الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

وقالت طائفة وهم فيما زعم ابن عبد البر جمهور أهل العلم : الرأي المذكور في هذه الآثار هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون ، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ، وردّ الفروع والنوازع بعضها إلى بعض قياسا ، دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها ، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل ، وفرعت قبل أن تقع ، وتكلم فيها قبل أن تكون ، بالرأي المضارع للظن ، قالوا : لأن في الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها ، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ، ومن كتاب الله تعالى ومعانيه واحتجوا على ذلك بأشياء ، منها : أن عمر رضي الله عنه لعن من سأل عما لم يكن وما جاء من النهي عن الأغلوطات ، وهي صعاب المسائل ، وعن كثرة السؤال ، وأنه كره المسائل وعابها ، وإن كثيرا من السلف لم يكن يجيب إلا عما نزل من النوازل دون ما لم ينزل.

وهذا القول غير مخالف لما قبله ، لأن من قال به قد منع من الرأي وإن كان غير مذموم ، لأن الإكثار منه ذريعة إلى الرأي المذموم ، وهو ترك النظر في السنن اقتصارا على الرأي ، وإذا كان كذلك اجتمع مع ما قبله ، فإن من عادة الشرع أنه إذا نهى عن شيء وشدد فيه منع ما حواليه ، وما دار به ورتع حول حماه. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام : «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهة» (١) ، وكذلك جاء في الشرع أصل سد الذرائع ، وهو منع الجائز لأنه يجر إلى غير الجائز ، وبحسب عظم المفسدة في الممنوع ، يكون اتساع المنع في الذريعة وشدته.

وما تقدم من الأدلة يبين لك عظم المفسدة في الابتداع فالحوم حول حماه يتسع جدا ، ولذلك تنصل العلماء من القول بالقياس وإن كان جاريا على الطريقة ، فامتنع جماعة من الفتيا به قبل نزول المسألة ، وحكوا في ذلك حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تعجلوا بالبلية قبل

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الإيمان ، باب : فضل من استبرأ لدينه ، وفي كتاب : البيوع ، باب : الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات (الحديث : ١ / ١١٧). وأخرجه مسلم في كتاب : المساقاة ، باب : أخذ الحلال وترك الشبهات (الحديث : ١٥٩٩). وأخرجه أبو داود في كتاب : البيوع ، باب : اجتناب الشبهات (الحديث : ٣٣٢٩). وأخرجه الترمذي في كتاب : البيوع ، باب : ما جاء في ترك الشبهات (الحديث : ١٢٠٥).

٨١

نزولها فإنكم إن تفعلوا تشتت بكم الطرق هاهنا وهاهنا» (١) وصح نهيه عليه الصلاة والسلام عن كثرة السؤال. وقال : «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها» (٢). وأحال بها جماعة على الأمراء فلم يكونوا يفتون حتى يكون الأمير هو الذي يتولى ذلك ، ويسمونها : صوافي الأمراء.

وكان جماعة يفتون على الخروج عن العهدة ، وأنه رأي ليس بعلم ، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذ سئل في الكلالة : أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ، ثم أجاب.

وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب فسأله عن شيء فأملاه عليه ، ثم سأله عن رأيه فأجابه ، فكتب الرجل ، فقال رجل من جلساء سعيد : أتكتب يا أبا محمد رأيك؟ فقال سعيد للرجل : ناولنيها ، فناوله الصحيفة فخرقها.

وسئل القاسم بن محمد عن شيء فأجاب ، فلما ولى الرجل دعاه فقال له : لا تقل إن القاسم زعم أن هذا هو الحق ، ولكن إن اضطررت إليه عملت به.

وقال مالك بن أنس : قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل ، فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا نتبع الرأي ، فإنه متى اتّبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك ، فاتبعته ، فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته ، أرى هذا لا يتم.

ثم ثبت أنه كان يقول برأيه ، ولكن كثيرا ما كان يقول بعد أن يجتهد رأيه في النازلة : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (٣). ولأجل الخوف على من كان يتعمق فيه لم يزل يذمه ويذم من تعمق فيه : فقد كان ينحى على أهل العراق لكثرة تصرفهم به في الأحكام ،

__________________

(١) أخرج معناه الدارمي في المقدمة (١ / ٤٩) ، باب : التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة من حديث وهب بن عمير الجمحي.

(٢) أخرجه الدارقطني في سننه صفحة (٥٠٢) في كتاب : الرضاع ، وله شاهد بمعناه أخرجه البزار والحاكم وصححه وغيرهما ، وقد حسّنه النووي في أربعينه.

(٣) سورة : الجاثية ، الآية : ٣٢.

٨٢

فحكي عنه في ذلك أشياء من أخفها قوله : الاستحسان تسعة أعشار العلم ولا يكاد المغرق في القياس إلّا يفارق السنة.

والآثار المتقدمة ليست عند مالك مخصوصة بالرأي في الاعتقاد ، فهذه كلها تشديدات في الرأي وإن كان جاريا على الأصول ، حذرا من الوقوع في الرأي غير الجاري على أصل. ولابن عبد البر ـ هنا ـ كلام كثير كرهنا الإتيان به.

والحاصل من جميع ما تقدم : أن الرأي المذموم ما بني على الجهل واتباع الهوى من غير أن يرجع إليه ، وما كان منه ذريعة إليه وإن كان في أصله محمودا ، وذلك راجع إلى أصل شرعي ؛ فالأول داخل تحت حد البدعة وتتنزل عليه أدلة الذم ، والثاني خارج عنه ولا يكون بدعة أبدا.

فصل

الوجه السادس : يذكر في بعض ما في البدع من الأوصاف المحذورة ، والمعاني المذمومة ، وأنواع الشؤم ، وهو كالشرح لما تقدم أولا ؛ وفيه زيادة بسط وبيان زائد على ما تقدم في أثناء الأدلة ، فلنتكلم على ما يسع ذكره بحسب الوقت والحال.

فاعلموا أن البدعة لا يقبل معها عبادة من صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا غيرها من القربات ، ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه ، والماشي إليه وموقره معين على هدم الإسلام ، فما الظن بصاحبها وهو ملعون على لسان الشريعة ، ويزداد من الله بعبادته بعدا؟! وهي مظنة إلقاء العداوة والبغضاء ، ومانعة من الشفاعة المحمدية ، ورافعة للسنن التي تقابلها ، وعلى مبتدعها إثم من عمل بها ، وليس له من توبة ، وتلقى عليه الذلة والغضب من الله ، ويبعد عن حوض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويخاف عليه أن يكون معدودا في الكفار الخارجين عن الملة ؛ وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا ، ويسودّ وجهه في الآخرة يعذب بنار جهنم ، وقد تبرأ منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتبرأ منه المسلمون ، ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة.

فأما أن البدعة لا يقبل معها عمل ، فقد روي عن الأوزاعي أنه قال : كان بعض أهل

٨٣

العلم يقول : لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صياما ولا صدقة ولا جهادا ولا حجّا ولا عمرة ولا صرفا ولا عدلا.

وفيما كتب به أسد بن موسى : وإياك أن يكون لك من البدع أخ أو جليس أو صاحب ، فإنه جاء الأثر : «من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى إلى هدم الإسلام». وجاء : «ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى» ، ووقعت اللعنة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل البدع ، وإن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا ، ولا فريضة ولا تطوعا ، وكلما ازدادوا اجتهادا ـ صوما وصلاة ـ ازدادوا من الله بعدا ، فارفض مجالستهم وأذلهم وأبعدهم ، كما أبعدهم وأذلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأئمة الهدى بعده.

وكان أيوب السختياني يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا.

وقال هشام بن حسان : لا يقبل الله من صاحب بدعة صلاة ولا صياما ولا زكاة ولا حجّا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا.

وخرّج ابن وهب عن عبد الله بن عمر قال : من كان يزعم أن مع الله قاضيا أو رازقا أو يملك لنفسه ضرّا أو نفعا أو موتا أو حياة أو نشورا ، لقي الله فأدحض حجته ، وأخرس لسانه ، وجعل صلاته وصيامه هباء منثورا ، وقطع به الأسباب ، وكبه في النار على وجهه.

وهذه الأحاديث وما كان نحوها مما ذكرناه أو لم نذكره تتضمن عمدة صحتها كلها ، فإن المعنى المقرر فيها له في الشريعة أصل صحيح لا مطعن فيه.

أما أولا : فإنه قد جاء في بعضها ما يقتضي عدم القبول وهو في الصحيح كبدعة القدرية حيث قال فيها عبد الله بن عمر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم ، وأنهم برآء مني ، فو الذي يحلف به عبد الله بن عمر لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما تقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر : ثم استشهد بحديث جبريل المذكور في صحيح مسلم.

ومثله حديث الخوارج وقوله فيه : «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (١)

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ١٢ ، الحاشية : ١.

٨٤

ـ بعد قوله ـ «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم» الحديث.

وإذا ثبت في بعضهم هذا لأجل بدعة فكل مبتدع يخاف عليه مثل من ذكره.

وأما ثانيا : فإن كان المبتدع لا يقبل منه عمل ، إما أن يراد أنه لا يقبل له بإطلاق على أي وجه وقع من وفاق سنّة أو خلافها ، وإما أن يراد أنه لا يقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون ما لم يبتدع فيه.

فأما الأول : فيمكن على أحد أوجه ثلاثة :

الأول : أن يكون على ظاهره من أن كل مبتدع أي بدعة كانت ، فأعماله لا تقبل معها ـ داخلتها تلك البدعة أم لا. ويشير إليه حديث ابن عمر المذكور آنفا. ويدل عليه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس وعليه سيف فيه صحيفة معلقة ، فقال : والله ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة ، فنشرها فإذا فيها ـ أسنان الإبل ، وإذا فيها : «المدينة حرم من عير إلى كدا ، من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» (١). وذلك على رأي من فسر الصرف والعدل بالفريضة والنافلة ، وهذا شديد جدا على أهل الإحداث في الدين.

الثاني : أن تكون بدعته أصلا يتفرع عليه سائر الأعمال ، كما إذا ذهب إلى إنكار العمل بخبر الواحد بإطلاق ، فإن عامة التكليف مبني عليه ، لأن الأمر إنما يرد على المكلف من كتاب الله أو من سنة رسوله ، وما تفرع منهما راجع إليهما ، فإن كان واردا من السنة فمعظم نقل السنة بالآحاد ، بل قد أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متواترا ، وإن كان واردا من الكتاب فإنما تبينه السنّة فكل ما لم يبين في القرآن فلا بد لمطرح نقل الآحاد أن يستعمل رأيه وهو الابتداع بعينه ، فيكون فرع ينبني على ذلك بدعة لا يقبل منه شيء ، كما في الصحيح من قوله عليه‌السلام : «كل عمل ليس عليه أمرنا

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٥٤ ، الحاشية : ٣.

٨٥

فهو رد» (١) وكما إذا كانت البدعة التي ينبني عليها كل عمل ، فإن الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى.

ومن أمثلة ذلك قول من يقول : إن الأعمال إنما تلزم من لم يبلغ درجة الأولياء المكاشفين بحقائق التوحيد ، فأما من رفع له الحجاب وكوشف بحقيقة ما هنالك فقد ارتفع التكليف عنه ، بناء منهم على أصل هو كفر صريح لا يليق في هذا الموضع ذكره.

وأمثلة ما ذهب إليه بعض المارقين من إنكار العمل بالأخبار النبوية جاءت تواترا أو آحادا وأنه إنما يرجع إلى كتاب الله.

وفي الترمذي عن أبي رافع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمري فيما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (٢) حديث حسن.

وفي رواية : «ألا! هي عسى رجل يبلغه عني الحديث وهو متكئ على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله (قال) فما وجدنا فيه حلالا حللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله» حديث حسن.

وإنما جاء هذا الحديث على الذم وإثبات أن سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التحليل والتحريم ككتاب الله ، فمن ترك ذلك فقد بنى أعماله على رأيه لا على كتاب الله ولا على سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن الأمثلة إذا كانت البدعة تخرج صاحبها عن الإسلام باتفاق أو باختلاف ، إذ للعلماء في تكفير أهل البدع قولان :

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٥١ ، الحاشية : ٣.

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : لزوم السنة (الحديث : ٤٦٠٤). وأخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : (١٠) ، (الحديث : ٢٦٦٤) وقال : حديث حسن. وأخرجه الإمام أحمد في المسند (٤ / ١٣٠ ، ١٣٢). وأخرجه ابن ماجه في المقدمة ، باب : تعظيم حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الحديث : ١٣).

٨٦

وفي الظواهر ما يدل على ذلك كقوله عليه الصلاة والسلام في بعض روايات حديث الخوارج حين ذكر السهم بصيغة الخوارج من الرمية بين الفرث والدم (١) ومن الآيات قوله سبحانه وتعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (٢) الآية ، ونحو الظواهر المتقدمة.

الوجه الثالث : أن صاحب البدعة في بعض الأمور التعبدية أو غيرها قد يجره اعتقاد بدعته الخاصة إلى التأويل الذي يصيّر اعتقاده في الشريعة ضعيفا ، وذلك يبطل عليه جميع عمله. بيان ذلك أمثلة :

منها : أن يترك العقل مع الشرع في التشريع ، وإنما يأتي الشرع كاشفا لما اقتضاه العقل ، فيا ليت شعري هل حكّم هؤلاء في التعبد لله شرعه أم عقولهم؟ بل صار الشرع في نحلتهم كالتابع المعين لا حاكما متبعا ، وهذا هو التشريع الذي لم يبق للشرع معه أصالة ، فكل ما عمل هذا العامل مبنيا على ما اقتضاه عقله ، وإن شرك الشرع فعلى حكم الشركة لا على إفراد الشرع.

فلا يصح بناء على الدليل الدال على إبطال التحسين والتقبيح العقليين ، إذ هو عند علماء الكلام من مشهور البدع ، وكل بدعة ضلالة.

ومنها : أن المستحسن للبدع يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد ، فلا يكون لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٣) ، معنى يعتبر به عندهم ، ومحسن الظن منهم يتأولها حتى يخرجها عن ظاهرها ، وذلك أن هؤلاء الفرق التي تبتدع العبادات أكثرها ممن يكثر الزهد والانقطاع والانفراد عن الخلق ، وإلى الاقتداء بهم يجري أغمار العوام ، والذي يلزم الجماعة وإن كان أتقى خلق الله لا يعدونه إلا من العامة.

وأما الخاصة فهم أهل تلك الزيادات ، ولذلك تجد كثيرا من المعتزين بهم ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : استتابة المرتدين ، باب : قتل الخوارج والملحدين (الحديث : ١٢ / ٢٥٧).

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٦.

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ٣.

٨٧

والمائلين إلى جهتهم ، يزدرون بغيرهم ممن لم ينتحل مثل ما انتحلوا ، ويعدونهم من المحجوبين عن أنوارهم ، فكل من يعتقد هذا المعنى يضعف في يده قانون الشرع الذي ضبطه السلف الصالح. وبيّن حدوده الفقهاء الراسخون في العلم ، إذ ليس هو عنده في طريق السلوك بمنهض حتى يدخل مداخل خاصتهم ، وعند ذلك لا يبقى لعمل في أيديهم روح الاعتماد الحقيقي ، وهو باب عدم القبول في تلك الأعمال ، وإن كانت بحسب ظاهر الأمر مشروعة ، لأن الاعتقاد فيها أفسدها عليهم ، فحقيق أن لا يقبل ممن هذا شأنه صرف ولا عدل ، والعياذ بالله!

وأما الثاني : وهو أن يراد بعدم القبول لأعمالهم ما ابتدعوا فيه خاصة فيظهر أيضا ، وعليه يدل الحديث المتقدم : «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد» (١) والجميع من قوله : «كل بدعة ضلالة» (٢) أي : أن صاحبها ليس على الصراط المستقيم ، وهو معنى عدم القبول ، وفاق قول الله : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٣).

وصاحب البدعة لا يقتصر في الغالب على الصلاة دون الصيام ، ولا على الصيام دون الزكاة ، ولا على الزكاة دون الحج ، ولا على الحج دون الجهاد ، إلى غير ذلك من الأعمال ، لأن الباعث له على ذلك حاضر معه في الجميع ، وهو الهوى والجهل بشريعة الله ، كما سيأتي إن شاء الله.

وفي المبسوطة عن يحيى بن يحيى أنه ذكر الأعراف وأهله فتوجع واسترجع ، ثم قال : قوم أرادوا وجها من الخير فلم يصيبوه فقيل له : يا أبا محمد! أفيرجى لهم مع ذلك لسعيهم ثواب؟ قال : ليس في خلاف السنّة رجاء ثواب.

وأما أن صاحب البدعة تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه فقد تقدم نقله ، ومعناه ظاهر جدّا ، فإن الله تعالى بعث إلينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة للعالمين حسبما أخبر في كتابه ، وقد كنا قبل

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٥١ ، الحاشية : ٣.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٣٣ ، الحاشية : ٢.

(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٣.

٨٨

طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدي سبيلا ، ولا نعرف من مصالحنا الدنيوية إلا قليلا على غير كمال ، ولا من مصالحنا الأخروية قليلا ولا كثيرا ، بل كان كل أحد يركب هواه وإن كان فيه ما فيه ، ويطرح هوى غيره فلا يلتفت إليه.

فلا يزال الاختلاف بينهم والفساد فيهم يخص ويعم ، حتى بعث الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزوال الريب والالتباس ، وارتفاع الخلاف الواقع بين الناس ، كما قال الله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) إلى قوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) (١) ، وقوله : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) (٢).

ولم يكن حاكما بينهم فيما اختلفوا فيه إلا وقد جاءهم بما ينتظم به شملهم ، وتجتمع به كلمتهم.

وذلك راجع إلى الجهة التي من أجلها اختلفوا ، وهو ما يعود عليهم بالصلاح في العاجل والآجل ، ويدرأ عنهم الفساد على الإطلاق ، فانحفظت الأديان والدماء والعقل والأنساب والأموال ، من طرق يعرف مآخذها العلماء ، وذلك ، القرآن المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولا وعملا وإقرارا.

ولم يردّوا إلى تدبير أنفسهم للعلم بأنهم لا يستطيعون ذلك ولا يستقلون بدرك مصالحهم ولا تدبير أنفسهم ، فإذا ترك المبتدع هذه الهبات العظيمة ، والعطايا الجزيلة ، وأخذ في استصلاح نفسه أو دنياه بنفسه بما لم يجعل الشرع عليه دليلا ، فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة؟

وقد حل يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه. فهو حقيق بالبعد عن الرحمة ، قال الله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (٣) ، بعد قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (٤) ، فأشعر أن الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢١٣.

(٢) سورة : يونس ، الآية : ١٩.

(٣) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٣.

(٤) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٢.

٨٩

حقا ، وأن ما سوى ذلك تفرقة ، لقوله : (وَلا تَفَرَّقُوا) (١) والفرقة من أخس أوصاف المبتدعة ، لأنه خرج عن حكم الله وباين جماعة أهل الإسلام.

روى عبد الله بن حميد بن عبد الله : أن حبل الله الجماعة.

وعن قتادة : حبل الله المتين ، هذا القرآن وسننه ، وعهده إلى عباده الذي أمر أن يعتصم بما فيه من الخير ، والثقة أن يتمسكوا به ويعتصموا بحبله ، إلى آخر ما قال ومن ذلك قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ) (٢).

وأما أن الماشي إليه والموقّر له معين على هدم الإسلام فقد تقدم من نقله.

وروي أيضا مرفوعا : «من أتى صاحب بدعة ليوقّره ، فقد أعان على هدم الإسلام».

وعن هشام بن عروة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام» (٣).

ويجامعها في المعنى ما صح من قوله عليه الصلاة والسلام : «من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (٤) الحديث.

فإن الإيواء يجامع التوقير ، ووجه ذلك ظاهر لأن المشي إليه والتوقير له تعظيم له لأجل بدعته ، وقد علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو أشد من هذا ، كالضرب والقتل ، فصار توقيره صدودا عن العمل بشرع الإسلام ، وإقبالا على ما يضاده وينافيه ، والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به والعمل بما ينافيه.

وأيضا فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم :

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٣.

(٢) سورة : الحج ، الآية : ٧٨.

(٣) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ، فصل في ذم البدع.

(٤) أخرجه أبو داود في كتاب : الديات ، باب : إيقاد المسلم بالكافر (الحديث : ٤٥٣٠). وأخرجه النسائي في كتاب : القسامة ، باب : القود بين الأحرار والمماليك في النفس (الحديث : ٨ / ١٩) وهو صحيح بشواهده.

٩٠

إحداهما : التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير ، فيعتقدون في المبتدع أنه أفضل الناس ، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره ، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنّة على سنتهم.

والثانية : إنه إذا وقّر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيء.

وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن ، وهو هدم الإسلام بعينه.

وعلى ذلك دل حديث معاذ : «فيوشك قائل أن يقول : ما لهم لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتّبعي حتى أبتدع لهم غيره ، وإياكم وما ابتدع ، فإن ما ابتدع ضلالة» (١) ، فهو يقتضي أن السنن تموت إذا أحييت البدع ، وإذا ماتت انهدم الإسلام.

وعلى ذلك دلّ النقل على السلف زيادة إلى صحة الاعتبار ، لأن الباطل إذا عمل به لزم ترك العمل بالحق كما في العكس ، لأن المحل الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين.

وأيضا فمن السنة الثابتة ترك البدع ، فمن عمل ببدعة واحدة فقد ترك تلك السنة.

فمما جاء من ذلك ما تقدم ذكره عن حذيفة رضي الله عنه أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه : هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا : يا أبا عبد الله! ما نرى بينهما إلّا قليلا ، قال : والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور ، والله لتفشونّ البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا : تركت السنّة. وله أثر آخر قد تقدم.

وعن أبي إدريس الخولاني أنه كان يقول : ما أحدثت أمة في دينها بدعة إلّا رفع الله بها عنهم سنته.

وعن حسان بن عطية قال : ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ، ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : لزوم السنة (الحديث : ٤٦١١).

٩١

وعن بعض السلف يرفعه : «لا يحدث رجل في الإسلام بدعة إلا ترك من السنة ما هو خير منها».

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن.

وأما أن صاحبها ملعون على لسان الشريعة ، فلقوله عليه الصلاة والسلام : «من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (١).

وعد من الإحداث ، الاستنان بسنة سوء لم تكن.

وهذه اللعنة قد اشترك فيها صاحب البدعة مع من كفر بعد إيمانه ، وقد شهد أن بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق لا شك فيها ، وجاءه الهدى من الله والبيان الشافي ، وذلك قول الله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ) إلى قوله : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٢) ، إلى آخرها.

واشترك أيضا مع من كتم ما أنزل الله وبيّنه في كتابه ، وذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (٣).

فتأملوا المعنى الذي اشترك المبتدع فيه مع هاتين الفرقتين ، وذلك مضادة الشارع فيما شرع ، لأن الله تعالى أنزل الكتاب وشرع الشرائع ، وبيّن الطريق للسالكين على غاية ما يمكن من البيان ، فضادّها الكافر بأن جحدها جحدا ، وضادها كاتمها بنفس الكتمان ، لأن الشارع يبين ويظهر ، وهذا يكتم ويخفي ، وضادها المبتدع بأن وضع الوسيلة لترك ما بيّن وإخفاء ما أظهر ، لأن من شأنه أن يدخل الإشكال في الواضحات ، من أجل اتباع المتشابهات ، لأن الواضحات تهدم له ما بنى عليه من المتشابهات ، فهو آخذ في إدخال

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٩٠ ، الحاشية : ٥.

(٢) سورة : آل عمران ، الآيات : ٨٦ ـ ٨٧.

(٣) سورة : البقرة ، الآية : ١٥٩.

٩٢

الإشكال على الواضح ، حتى يرتكب ما جاءت اللعنة في الابتداع به من الله والملائكة والناس أجمعين.

قال أبو مصعب صاحب مالك : قدم علينا ابن مهدي ـ يعني المدينة ـ فصلّى ووضع رداءه بين يدي الصف فلما سلّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا ، وكان قد صلّى خلف الإمام ، فلما سلّم قال : من هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه ، فحبس ، فقيل له : إنه ابن مهدي فوجه إليه ، وقال له : أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»؟ فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدا في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا في غيره. وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك إحداث ما لم يكن خوفا من تلك اللعنة ، فما ظنّك بما سوى وضع الثوب؟

وتقدم حديث الطحاوي : «ستة ألعنهم ، لعنهم الله» (١) فذكر فيهم التارك لسنته عليه الصلاة والسلام أخذا بالبدعة.

وأما أنه يزداد من الله بعدا ، فلما روي عن الحسن أنه قال : صاحب البدعة ما يزداد من الله اجتهادا ، صياما وصلاة ، إلا ازداد من الله بعدا.

وعن أيوب السختياني قال : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا.

ويصحح هذا النقل ما أشار إليه الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج : «يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ـ إلى أن قال ـ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (٢) فبيّن أولا اجتهادهم ثم بيّن آخرا بعدهم من الله تعالى.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٥٨ ، الحاشية : ١.

(٢) تقدم تخريجه ص : ١٢ ، الحاشية : ١.

٩٣

وهو بين أيضا من جهة أنه لا يقبل منه صرف ولا عدل كما تقدم ، فكل عمل يعمله على البدعة فكما لو لم يعلمه ويزيد على تارك العمل بالعناد الذي تضمنه ابتداعه ، والفساد الداخل على الناس به في أصل الشريعة ، وفي فروع الأعمال والاعتقادات وهو يظن مع ذلك أن بدعته تقرّبه من الله وتوصله إلى الجنة.

وقد ثبت بالنقل الصحيح الصريح بأنه لا يقربه إلى الله إلا العمل بما شرع ، وعلى الوجه الذي شرع ـ وهو تاركه ، وأن البدع تحبط الأعمال ـ وهو ينتحلها.

وأما أن البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام ، فلأنها تقتضي التفرق شيعا.

وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم حسبما تقدم في قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) (١)

وقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٢).

وقوله : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣).

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (٤) ، وما أشبه ذلك من الآيات في هذا المعنى.

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٥.

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٣.

(٣) سورة : الروم ، الآيتان : ٣١ ـ ٣٢.

(٤) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

٩٤

وقد بيّن عليه الصلاة والسلام أن فسد ذات البين هي الحالقة وأنها تحلق الدين ، هذه الشواهد تدل على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع.

وأول شاهد عليه في الواقع قصة الخوارج إذ عادوا أهل الإسلام حتى صاروا يقتلونهم ويدعون الكفار كما أخبر عنه الحديث الصحيح : ثم يليهم كل من كان له صولة منهم بقرب الملوك فإنهم تناولوا أهل السنة بكل نكال وعذاب وقتل أيضا ، حسبما بينه جميع أهل الأخبار.

ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإن من شأنهم أن يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونهم ويزعمون أنهم الأرجاس الأنجاس المكبّين على الدنيا ويضعون عليهم شواهد الآيات في ذم الدنيا وذم المكبّين عليها ، كما يروى عن عمرو بن عبيد أنه قال : لو شهد عندي عليّ وعثمان وطلحة والزبير على شراك نعل ما أجزت شهادتهم.

وعن معاذ بن معاذ قال : قلت لعمرو بن عبيد : كيف حدث الحسن عن عثمان أنه ورث امرأة عبد الرحمن بعد انقضاء عدتها؟ فقال : إن فعل عثمان لم يكن سنّة.

وقيل له : كيف حدث الحسن عن سمرة في السكتتين؟ فقال : ما تصنع بسمرة! قبح الله سمرة اه. بل قبح الله عمرو بن عبيد ، وسئل يوما عن شيء فأجاب فيه.

قال الراوي : قلت ليس هكذا يقول أصحابنا. قال : ومن أصحابك لا أبا لك؟ قلت : أيوب ، ويونس ، وابن عون ، والتيمي. قال : أولئك أنجاس أرجاس ، أموات غير أحياء.

فهكذا أهل الضلال يسبون السلف الصالح لعل بضاعتهم تنفق ، (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) (١).

وأصل هذا الفساد من قبل الخوارج فهم أول من لعن السلف الصالح ، وكفر الصحابة رضي الله عن الصحابة ، ومثل هذا كله يورث العداوة والبغضاء.

وأيضا فإن فرقة النجاة وهم أهل السنّة مأمورون بعداوة أهل البدع والتشريد بهم والتنكيل بمن انحاش إلى جهتهم بالقتل فما دونه ، وقد حذّر العلماء من مصاحبتهم

__________________

(١) سورة : التوبة ، الآية : ٣٢.

٩٥

ومجالستهم حسبما تقدم ، وذلك مظنة إلقاء العداوة والبغضاء. لكن الدرك فيها على من تسبب في الخروج عن الجماعة بما أحدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين لا على التعادي مطلقا.

كيف ونحن مأمورون بمعاداتهم وهم مأمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعة؟

وأما أنها مانعة من شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فلما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «حلت شفاعتي لأمتي إلا صاحب بدعة» ويشير إلى صحة المعنى فيه ما في الصحيح قال : «أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ، وإنه سيؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ـ إلى قوله ـ فيقال لم يزالوا مرتدين على أعقابهم» الحديث ، وقد تقدم. ففيه أنه لم يذكر لهم شفاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما قال : «فأقول لهم سحقا كما قال العبد الصالح» (١).

ويظهر من أول الحديث أن ذلك الارتداد لم يكن ارتداد كفر لقوله : «وإنه سيؤتي برجال من أمتي» ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لما نسبوا إلى أمته ، ولأنه عليه الصلاة والسلام أتى بالآية وفيها : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢) ، ولو علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم خارجون عن الإسلام جملة لما ذكرها ، لأن من مات على الكفر لا غفران له البتة ، وإنما يرجى الغفران لمن لم يخرجه عمله عن الإسلام لقول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٣).

ومثل هذا الحديث حديث الموطأ لقوله فيه : «فأقول فسحقا فسحقا» (٤).

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٥٤ ، الحاشية : ٤.

(٢) سورة : المائدة ، الآية : ١١٨.

(٣) سورة : النساء ، الآية : ٤٨.

(٤) تقدم تخريجه ص : ٥٤ ، الحاشية : ٤.

٩٦

وأما أنها رافعة للسنن التي تقابلها ، فقد تقدم الاستشهاد عليه في أن الموقر لصاحبها معين على هدم الإسلام.

وأما أن على مبتدعها إثم من عمل بها إلى يوم القيامة ، فلقوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١) ، ولما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام : «من سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها» (٢) الحديث.

وإلى ذلك أشار الحديث الآخر : «ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها ، لأنه أول من سنّ القتل» (٣).

وهذا التعليل يشعر بمقتضى الحديث قبله ، إذ علل تعليق الإثم على ابن آدم لكونه أول من سنّ القتل ، فدل على أن من سنّ ما لا يرضاه الله ورسوله فهو مثله ، إذ لم يتعلق الإثم بمن سنّ القتل لكونه قتلا دون غيره ، بل لكونه سنّ سنّة سوء وجعلها طريقا مسلوكة.

ومثل هذا ما جاء في معناه مما تقدم أو يأتي كقوله : «ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا» (٤) وغير ذلك من الأحاديث.

فليتق الله امرؤ ربه ولينظر قبل الإحداث في أي مزلة يضع قدمه في مصون أمره ، يثق

__________________

(١) سورة : النحل ، الآية : ٢٥.

(٢) أخرج الترمذي نحوه في كتاب : العلم ، باب : ما جاء فيمن دعا إلى هدى أو إلى ضلالة ، وقال : حديث حسن صحيح (الحديث : ٢٦٧٧). وأخرجه مسلم مطولا.

(٣) أخرجه الحميدي (١١١). وأخرجه أحمد في المسند (١ / ٣٨٣ ، ٤٣٠ ، ٤٣٣). وأخرجه البخاري (٤ / ١٦٢). وأخرجه مسلم (٥ / ١٠٦). وأخرجه ابن ماجه (٢٦١٦). وأخرجه الترمذي (٢٦٧٣). وأخرجه النسائي (٧ / ٨١).

(٤) تقدم تخريجه ص : ٢٩ ، الحاشية : ٢.

٩٧

بعقله في التشريع ويتهم ربه فيما شرع ، ولا يدري المسكين ما الذي يوضع له في ميزان سيئاته مما ليس في حسابه ، ولا شعر أنه من عمله ، فما من بدعة يبتدعها أحد فيعمل بها من بعده ، إلا كتب عليه إثم ذلك العامل ، زيادة إلى إثم ابتداعه أولا ، ثم عمله ثانيا.

وإذا ثبت أن كل بدعة تبتدع فلا تزداد على طول الزمان إلا مضيّا ـ حسبما تقدم ـ واشتهارا وانتشارا ، فعلى وزان ذلك يكون إثم المبتدع لها ، كما أن من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

وأيضا ، فإذا كانت كل بدعة يلزمها إماتة سنة تقابلها ، كان على المبتدع إثم ذلك أيضا ، فهو إثم زائد على إثم الابتداع ، وذلك الإثم يتضاعف تضاعف إثم البدعة بالعمل بها ، لأنها كلما تجددت في قول أو عمل تجددت إماتة السنّة كذلك.

واعتبروا ذلك ببدعة الخوارج فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفنا بأنهم : «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (١) الحديث إلى آخره ، ففيه بيان أنهم لم يبق لهم من الدين إلا ما إذا نظر فيه الناظر شك فيه وتمارى ، هل هو موجود فيهم أم لا؟ وإنما سببه الابتداع في دين الله ، وهو الذي دل عليه قوله : «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» ، وقوله : «يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم» (٢) فهذه بدع ثلاث ، إعاذة بالله من ذلك بفضله.

وأما أن صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله عليه الصلاة والسلام : «إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة» (٣).

وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال : كان يقال يأبى الله لصاحب بدعة توبة ، وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى أشر منها.

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ١٢ ، الحاشية : ١.

(٢) تقدم تخريجه ص : ١٢ ، الحاشية ١.

(٣) روى ابن ماجه : «أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة» في المقدمة (الحديث : ٧).

٩٨

ونحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ما كان رجل على رأي من البدعة فتركه إلا إلى ما هو شر منه. خرّج هذه الآثار ابن وضاح.

وخرّج ابن وهب ، عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول : اثنان لا نعاتبهما : صاحب طمع ، وصاحب هوى ، فإنهما لا ينزعان.

وعن ابن شوذب قال : سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول : ما كان عبد على هوى تركه إلا إلى ما هو شر منه. قال : فذكرت ذلك لبعض أصحابنا فقال : تصديقه في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم على فوقه» (١).

وعن أيوب قال : كان رجل يرى رأيا فرجع عنه فأتيت محمدا فرحا بذلك أخبره ، فقلت : أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال : انظر إلام يتحول؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من الأول ، أوله : «يمرقون من الدين» وآخره : «ثم لا يعودون» وهو حديث أبي ذر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سيكون من أمتي قوم يقرءون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم ، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه ، هم شرّ الخلق والخليقة» (٢).

فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعنى هذه الآثار ، وحاصلها أنه توبة لصاحب البدعة عن بدعته فإن خرج فإنما يخرج إلى ما هو شر منها كما في حديث أيوب ، أو يكون ممن يظهر الخروج عنها وهو مصر عليها بعد ، كقصة غيلان مع عمر بن عبد العزيز.

ويدل على ذلك أيضا حديث الفرق إذ قال فيه : «وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ١٢ ، الحاشية : ١.

(٢) أخرجه النسائي في كتاب : تحريم الدم ، باب : من شهر سيفه ثم وضعه في الناس وهو حديث حسن (الحديث : ٧ / ١١٩).

٩٩

بهم تلك الأهواء ، كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» (١) وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق ، ولكنه قد يحمل على العموم العاديّ ، إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق ، كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري ، وما نقلوه من مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على عليّ رضي الله عنه ، وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم ، ولكن الغالب في الواقع الإصرار.

ومن هنالك قلنا : يبعد أن يتوب بعضهم لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره ، وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله.

وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس لأنه أمر مخالف للهوى ، وصاد عن سبيل الشهوات ، فيثقل عليها جدا لأن الحق ثقيل ، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه ، وكل بدعة فللهوى فيها مدخل ، لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع ، فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل مع ضميمة أخرى ، وهي أن المبتدع لا بدّ له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع ، ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع ، فصار هواه مقصودا بدليل شرعيّ في زعمه ، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة.

ومن الدليل على ذلك ما روي عن الأوزاعي قال : بلغني أن من ابتدع بدعة ضلالة آلفه الشيطان العبادة أو ألقى عليه الخشوع والبكاء كي يصطاد به.

وقال بعض الصحابة : أشد الناس عبادة مفتون ، واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : «يحقر أحدكم صلاته في صلاته وصيامه في صيامه» (٢) إلى آخر الحديث.

ويحقق ما قاله الواقع كما نقل في الأخبار عن الخوارج وغيرهم.

فالمبتدع : يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه وغير ذلك من

__________________

(١) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : شرح السنة (الحديث : ٤٥٩٧).

(٢) تقدم تخريجه ص : ١٢ ، الحاشية : ١.

١٠٠