الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

ولعظيم ما يترتب عليه من الخطر ، لكن الفرق بين القليل والكثير ، غير منصوص عليه في جميع الأمور ، وإنما نهى عن بعض أنواعه مما يعظم فيه الغرر ، فجعلت أصولا يقاس عليها غير القليل أصلا في عدم الاعتبار وفي الجواز ، وصار الكثير في حكم المنع ودار في الأصلين فروع تتجاذب العلماء النظر فيها ، فإذا قلّ الغرر وسهل الأمر وقلّ النزاع ومست الحاجة إلى المسامحة فلا بد من القول بها ، ومن هذا القبيل مسألة التقدير في ماء الحمام ومدة اللبث.

قال العلماء : ولقد بالغ مالك في هذا الباب وأمعن فيه ، فيجوز أن يستأجر الأجير بطعامه ، وإن كان لا ينضبط مقدار أكله ليسار أمره وخفة خطبه وعدم المشاحة ، وفرق بين تطرق يسير الغرر إلى الأجل فأجازه ، وبين تطرقه للثمن فمنعه ، فقال : يجوز للإنسان أن يشتري سلعة إلى الحصاد أو إلى الجذاذ ، وإن كان اليوم بعينه لا ينضبط ، ولو باع سلعة بدرهم أو ما يقاربه لم يجز ، والسبب في التفرقة ، المضايقة في تعيين الأثمان وتقديرها ليست في العرف ، ولا مضايقة في الأجل ، إذ قد يسامح البائع في التقاضي الأيام ، ولا يسامح في مقدار الثمن على حال.

ويعضده ما روى عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بشراء الإبل إلى خروج المصدق ، وذلك لا يضبط يومه ولا يعين ساعته ، ولكنه على التقريب والتسهيل.

فتأملوا كيف وجه الاستثناء من الأصول الثابتة بالحرج والمشقة.

وأين هذا من زعم الزاعم أنه استحسان العقل بحسب العوائد فقط؟ فتبين لك بون (١) ما بين المنزلتين.

العاشر : أنهم قالوا : إن من جملة أنواع الاستحسان مراعاة خلاف العلماء ، وهو أصل في مذهب مالك ينبني عليه مسائل كثيرة.

منها : أن الماء اليسير إذا حلت فيه النجاسة اليسيرة ولم تغير أحد أوصافه أنه لا يتوضأ به بل يتيمم ويتركه ، فإن توضأ به وصلّى أعاد ما دام في الوقت ، ولم يعد بعد الوقت ، وإنما

__________________

(١) بون : بعد.

٤٢١

قال : يعيد في الوقت ، مراعاة لقول من يقول : إنه طاهر مطهر ويروى جواز الوضوء به ابتداء ، وكان قياس هذا القول أن يعيد أبدا ، إذ لم يتوضأ إلا بماء يصح له تركه والانتقال عنه إلى التيمم.

ومنها : قولهم في النكاح الفاسد الذي يجب فسخه : إن لم يتفق على فساده فيفسخ بطلاق ، ويكون فيه الميراث ، ويلزم فيه الطلاق على حده في النكاح الصحيح ، فإن اتفق العلماء على فساده فسخ بغير طلاق ، ولا يكون فيه ميراث ولا يلزم فيه طلاق.

ومنها : مسألة من نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع وكان مع الإمام وجب أن يتمادى لقول من قال : إن ذلك يجزئه ، فإذا سلم الإمام أعاد هذا المأموم.

وهذا المعنى كثير جدا في المذهب ووجهه أنه راعى دليل المخالف في بعض الأحوال ، لأنه ترجح عنده ، ولم يترجح عنده في بعضها فلم يراعه.

ولقد كتبت في مسألة مراعاة الخلاف إلى بلاد المغرب وإلى بلاد إفريقية لإشكال عرض فيها من وجهين : أحدهما مما يخص هذا الموضع على فرض صحتها ، وهو ما أصلها من الشريعة وعلام تبنى من قواعد أصول الفقه؟ فإن الذي يظهر الآن أن الدليل هو المتبع فحيثما صار صير إليه ، ومتى رجح للمجتهد أحد الدليلين على الآخر ـ ولو بأدنى وجوه الترجيح ـ وجب التعويل عليه وإلغاء ما سواه ، على ما هو مقرر في الأصول ، فإذا رجوعه ـ أعني : المجتهد ـ إلى قول الغير إعمال لدليله المرجوح عنده ، وإهمال للدليل الراجح عنده الواجب عليه اتباعه وذلك على خلاف القواعد.

فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد ، إلا أني راجعت بعضهم بالبحث ، وهو أخي ومفيدي أبو العباس بن القباب رحمة الله عليه ، فكتب إليّ بما نصه :

وتضمن الكتاب المذكور عودة السؤال في مسألة مراعاة الخلاف ، وقلتم إن رجحان إحدى الأمارتين على الأخرى أن تقديمها على الأخرى اقتضى ذلك عدم المرجوحة مطلقا ، واستشنعتم أن يقول المفتي هذا لا يجوز ابتداء ، وبعد الوقوع يقول بجوازه ، لأنه يصير الممنوع إذا فعل جائزا ، وقلتم : إنه إنما يتصور الجمع في هذا النحو في منع التنزيه لا منع التحريم ، إلى غير ذلك مما أوردتم في المسألة.

٤٢٢

وكلها إيرادات شديدة صادرة عن قريحة قياسية منكرة لطريقة الاستحسان ، وإلى هذه الطريقة ميل فحول من الأئمة والنظار ، حتى قال الإمام أبو عبد الله الشافعي : من استحسن فقد شرع.

ولقد ضاقت العبارة عن معنى أصل الاستحسان ـ كما في علمكم ـ حتى قالوا : أصح عبارة فيه أنه معنى ينقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة عنه ، فإذا كان هذا أصله الذي ترجع فروعه إليه ، فكيف ما يبنى عليه؟ فلا بد أن تكون العبارة عنها أضيق.

ولقد كنت أقول بمثل ما قال هؤلاء الأعلام في طرح الاستحسان وما بني عليه ، لو لا أنه اعتضد وتقوى لوجدانه كثيرا في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم مع عدم النكير ، فتقوى ذلك عندي غاية ، وسكنت إليه النفس ، وانشرح إليه الصدر ، ووثق به القلب ، للأمر باتباعهم والاقتداء بهم ، رضي الله عنهم.

فمن ذلك المرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد البناء ، فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضي الله عنهم. وكل ما أوردتم في قضية السؤال وارد عليه ، فإنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول ، فدخول الثاني بها دخول بزوج غيره ، وكيف يكون غلطه على زوج غيره مبيحا على الدوام ، ومصححا لعقده الذي لم يصادف محلا ، ومبطلا لعقد نكاح مجمع على صحته ، لوقوعه على وفق الكتاب والسنّة ظاهرا وباطنا؟ وإنما المناسب أن الغلط يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة ، لا إباحة زوج غيره دائما ، ومنع زوجها منها.

ومثل ذلك ما قاله العلماء في مسألة امرأة المفقود : أنه إن قدم المفقود قبل نكاحها فهو أحق بها ، وإن كان بعد نكاحها والدخول بها بانت ، وإن كانت بعد العقد وقبل البناء فقولان ، فإنه يقال : الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعا لعصمته فلا حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها ، أو ليس بقاطع للعصمة ، فكيف تباح لغيره في عصمة المفقود؟

وما روي عن عمر وعثمان في ذلك أغرب وهو أنهما قالا : إذا قدم المفقود يخبر بين امرأته أو صداقها ، فإن اختار صداقها بقيت للثاني ، فأين هذا من القياس؟ وقد صحح ابن عبد البر هذا النقل عن الخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما ، ونقل عن عليّ رضي الله عنه أنه

٤٢٣

قال بمثل ذلك ، أو أمضى الحكم به ، وإن كان الأشهر عنه خلافه ، ومثله في قضايا الصحابة كثير من ذلك.

قال ابن المعدل : لو أن رجلين حضرهما وقت الصلاة ، فقام أحدهما فأوقع الصلاة بثوب نجس مجانا (؟) وقعد الآخر حتى خرج الوقت ولا يقاربه (؟) مع نقل غير واحد من الأشياخ الإجماع على وجوب النجاسة (؟) عامدا جمع الناس أنه لا يساوي مؤخرها على وجوب النجاسة حال الصلاة ، وممن نقله اللخمي ، والمازري ، وصححه الباجي ، وعليه مضى عبد الوهاب في تلقينه.

وعلى الطريقة التي أوردتم ـ أن المنهيّ عنه ابتداء غير معتبر ـ أحرى بكون أمر هذين الرجلين بعكس ما قال ابن المعدل ، لأن الذي صلّى بعد الوقت قضى ما فرط فيه ، والآخر لم يعمل كما أمر ، ولا قضي شيئا ، وليس كل منهي عنه ابتداء غير معتبر بعد وقوعه.

وقد صحح الدار قطني حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» (١) وأخرج أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها : «أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل ـ ثلاث مرات ـ فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها» (٢). فحكم أولا ببطلان العقد ، وأكده بالتكرار ثلاثا ، وسماه زنا ، وأقل مقتضياته عدم اعتبار هذا العقد جملة. لكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقبه بما اقتضى اعتباره بعد الوقوع بقوله : «ولها مهرها بما أصاب منها» ومهر البغيّ حرام.

وقد قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) (٣) ، فعلل النهي عن استحلاله بابتغائهم فضل الله ورضوانه مع كفرهم بالله تعالى ، الذي لا يصح معه عبادة ، ولا يقبل عمل ، وإن كان هذا الحكم الآن منسوخا ، فذلك لا يمنع الاستدلال به في هذا المعنى.

ومن ذلك قول الصديق رضي الله عنه : وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ،

__________________

(١) أخرجه الدار قطني في السنن (١ / ٢٢٧) كتاب : النكاح (الحديث : ٢٦).

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : النكاح ، باب : في الولي (الحديث : ٢٠٨٣). وأخرجه الترمذي في كتاب : النكاح ، باب : ما جاء لا نكاح إلا بولي (الحديث : ١١٠٢).

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ٢.

٤٢٤

فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له ، ولهذا لا يسبى الراهب وترك له ماله أو ما قلّ منه ، على الخلاف في ذلك ، وغيره ممن لا يقاتل يسبى ويملك ، وإنما ذلك لما زعم أنه حبس نفسه له ، وهي عبادة الله تعالى ، وإن كانت عبادته أبطل الباطل ، فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعي لا يقطع بخطإ فيه وإن كان يظن ذلك ظنا ، وتتبع مثل هذا يطول.

وقد اختلف فيما تحقق فيه نهي من الشارع : هل يقتضي فساد النهي عنه؟ وفيه بين الفقهاء والأصوليين ما لا يخفى عليكم ، فكيف بهذا؟

وإذا خرجت المسألة المختلف فيها إلى أصل مختلف فيه ، فقد خرجت عن حيز الإشكال ، ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك المسائل ، ويرجح كل أحد ما ظهر له بحسب ما وفق له ، ولنكتف بهذا القدر في هذه المسألة.

انتهى ما كتب لي به وهو بسط أدلة شاهدة لأصل الاستحسان ، فلا يمكن مع هذا التقرير كله أن يتمسك به من أراد أن يستحسن بغير دليل أصلا.

فصل

فإذا تقرر هذا : فلنرجع إلى ما احتجوا به.

أولا : فأما من حد الاستحسان بأنه : ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه ، فكأن هؤلاء يرون هذا النوع من جملة أدلة الأحكام ، ولا شك أن العقل يجوز أن يرد الشرع بذلك ، بل يجوز أن يرد بأن ما سبق إلى أوهام العوام ـ مثلا ـ فهو حكم الله عليهم ، فيلزمهم العمل بمقتضاه ، ولكن لم يقع مثل هذا ولم يعرف التعبد به لا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من الشرع قاطع ولا مظنون ، فلا يجوز إسناده لحكم الله لأنه ابتداء تشريع من جهة العقل.

وأيضا : فإنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم حصروا نظرهم في الوقائع التي لا نصوص فيها في الاستنباط والرد إلى ما فهموه من الأصول الثابتة ، ولم يقل أحد منهم : إني حكمت في هذا بكذا لأن طبعي مال إليه ، أو لأنه يوافق محبتي ورضائي ، ولو قال ذلك لاشتد عليه النكير ، وقيل له : من أين لك أن تحكم على عباد الله بمحض ميل النفس وهوى القلب؟ هذا مقطوع ببطلانه.

٤٢٥

بل كانوا يتناظرون ويعترض بعضهم بعضا على مأخذ بعض ، ويحصرون ضوابط الشرع.

وأيضا : فلو رجع الحكم إلى مجرد الاستحسان لم يكن للمناظرة فائدة ، لأن الناس تختلف أهواؤهم وأغراضهم في الأطعمة والأشربة واللباس وغير ذلك ولا يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضا : لم كان هذا الماء أشهى عندك من الآخر؟ والشريعة ليست كذلك.

على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحدا ، ولا يفاتحون عالما ولا غيره فيما يبتغون ، خوفا من الفضيحة أن لا يجدوا مستندا شرعيّا ، وإنما شأنهم إذا وجدوا عالما أو لقوه أن يصانعوا ، وإذا وجدوا جاهلا عاميّا ألقوا عليه في الشريعة الطاهرة إشكالات ، حتى يزلزلوهم ويخلطوا عليهم ، ويلبسوا دينهم ، فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس ، ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئا فشيئا ، وذموا أهل العلم بأنهم أهل الدنيا المكبون عليها ، وأن هذه الطائفة هم أهل الله وخاصته ، وربما أوردوا عليهم من كلام غلاة الصوفية شواهد على ما يلقون إليهم ، حتى يهووا بهم في نار جهنم ، وأما أن يأتوا الأمر من بابه ويناظروا عليه العلماء الراسخين فلا.

وتأمل ما نقله الغزالي في استدراج الباطنية غيرهم إلى مذهبهم ، تجدهم لا يعتمدون إلا على خديعة الناس من غير تقرير علم ، والتحيل عليهم بأنواع الحيل ، حتى يخرجوهم من السنّة ، أو عن الدين جملة. ولو لا الإطالة لأتيت بكلامه ، فطالعه في كتابه (فضائح الباطنية).

وأما الحد الثاني : فقد ردّ بأنه لو فتح هذا الباب لبطلت الحجج وادعى كل من شاء ما شاء ، واكتفى بمجرد القول ، فألجأ الخصم إلى الإبطال. وهذا يجر فسادا لا خفاء له ، وإن سلم فذلك الدليل إن كان فاسدا فلا عبرة به ، وإن كان صحيحا فهو راجع إلى الأدلة الشرعية فلا ضرر فيه.

وأما الدليل الأول فلا متعلق به ، فإن أحسن الاتباع إلينا ، اتباع الأدلة الشرعية ،

٤٢٦

وخصوصا القرآن ، فإن الله تعالى يقول : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) (١) الآية. وجاء في صحيح الحديث ـ خرجه مسلم ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبته : «أما بعد فأحسن الحديث كتاب الله» (٢) فيفتقر أصحاب الدليل أن يبينوا أن ميل الطباع أو أهواء النفوس مما أنزل إلينا ، فضلا عن أن يقول من أحسنه.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (٣) الآية ، يحتاج إلى بيان أن ميل النفوس يسمى قولا ، وحينئذ ينظر إلى كونه أحسن القول كما تقدم وهذا كله فاسد.

ثم إنا نعارض هذا الاستحسان بأن عقولنا تميل إلى إبطاله ، وأنه ليس بحجة ، وإنما الحجة الأدلة الشرعية المتلقاة من الشرع.

وأيضا ، فيلزم عليه استحسان العوام ومن ليس من أهل النظر ، إذا فرض أن الحكم يتبع مجرد ميل النفوس وهوى الطباع ، وذلك محال ، للعلم بأن ذلك مضاد للشريعة ، فضلا عن أن يكون من أدلتها.

وأما الدليل الثاني فلا حجة فيه من أوجه :

أحدها : أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن ، والأمة لا تجتمع على باطل ، فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعا ، لأن الإجماع يتضمن دليلا شرعيّا ، فالحديث دليل عليكم لا لكم.

والثاني : أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع.

والثالث : أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم فيلزم عليه استحسان العوام ، وهو باطل بإجماع ، لا يقال : إن المراد استحسان أهل الاجتهاد ، لأنا نقول : هذا ترك للظاهر ، فيبطل الاستدلال ، ثم إنه لا فائدة في اشتراط الاجتهاد ، لأن المستحسن بالفرض لا ينحصر في الأدلة ، فأي حاجة إلى اشتراط الاجتهاد؟

__________________

(١) سورة : الزمر ، الآية : ٢٣.

(٢) أخرج نحوه مسلم في كتاب : الجمعة ، باب : تخفيف الصلاة والخطبة (الحديث : ٨٦٧) ولفظه : «أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله».

(٣) سورة : الزمر ، الآية : ١٨.

٤٢٧

فإن قيل : إنما يشترط حذرا من مخالفة الأدلة فإن العامي لا يعرفها.

قيل : بل المراد استحسان ينشأ عن الأدلة ، بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم قصروا أحكامهم على اتباع الأدلة وفهم مقاصد الشرع.

فالحاصل : إن تعلق المبتدعة بمثل هذه الأمور تعلق بما لا يغنيهم ولا ينفعهم البتة ، لكن ربما يتلعقون في آحاد بدعتهم بآحاد شبه ستذكر في مواضعها إن شاء الله ، ومنها ما قد مضى.

فصل

فإن قيل : أفليس في الأحاديث ما يدل على الرجوع إلى ما يقع في القلب ويجري في النفس ، وإن لم يكن ثمّ دليل صريح على حكم من أحكام الشرع ، ولا غير صريح؟ فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول : «دع ما يريبك ، إلا ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة» (١).

وخرّج مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البر والإثم فقال : «البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه» (٢) ، وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله ما الإيمان؟ قال : «إذا سرتك حسناتك وساءتك سيئاتك فأنت مؤمن» قال : يا رسول الله! فما الإثم؟ قال : «إذا حاك شيء في صدرك فدعه» (٣) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، وعن وابصة رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البر والإثم فقال : «يا وابصة! استفت قلبك ، واستفت نفسك ، البر ما اطمأنت إليه النفس

__________________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب : صفة القيامة ، باب : ٦٠ (الحديث : ٢٥١٨). وأخرجه النسائي في كتاب : الأشربة ، باب : الحث على ترك الشبهات (الأحاديث : ٨ / ٣٢٧ ، ٣٢٨).

(٢) أخرجه مسلم في كتاب : البر والصلة ، باب : تفسير البر والإثم (الحديث : ٢٥٥٣). وأخرجه الترمذي في كتاب : الزهد ، باب : ما جاء في البر والإثم (الحديث : ٢٣٩٠).

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير ، وأحمد في المسند ، وابن حبان في سننه ، والحاكم ، والبيهقي ، والضياء في المختارة ومجمع الزوائد (١ / ٨٦).

٤٢٨

واطمأن إليه القلب ، والإثم مما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك» (١). وخرج البغوي في معجمه عن عبد الرحمن بن معاوية : إن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! ما يحل لي ما يحرم عليّ؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرد عليه ثلاث مرات ، كل ذلك يسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : «أين السائل؟ فقال : أنا ذا يا رسول الله ، فقال ـ ونقر بإصبعه ـ : ما أنكر قلبك فدعه» (٢).

وعن عبد الله قال : الإثم حوازّ القلوب ، فما حاك من شيء في قلبك فدعه ، وكل شيء فيه نظرة فإن للشيطان فيه مطمعا وقال أيضا : الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه : أن الخير طمأنينة ، وأن الشر ريبة ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وقال شريح : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فو الله ما وجدت فقد شيء تركته ابتغاء وجه الله.

فهذه ظهر من معناها الرجوع في جملة من الأحكام الشرعية إلى ما يقع بالقلب ويهجس بالنفس ويعرض بالخاطر ، وأنه إذا اطمأنت النفس إليه فالإقدام عليه صحيح ، وإذا توقفت أو ارتابت فالإقدام عليه محظور ، وهو عين ما وقع إنكاره من الرجوع إلى الاستحسان الذي يقع بالقلب ويميل إليه الخاطر ، وإن لم يكن ثمّ دليل شرعي فإنه لو كان هنالك دليل شرعي أو كان هذا التقرير مقيدا بالأدلة الشرعية لم يحل به على ما في النفوس ولا على ما يقع بالقلوب ، مع أنه عندكم عبث وغير مفيد ، كمن يحيل بالأحكام الشرعية على الأمور الوفاقية ، أو الأفعال التي لا ارتباط بينها وبين شرعية الأحكام ، فدلّ ذلك على أن لاستحسان العقول وميل النفوس أثرا في شرعية الأحكام ، وهو المطلوب.

والجواب : إن هذه الأحاديث وما كان في معناها قد زعم الطبري في تهذيب الآثار أن جماعة من السلف قالوا بتصحيحها ، والعمل بما دلّ عليه ظاهرها ، وأتى بالآثار المتقدمة عن عمرو ابن مسعود وغيرهما ، ثم ذكر عن آخرين القول بتوهينها وتضعيفها وإحالة معانيها.

__________________

(١) عزاه النووي في الأربعين النووية إلى مسلم في كتاب : البر والصلة ، باب : تفسير البر والإثم (الحديث : ٢٥٥٣) ، وإلى أحمد في المسند (٤ / ٢٢٨) ، وإلى الدارمي (٢ / ٢٤٦).

(٢) أخرجه أبو القاسم البغوي في معجمه ، وأبو الفرج الحنبلي البغدادي في جامع العلوم والحكم.

٤٢٩

وكلام وترتيبه بالنسبة إلى ما نحن فيه لائق أن يؤتى به على وجهه ، فأتيت به على تحري معناه دون لفظه لطوله ، فحكى عن جماعة أنهم قالوا : لا شيء من أمر الدين إلا وقد بينه الله تعالى بنص عليه أو بمعناه ، فإن كان حلالا فعلى العامل به إذا كان عالما تحليله ، أو حراما فعليه تحريمه أو مكروها غير حرام فعليه اعتقاد التحليل أو الترك تنزيها.

فأما العامل بحديث النفس والعارض في القلب فلا ، فإن الله حظر ذلك على نبيه فقال : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (١) فأمره بالحكم بما أراه الله لا بما رآه وحدثته به نفسه ، فغيره من البشر أولى أن يكون ذلك محظورا عليه ، وأما إن كان جاهلا فعليه مسألة العلماء دون ما حدثته نفسه.

ونقل عن عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال : أيها الناس! قد سنّت لكن السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتم على الواضحة ، أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما كان في القرآن من حلال أو حرام فهو كذلك ، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه.

وقال مالك : قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل ، فينبغي أن تتبع آثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ولا يتبع الرأي. فإنه من اتبع الرأي جاءه رجل آخر أقوى في الرأي منه فاتبعه ، فكلما غلبه رجل اتبعه ، أرى أن هذا بعد لم يتم.

واعملوا من الآثار بما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إذا اعتصمتم به : كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض» (٢).

وروي عن عمرو بن ... خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما وهم يجادلون في القرآن ، فخرج وجهه أحمر كالدم فقال : «يا قوم! على هذا هلك من كان قبلكم جادلوا في القرآن وضربوا

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ١٠٥.

(٢) أخرج نحوه مالك في الموطأ في كتاب : القدر ، باب : النهي عن القول بالقدر (الحديث : ٣) ولفظه : «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنة نبيه».

٤٣٠

بعضه ببعض ، فما كان من حلال فاعملوا به ، وما كان من حرام فانتهوا عنه ، وما كان من متشابه فآمنوا به» (١).

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه يرفعه قال : «ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرّم فيه فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (٢) (٣).

قالوا : فهذه الأخبار وردت بالعمل بما في كتاب الله ، والإعلام بأن العامل به لن يضل ، ولم يأذن لأحد في العمل بمعنى ثالث غير ما في الكتاب والسنّة ، ولو كان ثمّ ثالث لم يدع بيانه ، فعدل على أن لا ثالث ، ومن ادعاه فهو مبطل.

قالوا : فإن قيل : فإنه عليه الصلاة والسلام قد سنّ لأمته وجها ثالثا وهو قوله : «استفت قلبك» (٤) وقوله : «الإثم حوازّ القلوب» (٥) إلى غير ذلك.

قلنا : لو صحت هذه الأخبار لكان ذلك إبطالا لأمره بالعمل بالكتاب والسنة إذ صحّا معا ، لأن أحكام الله ورسوله لم ترد بما استحسنته النفوس واستقبحته ، وإنما كان يكون وجها ثالثا لو خرج شيء من الدين عنهما ، وليس بخارج ، فلا ثالث يجب العمل به.

فإن قيل : قد يكون قوله : «استفت قلبك» ونحوه أمرا لمن ليس في مسألته نص من كتاب ولا سنّة ، واختلفت فيه الأمة ، فيعد وجها ثالثا.

قلنا : لا يجوز ذلك لأمور :

__________________

(١) أخرج نحوه الترمذي في كتاب : القدر ، باب : ما جاء في التشديد في الخوض في القدر (الحديث : ٢١٣٤) ، والحديث مروي عند ابن ماجه في المقدمة ، باب : في القدر (الحديث : ٨٥).

(٢) سورة : مريم ، الآية : ٦٤.

(٣) أخرجه الدارقطني في كتاب : الزكاة ، باب : الحث على إخراج الصدقة وبيان قسمتها (٢ / ١٣٧ ، الحديث : ١٢).

(٤) تقدم تخريجه ص : ٤٢٩ ، الحاشية : ١.

(٥) عزاه في كنز العمال (الكتاب الثاني والفصل الثاني) إلى سعيد بن منصور في السنن ، وإلى البيهقي في شعب الإيمان.

٤٣١

أحدها : أن كل ما لا نص فيه بعينه قد نصبت على حكمه دلالة ، فلو كان فتوى القلب ونحوه دليلا لم يكن لنصت الدلالة الشرعية عليه معنى ، فيكون عبثا ، وهو باطل.

والثاني : أن الله تعالى قال : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١). فأمر المتنازعين بالرجوع إلى الله والرسول دون حديث النفوس وفتيا القلوب.

والثالث : أن الله تعالى قال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢). فأمرهم بمسألة أهل الذكر ليخبروهم بالحق فيما اختلفوا فيه من أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يأمرهم أن يستفتوا في ذلك أنفسهم.

والرابع : أن الله تعالى قال لنبيه احتجاجا على من أنكر وحدانيته : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (٣) إلى آخرها ، فأمرهم بالاعتبار بعبرته ، والاستدلال بأدلته على صحة ما جاءهم به ، ولم يأمرهم أن يستفتوا فيه نفوسهم ، ويصدروا عما اطمأنت إليه قلوبهم ، وقد وضع الأعلام والأدلة ، فالواجب في كل ما وضع الله عليه الدلالة أن يستدل بأدلته على ما دلت ، دون فتوى النفوس وسكون القلوب من أهل الجهل بأحكام الله.

وهذا ما حكاه الطبري عمن تقدم ، ثم اختار إعمال تلك الأحاديث ، إما لأنها صحت عنده أو صح منها عنده ما تدل عليه معانيها ، كحديث «الحلال بيّن والحرام بيّن» (٤) إلى آخر الحديث ، فإنه صحيح خرّجه الإمامان ، ولكنه لم يعملها في كل من أبواب الفقه ، إذ لا يمكن ذلك في تشريع الأعمال وإحداث التعبدات ، فلا يقال بالنسبة إلى إحداث الأعمال : إذا

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٥٩.

(٢) سورة : النحل ، الآية : ٤٣.

(٣) سورة : الغاشية ، الآية : ١٧.

(٤) أخرجه البخاري في كتاب : الإيمان ، باب : فضل من استبرأ لدينه ، وأخرجه في كتاب : البيوع ، باب : الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات (الحديث : ١ / ١١٧). وأخرجه مسلم في كتاب : المساقاة ، باب : أخذ الحلال وترك الشبهات (الحديث : ١٥٩٩). وأخرجه أبو داود في كتاب : البيوع ، باب : في اجتناب الشبهات (الأحاديث : ٣٣٢٩ ، ٣٣٣٠). وأخرجه الترمذي في كتاب : البيوع ، باب : ما جاء في ترك الشبهات (الحديث : ١٢٠٥). وأخرجه النسائي في كتاب : البيوع ، باب : اجتناب الشبهات في الكسب.

٤٣٢

اطمأنت نفسك إلى هذا العمل فهو برّ ، أو : استفت قلبك في إحداث هذا العمل ، فإن اطمأنت إليه نفسك فاعمل به وإلّا فلا.

وكذلك في النسبة إلى التشريع التّركي ، لا يتأتّى تنزيل معاني الأحاديث عليه بأن يقال : إن اطمأنت نفسك إلى ترك العمل الفلاني فاتركه ، وإلّا فدعه ، أي : فدع الترك واعمل به.

وإنما يستقيم إعمال الأحاديث المذكورة فيما أعمل فيه قوله عليه الصلاة والسلام : «الحلال بيّن والحرام بيّن» الحديث.

وما كان من قبيل العادات من استعمال الماء والطعام والشراب والنكاح واللباس ، وغير ذلك مما في هذا المعنى ، فمنه ما هو بيّن الحلّيّة وما هو بيّن التحريم ، وما فيه إشكال ، وهو الأمر المشتبه الذي لا يدري أحلال هو أم حرام؟ فإن ترك الإقدام أولى من الإقدام مع جهله بحاله ، نظير قوله عليه الصلاة والسلام : «إني لأجد التمرة ساقطة على فراشي ، فلولا أني أخشى أن تكون صدقة لأكلتها» (١) فهذه التمرة لا شك أنها لم تخرج من إحدى الحالين : إما من الصدقة وهي حرام عليه ، وإما من غيرها وهي حلال له ، فترك أكله حذرا من أن تكون من الصدقة في نفس الأمر.

قال الطبري : فكذلك حق الله على العبد فيما اشتبه عليه مما هو في سعة من تركه والعمل به ، أو مما هو غير واجب ـ أن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه ، إذ يزول بذلك عن نفسه الشك ، كمن يريد خطبة امرأة فتخبره امرأة أنها قد أرضعته وإياها ولا يعلم صدقها من كذبها ، فإن تركها أزال عن نفسه الريبة اللاحقة له بسبب إخبار المرأة ، وليس تزوجه إياها بواجب ، بخلاف ما لو أقدم ، فإن النفس لا تطمئن إلى حلّيّة تلك الزوجة.

وكذلك قول عمر إنما هو فيما أشكل أمره في البيوع فلم يدر حلال هو أم حرام؟ ففي تركه سكون النفس وطمأنينة القلب ، كما في الإقدام شك : هل هو آثم أم لا؟ وهو معنى قوله عليه‌السلام للنواس ووابصة رضي الله عنهما. ودلّ على ذلك حديث المشتبهات ، لا ما ظنّ

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الزكاة ، باب : ما يذكر في الصدقة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وباب : أخذ صدقة التمر عند صرام النخيل ، وأخرجه في كتاب : الجهاد ، باب : من تكلم بالفارسية والرطانة (الحديث : ٣ / ٢٨٠). وأخرجه مسلم في كتاب : الزكاة ، باب : تحريم الزكاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله (الحديث : ١٠٦٩).

٤٣٣

أولئك من أنه أمر للجهال أن يعملوا بما رأته أنفسهم ، ويتركوا ما استقبحوه دون أن يسألوا علماءهم.

قال الطبري ، فإن قيل : إذا قال الرجل لامرأته : أنت عليّ حرام ، فسأل العلماء فاختلفوا عليه ، فقال بعضهم : قد بانت منك بالثلاث ، وقال بعضهم : إنها حلال غير أن عليك كفارة يمين ، وقال بعضهم : ذلك إلى نيته إن أراد الطلاق فهو طلاق ، أو الظهار فهو ظهار ، أو يمينا فهو يمين ، وإن لم ينو شيئا فليس بشيء : أيكون هذا اختلافا في الحكم كإخبار المرأة بالرضاع فيؤمر هنا بالفراق ، كما يؤمر هناك أن لا يتزوجها خوفا من الوقوع في المحظور أو لا؟ قيل : حكمه في مسألة العلماء أن يبحث عن أحوالهم وأمانتهم ونصيحتهم ثم يقلد الأرجح ، فهذا ممكن ، والحزازة مرتفعة بهذا البحث ، بخلاف ما إذا بحث مثلا عن أحوال المرأة فإن الحزازة لا تزول ، وإن أظهر البحث أن أحوالها غير حميدة ، فهما على هذا مختلفان ، وقد يتفقان في الحكم إذا بحث عن العلماء فاستوت أحوالهم عنده ، لم يثبت له ترجيح لأحدهم ، فيكون العمل المأمور به من الاجتناب كالمعمول به في مسألة المخبرة بالرضاع سواء ، إذ لا فرق بينهما على هذا التقدير. انتهى معنى كلام الطبري.

وقد أثبت في مسألة اختلاف العلماء على المستفتي أنه غير مخير ، بل حكمه حكم من التبس عليه الأمر فلم يدر أحلال هو أم حرام؟ فلا خلاص له من الشبهة إلا باتباع أفضلهم والعمل بما أفتى به ، وإلّا فالترك ، إذ لا تطمئن النفس إلا بذلك حسبما اقتضته الأدلة المتقدمة.

فصل

ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال على كل من اختار استفتاء القلب مطلقا أو بقيد ، وهو الذي رآه الطبري ، وذلك أن حاصل الأمر يقتضي أن فتاوى القلوب وما اطمأنت إليه النفوس معتبر في الأحكام الشرعية ، وهو التشريع بعينه ، فإن طمأنينة النفس وسكون القلب مجردا عن الدليل ، إما أن تكون معتبرة أو غير معتبرة شرعا ، فإن لم تكن معتبرة فهو خلاف ما دلت عليه تلك الأخبار ، وقد تقدم أنها معتبرة بتلك الأدلة ، وإن كانت معتبرة فقد صار ثمّ قسم ثالث غير الكتاب والسنّة ، وهو غير ما نفاه الطبري وغيره.

٤٣٤

وإن قيل : إنها تعتبر في الإحجام دون الإقدام ، لم تخرج تلك عن الإشكال الأول ، لأن كل واحد من الإقدام والإحجام فعل لا بدّ أن يتعلق به حكم شرعي ، وهو الجواز وعدمه ، وقد علق ذلك بطمأنينة النفس أو عدم طمأنينتها ، فإن كان ذلك عن دليل ، فهو ذلك الأول بعينه ، باق على كل تقدير.

والجواب : إن الكلام الأول صحيح ، وإنما النظر في تحقيقه.

فاعلم إن كل مسألة تفتقر إلى نظرين : نظر في دليل الحكم ، ونظر في مناطه.

فأما النظر في دليل الحكم : لا يمكن أن يكون إلا من الكتاب والسنّة ، أو ما يرجع إليهما عن إجماع أو قياس أو غيرهما ، ولا يعتبر فيه طمأنينة النفس ، ولا نفي ريب القلب ، إلا من جهة اعتقاد كون الدليل دليلا أو غير دليل ، ولا يقول أحد (؟) إلا أهل البدع الذين يستحسنون الأمر بأشياء لا دليل عليها ، أو يستقبحون كذلك من غير ذلك إلا طمأنينة النفس (؟) أن الأمر كما زعموا ، وهو مخالف لإجماع المسلمين.

وأما النظر في مناط الحكم : فإن المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتا بدليل شرعي فقط ، بل يثبت بدليل غير شرعي أو بغير دليل ، فلا يشترط فيه بلوغ درجه الاجتهاد بل لا يشترط فيه العلم فضلا عن درجة الاجتهاد. ألا ترى أن العامي إذا سئل عن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إذا فعله المصلّي : هل تبطل به الصلاة أم لا؟ فقال العامي : إن كان يسيرا فمغتفر ، وإن كان كثيرا فمبطل ، لم يغتفر في اليسير إلى أن يحققه له العالم ، بل العاقل يفرق بين الفعل اليسير والكثير ، فقد انبني هاهنا الحكم ـ وهو البطلان أو عدمه ـ على ما يقع بنفس العامي ، وليس واحدا من الكتاب أو السنّة ، لأنه ليس ما وقع بقلبه دليلا على حكم ، وإنما هو مناط الحكم ، فإذا تحقق له المناط بأي وجه تحقق ، فهو المطلوب فيقع عليه الحكم بدليله الشرعي.

وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور في الطهارة ، وفرقنا بين اليسير والكثير في التفريق الحاصل أثناء الطهارة ، فقد يكتفي العامي بذلك حسبما يشهد قلبه في اليسير أو الكثير ، فتبطل طهارته أو تصح بناء على ذلك الواقع في القلب ، لأنه نظر في مناط الحكم.

فإذا ثبت هذا فمن ملك لحم شاة ذكية حلّ له أكله ، لأن حلّيّته ظاهرة عنده إذا حصل

٤٣٥

له شرط الحلية لتحقق مناطها بالنسبة إليه : أو ملك لحم شاة ميتة لم يحل له أكله ، لأن تحريمه ظاهر من جهة فقده شرط الحلية ، فتحقق مناطها بالنسبة إليه ، وكل واحد من المناطين راجع إلى ما وقع بقلبه ، واطمأنت إليه نفسه ، لا بحسب الأمر في نفسه ، ألا ترى أن اللحم قد يكون واحدا بعينه فيعتقد واحد حليته بناء على ما تحقق له من مناطها بحسبه ، ويعتقد آخر تحريمه بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه ، فيأكل أحدهما حلالا ويجب على الآخر الاجتناب ، لأنه حرام؟ ولو كان ما يقع بالقلب يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعي لم يصح هذا المثال وكان محالا ، لأن أدلة الشرع لا تناقض أبدا ، فإذا فرضنا لحما أشكل على المالك تحقيق مناطه لم ينصرف إلى إحدى الجهتين ، كاختلاط الميتة بالذكية ، واختلاط الزوجة بالأجنبية.

فههنا قد وقع الريب والشك والإشكال والشبهة.

وهذا المناط محتاج إلى دليل شرعي يبين حكمه ، وهي تلك الأحاديث المتقدمة ، كقوله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (١) وقوله : «البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في صدرك» (٢) كأنه يقول : إذا اعتبرنا باصطلاحنا ما تحققت مناطه في الحليّة أو الحرمة ، فالحكم فيه من الشرع بيّن ، وما أشكل عليك تحقيقه فاتركه وإياك والتلبس به ، وهو معنى قوله ـ إن صح ـ : «استفت قلبك وإن أفتوك» (٣) فإن تحقيقك لمناط مسألتك أخص بك من تحقيق غيرك له إذا كان مثلك.

ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك المناط ولم يشكل على غيرك ، لأنه لم يعرض له ما عرض لك.

وليس المراد بقوله : «وإن أفتوك» أي : إن نقلوا إليك الحكم الشرعي فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك ، فإن هذا باطل ، وتقوّل على التشريع الحق ، وإنما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٤٢٨ ، الحاشية : ١.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٤٢٨ ، الحاشية : ٢.

(٣) تقدم تخريجه ص : ٤٢٩ ، الحاشية : ١.

٤٣٦

نعم قد لا يكون ذلك درية أو أنسا بتحقيقه فيحققه لك غيرك ، وتقلده فيه ، وهذه الصورة خارجة عن الحديث ، كما أنه قد يكون تحقيق المناط أيضا موقوفا على تعريف الشارع ، كحد الغنى الموجب للزكاة ، فإنه يختلف باختلاف الأحوال ، فحققه الشارع بعشرين دينارا ومائتي درهم وأشباه ذلك ، وإنما النظر هنا فيما وكل تحقيقه إلى المكلف.

فقد ظهر معنى المسألة وأن الأحاديث لم تتعرض لاقتناص الأحكام الشرعية من طمأنينة النفس أو ميل القلب كما أورده السائل المستشكل ، وهو تحقيق بالغ. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

٤٣٧

٩ ـ باب : في السبب الذي لأجله افترقت المبتدعة

عن جماعة المسلمين

فاعلموا رحمكم الله أن الآيات الدالة على ذم البدعة وكثيرا من الأحاديث أشعرت بوصف لأهل البدعة ، وهو الفرقة الحاصلة ، حتى يكونوا بسببها شيعا متفرقة ، لا ينتظم شملهم بالإسلام ، وإن كانوا من أهله ، وحكم لهم بحكمه.

ألا ترى أن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (١) ، وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) (٢) الآية ، وقوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٣) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وصف التفرق؟

وفي الحديث : «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (٤) والتفرق ناشئ عن الاختلاف في المذاهب والآراء إن جعلنا التفرق معناه بالأبدان ـ وهو الحقيقة ـ وإن جعلنا معنى التفرق في المذاهب ، فهو الاختلاف كقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) (٥).

فلا بد من النظر في هذا الاختلاف ما سببه؟ وله سببان :

أحدهما : لا كسب للعباد فيه ، وهو الراجع إلى سابق القدر.

والآخر : هو الكسبي وهو المقصود بالكلام عليه في هذا الباب ، إلا أن نجعل السبب

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

(٢) سورة : الروم ، الآيتان : ٣١ ـ ٣٢.

(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٣.

(٤) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : شرح السنة (الحديث : ١٠٢٤).

(٥) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٥.

٤٣٨

الأول مقدمة ، فإن فيها معنى أصيلا يجب التثبت له على من أراد التفقه في البدع ، فنقول والله الموفق للصواب :

قال الله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١) فأخبر سبحانه أنهم لا يزالون مختلفين أبدا ، مع أنه إنما خلقهم للاختلاف ، وهو قول جماعة من المفسرين في الآية ، وأن قوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) معناه : وللاختلاف خلقهم ، وهو مروي عن مالك بن أنس قال : خلقهم ليكونوا فريقا في الجنة وفريقا في السعير ، ونحوه عن الحسن فالضمير في «خلقهم» عائد على الناس ، فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما سبق في العلم ، وليس المراد هاهنا الاختلاف في الصور كالحسن والقبيح والطويل والقصير ، ولا في الألوان كالأحمر والأسود ، ولا في أصل الخلقة كالتام الخلق والأعمى والبصير ، والأصم والسميع ، ولا في الخلق كالشجاع والجبان ، والجواد والبخيل ، ولا فيما أشبه ذلك من الأوصاف التي هم مختلفون فيها.

وإنما المراد اختلاف آخر وهو الاختلاف الذي بعث الله النبيين ليحكموا فيه بين المختلفين ، كما قال تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) (٢) الآية ، وذلك الاختلاف في الآراء والنحل والأديان والمعتقدات المتعلقة بما يسعد الإنسان به أو يشقى في الآخرة والدنيا.

هذا هو المراد من الآيات التي كرر فيها الاختلاف الحاصل بين الخلق ، أن هذا الاختلاف الواقع بينهم على أوجه :

أحدها : الاختلاف في أصل النحلة :

وهو قول جماعة من المفسرين ، منهم عطاء قال : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ

__________________

(١) سورة : هود ، الآيتان : ١١٨ ـ ١١٩.

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ٢١٣.

٤٣٩

رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (١) قال : قال : اليهود والنصارى والمجوس ، والحنيفية ـ وهم الذين رحم ربك ـ الحنيفية ، خرّجه ابن وهب وهو الذي يظهر لبادي الرأي في الآية المذكورة.

وأصل هذا الاختلاف : هو في التوحيد والتوجه للواحد الحق سبحانه ، فإن الناس في عامة الأمر لم يختلفوا في أن لهم مدبرا يدبرهم وخالقا أوجدهم ، إلا أنهم اختلفوا في تعيينه على آراء مختلفة : من قائل بالاثنين وبالخمسة ، وبالطبيعة أو بالدهر ، أو بالكواكب ، إلى أن قالوا بالآدميين وبالشجر وبالحجارة وما ينحتون بأيديهم.

ومنهم من أقرّ بواجب الوجود الحق لكن على آراء مختلفة أيضا ، إلى أن بعث الله الأنبياء مبينين لأممهم حق ما اختلفوا فيه من باطله ، فعرفوا بالحق على ما ينبغي ، ونزهوا ربّ الأرباب عمّا لا يليق بجلاله من نسبة الشركاء والأنداد ، وإضافة الصاحبة والأولاد ، فأقرّ بذلك من أقرّ به ، وهم الداخلون تحت مقتضى قوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) وأنكر من أنكر ، فصار إلى مقتضى قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٢) ، وإنما دخل الأولون تحت وصف الرحمة لأنهم خرجوا عن وصف الاختلاف إلى وصف الوفاق والألفة ، وهو قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (٣) وهو منقول عن جماعة من المفسرين.

وخرّج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في قوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) خلق أهل الرحمة أن لا يختلفوا ، وهو معنى ما نقل عن مالك وطاوس في جامعه ، وبقي الآخرون على وصف الاختلاف ، إذ خالفوا الحق الصريح ، ونبذوا الدين الصحيح.

وعن مالك أيضا قال : الذين رحمهم لم يختلفوا. وقول الله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) إلى قوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) (٤) ومعنى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) فأخبر في الآية أنهم

__________________

(١) سورة : هود ، الآيتان : ١١٨ ـ ١١٩.

(٢) سورة : هود ، الآية : ١١٩.

(٣) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٣.

(٤) سورة : البقرة ، الآية : ٢١٣.

٤٤٠