الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل ، قال العلماء : لم يكن فيه في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حد مقدر ، وإنما جرى الزجر فيه مجرى التعزير ، ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر رضي الله عنه قرّره على طريق النظر بأربعين ، ثم انتهى الأمر إلى عثمان رضي الله عنه فتتابع الناس فجمع الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم ، فقال علي رضي الله عنه : من سكر هذى ومن هذى افترى ، فأرى عليه حد المفتري (١).

ووجه إجراء المسألة على الاستدلال المرسل أن الصحابة أو الشرع يقيم الأسباب في بعض المواضع مقام المسببات ، والمظنة مقام الحكمة ، فقد جعل الإيلاج في أحكام كثيرة يجري مجرى الإنزال ، وجعل الحافر للبئر ، في محل العدوان وإن لم يكن ثم مرد كالمردي نفسه ، وحرم الخلوة بالأجنبية حذرا من الذريعة إلى الفساد ، إلى غير ذلك من الفساد ، فرأوا الشرب ذريعة إلى الافتراء الذي تقتضيه كثرة الهذيان ، فإنه أول سابق إلى السكران ـ قالوا ـ فهذا من أوضح الأدلة على إسناد الأحكام إلى المعاني التي لا أصول لها (يعني على الخصوص به) وهو مقطوع من الصحابة رضي الله عنهم.

المثال الثالث :

إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع. قال علي رضي الله عنه : لا يصلح الناس إلا ذاك ، ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع ، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال ، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين : إما ترك الاستصناع بالكلية ، وذلك شاق على الخلق ، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع ، فتضيع الأموال ، ويقل الاحتراز ، وتتطرق الخيانة ، فكانت المصلحة التضمين. هذا معنى قوله : «لا يصلح الناس إلا ذاك».

ولا يقال : إن هذا نوع من الفساد وهو تضمين البريء ، إذ لعله ما أفسد ، ولا فرط ، فالتضمين مع ذلك كان نوعا من الفساد ، لأنا نقول : إذا تقابلت المصلحة والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت ووقوع التلف من الصناع من غير تسبب ولا تفريط بعيد ، والغالب

__________________

(١) أخرجه الإمام مالك في الموطأ ، باب : الحد في الخمر (الحديث : ٢ / ٨٤٢).

٤٠١

الفوت فوت الأموال ، وأنها لا تستند إلى التلف السماوي ، بل ترجع إلى صنع العباد على المباشرة أو التفريط.

وفي الحديث : «لا ضرر ولا ضرار» (١) تشهد له الأصول من حيث الجملة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن أن يبيع حاضر لباد ، وقال : «دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (٢) وقال : «لا تلقوا الركبان بالبيع حتى يهبط بالسلع إلى الأسواق» (٣) وهو من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ، فتضمين الصناع من ذلك القبيل.

المثال الرابع :

إن العلماء اختلفوا في الضرب بالتهم ، وذهب مالك إلى جواز السجن في التهم ، وإن كان السجن نوعا من العذاب ، ونص أصحابه على جواز الضرب ، وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع ، فإنه لو لم يكن الضرب والسجن بالتهم لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب ، إذ قد يتعذر إقامة البينة ، فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار.

فإن قيل : هذا فتح باب لتعذيب البريء.

قيل : ففي الإعراض عنه إبطال استرجاع الأموال ، بل الإضراب عن التعذيب أشد ضررا ، إذ لا يعذب أحد لمجرد الدعوى ، بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس ، وتؤثر في

__________________

(١) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب : الأقضية ، باب : القضاء في المرافق (الحديث : ٢ / ٧٤٥).

(٢) أخرجه مسلم في كتاب : البيوع ، باب : تحريم بيع الحاضر للبادي (الحديث : ١٥٢٢). وأخرجه الترمذي في كتاب : البيوع ، باب : ما جاء لا يبيع حاضر لباد (الحديث : ١٢٢٣). وأخرجه أبو داود في كتاب : الإجارة ، باب : في النهي أن يبيع حاضر لباد (الحديث : ٣٤٤٢). وأخرجه النسائي في كتاب : البيوع ، باب : بيع الحاضر للبادي (الحديث : ٢٥٦٧). وأخرجه ابن ماجه في كتاب : التجارات ، باب : النهي أن يبيع حاضر لباد (الحديث : ٢١٧٦).

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الإجارة ، باب : أجر السمسرة (الحديث : ٤ / ٣١١) ، وأخرجه في كتاب : البيوع ، باب : هل يبيع حاضر لباد بغير أجر. وأخرجه مسلم في كتاب : البيوع ، باب : تحريم بيع الحاضر للبادي (الحديث : ١٥٢١). وأخرجه أبو داود في كتاب : البيوع ، باب : التلقي (الحديث : ٧ / ٢٥٧). وأخرجه ابن ماجه في كتاب : التجارات ، باب : النهي أن يبيع حاضر لباد (الحديث : ٢١٧٧).

٤٠٢

القلب نوعا من الظن ، فالتعذيب في الغالب لا يصادف البريء ، وإن أمكن مصادفته فتغتفر ، كما اغتفرت في تضمين الصناع.

فإن قيل : لا فائدة في الضرب ، وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال.

فالجواب : أن له فائدتين :

إحداهما : أن يعين المتاع فتشهد عليه البينة لربه ، وهي فائدة ظاهرة.

والثانية : أن غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام ، فتقل أنواع هذا الفساد.

وقد عد له سحنون فائدة ثالثة وهو الإقرار حالة التعذيب بأنه يؤخذ عنده بما أقر في تلك الحال ، قالوا : وهو ضعيف ، فقد قال الله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (١) ولكن نزله سحنون على من أكره بطريق غير مشروع كما إذا أكره على طلاق زوجته ، أما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به. كالكافر يسلم تحت ظلال السيوف فإنه مأخوذ به ، وقد تتفق له بهذه الفائدة على مذهب غير سحنون إذا أقر حالة التعذيب ثم تمادى على الإقرار بعد أمنه فيؤخذ به.

قال الغزالي بعد ما حكى عن الشافعي : إنه لا يقول بذلك ، وعلى الجملة فالمسألة في محل الاجتهاد ـ قال ـ ولسنا نحكم بمذهب مالك على القطع ، فإذا وقع النظر في تعارض المصالح ، كان ذلك قريبا من النظر في تعارض الأقيسة المؤثرة.

المثال الخامس : إنا إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار ، وخلا بيت المال ، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم ، فللإمام إذا كان عدلا أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال ، إلى أن يظهر مال بيت المال ، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك ، كيلا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب ، وذلك يقع قليلا من كثير بحيث لا يجحف بأحد ويحصل المقصود.

وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا ،

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٥٦.

٤٠٣

فإن القضية فيه أحرى ، ووجه المصلحة هنا ظاهر ، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلب شوكة الإمام ، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار.

وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله ، فالذين يحذرون من الدواهي لو تنقطع عنهم الشوكة ، يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها ، فضلا عن اليسير منها ، فإذا عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم يأخذ البعض من أموالهم ، فلا يتمارى في ترجيح الثاني عن الأول ، وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر في الشواهد.

والملائمة الأخرى ، أن الأب في طفله ، أن الوصي في يتيمه ، أو الكافل فيمن يكلفه ، مأمور برعاية الأصلح له ، وهو يصرف ماله إلى وجوه من النفقات أو المؤمن المحتاج إليها ، وكلّ ما يراه سببا لزيادة ماله أو حراسته من التلف جاز له بذل المال في تحصيله. ومصلحة الإسلام عامة لا تتقاصر عن مصلحة طفل ؛ ولا نظر إمام المسلمين يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق محجوره.

ولو وطئ الكفار أرض الإسلام لوجب القيام بالنصرة ، وإذا دعاهم الإمام وجبت الإجابة ، وفيه إتعاب النفوس وتعريضها إلى الهلكة ، زيادة إلى انفاق المال ، وليس ذلك إلا لحماية الدين ، ومصلحة المسلمين.

فإذا قدرنا هجومهم واستشعر الإمام في الشوكة ضعفا وجب على الكافة إمدادهم ، كيف والجهاد في كل سنّة واجب على الخلق؟ وإنما يسقط باشتغال المرتزقة ، فلا يتمارى في بذل المال لمثل ذلك.

وإذا قدرنا انعدام الكفار الذين يخاف من جهتهم ، فلا يؤمن من انفتاح باب الفتن بين المسلمين فالمسألة على حالها كما كانت ، وتوقع الفساد عتيد ، فلا بد من الحراس.

فهذه ملاءمة صحيحة ، إلا أنها في محل ضرورة ، فتقدر بقدرها ، فلا يصح هذا الحكم إلا مع وجودها ، والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجى ، وأما إذا لم ينتظر شيء وضعفت وجوه الدخل بحديث لا يغني كبير شيء ، فلا بد من جريان حكم التوظيف.

وهذه المسألة نصّ عليها الغزالي في مواضع من كتبه ، وتلاه في تصحيحها ابن العربي

٤٠٤

في أحكام القرآن له ، وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام ، وإيقاع التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع.

المثال السادس : إن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات فاختلف العلماء في ذلك حسبما ذكره الغزالي ، على أن الطحاوي حكى أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ فأجمع العلماء على منعه.

فأما الغزالي فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام ، ولا يلائم تصرفات الشرع ، مع أن هذه العقوبة الخاصة لم تتعين ، لشرعية العقوبات البدنية بالسجن والضرب وغيرهما ـ قال ـ فإن قيل : فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاطر خالد بن الوليد في ماله ، حتى أخذ رسوله فرد نعله وشطر عمامته. قلنا : المظنون من عمر أنه لم يبتدع العقاب بأخذ المال على خلاف المألوف من الشرع ، وإنما ذلك لعلم عمر باختلاط ماله بالمال المستفاد من الولاية وإحاطته بتوسعته ، فلعله ضمن المال فرأى شطر ماله من فوائد الولاية فيكون استرجاعا للحق لا عقوبة في المال ، لأنه هذا من الغريب الذي لا يلائم قواعد الشرع ، هذا ما قال ، ولما فعل عمر وجه آخر غير هذا ، ولكنه لا دليل فيه على العقوبة بالمال كما قال الغزالي.

وأما مذهب مالك فإن العقوبة في المال عنده ضربان :

أحدهما : كما صوره الغزالي ، فلا مرية في أنه غير صحيح ، على أن ابن العطار في رقائقه صغى إلى إجازة ذلك ، فقال : في إجازة أعوان القاضي إذا لم يكن بيت مال ، أنها على الطالب ، فإن أدى المطلوب كانت الإجازة عليه ، ومال إليه ابن رشد ، ورده عليه ابن النجار القرطبي ، وقال : إن ذلك من باب العقوبة في المال ، وذلك لا يجوز على حال.

والثاني : أن تكون جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه ، فالعقوبة فيه عنده ثابتة ، فإنه قال في الزعفران المغشوش إذا وجد بيد الذي غشه : إنه يتصدق به على المساكين ، قلّ أو كثر.

وذهب ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون إلى أنه يتصدق بما قلّ منه دون ما كثر ،

٤٠٥

وذلك محكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأنه أراق اللبن المغشوش بالماء ، ووجه ذلك التأديب للغاشّ ، وهذا التأديب لا نص يشهد له لكن من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة ، وقد تقدم نظيره في مسألة تضمين الصناع.

على أن أبا الحسن اللخمي قد وضع له أصلا شرعيّا ، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أمر بإكفاء القدور التي أغليت بلحوم الحمر قبل أن تقسم ، وحديث العتق بالمثلة أيضا من ذلك.

ومن مسائل مالك في المسألة : إذا اشترى مسلم من نصراني خمرا فإنه يكسر على المسلم ، ويتصدق بالثمن أدبا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه. وعلى هذا المعنى فرع أصحاب في مذهبه ، وهو كله من العقوبة في المال ، إلا أن وجهه ما تقدم.

المثال السابع :

إنه لو طبق الحرام الأرض ، أو ناحية من الأرض يعسر الانتقال منها وانسدت طرق المكاسب الطيبة ، ومست الحاجة إلى الزيادة على سد الرمق فإن ذلك سائغ أن يزيد على قدر الضرورة ، ويرتقي إلى قدر الحاجة في القوت والملبس والمسكن ، إذ لو اقتصر على سد الرمق لتعطلت المكاسب والأشغال ، ولم يزل الناس في مقاسات ذلك إلى أن يهلكوا ، وفي ذلك خراب الدين ، لكنه لا ينتهي إلى الترفه والتنعم ، كما لا يقتصر على مقدار الضرورة.

وهذا ملائم لتصرفات الشرع وإن لم ينص على عينه ، فإنه قد أجاز أكل الميتة للمضطر ، والدم ولحم الخنزير ، وغير ذلك من الخبائث المحرمات.

وحكى ابن العربي الاتفاق على جواز الشبع عند توالي المخمصة ، وإنما اختلفوا إذا لم تتوال ، هل يجوز له الشبع أم لا؟ وأيضا فقد أجازوا أخذ مال الغير عند الضرورة أيضا ، فما نحن فيه لا يقصر عن ذلك.

وقد بسط الغزالي هذه المسألة في الإحياء بسطا شافيا جدّا ، وذكرها في كتبه الأصولية ك (المنخول) و (شفاء العليل).

المثال الثامن :

إنه يجوز قتل الجماعة بالواحد ، والمستند فيه المصلحة المرسلة ، إذ لا نص على عين

٤٠٦

المسألة ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو مذهب مالك والشافعي.

ووجه المصلحة أن القتيل معصوم ، وقد قتل عمدا ، فإهداره داع إلى خرم أصل القصاص ، واتخاذ الاستعانة والاشتراك ذريعة إلى السعي بالقتل إذا علم أنه لا قصاص فيه ، وليس أصله قتل المنفرد فإنه قاتل تحقيقا ، والمشترك ليس بقاتل تحقيقا.

فإن قيل : هذا أمر بديع في الشرع وهو قتل غير القاتل. قلنا : ليس كذلك ، بل لم يقتل إلا القاتل ، وهم الجماعة من حيث الاجتماع عند مالك والشافعي ، فهو مضاف إليهم تحقيقا إضافته إلى الشخص الواحد ، وإنما التعيين في تنزيل الأشخاص منزلة الشخص الواحد ، وقد دعت إليه المصلحة فلم يكن مبتدعا مع ما فيه من حفظ مقاصد الشرع في حقن الدماء ، وعليه يجري عند مالك قطع الأيدي باليد الواحدة ، وقطع الأيدي في النصاب الواجب.

المثال التاسع :

إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع ، كما أنهم اتفقوا أيضا ـ أو كادوا أن يتفقوا ـ على أن القضاء بين الناس لا يحصل إلا لمن رقي في رتبة الاجتهاد. وهذا صحيح على الجملة ، ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس ، وافتقروا إلى إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين ، والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم ، فلا بدّ من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد ، لأنا بين أمرين ، إما أن يترك الناس فوضى ، وهو عين الفساد والهرج ، وإما أن يقدموه فيزول الفساد بتة ، ولا يبقى إلّا فوت الاجتهاد ، والتقليد كاف بحسبه وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل الإمامة ، وهو مقطوع به بحيث لا يفتقر في صحته وملاءمته إلى شاهد.

هذا ؛ وإن كان ظاهره مخالفا ، لما نقلوا من الإجماع في الحقيقة ، إنما انعقد على فرض أن لا يخلو الزمان من مجتهد ، فصار مثل هذه المسألة مما لم ينص عليه ، فصح الاعتماد فيه على المصلحة.

المثال العاشر :

إن الغزالي قال في بيعة المفضول مع وجود الأفضل : إن رددنا في مبدإ التولية بين مجتهد في علوم الشرائع وبين متقاصر عنها ، فيتعين تقديم المجتهد ، لأن اتباع الناظر علم

٤٠٧

نفسه له مزية على اتباع علم غيره ، فالتقليد والمزايا لا سبيل إلى إهمالها مع القدرة على مراعاتها.

أما إذا انعقدت الإمامة بالبيعة أو تولية العهد المنفك عن رتبة الاجتهاد ، وقامت له الشوكة ، وأذعنت له الرقاب ، بأن خلا الزمان عن قرشي مجتهد مستجمع جميع الشرائط ، وجب الاستمرار.

وإن قدر حضور قرشي مجتهد مستجمع للفروع والكفاية ، وجميع شرائط الإمامة ، واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرضه لإثارة فتن واضطراب أمور ، لم يجز لهم خلعه والاستبدال به ، بل تجب عليهم الطاعة له ، والحكم بنفوذ ولايته ، وصحة إمامته ، لأنا نعلم أن العلم مزية روعيت في الإمامة تحصيلا لمزيد المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد ، وأن الثمرة المطلوبة من الإمام تطفئة الفتن الثائرة من تفرق الآراء المتنافرة ، فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة ، وتشويش النظام ، وتفويت أصل المصلحة في الحال؟ تشوفا إلى مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد.

قال : وعند هذا ينبغي أن يقيس الإنسان ما ينال الخلق من الضرر بسبب عدول الإمام عن النظر إلى التقليد ، بما ينالهم لو تعرضوا لخلعه والاستبدال به ، أو حكموا بأن إمامته غير منعقدة.

هذا ما قال ، وهو متجه بحسب النظر المصلحي ، وهو ملائم لتصرفات الشرع ، وإن لم يعضده نص على التعيين.

وما قرره هو أصل مذهب مالك : قيل ليحيى بن يحيى : البيعة مكروهة؟ قال : لا ، قيل له : فإن كانوا أئمة جور؟ فقال : قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن مروان ، وبالسيف أخذ الملك ، أخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنّة نبيه.

قال يحيى : والبيعة خير من الفرقة.

قال : ولقد أتى مالكا العمريّ فقال له : يا أبا عبد الله ، بايعني أهل الحرمين ، وأنت ترى سيرة أبي جعفر ، فما ترى؟ فقال له مالك : أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلا صالحا؟ فقال العمري : لا أدري ، قال مالك : لكني أنا أدري ، إنما كانت البيعة

٤٠٨

ليزيد بعده ، فخاف عمر إن ولى رجلا صالحا أن لا يكون ليزيد بدّ من القيام ، فتقوم هجمة فيفسد ما لا يصلح ، رأى هذا العمريّ على رأي مالك. فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق أن تقع فتنة وما لا يصلح ، فالمصلحة في الترك.

وروى البخاري عن نافع قال : لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده ، فقال : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة» (١) وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله ، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه.

قال ابن العربي : وقد قال ابن الخياط : إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كرها ، وأين يزيد من ابن عمر؟ ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله والفرار عن التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى ، فخلع يزيد لو تحقق أن الأمر يعود في نصابه تعرض للفتنة ، فكيف ولا يعلم ذلك؟ وهذا أصل عظيم فتفقهوه والزموه ترشدوا إن شاء الله.

فصل

فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة ، وتبين لك اعتبار أمور :

أحدها : الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله.

والثاني : أن عامة النظر فيها إنما هو فيما غفل منها وجرى على دون المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول ، فلا مدخل لها في التعبدات ، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشريعة ، لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل ، كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره ، والحج ، ونحو ذلك.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الفتن ، باب : إذا قال عند قوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه ، وأخرجه في كتاب : الجهاد ، باب : إثم الغادر للبر والفاجر ، وأخرجه في كتاب : الأدب ، باب : ما يدعي الناس بآبائهم ، وأخرجه في كتاب : الحيل ، باب : إذا غصب الجارية فزعم أنها ماتت فقضى بقيمة الجارية (الأحاديث : ١٣ / ٦٠ ، ٦١). وأخرجه مسلم في كتاب : الجهاد ، باب : تحريم الغدر (الحديث : ١٧٣٥). وأخرجه أحمد في المسند (الأحاديث : ٢ / ٤٨ ، ٩٦).

٤٠٩

فليتأمل الناظر الموفق كيف وضعت على التحكم المحض المنافي للمناسبات التفصيلية.

ألا ترى أن الطهارات ـ على اختلاف أنواعها ـ قد اختص كل نوع منها بتعبد مخالف جدا لما يظهر لبادي الرأي؟ فإن البول والغائط خارجان نجسان يجب بهما تطهير أعضاء الوضوء دون المخرجين فقط ، ودون جميع الجسد ، فإذا خرج المني أو دم الحيض وجب غسل جميع الجسد دون المخرج فقط ، ودون أعضاء الوضوء.

ثم إن التطهير واجب مع نظافة الأعضاء ، وغير واجب مع قذراتها بالأوساخ والأدران ، إذا فرض أنه لم يحدث.

ثم التراب ـ ومن شأنه التلويث ـ يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف.

ثم نظرنا في أوقات الصلوات فلم نجد فيها مناسبة لإقامة الصلوات فيها ، لاستواء الأوقات في ذلك.

وشرع للإعلام بها أذكار مخصوصة لا يزاد فيها ولا ينقص منها ، فإذا أقيمت ابتدأت إقامتها بأذكار أيضا ، ثم شرعت ركعاتها مختلفة باختلاف الأوقات ، وكل ركعة لها ركوع واحد وسجودان دون العكس ، إلا صلاة خسوف الشمس فإنها على غير ذلك ، ثم كانت خمس صلوات دون أربع أو ست وغير ذلك من الأعداد ، فإذا دخل المتطهر المسجد أمر بتحيته بركعتين دون واحدة كالموتر ، أو أربع كالظهر ، فإذا سها في صلاة سجد سجدتين دون سجدة واحدة ، وإذا قرأ آية سجدة سجد واحدة دون اثنتين.

ثم أمر بصلاة النوافل ونهى عن الصلاة في أوقات مخصوصة ، وعلل النهي بأمر غير معقول المعنى.

ثم شرعت الجماعة في بعض النوافل كالعيدين والخسوف والاستسقاء ، دون صلاة الليل ورواتب النوافل.

فإذا صرنا إلى غسل الميت وجدناه لا معنى له معقولا ، لأنه غير مكلف ، ثم أمرنا بالصلاة عليه بالتكبير دون ركوع أو سجود أو تشهد ، والتكبير أربع تكبيرات دون اثنتين أو ست أو سبع أو غيرها من الأعداد.

٤١٠

فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيرا ، كإمساك النهار دون الليل ، والإمساك عن المأكولات والمشروبات ، دون الملبوسات والمركوبات ، والنظر والمشي والكلام ، وأشباه ذلك ، وكان الجماع ـ وهو راجع إلى الإخراح ـ كالمأكول ـ وهو راجع إلى الضد ، وكان شهر رمضان ـ وإن كان قد أنزل فيه القرآن ـ ولم يكن أيام الجمع ، وإن كانت خير أيام طلعت عليها الشمس ، أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل ، ثم الحج أكثر تعبدا من الجميع.

وهكذا تجد عامة التعبدات في كل باب من أبواب الفقه ما عملوا إن في هذا الاستقراء معنى يعلم من مقاصد الشرع أنه قصد قصده ونحى نحوه واعتبرت جهته ، وهو أن ما كان من التكاليف من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة ، وأن يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه ، سواء علينا أقلنا : إن التكاليف معللة بمصالح العباد ، أم لم نقله : اللهم إلا قليلا من مسائلها ظهر فيها معنى فهمناه من الشرع فاعتبرنا به أو شهدنا في بعضها بعدم الفرق بين المنصوص عليه ، والمسكوت عنه ، فلا حرج حينئذ فإن أشكل الأمر ، فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل ، فهو العروة الوثقى للمتفقه في الشريعة والوزر الأحمى.

ومن أجل ذلك قال حذيفة رضي الله عنه : «كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا تعبّدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا ، فاتقوا الله يا معشر القراء ، وخذوا بطريق من كان قبلكم» ونحوه لابن مسعود أيضا ، وقد تقدم من ذلك كثير.

ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن ظهرت لبادي الرأي ، وقوفا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه ، فلم يلتفت في إزالة الأخباث ، ورفع الأحداث ، إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره ، حتى اشتراط في رفع الأحداث النية ، ولم يقم غير الماء مقامه عنده ـ وإن حصلت النظافة ـ حتى يكون بالماء المطلق ، وامتنع من إقامة غير التكبير والتسليم والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة ، واختصر في الكفارات على مراعاة العدد ، وما أشبه ذلك.

ودورانه في ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى مناسب ـ إن تصور ـ لقلة ذلك في التعبدات ونذوره ، بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى

٤١١

المناسب الظاهر للعقول ، فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية ، نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه ولا يناقض أصلا من أصوله ، حتى لقد استشنع العلماء كثيرا من وجوه استرساله زاعمين أنه خلع الربقة ، وفتح باب التشريع ، وهيهات ما أبعده من ذلك! رحمه‌الله ، بل هو الذي رضي لنفسه في فقهه بالاتباع ، بحيث يخيل لبعض أنه مقلد لمن قبله ، بل هو صاحب البصيرة في دين الله ـ حسبما بين أصحابه في كتاب سيره.

بل حكي عن أحمد بن حنبل أنه قال : إذا رأيت الرجل يبغض مالكا فاعلم أنه مبتدع ، وهذه غاية في الشهادة بالاتباع.

وقال أبو داود : أخشى عليه البدع (يعني : المبغض لمالك).

وقال ابن مهدي : إذا رأيت الحجازي يحب مالك بن أنس فاعلم أنه صاحب سنّة ، وإذا رأيت أحدا يتناوله فاعلم أنه على خلاف السنة.

وقال إبراهيم بن يحيى بن هشام : ما سمعت أبا داود لعن أحدا قط إلا رجلين : أحدهما : رجل ذكر له أنه لعن مالكا ، والآخر : بشر المريسي.

وعلى الجملة فغير مالك أيضا موافق له في أن أصل العبادات عدم معقولية المعنى ، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل ، فالأصل متفق عليه عند الأمة ، ما عدا الظاهرية ، فإنهم لا يفرقون بين العبادات والعادات ، بل الكل تعبد غير معقول المعنى ، فهم أحرى بأن لا يقولوا بأصل المصالح فضلا عن أن يعتقدوا المصالح المرسلة.

والثالث : إن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ، ورفع حرج لازم في الدين ، وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب «ما لم يتم الواجب إلا به ..» فهي إذا من الوسائل لا من المقاصد ، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد.

أما رجوعها إلى ضروري فقد ظهر من الأمثلة المذكورة.

وكذلك رجوعها إلى رفع حرج لازم ، وهو إما لاحق بالضروري ، وإما من الحاجيّ ، وعلى كل تقدير فليس فيها ما يرجع إلى التقبيح والتزيين البتة ، فإن جاء من وإما ذلك شيء :

٤١٢

فإما من باب آخر منها ، كقيام رمضان في المساجد جماعة ـ حسبما تقدم ـ وإما معدود من قبيل البدع التي أنكرها السلف الصالح ـ كزخرفة المساجد والتثويب بالصلاة ـ وهو من قبيل ما يلائم.

وأما كونها في الضروري من قبيل الوسائل و «ما لا يتم الواجب إلا به» إن نصّ على اشتراطه ، فهو شرط شرعي فلا مدخل له في هذا الباب ، لأن نصّ الشارع فيه قد كفانا مئونة النظر فيه.

وإن لم ينص على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي ، فلا يلزم أن يكون شرعيّا ، كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة ، فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير كتب مطردا لصح ذلك ، وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها ، كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النصّ بها لصح ذلك ، وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها ، كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك ، وكذلك سائر المصالح الضرورية ـ إذا ثبت هذا ـ لم يصح أن يستنبط من بابها شيء من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل.

وأما كونها في الحاجي من باب التخفيف فظاهر أيضا ، وهو أقوى في الدليل الرافع للحرج ، فليس فيه ما يدل على تشديد ولا زيادة تكليف ، والأمثلة مبينة لهذا الأصل أيضا.

إذا تقررت هذه الشروط علم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة لأن موضوع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل ، والتعبدات من حقيقتها أن لا يعقل معناها على التفصيل. وقد مرّ أن العادات إذا دخل فيها الابتداع فإنما يدخلها من جهة ما فيها من التعبد لا بإطلاق.

وأيضا : فإن البدع في عامة أمرها لا تلائم مقاصد الشرع ، بل إنما تتصور على أحد وجهين : إما مناقضة لمقصوده ـ كما تقدم في مسألة المفتي للملك بصيام شهرين متتابعين ـ وإما مسكوتا عنه فيه كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده على تقدير عدم النص به.

وقد تقدم نقل الإجماع على اطّراح القسمين وعدم اعتبارهما ، ولا يقال : إن المسكوت عنه يلحق بالمأذون فيه ، إذ يلزم من ذلك خرق الإجماع لعدم الملاءمة ، ولأن العبادات ليس

٤١٣

حكمها حكم العادات في أن المسكوت عنه كالمأذون فيه ، إن قيل بذلك ؛ فهي تفارقها ، إذ لا يقدم على استنباط عبادة لا أصل لها ؛ لأنها مخصوصة بحكم الإذن المصرح به ، بخلاف العادات ، والفرق بينهما ما تقدم من اهتداء العقول للعاديات في الجملة. وعدم اهتدائها لوجوه التقربات إلى الله تعالى. وقد أشير إلى هذا المعنى في كتاب (الموافقات) وإلى هذا.

فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إلى حفظ ضروري من باب الوسائل أو إلى التخفيف ، فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات ؛ لأن البدع من باب الوسائل ، لأنها متعبد بها بالفرض ، ولأنها زيادة في التكليف وهو مضاد للتخفيف.

فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلى القسم الملغى باتفاق العلماء ، وحسبك به متعلقا. والله الموفق.

وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئا من التعبدات إلى آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده. والزيادة عليه بدعة ، كما أن النقصان منه بدعة ، وقد مرّ لهما أمثلة كثيرة ، وسيأتي أخيرا في أثناء الكتاب بحول الله.

فصل

وأما الاستحسان : فلأن لأهل البدع أيضا تعلقا به ؛ فإن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسن ، وهو إما العقل أو الشرع.

أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما ، لأن الأدلة اقتصت ذلك فلا فائدة لتسميته استحسانا ، ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنّة والإجماع ، وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال ، فلم يبق إلا العقل هو المستحسن ، فإن كان بدليل فلا فائدة لهذه التسمية ، لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها ، وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن.

ويشهد لذلك قول من قال في الاستحسان : إنه ما يستحسنه المجتهد بعقله ، ويميل إليه برأيه قالوا : وهو عند هؤلاء من جنس ما يستحسن في العوائد ، وتميل إليه الطباع ؛ فيجوز الحكم بمقتضاه إذا لم يوجد في الشرع ما ينافي هذا الكلام ما بيّن أن ثمّ من التعبدات ما لا

٤١٤

يكون عليه دليل ، وهو الذي يسمى بالبدعة ، فلا بد أن ينقسم إلى حسن وقبيح ، إذ ليس كل استحسان حقا.

وأيضا : فقد يجري على التأويل الثاني للأصوليين في الاستحسان ، وهو أن المراد به : دليل ينقدح في نفس المجتهد ، لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره ، وهذا التأويل ؛ فالاستحسان يساعده لبعده ؛ لأن يبعد في مجاري العادات أن يبتدع أحد بدعة من غير شبهة دليل ينقدح له ، بل عامة البدع لا بدّ لصاحبها من متعلق دليل شرعي ، لكن قد يمكنه إظهاره وقد لا يمكنه ـ وهو الأغلب ـ فهذا مما يحتجون به.

وربما ينقدح لهذا المعنى وجه بالأدلة التي استدل بها أهل التأويل الأولون ، وقد أتوا بثلاثة أدلة :

أحدها : قوله الله سبحانه : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (١) وقوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) (٢) وقوله تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (٣) هو ما تستحسنه عقولهم.

والثاني : قوله عليه الصلاة والسلام : «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» (٤) وإنما يعني بذلك ما رأوه بعقولهم ، وإلّا لو كان حسنه بالدليل الشرعي لم يكن من حسن ما يرون ، إذ لا مجال للعقول في التشريع على ما زعمتم ، فلم يكن للحديث فائدة ، فدلّ على أن المراد ما رأوه برأيهم.

والثالث : أن الأمة قد استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة

__________________

(١) سورة : الزمر ، الآية : ٥٥.

(٢) سورة : الزمر ، الآية : ٢٣.

(٣) سورة : الزمر ، الآيتان : ١٧ ـ ١٨.

(٤) أخرج نحوه البخاري في كتاب : الجنائز ، باب : ثناء الناس على الميت (الحديث : ٣ / ١٨١). وأخرجه مسلم في كتاب : الجنائز ، باب : فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى (الحديث : ٩٤٩).

٤١٥

اللبث ولا تقدير الماء المستعمل ، ولا سبب لذلك إلا أن المشاحة في مثله قبيحة في العادة ، فاستحسن الناس تركه ، مع أنا نقطع أن الإجارة المجهولة ، أو مدة الاستئجار أو مقدار المشتري إذا جهل فإنه ممنوع ، وقد استحسنت إجارته مع مخالفة الدليل ، فأولى أن يجوز إذا لم يخالف دليلا.

فأنت ترى أن هذا الموضع مزلة قدم أيضا لمن أراد أن يبتدع ، فله أن يقول : إن استحسنت كذا وكذا فغيري من العلماء استحسن ، وإذا كان كذلك فلا بدّ من فضل اعتناء بهذا الفصل ، حتى لا يغتر به جاهل أو زاعم أنه عالم ، وبالله التوفيق. فنقول :

إن الاستحسان يراه معتبرا في الأحكام مالك وأبو حنيفة ، بخلاف الشافعي فإنه منكر له جدا حتى قال : من استحسن فقد شرع ، والذي يستقرئ من مذهبهما أنه يرجع إلى العمل بأقوى الدليلين. هكذا قال ابن العربي ـ قال ـ فالعموم إذا استمرّ ، والقياس إذا اطّرد ، فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى ـ قال ـ ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ـ قال ـ ويريان معا تخصيص القياس ونقص العلة ، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع ـ إذا ثبت ـ تخصيصا ، هذا ما قال ابن العربي. ويشعر بذلك تفسير الكرخي أنه العدول عن الحكم في المسألة بحكم نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى.

وقال بعض الحنفية : إنه القياس الذي يجب العمل به ، لأن العلة كانت علة بأثرها :

سموا الضعيف الأثر قياسا والقوي الأثر استحسانا ، أي قياسا مستحسنا ، وكأنه نوع من العمل بأقوى القياسين ، وهو يظهر من استقراء مسائلهم في الاستحسان بحسب النوازل الفقهية.

بل قد جاء عن مالك أن الاستحسان تسعة أعشار العلم ، ورواه أصبغ عن ابن القاسم عن مالك ، قال أصبغ في الاستحسان : قد يكون أغلب من القياس. وجاء عن مالك : إن المفرق في القياس يكاد يفارق السنّة.

وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبل ، وأنه ما يستحسنه المجتهد

٤١٦

بعقله ، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه ، فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم ، ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة.

وقال ابن العربي في موضع آخر : الاستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص ، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته ، وقسمه أقساما عدّ منها أربعة أقسام ، وهي : ترك الدليل للعرف ، وتركه للمصلحة ، وتركه لليسير ، وتركه لرفع المشقة ، وإيثار التوسعة.

وحدّه غير ابن العربي من أهل المذهب بأنه عند مالك : استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي ـ قال ـ : فهو تقديم الاستدلال المرسل على القياس.

وعرفه ابن رشد فقال : الاستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس ـ هو أن يكون طرحا لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع.

وهذه تعريفات ، قريب بعضها من بعض.

وإذا كان هذا معناه عن مالك وأبي حنيفة فليس بخارج عن الأدلة البتة ، لأن الأدلة يقيد بعضها ويخصص بعضها بعضا ، كما في الأدلة السنّية مع القرآنية ، ولا يرد الشافعي مثل هذا أصلا ، فلا حجة في تسميته استحسانا لمبتدع على حال.

ولا بدّ من الإتيان بأمثلة تبين المقصود بحول الله ، ونقتصر على عشرة أمثلة :

أحدها : أن يعدل بالمسألة عن نظائرها بدليل الكتاب ، كقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (١) فظاهر اللفظ العموم في جميع ما يتمول به ، وهو مخصوص في الشرع بالأموال الزكوية خاصة ، فلو قال قائل : مالي صدقة ، فظاهر لفظه يعم كل مال ، ولكنا نحمله على مال الزكاة ، لكونه ثبت الحمل عليه في الكتاب. قال العلماء : وكأن هذا يرجع إلى تخصيص العموم بعادة فهم خطاب القرآن ، وهذا المثال أورده الكرخي تمثيلا لما قاله في الاستحسان.

__________________

(١) سورة : التوبة ، الآية : ١٠٣.

٤١٧

والثاني : أن يقول الحنفي : سؤر سباع الطير نجس ، قياسا على سباع البهائم ، وهذا ظاهر الأثر ، ولكنه ظاهر استحسانا ، لأن السبع ليس بنجس العين ، ولكن لضرورة تحريم لحمه ، فثبتت نجاسته بمجاورة رطوبات لعابه وإذا كان كذلك فارقه الطير ، لأنه يشرب بمنقاره وهو طاهر بنفسه ، فوجب الحكم بطهارة سؤره ، لأن هذا أثر قوي وإن خفي ، فترجح على الأول ، وإن كان أمره جليا ، والأخذ بأقوى القياسين متفق عليه.

والثالث : أن أبا حنيفة قال : إذا شهد أربعة على رجل بالزنا ولكن عيّن كل واحد غير الجهة التي عينها الآخر ، فالقياس أن لا يحدّ ، ولكن استحسن حده. ووجه ذلك أنه لا يحد إلا من شهد عليه أربعة ، فإذا عين كل واحد دارا ، فلم يأت على كل مرتبة بأربعة لامتناع اجتماعهم على رتبة واحدة ، فإذا عين كل واحد زاوية فالظاهر تعدد الفعل ، ويمكن التزاحف.

فإذا قال : القياس أن لا يحد ، فمعناه أن الظاهر أنه لم يجتمع الأربعة على زنا واحد ، ولكنه يؤول في المصير إلى الأمر الظاهر تفسيق العدول ، فإنه إن لم يكن محدودا صار الشهود فسقة ، ولا سبيل إلى التفسيق ما وجدنا إلى العدول عنه سبيلا فيكون حمل الشهود على مقتضى العدالة عند الإمكان يجر ذلك الإمكان البعيد ، فليس هذا حكما بالقياس ، وإنما هو تمسك باحتمال تلقي الحكم من القرآن ، وهذا يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى تحقيق مناطه.

والرابع : إن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف ، فإنه رد الإيمان إلى العرف ، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه العرف ، كقوله : والله لا دخلت مع فلان بيتا : فهو يحنث بدخول كل موضع يسمى بيتا في اللغة ، والمسجد يسمى بيتا فيحنث على ذلك ، إلا أن عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ عليه ، فخرج بالعرف عن مقتضى اللفظ فلا يحنث.

والخامس : ترك الدليل لمصلحة ، كما في تضمين الأجير المشترك وإن لم يكن صانعا ، فإن مذهب مالك في هذه المسألة على قولين ، كتضمين صاحب الحمام الثياب ، وتضمين صاحب السفينة ، وتضمين السماسرة المشتركين ، وكذلك حمال الطعام ـ على رأي مالك ـ فإنه ضامن ، ولا حقّ عنده بالصناع ، والسبب في ذلك بعد السبب في تضمين الصناع.

٤١٨

فإن قيل : فهذا من باب المصالح المرسلة لا من باب الاستحسان.

قلنا : نعم! إلا أنهم صوروا الاستحسان بصورة الاستثناء من القواعد ، بخلاف المصالح المرسلة. ومثل ذلك يتصور في مسألة التضمين ، فإن الأجراء مؤتمنون بالدليل لا بالبراءة الأصلية ، فصار تضمينهم في حيز المستثنى من ذلك الدليل ، فدخلت تحت معنى الاستحسان بذلك النظر.

والسادس : أنهم يحكون الإجماع على إيجاب الغرم على من قطع ذنب بغلة القاضي ، يريدون غرم قيمة الدابة لا قيمة النقص الحاصل فيها ، ووجه ذلك ظاهر ، فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليه إلا للركوب ، وقد امتنع ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب ، حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم العدم ، فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع ، وهو متجه بحسب الغرض الخاص ، وكان الأصل أن لا يغرم إلا قيمة ما نقصها القطع خاصة ، لكن استحسنوا ما تقدم.

وهذا الإجماع مما ينظر فيه ، فإن المسألة ذات قولين في المذهب وغيره ، ولكن الأشهر في المذهب المالكي ما تقدم حسبما نصّ عليه القاضي عبد الوهاب.

والسابع : ترك مقتضى الدليل في اليسير لتفاهته ونزارته لرفع المشقة ، وإيثار التوسعة على الخلق ، فقد أجازوا التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة ، وأجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدهما تابعا للآخر ، وأجازوا بدل الدرهم الناقص بالوازن لنزارة ما بينهما ، والأصل المنع في الجميع ، لما في الحديث من أن : «الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلا بمثل سواء بسواء ، وأن من زاد أو ازداد فقد أربى» (١) ووجه ذلك أن التافه في حكم العدم ، ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في الغالب ، وأن المشاحة في اليسير قد تؤدي إلى الخرج والمشقة ، وهما مرفوعان عن المكلف.

والثامن : إن في العتبية من سماع أصبغ في الشريكين يطئان الأمة في طهر واحد فتأتي

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب : المساقاة ، باب : بيع الذهب بالورق نقدا (الحديث : ١٥٨٨). وأخرجه مالك في كتاب : البيوع ، باب : بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا (الحديث : ٢ / ٦٣٢). وأخرجه النسائي في كتاب : البيوع ، باب : بيع الدينار بالدينار ، وباب : بيع الدرهم بالدرهم (الحديث : ٧ / ٢٨٧). وأخرجه الشافعي في كتاب الرسالة (فقرة : ٧٥٩).

٤١٩

بولد فينكر أحدهما الولد دون الآخر ، أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقربه ، فإن كان في صفته ما يمكن معه الإنزال لم يلتفت إلى إنكاره ، وكان كما لو اشتركا فيه ، وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقرّ به ، فقال أصبغ : إني أستحسن هاهنا أن ألحقه بالآخر ، والقياس أن يكونا سواء ، فلعله غلب ولا يدري.

وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا : إن الوكاء قد ينقلب ـ قال ـ والاستحسان هاهنا أن ألحقه بالآخر ، والقياس أن يكونا في العلم ، قد يكون أغلب من القياس (؟) ثم حكى عن مالك ما تقدم. ووجه ذلك ابن رشد بأن الأصل : من وطئ أمته فعزل عنها وأتت بولد لحق به وإن كان له منكرا ، وجب على قياس ذلك إذا كانت بين رجلين فوطئاها جميعا في طهر واحد وعزل أحدهما عنها فأنكر الولد وادعاه الآخر الذي لم يعزل عنها أن يكون الحكم في ذلك بمنزلة ما إذا كانا جميعا يعزلان أو ينزلان ، والاستحسان ـ كما قال ـ أن يلحق الولد بالذي ادعاه وأقر أنه كان ينزل ، وتبرأ منه الذي أنكره وادعى أنه كان يعزل ، لأن الولد يكون مع الإنزال غالبا ولا يكون مع العزل إلا نادرا ، فيغلب على الظن أن الولد إنما هو للذي ادعاه وكان ينزل ، لا الذي أنكره وهو يعزل ، والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام ، وله في هذا الحكم تأثير ، فوجب أن يصار إليه استحسانا ـ كما قال أصبغ ـ وهو ظاهر فيما نحن فيه.

والتاسع : ما تقدم أولا من أن الأمة استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل. والأصل في هذا المنع إلا أنهم أجازوا ، لا كما قال المحتجون على البدع ، بل لأمر آخر هو من هذا القبيل الذي ليس بخارج عن الأدلة ، فأما تقدير العوض فالعرف هو الذي قدره فلا حاجة إلى التقدير ، وأما مدة اللبث وقدر الماء المستعمل فإن لم يكن ذلك مقدرا بالعرف أيضا فإنه يسقط للضرورة إليه ، وذلك لقاعدة فقيهة ، وهي أن نفي جميع الغرر في العقود لا يقدر عليه ، وهو يضيق أبواب المعاملات ، وهو تحسيم أبواب المفاوضات (؟) ونفي الضرر إنما يطلب تكميلا ورفعا لما عسى أن يقع من نزاع ، فهو من الأمور المكملة والتكميلات إذا أفضى اعتبارها إلى أبطال المكملات سقطت جملة ، تحصيلا للمهم ـ حسبما تبين في الأصول ـ فوجب أن يسامح في بعض أنواع الغرر التي لا ينفك عنها ، إذ يشق طلب الانفكاك عنها ، فسومح المكلف بيسير الغرر ، لضيق الاحتراز مع تفاهة ما يحصل من الغرر ، ولم يسامح في كثيره إذ ليس في محل الضرورة ،

٤٢٠