الصلاة عملا أو قصدا ، فإنه إذ ذاك يصير بدعة ، وسيأتي بيانه إن شاء الله.

وكذلك أيضا إذا فرضنا أنه فعل قصد التقرب مما لم يشرع أصلا ، ثم قام بعده إلى الصلاة المشروعة ولم يقصد فعله لأجل الصلاة ، ولا كان مظنة لأن يفهم منه انضمامه إليها ، فلا يقدح في الصلاة ، وإنما يرجع الذم فيه إلى العمل به على الانفراد ، ومثله لو أراد القيام

٣٢٠