الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

بناء على أصل مذكور في كتاب الموافقات والحمد لله ، وإذا كان كذلك لم يكن في العمل المنقول عن السلف مخالفة لما سبق.

فصل

لكن يبقى النظر في تعليل النهي ، وأنه يقتضي انتفاءه عند انتفاء العلة ، وما ذكروه فيه صحيح في الجملة ، وفيه في التفصيل نظر ، وذلك أن العلة راجعة إلى أمرين : أحدهما :

الخوف من الانقطاع والترك إذا التزم فيما يشق فيه الدوام ، والآخر : الخوف من التقصير فيما هو الآكد من حق الله وحقوق الخلق.

أما الأول : فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أصّل فيه أصلا راجعا إلى قاعدة معلومة لا مظنونة ، وهي بيان أن العمل المورث للحرج عند الدوام منفي عن الشريعة ، كما أن أصل الحرج منفي عنها ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث الحنيفية السمحة ، ولا سماح مع دخول الحرج ، فكل من ألزم نفسه ما يقلى فيه الحرج فقد يخرج عن الاعتدال في حق نفسه ، وصار إدخاله للحرج على نفسه من تلقاء نفسه ، لا من الشارع ؛ فإن دخل في العمل على شرط الوفاء ؛ فإن وفّى فحسن بعد الوقوع ، إذ قد ظهر أن ذلك العمل إما غير شاق لأنه قد أتى به بشرطه ، وإما شاق صبر عليه فلم يوف النفس حقها من الرفق ، وسيأتي ، وإن لم يوف. فكأنه نقض عهد الله وهو شديد ، فلو بقي على أصل براءة الذمة من الالتزام لم يدخل عليه ما يتقي منه.

لكن لقائل أن يقول : إن النهي هاهنا معلق بالرفق الراجع إلى العامل ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : «نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوصال رحمة لهم» (١) ، فكأنه قد اعتبر حظ النفس في التعبد ، فقيل له : افعل واترك ، أي : لا تتكلف ما يشق عليك ، كما لا تتكلف في الفرائض ما يشق عليك لأن الله إنما وضع الفرائض على العباد على وجه من التيسير يشترك فيه القوي والضعيف ، والصغير والكبير ، والحر والعبد ، والرجل والمرأة ، حتى إذا كان بعض الفرائض يدخل الحرج على المكلف يسقط عنه جملة أو يعوض عنه ما لا حرج فيه كذلك النوافل المتكلم فيها.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الصوم ، باب : الوصال (الحديث : ٤ / ١٧٧). وأخرجه مسلم في كتاب : الصيام ، باب : النهي عن الوصال في الصوم (الحديث : ١١٠٥).

٢٦١

وإذا روعي حظ النفس ، فقد صار الأمر في الإيغال إلى العامل ، فله أن لا يمكنها من حظها ، وأن يستعملها فيما قد يشق عليها بالدوام ـ بناء على القاعدة المؤصلة في أصول الموافقات في إسقاط الحظوظ ، فلا يكون إذا منهيا ـ على ذلك التقدير ـ فكما يجب على الإنسان حق لغيره ما دام طالبا له ، وله الخيرة في ترك الطلب به فيرتفع الوجوب ، كذلك جاء النهي حفظا على حظوظ النفس ، فإذا أسقطها صاحبها زال النهي ، ورجع العمل إلى أصل الندب.

والجواب : أن حظوظ النفوس بالنسبة إلى الطلب بها قد يقال : إنه من حقوق الله على العباد ، وقد يقال : إنه من حقوق العباد ، فلا ينهض ما قلتم ، إذ ليس للمكلف خيرة فيه ، فكما أنه متعبد بالرفق بغيره كذلك هو مكلف بالرفق بنفسه ودل على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لنفسك عليك حقا» (١) إلى آخر الحديث. فقرن حق النفس بحق الغير في الطلب في قوله : «فأعط كل ذي حق حقه» (٢) ثم جعل ذلك حقا من الحقوق.

ولا يطلق هذا اللفظ إلا على ما كان لازما ، ويدل عليه أنه لا يحل للإنسان أن يبيح لنفسه ولا لغيره دمه ، ولا قطع طرف من أطرافه ، ولا إيلامه بشيء من الآلام ، ومن فعل ذلك أثم واستحق العقاب ، وهو ظاهر.

وإن قلنا : إنه من حق العبد ، وراجع إلى خيرته ، فليس ذلك على الإطلاق ، إذ قد تبين في الأصول أن حقوق العباد ليست مجردة من حق الله.

والدليل على ذلك ـ فيما نحن فيه ـ أنه لو كان إلى خيرتنا بإطلاق لم يقع النهي فيه علينا ، بل كنا نخير فيه ابتداء ، وإلى ذلك (؟) فإنه لو كان بخيرة المكلف محضا لجاز للناذر العبادة أن يتركها متى شاء ويفعلها متى شاء.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الأدب ، باب : صنع الطعام والتكلف للضيف (الحديث : ٦١٣٩) ، وأخرجه الترمذي في كتاب : الزهد ، باب : أعط كل ذي حق حقه (الحديث : ٢٤١٥).

(٢) تقدم تخريجه في الحديث الذي قبله.

٢٦٢

وقد اتفق الأئمة على وجوب الوفاء بالنذر ، فيجري ما أشبه مجراه. وأيضا فقد فهمنا من الشرع أنه حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، ومن جملة التزيين تشريعه على وجه يستحسن الدخول فيه ، ولا يكون هذا مع شرعية المشقات. وإذا كان الإيغال في الأعمال من شأنه في العادة أن يورث الكلل والكراهية والانقطاع ـ الذي هو كالضد لتحبيب الإيمان وتزيينه في القلوب ـ كان مكروها لأنه على خلاف وضع الشريعة ؛ فلم ينبغ أن يدخل فيه على ذلك الوجه.

وأما الثاني : فإن الحقوق المتعلقة بالمكلف على أصناف كثيرة ، وأحكامها تختلف حسبما تعطيه أصول الأدلة ، ومن المعلوم أنه إذا تعارض على المكلف حقان ولم يمكن الجمع بينهما ، فلا بد من تقديم ما هو آكد في مقتضى الدليل ، فلو تعارض على المكلف واجب ومندوب لقدم الواجب على المندوب ، وصار المندوب في ذلك الوقت غير مندوب بل صار واجب الترك عقلا أو شرعا ، من باب ما لا يتم الواجب إلا به.

وإذا صار واجب الترك ، فكيف يصير العامل به إذ ذاك متعبدا لله به؟ بل هو متعبد بما هو مطلوب في أصول الأدلة ، لأن دليل الندب عتيد ، ولكنه مع ذلك بالنسبة إلى ترك المندوب على الجملة ، إلا أنه غير مخلص من جهة ذلك الالتزام المتقدم ، وقد مرّ ما فيه ، وإن عمل بالمندوب عصى بترك الواجب.

وبقي النظر في المندوب : هل وقع موقعه في الندب أم لا؟ فإن قلت : إن ترك المندوب هنا واجب عقلا ؛ فقد ينهض المندوب سببا للثواب مع ما فيه من كونه مانعا من أداء الواجب ، وإن قلت : إنه واجب شرعا ، بعد من انتهاضه سببا للثواب إلا على وجه ما ، وفيه أيضا ما فيه.

فأنت ترى ما في التزام النوافل على كل تقدير فرضا إذا كان مؤديا للحرج وهذا كله إذا كان الالتزام صادّا عن الوفاء بالواجبات مباشرة ، قصدا أو غير قصد ؛ ويدخل فيه ما في حديث سلمان مع أبي الدرداء رضي الله عنهما ، إذ كان التزام قيام الليل مانعا له من أداء حقوق الزوجة ، من الاستمتاع الواجب عليه في الجملة وكذلك التزام صيام النهار.

ومثله لو كان التزام صلاة الضحى أو غيرها من النوافل مخلا بقيامه على مريضه ،

٢٦٣

المشرف والقيام على إعانة أهله بالقوت أو ما أشبه ذلك ويجري مجراه ـ وإن لم يكن في رتبته ـ أن لو كان ذلك الالتزام يفضي به إلى ضعف بدنه ، أو نهك قواه ، حتى لا يقدر على الاكتساب لأهله ، أو أداء فرائضه على وجهها ، أو الجهاد ، أو طلب العلم.

كما نبه عليه حديث داود عليه‌السلام : «أنه كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى» (١).

وقد جاء في مفروض الصيام في السفر من التخيير ما جاء ، ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عام الفتح : «إنكم قد دنوتم من عدوكم ، والفطر أقوى لكم». قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر ، قال : ثم سرنا فنزلنا منزلا فقال : «إنكم تصبّحون عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا» (٢) قال : فكانت عزيمة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذه إشارة إلى أن الصيام ربما أضعف عن ملاقاة العدو وعمل الجهاد ، فصيام النفل أولى بهذا الحكم.

وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يظلل عليه ، والزحام عليه ، فقال : «ليس من البر الصيام في السفر» (٣) يعني أن الصيام في السفر وإن كان واجبا ، ليس برا في السفر ، إذا بلغ به الإنسان ذلك الحد مع وجود الرخصة ، فالرخصة إذا مطلوبة في مثله بحيث تصير به آكد من أداء الواجب ، فما ليس بواجب في أصله أولى.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٢٤٤ ، الحاشية : ١.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب : الصيام ، باب : أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل (الأحاديث : ١١١٦ ، ١١١٧ ، ١١٢٠). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصوم ، باب : الصوم في السفر (الحديث : ٢٤٠٦). وأخرجه الترمذي في كتاب : الصوم ، باب : ما جاء في الرخصة في السفر (الحديث : ٧١٢). وأخرجه النسائي في كتاب : الصوم ، باب : ذكر الاختلاف على أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة فيه (الأحاديث : ٣٠ / ١٨٨ ، ١٨٩).

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الصوم ، باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر : «ليس البر الصيام في السفر» (الأحاديث : ٤ / ١٦١ ، ١٦٢). وأخرجه مسلم في كتاب : الصيام ، باب : جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية (الحديث : ١١١٥).

٢٦٤

فالحاصل : أن كل من ألزم نفسه شيئا يشق عليه فلم يأت طريق البر على حده.

فصل

إذا ثبت ما تقدم ورد الإشكال الثاني ، وهو أن التزام النوافل التي يشق التزامها مخالفة للدليل ، وإذا خالفت فالمتعبد بها على ذاك التقدير متعبد بما لم يشرع وهو عين البدعة ، فإما أن تنتظمها أدلة ذم البدعة أو لا ، فإن انتظمتها أدلة الذم فهو غير صحيح لأمرين.

أحدهما : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كره لعبد الله بن عمرو ما كره وقال له : إني أطيق أفضل من ذلك ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أفضل من ذلك» (١) تركه بعد على التزامه ، ولو لا أن عبد الله فهم منه بعد نهيه الإقرار عليه لما التزمه وداوم عليه ، حتى قال : ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم! فلو قلنا : إنها بدعة ـ وقد ذم كل بدعة على العموم ـ لكان مقرّا له على خطإ ، وذلك لا يجوز ، كما أنه لا ينبغي أن يعتقد في الصحابي أنه خالف أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصدا للتعبد بما نهاه عنه ، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم أتقى لله من ذلك ، وكذلك ما ثبت عن غيره من وصال الصيام وأشباهه ، وإذا كان كذلك لم يمكن أن يقال : إنها بدعة.

الثاني : أن العامل بها دائما بشرط الوفاء. إن التزم الشرط فأداها على وجهها فلقد حصل مقصود الشارع ، فارتفع النهي إذا ، فلا مخالفة للدليل ، فلا ابتداع وإن لم يلتزم أداءها ، فإن كان باختيار فلا إشكال في المخالفة المذكورة ، كالناذر يترك المندوب بغير عذر ، ومع ذلك فلا يسمى تركه بدعة ، ولا عمله في وقت العمل بدعة ، ولا يسمى بالمجموع مبتدعا. وإن كان لعارض مرض أو غيره من الأعذار ، فلا نسلم أنه مخالف ، كما لا يكون مخالفا في الواجب إذا عارضه فيه عارض ، كالصيام للمريض والحج لغير المستطيع ، فلا ابتداع إذا.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٢٤٤ ، الحاشية : ١.

٢٦٥

وأما إن لم تنتظمها أدلة الذم ، فقد ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بمنهي ، بل هو مما يتعبد به ، وليس من قبيل المصالح المرسلة ، ولا غيرها مما له أصل على الجملة. وحينئذ يشمل هذا الأصل كل ملتزم تعبدي كان له أصل أم لا؟ لكن فحيث يكون له أصل على الجملة لا على التفصيل ، كتخصيص ليلة مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقيام فيها ، ويومه بالصيام ، أو بركعات مخصوصة ، وقيام ليلة أول جمعة من رجب ، وليلة النصف من شعبان ، والتزام الدعاء جهرا بآثار الصلوات مع انتصاب الإمام ، وما أشبه ذلك مما له أصل جليّ ، وعند ذلك ينخرم كل ما تقدم تأصيله.

والجواب عن الأول : أن الإقرار ـ صحيح ، ولا يمتنع أن يجتمع مع النهي الإرشاد لأمر خارجي ، فإن النهي لم يكن لأجل خلل في نفس العبادة ، ولا في ركن من أركانها ، وإنما كان لأجل الخوف من أمر متوقع ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : إن النهي عن الوصال كالتنكيل بهم ، ولو كان منهيا عنه بالنسبة إليهم لما فعل.

فانظر كيف اجتمع في الشيء الواحد كونه عبادة ومنهيا عنه ، لكن باعتبارين ، ونظيره في الفقهيات ، ما يقوله جماعة من المحققين في البيع بعد نداء الجمعة ، فإنه نهى عنه لا من جهة كونه بيعا ، بل من جهة كونه مانعا من حضور الجمعة ، فيجيزون البيع بعد الوقوع ، ويجعلونه فاسدا ، وإن وجد التصريح بالنهي فيه ، للعلم بأن النهي ليس براجع إلى نفس البيع ، بل إلى أمر يجاوره ، ولذلك يعلل جماعة ممن يقول بفسخ البيع لأنه زجر للمتابعين لا لأجل النهي عنه ، فليس عند هؤلاء ببيع فاسد أيضا ، ولا النهي راجع إلى نفس البيع.

فالأمر بالعبادة شيء ، وكون المكلف يوفي بها أولا ، شيء آخر ، فإقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عمرو رضي الله عنهما على ما التزم ونهيه إياه ابتداء ، لا يدل على الفساد ، وإلا لزم التدافع ، وهو محال ، إلا أن هاهنا نظرا آخر : وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صار في هذه المسائل كالمرشد للمكلف وكالمبتدئ بالنصيحة عند وجود مظنة الاستنصاح ، فلما تكلف المكلف على اجتهاده دون نصيحة الناصح الأعرف بعوارض النفوس ، صار كالمتبع لرأيه مع وجود النص وإن كان بتأويل ، فإن سمي في اللفظ بدعة فبهذا الاعتبار ، وإلّا فهو متبع للدليل المنصوص من صاحب النصيحة ، وهو الدّال على الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة.

٢٦٦

ومن هنا قيل فيها إنها بدعة إضافية لا حقيقية ، ومعنى كونها إضافية أن الدليل فيها مرجوح بالنسبة لمن يشق عليه الدوام عليها ، وراجع بالنسبة إلى من وفّى بشرطها ولذلك وفّى بها عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بعد ما ضعف ، وإن دخل عليه فيها بعض الحرج حتى تمنى قبول الرخصة ، بخلاف البدعة الحقيقة ، فإن الدليل عليها مفقود حقيقة ، فضلا عن أن يكون مرجوحا ، فهذه المسألة تشبه مسألة خطأ المجتهد ، فالقول فيهما متقارب ، وسيأتي الكلام فيهما إن شاء الله تعالى.

وأما قول السائل في الإشكال : إن التزام الشرط فأدى العبادة على وجهها ـ إلى آخره ـ فصحيح ، إلا قوله : فإن تركها لعارض فلا حرج كالمريض ، فإن ما نحن فيه ليس كذلك ، بل ثمّ قسم آخر ، وهو أن يتركها بسبب تسبب هو فيه ، وإن ظهر أن ليس من سببه ، فإن ترك الجهاد ـ مثلا ـ باختياره مخالفة ظاهرة وتركه لمرض أو نحوه لا مخالفة فيه ، فإن عمل في سبب يلحقه عادة بالمريض حتى لا يقدر على الجهاد فهذه واسطة بين الطرفين ، فمن حيث تسببه في المانع لا يكون محمودا عليه ، وهو نظير الإيغال في العمل الذي هو سبب في كراهية العمل أو التقصير على الواجب ، وهذا المكلف قد خالف النهي ، ومن حيث وقع له الحرج المانع في العبادة من أدائها على وجهها قد يكون معذورا ؛ فصار هنا نظر بين نظرين لا يتخلص مع العمل إلى واحد منهما.

وأما قوله : ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بمنهي عنه ، فليس كما قال ، وذلك أن المندوب هو من حيث هو مندوب يشبه الواجب من جهة مطلق الأمر ، ويشبه المباح من جهة رفع الحرج على التارك ، فهو واسطة بين الطرفين لا يتخلى إلى واحد منهما ، إلا أن قواعد الشرع شرطت في ناحية العمل شرطا ، كما شرطت في ناحية تركه شرطا ، فشرط العمل به أن لا يدخل فيه مدخلا يؤديه إل الحرج المؤدي إلى انخرام الندب فيه رأسا ، أو انخرام ما هو أولى منه ، وما وراء هذا موكول إلى خيرة المكلف ، فإذا دخل فيه فلا يخلو أن يدخل فيه على قصد انخرام الشرط أو لا ، فإن كان كذلك ، فهو القسم الذي يأتي إن شاء الله ، وحاصله أن الشارع طالبه برفع الحرج ، وهو يطالب نفسه بوضعه وإدخاله على نفسه وتكليفها ما لا يستطاع ، مع زيادة الإخلال بكثير من الواجبات

٢٦٧

والسنن التي هي أولى مما دخل فيه ، ومعلوم أن هذه بدعة مذمومة.

وإن دخل في غير ذلك القصد ، فلا يخلو أن يجري المندوب على مجراه أو لا ، فإن أجراه كذلك بأن يفعل منه ما استطاع إذا وجد نشاطا ولم يعارضه ما هو أولى مما دخل فيه ، فهو محض السنّة التي لا مقال فيها ، لاجتماع الأدلة على صحة ذلك العمل ، إذ قد أمر فهو غير تارك ، ونهى عن الإيغال وإدخال الحرج فهو متحرز ، فلا إشكال في صحته ، وهو كان شأن السلف الأول ومن بعدهم ، وإن لم يجره على مجراه ولكنه أدخل فيه رأي الالتزام ، والدوام ، فذلك الرأي مكروه ابتداء.

لكن فهم من الشرع أن الوفاء ـ إن حصل ـ فهو إن شاء الله ـ كفارة النّهي ، فلا يصدق عليه في هذا القسم معنى البدعة ، لأن الله تعالى مدح الموفين بالنذر والموفين بعهدهم إذا عاهدوا ، وإن لم يحصل الوفاء تمحض وجه النهي ، وربما أثم في الالتزام غير النذري ، ولأجل احتمال عدم الوفاء أطلق عليه لفظ البدعة ، لا لأجل أنه عمل لا دليل عليه ، بل الدليل عليه قائم.

ولذلك إذا التزم الإنسان بعض المندوبات التي يعلم أو يظن أن الدوام فيها لا يوقع في حرج أصلا ـ وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة المنبه عليها ـ لم يقع في نهي ، بل في محض المندوبات ، كالنوافل الرواتب مع الصلوات ، والتسبيح والتحميد والتكبير في آثارها ، والذكر اللساني الملتزم بالعشي والإبكار ، وما أشبه ذلك مما لا يخل بما هو أولى ، ولا يدخل حرجا بنفس العمل به ولا بالدوام عليه.

وفي هذا القسم جاء التحريض على الدوام صريحا ، ومنه كان جمع عمر رضي الله عنه الناس في رمضان في المسجد ، ومضى عليه الناس ، لأنه كان أولا سنة ثابتة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إنه أقام للناس بما كانوا قادرين عليه ومحبين فيه ، وفي شهر واحد من السنة لا دائما ، وموكولا إلى اختيارهم ، لأنه قال : والتي ينامون عنها أفضل.

وقد فهم السلف الصالح أن القيام في البيوت أفضل ، فكان كثير منهم ينصرفون فيقومون في منازلهم ، ومع ذلك فقد قال : نعمت البدعة هذه ، فأطلق عليها لفظ البدعة ـ كما ترى ـ نظرا ـ والله أعلم ـ إلى اعتبار الدوام ، وإن كان شهرا في السنة ، وأنه لم يقع فيمن قبله عملا دائما ، أو أنه أظهره في المسجد الجامع مخالفا لسائر النوافل ، وإن كان ذلك واقعا في

٢٦٨

أصله كذلك ، فلما كان الدليل على ذلك القيام على الخصوص واضحا قال : نعمت البدعة هذه ، فحسنها بصيغة «نعم» التي تقتضي من المدح ما تقتضيه صيغة التعجب ، لو قال : ما أحسنها من بدعة! وذلك يخرجها قطعا عن كونها بدعة.

وعلى هذا المعنى جرى كلام أبي أمامة رضي الله عنه مستشهدا بالآية حيث قال : أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما معناه ما ذكرناه ، ولأجله قال : فدوموا عليه. ولو كان بدعة على الحقيقة لنهى عنه ، ومن هذه الجهة أجرينا الكلام على ما نهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه من التعبد المخوف الحرج في المآل ، واستسهلنا وضع ذلك في قسم البدع الإضافية ، تنبيها على وجهها ووضعها في الشرع مواضعها ، حتى لا يغتر بها مغتر فيأخذها على غير وجهها ، ويحتج بها على العمل بالبدعة الحقيقية قياسا عليها ولا يدري ما عليه في ذلك ، وإنما تجشمنا إطلاق اللفظ هنا ، وكان ينبغي أن لا يفعل لو لا الضرورة ، وبالله التوفيق.

فصل

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (١) روي في سبب نزول هذه الآية أخبار جملتها تدور على معنى واحد ، وهو تحريم ما أحل الله من الطيبات تدينا أو شبه التدين والله نهى عن ذلك وجعله اعتداء ، والله لا يحب المعتدين ثم قرر الإباحة تقريرا زائدة على ما تقرر بقوله : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) ثم أمرهم بالتقوى ، وذلك مشعر بأن تحريم ما أحل الله خارج عن درجة التقوى.

فخرّج إسماعيل القاضي من حديث أبي قلابة رضي الله عنه قال : أراد ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرفضوا الدنيا وتركوا النساء وترهبوا ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغلّظ فيهم المقالة ، فقال : «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وحجوا

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآيتان : ٨٧ ـ ٨٨.

٢٦٩

واعتمروا ، واستقيموا يستقم بكم» (١) قال : ونزلت فيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ).

وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «إن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمت عليّ اللحم» (٢) فأنزل الله الآية : حديث حسن.

وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد بن الأسود الكندي وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون الجمحي فتوافقوا أن يجبوا أنفسهم ، بأن يعتزلوا النساء ولا يأكلوا لحما ولا دسما ، وأن يلبسوا المسوح ولا يأكلوا من الطعام إلا قوتا ، وأن يسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمرهم ، فأتى عثمان بن مظعون في منزله فلم يجده فيه ، ولا إياهم ، فقال لامرأة عثمان أم حكيم ابنة أبي أمية بن حارثة السلمي : «أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟» قالت : ما هو يا رسول الله؟ فأخبرها ، فكرهت أن لا تحدث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكرهت أن تبدي على زوجها ، فقالت : إن كان أخبرك عثمان فقد صدق فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولي لزوجك وأصحابه إذا رجعوا : إن رسول الله يقول لكم : إني آكل وأشرب وآكل اللحم والدسم وأنام وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (٣) ، فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرتهم امرأته بما أمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : لقد بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرنا فما أعجبه ، فذروا ما كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزل فيها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (٤) قال : من الطعام والشراب والجماع (وَلا تَعْتَدُوا) قال : في قطع المذاكير ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قال : الحلال إلى الحرام.

__________________

(١) أخرج نحوه أبو داود في كتاب : الأدب ، باب : في الحسد (الحديث : ٤٩٠٤).

(٢) أخرجه الترمذي في كتاب : التفسير ، باب : ومن سورة المائدة (الحديث : ٣٠٥٢). وأخرجه الطبري (الحديث : ١٢٣٥٠).

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الإيمان ، باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أعلمكم بالله».

(٤) سورة : المائدة ، الآية : ٨٧.

٢٧٠

وفي الصحيح عن عبد الله قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس معنا نساء ، فقلنا : ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك ، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل ، يعني : ـ والله أعلم ـ نكاح المتعة المنسوخ ، ثم قرأ ابن مسعود : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (١) (٢).

وذكر إسماعيل عن يحيى بن يعمر أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه همّ بالسياحة وهو يصوم النهار ويقوم الليل ، وكانت امرأته عطرة فتركت الكحل والخضاب ، فقالت لها امرأة من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أشهيد أنت أم مغيب؟ فقالت : بل شهيد ، غير أن عثمان لا يريد النساء ، فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلقيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : «أتؤمن بما نؤمن به؟» قال : نعم ، قال : «فاصنع مثل ما نصنع ، (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ)» (٣) الآية.

وخرّج سعيد بن منصور عن خضير عن أبي مالك ، قال : نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه ، كانوا حرموا عليهم كثيرا من الطعام والنساء ، وهمّ بعضهم أن يقطع ذكره ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا) الآية.

وعن قتادة ، قال : نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرادوا أن يتخلوا عن الدنيا ، وتركوا النساء وترهبوا ، منهم علي بن أبي طالب ، وعثمان بن مظعون.

وخرّج ابن المبارك أن عثمان بن مظعون أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ائذن لي في الاختصاء ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس منا من خصى أو اختصى إن اختصاء أمتي الصيام» ، قال : يا رسول الله! ائذن لي في السياحة ، قال : «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله» قال : يا رسول الله! ائذن لي في الترهب ، قال : «إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة» (٤).

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٨٧.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : تفسير سورة المائدة ، باب : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (الحديث : ٨ / ٢٠٧). وأخرجه مسلم في كتاب : النكاح ، باب : نكاح المتعة (الحديث : ١٤٠٤).

(٣) خرّج نحوه في كتاب : حياة الصحابة ج ٢ ، إلى أبي نعيم في كتاب : الحلية ١ / ١٠٦. وأخرجه ابن سعد ٣ / ٣٩٤.

(٤) أخرجه البخاري في كتاب : النكاح ، باب : ما يكره من التبتل (الحديث : ٩ / ١٠١). وأخرجه مسلم ـ

٢٧١

وفي الصحيح ردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التبتل على عثمان بن مظعون ، ولو أذن له لاختصى.

وهذا كله واضح في أن جميع هذه الأشياء تحريم لما هو حلال في الشرع ، وإهمال لما قصد الشارع إعماله ـ وإن كان يقصد سلوك طريق الآخرة ـ لأنه نوع من الرهبانية في الإسلام.

وإلى منع تحريم الحلال ذهب الصحابة والتابعون ومن بعدهم ، إلا أنه إذا كان التحريم غير محلوف عليه فلا كفارة ، وإن كان محلوفا عليه ، ففيه الكفارة ، ويعمل الحالف بما أحل الله له.

ومن ذلك ما ذكر إسماعيل القاضي عن معقل أنه سأل ابن مسعود رضي الله عنه فقال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة ، فتلا عبد الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا) (١) الآية ، أدن فكل وكفّر عن يمينك ، ونم على فراشك.

وفي رواية : كان معقل يكثر الصوم والصلاة ، فحلف أن لا ينام على فراشه ، فأتى ابن مسعود رضي الله عنه فسأله عن ذلك فقرأ عليه الآية.

وعن المغيرة قال : قلت لإبراهيم في هذه الآية : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) أهو الرجل يحرم الشيء ، مما أحل الله له؟ قال : نعم.

وعن مسروق قال : أتي عبد الله بضرع فقال للقوم : ادنوا ، فأخذوا يطعمون ، فقال رجل : إني حرمت الضرع ، فقال عبد الله : هذا من خطوات الشيطان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) أدن فكل ، وكفّر عن يمينك.

وعلى ذلك جرت الفتيا في الإسلام : إن كل من حرّم على نفسه شيئا مما أحل الله له فليس ذلك التحريم بشيء ، فليأكل إن كان مأكولا ، وليشرب إن كان مشروبا ، وليلبس إن كان

__________________

ـ في كتاب : النكاح ، باب : استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مئونة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم (الحديث : ١٤٠٢). وأخرجه أبو داود في كتاب : الجهاد ، باب : النهي عن السياحة (الحديث : ٢٤٨٦). وأخرجه الترمذي في كتاب : النكاح ، باب : ما جاء في النهي عن التبتل (الحديث : ١٠٨٣). وأخرجه النسائي في كتاب : النكاح ، باب : النهي عن التبتل (الأحاديث : ٦ / ٥٨ ، ٥٩).

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٨٧.

٢٧٢

ملبوسا ، وليملك إن كان مملوكا ، وكأنه إجماع منهم منقول عن مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم ، واختلفوا في الزوجة ، ومذهب مالك أن التحريم طلاق كالطلاق الثلاث ، وما سوى ذلك فهو باطل ، لأن القرآن شهد بكونه اعتداء ، حتى إنه إن حرم على نفسه وطء أمة غيره قاصدا به العتق فوطؤها حلال ، وكذلك سائر الأشياء من اللباس والمسكن والصمت والاستظلال والاستضحاء ، وقد تقدم الحديث في الناذر للصوم قائما في الشمس ساكتا ، فإنه تحريم للجلوس والكلام والاستظلال ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره بالجلوس والتكلم والاستظلال ، قال مالك : أمره ليتم ما كان له فيه طاعة ويترك ما كان عليه فيه معصية.

فتأملوا كيف جعل مالك ترك الحلال معصية! وهو مقتضى الآية في قوله تعالى (وَلا تَعْتَدُوا) الآية ، ومقتضى قول ابن مسعود رضي الله عنه لصاحب الضرر : هذا من خطوات الشيطان.

وقد ضعف ابن رشد الحفيد الاستدلال من المالكية بالحديث ، وتفسير مالك له ، وذكر أن قوله في الحديث : ويترك ما كان عليه فيه معصية ليس بالظاهر أن ترك الكلام معصية ، وقد أخبر الله تعالى أنه نذر مريم ـ قال ـ وكذلك يشبه أن يكون القيام للشمس ليس معصية إلا ما يتعلق من جهة تعب الجسم والنفس ، وقد يستحب للحاج أن لا يستظل ، فإن قيل : فيه معصية ، فبالقياس على ما نهي عنه من التعب لا بالنص ، والأصل فيه أنه من المباحات.

وما قاله ابن رشد غير ظاهر ، ولم يقل مالك في الحديث ما قال استنباطا منه ، بل الظاهر أنه استدل بالآية المتكلم فيها ، وحمل الحديث عليها بترك الكلام ، وإن كان في الشرائع الأول مشروعا فهو منسوخ بهذه الشريعة ، فهو عمل في مشروع بغير مشروع ، وكذلك القيام في الشمس زيادة من باب تحريم الحلال ، وإن استحب في موضع ، فلا يلزم استحبابه في آخر.

فصل

ويتعلق بهذا الموضع مسائل.

إحداها : أن تحريم الحلال وما أشبه ذلك يتصور في أوجه.

٢٧٣

الأول : التحريم الحقيقي ، وهو الواقع من الكفار ، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ؛ وجميع ما ذكر الله تعالى تحريمه عن الكفار بالرأي المحض ، ومنه قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (١) ، وما أشبه من التحريم الواقع في الإسلام رأيا مجردا.

الثاني : أن يكون مجرد ترك لا لغرض ؛ بل لأن النفس تكرهه بطبعها ، أو لا تكرهه حتى تستعمله ، أو لا تجد ثمنه أو تشتغل بما هو آكد ، وما أشبه ذلك. ومنه ترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأكل الضب لقوله فيه : «إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه» (٢) ولا يسمى مثل هذا تحريما ، لأن التحريم يستلزم القصد إليه ، وهذا ليس كذلك.

الثالث : أن يمتنع لنذره التحريم ، أو ما يجري مجرى النذر من العزيمة القاطعة للعذر ، كتحريم النوم على الفراش سنة ، وتحريم الضرع وتحريم الادخار لغد ، وتحريم الليّن من الطعام واللباس ، وتحريم الوطء والاستلذاذ بالنساء في الجملة ، وما أشبه ذلك.

الرابع : أن يحلف على بعض الحلال أن لا يفعله ؛ ومثله قد يسمى تحريما.

قال إسماعيل القاضي : إذا قال الرجل لأمته : والله لا أقربها ، فقد حرمها على نفسه باليمين ، فإذا غشيها وجبت عليه كفارة اليمين. وأتى بمسألة ابن مقرن في سؤاله ابن مسعود رضي الله عنه إذ قال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة ـ قال ـ فتلا عبد الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (٣) الآية ، وقال له : كفر عن يمينك ، ونم على فراشك.

فأمره أن لا يحرم ما أحل الله له ، وأن يكفر من أجل اليمين.

__________________

(١) سورة : النحل ، الآية : ١١٦.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : الأطعمة ، باب : ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأكل حتى يسمى له فيعلم ما هو (الحديث : ٩ / ٤٦٦). وأخرجه مسلم في كتاب : الصيد ، باب : إباحة الضب (الحديث : ١٩٥٤). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الاستئذان ، باب : ما جاء في أكل الضب (الحديث : ٢ / ٩٦٨). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأطعمة ، باب : في أكل الضب (الأحاديث : ٣٧٩٣ ، ٣٧٩٤). وأخرجه النسائي في كتاب : الصيد ، باب : الضب (الحديث : ٧ / ١٩٨).

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ٨٧.

٢٧٤

فهذا الإطلاق يقتضي أنه نوع من التحريم ، وله وجه ظاهر ؛ فقد أشار إسماعيل إلى أن الرجل كان إذا حلف أن لا يفعل شيئا من الحلال لم يجز له أن يفعله حتى نزلت كفارة اليمين ، لأجل ما كان قبل من التحريم ، ولما وردت الكفارة سمي تحريما ، ومن ثم ـ والله أعلم ـ سميت كفارة.

المسألة الثانية : أن الآية التي نحن بصددها ينظر فيها على أي معنى يطلق التحريم ، أما الأول فلا مدخل له هاهنا ، لأن التحريم تشريع كالتحليل ، والتشريع ليس إلا لصاحب الشرع ، اللهم إلا أن يدخل مبتدع رأيا كان من أهل الجاهلية أو من أهل الإسلام ، ؛ فهذا أمر آخر يجل السلف الصالح عن مثله فضلا عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الخصوص.

وقد وقع للمهلب في شرح البخاري ما قد يشعر بأن المراد في الآية التحريم بالمعنى الأول. فقال : التحريم إنما هو لله ولرسوله ، فلا يحل لأحد أن يحرم شيئا ، وقد وبخ الله من فعل ذلك ، فقال : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) فجعل ذلك من الاعتداء ، وقال : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (١) قال : فهذا كله حجة في أن تحريم الناس ليس بشيء.

وما قاله المهلب يرده السبب في نزول الآية ، وليس كما تقرر ، ولذلك لم يعد المحرم الحكم لغيره كما هو شأن التحريم بالمعنى الأول ، فصار مقصورا على المحرم دون غيره.

وأما التحريم بالمعنى الثاني فلا حرج فيه في الجملة ؛ لأن بواعث النفوس على الشيء أو صوارفها عنه لا تنضبط بقانون معلوم ، فقد يمتنع الإنسان من الحلال لأمر يجده في استعماله ، ككثير ممن يمتنع من شرب العسل لوجع يعتريه به ، حتى يحرمه على نفسه ، لا بمعنى التحريم الأول ، ولا الثالث ، بل بمعنى التوقي منه كما تتوقى سائر المؤلمات.

ويدخل هاهنا بالمعنى امتناع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أكل الثوم ، لأنه كان يناجي الملائكة ، وهي تتأذى من رائحته ، وكذلك كل ما تكره رائحته.

ولعل هذا المحل أولى من قول من قال : إن الثوم ونحوه كانت محرمة عليه بالمعنى المختص بالشارع ، والمعنيان متقاربان ، وكلاهما غير داخل في معنى الأمر.

__________________

(١) سورة : النحل ، الآية : ١١٦.

٢٧٥

وأما التحريم بالمعنى الرابع فيحتمل أن يدخل في عبارة التحريم ، فيكون قوله تعالى : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (١) قد شمل التحريم بالنذر ، والتحريم باليمين ، والدليل على ذلك ذكر الكفارة بعدها بقوله تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) (٢) الخ.

وما تقدم من أنه كان تحريما مجردا قبل نزول الكفارة ، وأن جماعة من المفسرين قالوا في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (٣) : إن التحريم كان باليمين حين حلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يشرب العسل ، وسيأتي ذكر ذلك بحول الله.

فإن قيل : هل يكون قول الرجل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء ـ الحديث ـ من قبيل التحريم الثاني لا من الثالث ـ لأن الرجل قد يحرم الشيء للضرر الحاصل به ، وقد تقدم آنفا أنه ليس بتحريم حقيقة ، فكذلك هاهنا لا يريد بالتحريم النذر ، بل يريد به التوقي أي : إني أخاف على نفسي العنت ، وكان هذا المعنى ـ والله أعلم ـ هو مقصود الصحابي رضي الله عنه.

فالجواب : أن من يلحقه الضرر وقت ما يتناول شيئا ، يمكنه أن يمسك عنه من غير تحريم ، والتارك لأمر لا يلزمه أن يكون محرما له ، فكم من رجل ترك الطعام الفلاني أو النكاح لأنه في ذلك الوقت لا يشتهيه ، أو لغير ذلك من الأعذار! حتى إذا زال عذره تناول منه ، وقد ترك صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكل الضب ، ولم يكن تركه موجبا لتحريمه.

والدليل على أن المراد بالتحريم الظاهر ، وأنه لا يصح ، وإن كان تقدم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّ عليه بالآية ، فلو كان وجود مثل تلك الأعذار مبيحا للتحريم بالمعنى الثالث لوقع التفصيل في الآية بالنسبة إلى من حرم لعذر أو غير عذر.

وأيضا فإن الانتشار للنساء ليس بمذموم ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من استطاع منكم الباءة فليتزوج» (٤) الحديث ، فإذا أحب الإنسان قضاء الشهوة تزوج فحصل له ما في الحديث زيادة

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٨٧.

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٨٩.

(٣) سورة : التحريم ، الآية : ١.

(٤) تقدم تخريجه ص : ٢٨ ، الحاشية : ٢.

٢٧٦

إلى النسل المطلوب في الملة ، فكأن محرّم ما يحصل به الانتشار ساع في التشبه بالرهبانية ، وكان ذلك منتفيا عن الإسلام كسائر ما ذكر في الآية.

والمسألة الثالثة : أن هذه الآية يشكل معناها مع قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) (١) الآية ، فإن الله أخبر عن نبي من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أنه حرم على نفسه حلالا ، ففيه دليل لجواز مثله.

والجواب : أنه لا دليل في الآية ، لأن ما تقدم يقرر أن لا تحريم في الإسلام ، فيبقى ما كان شرعا لغيرنا منفيا عن شرعنا كما تقرر في الأصول.

خرّج القاضي إسماعيل وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إسرائيل النبي يعقوب عليه‌السلام أخذه عرق النسا ، فكان يبيت وعليه زقاء ، فجعل عليه إن شفاه الله ليحرّمنّ عليه العروق ، وذلك قبل نزول التوراة.

قالوا : فلذلك نسل اليهود لا يأكلونها ، وفي رواية : جعل على نفسه أن لا يأكل لحوم الإبل ـ قال ـ فحرمته اليهود.

وعن الكلبي أن يعقوب عليه‌السلام قال : إن الله شفاني لأحرّمنّ أطيب الطعام والشراب ـ أو قال : ـ أحب الطعام أو الشراب إليّ ، فحرم لحوم الإبل وألبانها.

قال القاضي : الذي نحسب ـ والله أعلم ـ أن إسرائيل حين حرّم على نفسه من الحلال ما حرم لم يكن في ذلك الوقت منهيا عن ذلك ، وأنهم كانوا إذا حرموا على أنفسهم شيئا من الحلال لم يجز لهم أن يفعلوه حتى نزلت كفارة اليمين ، قال الله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) (٢) والحالف إذا حلف على شيء ولم يقل إن شاء الله كان بالخيار ، إن شاء فعل وكفّر ، وإن شاء لم يفعل. قال : وهذه الأشياء وما أشبهها من الشرائع يكون فيها الناسخ

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٩٣.

(٢) سورة : التحريم ، الآية : ٢.

٢٧٧

والمنسوخ ، فكان الناسخ في هذا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (١) قال : فلما وقع النهي لم يجز للإنسان أن يقول : الطعام عليّ حرام ، وما أشبه ذلك من الحلال ، فإن قال إنسان شيئا من ذلك كان قوله باطلا ، وإن حلف على ذلك بالله كان له أن يأتي الذي هو خير ، ويكفّر عن يمينه.

والمسألة الرابعة : أن نقول : مما يسأل عنه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (٢) الآية. فإن فيها إخبارا بأنه عليه الصلاة والسلام حرّم على نفسه ما أحله الله ، وقد يدل عليه : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) (٣) ، ومثل هذا يجل مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مقتضى الظاهر فيه ، وأن يكون منهيّا عنه ابتداء ثم يأتيه ، حتى يقال له فيه : لم تفعل؟ فلا بد من النظر في هذه المصارف.

والجواب : أن آية التحريم إن كانت هي السابقة على آية العقود ، فظاهر أنها مختصة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ لو أريد الأمة ـ على قول من قال من الأصوليين ـ لقال : (لم تحرّمون ما أحلّ الله لكم)؟ كما قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (٤) الآية ، بيّن لأن سورة التحريم قبل آية الأحزاب ، ولذلك لما آلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نسائه شهرا بسبب هذه القصة نزل عليه في سورة الأحزاب : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَ) (٥) الخ ، وأيضا فيحتمل التحريم بمعنى الحلف على أن لا يفعل ، والحلف إذا وقع فصاحبه مخيّر بين أن يترك المحلوف عليه وبين أن يفعله ويكفر ، وقد جاء في آية التحريم : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) (٦) فدلّ على أنه كان يمينا حلف صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، وذلك أن الناس اختلفوا في هذا التحريم فقال جماعة : إن كان تحريما لأم ولده مارية القبطية ، بناء على أن الآية نزلت في شأنها ، وممن قال به الحسن وقتادة والشعبي ونافع مولى ابن عمر ، أو كان تحريما لعسل

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٨٧.

(٢) سورة : التحريم ، الآية : ١.

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ٨٧.

(٤) سورة : الطلاق ، الآية : ١.

(٥) سورة : الأحزاب ، الآية : ٢٨.

(٦) سورة : التحريم ، الآية : ٢.

٢٧٨

زينب ، وهو قول عطاء وعبد الله بن عتبة ، وقال جماعة : إنما كان تحريما بيمين.

قال إسماعيل بن إسحاق : يمكن أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرمها ـ يعني : جاريته ـ بيمين الله ، لأن الرجل إذا قال لأمته : والله لا أقربك ، فقد حرمها على نفسه باليمين ، فإذا غشيها وجبت عليه كفارة اليمين ، ثم أتى بمسألة ابن مقرن.

ويمكن أن يكون السبب شرب العسل ، وهو الذي وقع في البخاري من طريق هشام عن ابن جريج قال فيه : «شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا» (١) ، وإذا كان كذلك فلم يبق في المسألة إشكال ، ولا فرق بين الجارية والعسل في الحكم ، لأن تحريم الجارية كيف ما كان بمنزلة تحريم ما يؤكل ويشرب.

وأما إن فرضنا أن آية العقود هي السابقة على آية التحريم فيحتمل وجهين كالأول.

أحدهما : أن يكون التحريم في سورة التحريم بمعنى الحلف.

والثاني : أن تكون آية العقود غير متناولة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا) (٢) لا تدخل فيه بناء على قول من قال بذلك من الأصوليين ، وعند ذلك لا يبقى في القضية ما ينظر فيه ، ولا يكون للمحتج بالآية متعلق ، والله أعلم.

فصل

إذا ثبت هذا ، فكل من عمل على هذا القصد فعمله غير صحيح ، لأنه عامل إما بغير شريعة لأنه لم يتبع أدلتها ، وإما عامل بشرع منسوخ ، والعمل بالمنسوخ مع العلم بالناسخ باطل بلا خلاف ، لأنه الترهب والامتناع من النساء وغير ذلك إن كان مشروعا ففيما قبل هذه الشريعة من الشرائع ، وقد تقدم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الطلاق ، باب : قوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (الأحاديث : ٩ / ٣٣١ ، ٣٣٢ ، ٣٣٣). وأخرجه مسلم في كتاب : الطلاق ، باب : وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق (الحديث : ١٤٧٤). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأشربة ، باب : شراب العسل (الحديث : ٣٧١٥). وأخرجه النسائي في كتاب : الطلاق ، باب : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (الأحاديث : ٦ / ١٥١ ، ١٥٢).

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ٨٧.

٢٧٩

وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (١) وهو معنى البدعة.

فإن قيل : فقد تقدم من نقل ابن العربي في الرهبانية أنها السياحة واتخاذ الصوامع للعزلة ـ قال ـ وذلك مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان. وقد بسط الغزالي هذا الفصل في الإحياء عند ذكر العزلة ، وذكر في كتاب آداب النكاح من ذلك ما فيه كفاية ، وحاصله أن ذلك مشروع ، بل هو الأولى عند عروض العوارض ، وعند ما يصير النكاح ومخالطة الناس وبالا على الإنسان ، ومؤديا إلى اكتساب الحرام والدخول فيما لا يجوز ، كما جاء في الصحيح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (٢) وسائر ما جاء في هذا المعنى. وأيضا فإن الله تعالى قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (٣). والتبتل ـ على ما قاله زيد بن أسلم ـ رفض الدنيا من قولهم : بتلت الحبل بتلا إذا قطعته ، ومعناه القطع من كل شيء إلا منه.

وقال الحسن وغيره : بتل إليه نفسك واجتهد. وقال ابن زيد : تفرغ لعبادته هذا إلى ما جاء عن السلف الصالح من الانقطاع إلى عبادة الله ورفض أسباب الدنيا ، والتخلّي عن الحواضر إلى البوادي ، واتخاذ الخلوات في الجبال والبراري حتى إن بعض الجبال الشامية قد خصها الله بالأولياء والمنقطعين إلى لبنان ونحوه ، فما وجه ذلك؟

فالجواب : أن الرهبانية إن كانت بالمعنى المقرر في شرائع الأول فلا نسلم أنها في

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٢٩ ، الحاشية : ٢.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : الإيمان ، باب : من الدين الفرار من الفتن (الأحاديث : ١ / ٦٥ ، ٦٦). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الاستئذان ، باب : ما جاء في أمر الغنم (الحديث : ١٦ / ٩٧٠). وأخرجه أبو داود في كتاب : الفتن ، باب : ما يرخص من البداوة في الفتنة (الحديث : ٤٢٦٧). وأخرجه النسائي في كتاب : الإيمان ، باب : الفرار بالدين من الفتن (الحديث : ٨ / ١٢٣).

(٣) سورة : المزمل ، الآية : ٨.

٢٨٠