الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

والتاسع : قولهم جاء في الحديث : «صلة الرحم تزيد العمر» (١) والله تعالى يقول :

(إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٢) فكيف تزيد صلة الرحم في أجل لا يؤخر ولا يقدم البتة.

وأجيب عنه بأجوبة :

منها : أن يكون في علم الله أن هذا الرجل إن وصل رحمه عاش مائة سنة ، وإلّا عاش ثمانين سنة ، مع أن في علمه أنه يفعل بلا بد ؛ أو أنه لا يفعل أصلا.

وعلى كلا الوجهين إذا جاء أجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم. قاله ابن قتيبة وتبعه عليه القرافي.

والعاشر : قال في الحديث : «إنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة» ثم فيه : «كان عليه الصلاة والسلام ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء» (٣) وهذا تدافع. والحديثان معا لعائشة رضي الله عنها.

والجواب سهل : فالحديثان يدلان على أن الأمرين موسع فيهما ؛ لأنه إذا فعل أحد الأمرين وأكثر منه ، وفعل الآخر أيضا وأكثر منه على ما تقتضيه كان يفعل حصل

__________________

(١) أخرج نحوه البخاري في كتاب : الأدب ، باب : من بسط له في الرزق بصلة الرحم (الحديث : ١٠ / ٣٤٨). وأخرجه الترمذي في كتاب : البر والصلة ، باب : ما جاء في تعليم النسب (الحديث : ١٩٨٠).

(٢) سورة : يونس ، الآية : ٤٩.

(٣) الرواية الأولى : أخرجه مسلم في كتاب : الحيض ، باب : جواز نوم الجنب (الأحاديث : ٣٠٥ ، ٣٠٧). وأخرجه أبو داود في كتاب : الطهارة ، باب : الجنب يأكل ، وباب : الجنب يؤخر الغسل (الأحاديث : ٢٢٢ ، ٢٢٣ ، ٢٢٤ ، ٢٢٦ ، ٢٢٨) ، وأخرجه في كتاب : الصلاة ، باب : في وقت الوتر (الحديث : ١٤٣٧). الرواية الثانية : أخرجه الترمذي في كتاب : الطهارة ، باب : ما جاء في الجنب ينام قبل أن يغتسل (الأحاديث : ١١٨ ، ١١٩). وجمع القولان في رواية واحدة : النسائي في كتاب : الطهارة ، باب : وضوء الجنب إذا أراد أن يأكل ، وباب : اقتصار الجنب على غسل يديه إذا أراد أن يأكل أو يشرب ، وباب : وضوء الجنب إذا أراد أن ينام ، وأخرجه في كتاب : الغسل ، باب : الاغتسال قبل النوم (الحديث : ١ / ١٣٨).

٥٦١

منهما أنه كان يفعل ويترك ، وهذا شأن المستحب فلا تعارض بينهما.

فهذه عشرة أمثلة تبين لك مواقع الإشكال ، وإني رتبتها مع ثلج اليقين ، فإن الذي عليه كل موقن بالشريعة أنه لا تناقض فيها ولا اختلاف ، فمن توهم ذلك فيها فهو لم ينعم النظر ولا أعطى وحي الله حقه ، ولذلك قال الله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (١) فحضهم على التدبر أولا ، ثم أعقبه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٢) فبين أنه لا اختلاف فيه وأن التدبر يعين على تصديق ما أخبر به.

فصل

النوع الثالث :

إن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه ، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب ، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون ، إذ لو كان كيف كان يكون؟ فمعلومات الله لا تتناهى ، ومعلومات العبد متناهية ، والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى.

وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملة وتفصيلا ، وصفاتها وأحوالها وأفعالها وأحكامها جملة وتفصيلا ، فالشيء الواحد من جملة الأشياء يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال ، بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أحواله ولا في أحكامه ، بخلاف العبد فإن علمه بذلك الشيء قاصر ناقص ، سواء كان في تعقل ذاته أو صفاته أو أحواله أو أحكامه ، وهو في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فهي عاقل تخرّجه التجربة إذا اعتبرها الإنسان في نفسه.

وأيضا : فأنت ترى المعلومات عند العلماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

قسم ضروري : لا يمكن التشكيك فيه ، كعلم الإنسان بوجوده ، وعلمه بأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن الضدين لا يجتمعان.

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٨٢.

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٨٢.

٥٦٢

وقسم لا يعلمه البتة : إلا أن يعلم به أو يجعل له طريق إلى العلم به ، وذلك كعلم المغيبات عنه ، كانت من قبيل ما يعتاد علم العبد به أو لا ، كعلمه بما تحت رجليه ، إلا أن مغيبه عنه تحت الأرض بمقدار شبر ، وعلمه بالبلد القاضي عنه الذي لم يتقدم له به عهد ، فضلا عن علمه بما في السموات وما في البحار وما في الجنة أو النار على التفصيل ، فعلمه بما لم يجعل له عليه دليل غير ممكن.

وقسم نظري : يمكن العلم به ويمكن أن لا يعلم به ـ وهي النظريات ـ وذلك القسم النظري هو الممكنات التي تعلم بواسطة لا بأنفسها ، إلا أن يعلم بها إخبارا.

وقد زعم أهل العقول أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة لاختلاف القرائح والأنظار ، فإذا وقع الاختلاف فيها لم يكن بد من مخبر بحقيقتها في أنفسها إن احتيج إليها ، لأنه لو لم تفتقر إلى الإخبار لم يصح العلم بها لأن المعلومات لا تختلف باختلاف الأنظار لأنها حقائق في أنفسها. فلا يمكن أن يكون كل مجتهد فيها مصيبا ـ كما هو معلوم في الأصول ـ وإنما المصيب فيها واحد. وهو لا يتعين إلا بالدليل.

وقد تعارضت الأدلة في نظر الناظر. فنحن نقطع بأن أحد الدليلين دليل حقيقة. والآخر شبهة ولا يعين. فلا بدّ من إخبار بالتعيين.

ولا يقال : إن هذا قول الإمامية ، لأن نقول : بل هو يلزم الجميع ، فإن القول بالمعصوم غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفتقر إلى دليل ، لأنه لم ينص عليه الشارع نصّا يقطع العذر ، فالقول بإثباته نظري ، فهو مما وقع الخلاف فيه ، فكيف يخرج عن الخلاف بأمر فيه خلاف؟ هذا لا يمكن.

فإذا ثبت هذا رجعنا إلى مسألتنا فنقول : الأحكام الشرعية من حيث تقع على أفعال المكلفين من قبيل الضروريات في الجملة ، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل فلتماسها (؟).

ونرجع إلى ما بقي من الأقسام فإنهم قد أقروا في الجملة ـ أعني : القائلين بالتشريع العقلي ـ أن منه نظريا ، ومنه ما لا يعلم بضرورة ولا نظر ، وهما القسمان الباقيان مما لا يعلم له أصل إلا من جهة الإخبار ، فلا بدّ فيه من الإخبار لأن العقل غير مستقل فيه ، وهذا إذا راعينا قولهم وساعدناهم عليه ، فإنا إن لم نلتزم ذلك على مذاهب أهل السنة فعندنا أن لا نحكّم العقل أصلا ، فضلا عن أن يكون له قسم لا حكم له ، وعندهم أنه لا بدّ من حكم ، فلأجل ذلك نقول : لا بدّ من الافتقار إلى الخبر ، وحينئذ يكون العقل غير مستقل بالتفريع ،

٥٦٣

فإن قالوا : بل هو مستقل ، لأن ما لم يقض فيه فإما أن يقولوا فيه بالوقف ـ كما هو مذهب بعضهم ـ أو بأنه على الحظر أو الإباحة ـ كما ذهب إليه آخرون.

فإن قالوا : بالثاني فهو مستقل ، وإن قالوا بالأول فكذلك أيضا ، لأنه قد ثبت استقلاله بالبعض فافتقاره في بعض الأشياء لا يدل على افتقاره مطلقا. قلنا : بل هو مفتقر على الإطلاق ، لأن القائلين بالوقف اعترفوا بعدم استقلاله في البعض ، وإذا ثبت الافتقار في صورة ثبت مطلقا إذ وقف فيه العقل قد ثبت فيه ذلك ، وما لم يقف فيه فإنه نظري ، فيرجع إلى ما تقدم في النظر ، وقد مرّ أنه لا بدّ من حكم ولا يمكن إلا من جهة الإخبار.

وأما القائلون بعدم الوقف فراجعة أقوالهم أيضا إلى أن المسألة نظرية فلا بدّ من الإخبار ، وذلك معنى كون العقل لا يستقل بإدراك الأحكام حتى يأتي المصدق للعقل أو المكذب له.

فإن قالوا : فقد ثبت فيها قسم ضروري فيثبت الاستقلال.

قلنا : إن ساعدناكم على ذلك فلا يضرنا في دعوى الافتقار ، لأن الأخبار قد تأتي بما يدركه الإنسان بعقله تنبيها لغافل أو إرشادا لقاصر ، أو إيقاظا لمغمور بالعوائد يغفل عن كونه ضروريّا ، فهو إذا محتاج إليه ، ولا بدّ للعقل من التنبيه من خارج ، وهي فائدة بعث الرسل ، فإنكم تقولون : إن حسن الصدق النافع والإيمان ، وقبح الكذب أيضا والكفران ، معلوم ضرورة ، وقد جاء الشرع بمدح هذا وذم ذلك ، وأمر بهذا ونهى عن ذلك.

فلو كان العقل غير مفتقر إلى التنبيه لزم المحال وهو الإخبار بما لا فائدة فيه ، لكنه أتى بذلك فدلّنا على أنه نبه على أمر يفتقر العقل إلى التنبيه عليه. هذا وجه.

ووجه آخر : وهو أن العقل لما ثبت أنه قاصر الإدراك في علمه ، فما ادّعى علمه لم يخرج عن تلك الأحكام الشرعية التي زعم أنه أدركها ، لإمكان أن يدركها من وجه دون وجه ، وعلى حال دون حال ، والبرهان على ذلك أحوال أهل الفترات ، فإنهم وضعوا أحكاما على العباد بمقتضى السياسات لا تجد فيها أصلا منتظما وقاعدة مطردة على الشرع بعد ما جاء ، بل استحسنوا أمورا تجد العقول بعد تنويرها بالشرع تنكرها ، وترميها بالجهل والضلال والبهتان والحمق ، مع الاعتراف بأنهم أدركوا بعقولهم أشياء قد وافقت وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها ، ومع أنهم كانوا أهل عقول باهرة وأنظار صافية وتدبيرات لدنياهم غامضة ، لكنها

٥٦٤

بالنسبة إلى ما لم يصيبوا فيه قليلة فلأجل هذا كله وقع الإعذار والإنذار ، وبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، لئلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل ، ولله الحجّة البالغة ، والنعمة السابغة.

فالإنسان وإن زعم في الأمر أنه أدركه وقتله علما ـ لا يأتي عليه الزمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن عقل ، وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك ، كل أحد يشاهد ذلك من نفسه عيانا ، ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم ، ولا بذات دون ذات ولا بصفة دون صفة ، ولا فعل دون حكم فكيف يصح دعوى الاستقلال في الأحكام الشرعية ، وهي نوع من أنواع ما يتعلق به علم العبد؟ لا سبيل له دعوى الاستقلال البتة حتى يستظهر في مسألته بالشرع ـ إن كانت شرعية ـ لأن أوصاف الشارع لا تختلف فيها البتة ، ولا قصور ولا نقص ، بل مبادئها موضوعة على وفق الغايات ، وهي من الحكمة.

ووجه ثالث : وهو أن ما ندعي علمه في الحياة ينقسم ـ كما تقدم ـ إلى البديهي الضروري وغيره إلا من طريق ضروري إما بواسطة أو بغير واسطة ، إذ قد اعترف الجميع أن العلوم المكتسبة لا بدّ في تحصيلها من توسط مقدمتين معترف بهما ، فإن كانتا ضروريتين فذاك ، وإن كانتا مكتسبتين فلا بد في اكتساب كل واحدة منهما من مقدمتين ، وينظر فيهما كما تقدم ، وكذلك إن كانت واحدة ضرورية وأخرى مكتسبة فلا بد للمكتسبة من مقدمتين ، فإن انتهينا إلى ضروريتين فهو المطلوب ، وإلا لزم التسلسل أو الدور ، وكلاهما محال ، فإذا لا يمكن أن نعرف غير الضروري إلا بالضروري.

وحاصل الأمر أنه لا بدّ من معرفتها بمقدمتين حصلت لنا كل واحدة منهما مما علقناه وعلمناه من مشاهد باطنة ، كالألم واللذة أو بديهي للعقل كعلمنا بوجودنا وبأن الاثنين أكثر من الواحد ، وبأن الضدين لا يمكن اجتماعهما وما أشبه ذلك مما هو لنا معتاد في هذه الدار ، فإنا لم يتقدم لنا علم إلا بما هو معتاد في هذا الدار ، وأما ما ليس بمعتاد فقبل النبوات لم يتقدم لنا به معرفة ، فلو بقينا على ذلك لم نحل ما لم نعرف إلا على ما عرفنا ، ولأنكرنا من ادعى جواز قلب الشجر حيوانا والحيوان حجرا ، وما أشبه ذلك ، لأن الذي نعرفه من المعتادات المتقدمة خلاف هذه الدعوى.

فلما جاءت النبوات بخوارق العادات أنكرها من أصر على الأمور العادية واعتقادها

٥٦٥

سحرا أو غير ذلك ، كقلب العصا ثعبانا ، وفرق البحر ، وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمة والأبرص ، ونبع الماء من بين أصابع اليد ، وتكليم الحجر والشجر ، وانشقاق القمر ، إلى غير ذلك مما تبين به أن تلك العوائد اللازمة في العادات ليست بعقلية بحيث لا يمكن تخلفها ، بل يمكن أن تتخلف ، كما يجوز على كل مخلوق أن يصير من الوجود إلى العدم ، كما خرج من العدم إلى الوجود.

فمبادئ العادات إذا يمكن عقلا تخلفها ، إذ لو كان عدم التخلف لها عقليا لم يمكن أن تتخلف لا لنبي ولا لغيره ، ولذلك لم يدّع أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الجمع بين النقيضين ، ولا تحدّى أحد بكون الاثنين أكثر من الواحد ، مع أن الجميع فعل الله تعالى ، وهو متفق عليه بين أهل الإسلام. وإذا أمكن في العصا والبحر والأكمة والأبرص والأصابع والشجر وغير ذلك ، أمكن في جميع الممكنات ، لأن ما وجب للشيء وجب لمثله.

وأيضا : فقد جاءنا الشرع بأوصاف من أهل الجنة وأهل النار خارجة عن المعتاد الذي عندنا ، فإن كون الإنسان في الجنة يأكل ويشرب ثم لا يغوط ولا يبول غير معتاد ، وكون عرقه كرائحة المسك غير معتاد ، وكون الأزواج مطهرة من الحيض مع كونهن في حالة الصبا وسنّ من يحيض غير معتاد ، وكون الإنسان فيها لا ينام لا يصيبه جوع ولا عطش وإن فرض لا يأكل ولا يشرب أبد الدهر غير معتاد ، وكون الثمر فيها إذا قطف أخلف في الحال ويتدانى إلى يد القاطف إذا اشتهاه غير معتاد ، وكون اللبن والخمر والعسل فيها أنهارا من غير حلاب ولا عصر ولا نحل ، وكون الخمر لا تسكر غير معتاد ، وكون ذلك كله بحيث لو استعمله الإنسان دائما لا يمتلئ ولا يصيبه كظة ولا تخمة ولا يخرج من جسده لا من أذنه ولا أنفه ولا ارفاغه ولا سائر جسده أوساخ ولا أقذار غير معتاد ، وكون أحد من أهل الجنّة لا يهرم ولا يشيخ ولا يموت ولا يمرض غير معتاد.

كذلك إذا نظرت أهل النار ـ عياذا بالله ـ وجدت من ذلك كثيرا ، ككون النار تأتي عليه حتى يموت ، كما قال تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (١) وسائر أنواع الأحوال التي هم عليها ، كلّها خارق للعادة.

__________________

(١) سورة : الأعلى ، الآية : ١٣.

٥٦٦

فهذان نوعان شاهدان لتلك العوائد وأشباهها بأنها ليست بعقلية ، وإنما هي وضعية يمكن تخلفها ، وإنما لم نحتج بالكرامات لأن أكثر المعتزلة ينكرونها رأسا وقد أقرّ بها بعضهم ، وإن ملنا إلى التعريف فلو اعتبر الناظر في هذا العالم لوجد لذلك نظائر جارية على غير المعتاد.

واسمع في ذلك أثرا غريبا حكاه ابن وهب من طريق إبراهيم بن نشيط.

قال : سمعت شعيب بن أبي سعيد يحدث : أن راهبا كان بالشام من علمائهم وكان ينزل مرة في السنة فتجتمع إليه الرهبان ليعلمهم ما أشكل عليهم من دينهم فأتاه خالد بن يزيد بن معاوية فيمن جاءه. فقال له الراهب : أمن علمائهم أنت؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني. قال الراهب : أليس تقولون : إنكم تأكلون في الجنة وتشربون ثم لا يخرج منكم أذى؟ قال خالد : بلى! قال الراهب : أفلهذا مثل تعرفونه في الدنيا؟ قال : نعم! الصبي يأكل في بطن أمه من طعامها ، ويشرب من شرابها ثم لا يخرج منه أذى. قال الراهب لخالد : أليس تقول إنك لست من علمائهم؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني ، قال : أفليس تقولون : إن في الجنة فواكه تأكلون منها لا ينقص منها شيء؟ قال خالد : بلى! قال : أفلهذا مثل في الدنيا تعرفونه؟ قال خالد : نعم! الكتاب يكتب منه كل شيء أحد ثم لا ينقص منه شيء ، قال الراهب : أليس تقول : إنك لست من علمائهم؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني. قال خالد : فتمعّر وجهه ثم قال : إن هذا من أمة بسط لها في الحسنات ما لم يبسط لأحد. انتهى المقصود من الخبر.

وهو ينبه على أن ذلك الأصل الذي يظهر من أول الأمر أنه غير معتاد له أصل في المعتاد ، وهو تنزل للمنكر غير لازم ، ولكنه مقرب لفهم من قصر فهمه عن إدراك الحقائق الواضحات.

فعلى هذا يصح قضاء العقل في عادي بانخراقه مع أن كون العادي عاديا مطّردا غير صحيح أيضا ، فكل عادي يفرض العقل فيه خرق العادة فليس للعقل فيه إنكار ، إذ قد ثبت في بعض الأنواع التي اختص الباري باختراعها والعقل لا يفرق بين خلق وخلق ، فلا يمكن إلا الحكم بذلك الإمكان على كل مخلوق ، ولذلك قال بعض المحققين من أهل الاعتبار :

٥٦٧

سبحان من ربط الأسباب بمسبباتها وخرق العوائد ليتفطن العارفون تنبيها على هذا المعنى المقرر.

فهو أصل اقتضى للعاقل أمرين :

أحدهما : أن لا يجعل العقل حاكما بإطلاق ، وقد ثبت عليه حاكم به اطلاق وهو الشرع ، بل الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم ـ وهو الشرع ـ ويؤخر ما حقه التأخير ـ وهو نظر العقل ـ لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكما على الكامل ، لأنه خلاف المعقول والمنقول ، بل ضد القضية هو الموافق للأدلة فلا معدل عنه ، ولذلك قال : اجعل الشرع في يمينك والعقل في يسارك ، تنبيها على تقدم الشرع على العقل.

والثاني : إنه إذا وجد في الشرع أخبارا تقتضي ظاهرا خرق العادة الجارية المعتادة ، فلا ينبغي له أن يقدم بين يديه الإنكار بإطلاق ، بل له سعة في أحد أمرين : إما أن يصدق به على حسب ما جاء ويكل علمه إلى عالمه ، وهو ظاهر قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) (١) يعني : الواضح المحكم ، والمتشابه المجمل ، إذ لا يلزمه العلم به ، ولو لزم العلم به لجعل له طريق إلى معرفته ، وإلّا كان تكليفا بما لا يطاق. وإما أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر ، لأن إنكاره إنكار لخرق العادة فيه.

وعلى هذا السبيل يجري حكم الصفات التي وصف الباري بها نفسه ، لأن من نفاها نفى شبه صفات المخلوقين ، وهذا منفيّ عند الجمهور ، فبقي الخلاف في نفي عين الصفة أو إثباتها ، فالمثبت أثبتها صفة على شرط نفي التشبيه ، والمنكر لأن يكون ثمّ صفة غير شبيهة بصفات المخلوقين منكر لأن يثبت أمرا إلا على وفق المعتاد.

فإن قالوا : هذا لازم فيما تنكره العقول بديهة ، كقوله : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (٢) ، فإن الجميع أنكروا ظاهره ، إذ العقل والحس يشهدان بأنها غير مرفوعة ، وأنت تقول : اعتقدوا أنها مرفوعة ، وتأولوا الكلام.

قيل : لم نعن ما هو منكر ببداهة العقول ، وإنما عنينا ما للنظر فيه شك وارتياب ، كما

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

(٢) عزاه في كنز العمال ، في أحكام التوبة وذكر من أسقط عنهم التكاليف إلى الطبراني عن ثوبان.

٥٦٨

نقول : إن الصراط ثابت ، والجواز عليه قد أخبر الشارع به ، فنحن نصدق به لأن إن كان كحد السيف وشبهه لا يمكن استقرار الإنسان فوقه عادة فكيف يمشي عليه؟ فالعادة قد تخرق حتى يمكن المشي والاستقرار ، والذين ينكرونه يقفون مع العوائد وينكرون أصل الصراط ولا يلتفتون إلى إمكان انخراق العوائد ، فإن فرقوا صار ذلك تحكما ، لأنه ترجيح في أحد المثلين دون الآخر من غير مرجح عقلي ، وقد صادفهم النقل ، فالحق الإقرار دون الإنكار.

ولنرشح هذا المطلب بأمثلة عشرة :

أحدها : مسألة الصراط وقد تقدمت.

والثاني : مسألة الميزان ، إذ يمكن إثباته ميزانا صحيحا على ما يليق بالدار الآخرة ، وتوزن فيه الأعمال على وجه غير عادي ، نعم يقرّ العقل بأن أنفس الأعراض ـ وهي الأعمال ـ لا توزن وزن الموزونات عندنا في العادات ـ وهي الأجسام ، ولم يأت في النقل ما يعيّن أنه كميزاننا من كل وجه ، أو أنه عبارة عن الثقل أو أنفس الأعمال توزن بعينها ، فالأخلق الحمل إما على التسليم ، وهذا طريقة الصحابة رضي الله عنهم ، إذ لم يثبت عنهم إلا مجرد التصديق من غير بحث عن نفس الميزان أو كيفية الوزن ، كما أنه لم يثبت عنهم في الصراط إلا ما ثبت عنهم في الميزان ، فعليك به فهو مذهب الصحابة رضي الله عنهم.

فإن قيل : فالتأويل إذا خارج عن طريقتهم ، فأصحاب التأويل على هذا من الفرق الخارج.

قيل : لا لأن الأصل في ذلك التصديق بما جاء التسليم محضا أو مع التأويل نظر (؟) لا يبعد ، إذ قد يحتاج إليه في بعض المواضع ، بخلاف من جعل أصله في تلك الأمور التكذيب بها ، فإنه مخالف لهم ، للسلك في الأحاديث مسلك التأويل أو عدمه لا أثر له لأنه تابع على كلتا الطريقتين لكن التسليم أسلم.

والثالث : مسألة عذاب القبر ، وهي أسهل ، ولا بعد ولا نكير في كون الميت يعذب برد الروح إليه عارية ، ثم تعذيبه على وجه لا يقدر البشر على رؤيته لذلك ولا سماعه ، فنحن نرى الميت يعالج سكرات الموت ويخبر بآلام لا مزيد عليها ، ولا نرى عليه من ذلك أثرا ، وكذلك أهل الأمراض المؤلمة ، وأشباه ذلك مما نحن فيه مثلها ، فلما ذا يجعل استبعاد العقل صادّا في وجه التصديق بأقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

٥٦٩

والرابع : مسألة سؤال الملكين للميت وإقعاده في قبره ، فإنه إنما يشكل إذا حكمنا المعتاد في الدنيا ، وقد تقدم أن تحكيمه بإطلاق غير صحيح لقصوره ، وإمكان خرق العوائد ، أما بفتح القبر حتى يمكن إقعاده ، أو بغير ذلك من الأمور التي لا تحيط بمعرفتها العقول.

والخامس : مسألة تطاير الصحف وقراءة من لم يقرأ قط ، وقراءته إياه وهو خلف ظهره كل ذلك يمكن فيه خرق العوائد فيتصوره العقل على وجه منها.

والسادس : مسألة إنطاق الجوارح شاهدة على صاحبها لا فرق بينها وبين الاحجار والأشجار التي شهدت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرسالة.

والسابع : رؤية الله في الآخرة جائزة ، إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا ، إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجه صحيحة ليس فيها اتصال أشعة ولا مقابلة ولا تصور جهة ولا فضل جسم شفاف ولا غير ذلك ، والعقل لا يجزم بامتناع ذلك بديهة ، وهو إلى القصور في النظر أميل ، والشرع قد جاء بإثباتها فلا معدل عن التصديق.

والثامن : كلام الباري تعالى إنما نفاه من نفاه وقوفا مع الكلام الملازم للصوت والحرف ، وهو في حق الباري محال ، ولم يقف مع إمكان أن يكون كلامه تعالى خارجا عن مشابهة المعتاد على وجه صحيح لائق بالرب ، إذ لا ينحصر الكلام فيه عقلا ، ولا يجزم العقل بأن الكلام إذا كان على غير الوجه المعتاد محال ، فكان من حقه الوقوف مع ظاهر الأخبار مجردا.

والتاسع : إثبات الصفات كالكلام ، إنما نفاه من نفاه للزوم التركيب عنده في ذات الباري تعالى ـ على القول بإثباتها ـ فلا يمكن أن يكون واحدا مع إثباتها ، وهذا قطع من العقل الذي ثبت قصور إدراكه في المخلوقات ، فكيف لا يثبت قصوره في إدراكه إذا دعي التركيب بالنسبة إلى صفات الباري؟ فكان من الصواب في حقه أن يثبت من الصفات ما أثبته الله لنفسه ، ويقر مع ذلك بالوحدانية له على الإطلاق والعموم.

والعاشر : تحكيم العقل على الله تعالى ، بحيث يقول : يجب عليه بعثة الرسل ، ويجب عليه الصلاح والأصلح ، ويجب عليه اللطف ، ويجب عليه كذا ـ إلى آخر ما ينطق به في تلك الأشياء ـ وهذا إنما نشأ من ذلك الأصل المتقدم ، وهو الاعتياد في الإيجاب على

٥٧٠

العباد ، ومن أجلّ الباري وعظمه لم يجترئ على إطلاق هذه العبارة ، ولا ألّم بمعناها في حقه ، لأن ذلك المعتاد إنما حسن في المخلوق من حيث هو عبد مقصور محصور ممنوع ، والله تعالى ما يمنعه شيء ، ولا يعارض أحكامه حكم ، فالواجب الوقوف مع قوله : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١) وقوله تعالى : (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٢) وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (٣) (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (٤) (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ* فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (٥).

فالحاصل من هذه القضية أنه لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع ، فإنه من التقدم بين يدي الله ورسوله ، بل يكون ملبيا من وراء وراء.

ثم نقول : إن هذا هو المذهب للصحابة رضي الله عنهم وعليه دأبوا ، وإياه اتخذوا طريقا إلى الجنة فوصلوا ، ودلّ على ذلك من سيرهم أشياء :

منها : أنه لم ينكر أحد منهم ما جاء من ذلك ، بل أقروا وأذعنوا لكلام الله وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يصادموه ولا عارضوه بإشكال ، ولو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر سيرهم وما جرى بينهم من القضايا والمناظرات في الأحكام الشرعية ، فلما لم ينقل إلينا شيء من ذلك ، دلّ على أنهم آمنوا به وأقروه ، كما جاء من غير بحث ولا نظر.

كان مالك بن أنس يقول : الكلام في الدين أكرهه ، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه ، نحو الكلام في رأي جهم والقدر ، وكل ما أشبه ذلك ، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل ، فأما الكلام في الدين وفي الله عزوجل فالسكوت أحب إليّ ، لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل.

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٤٩.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ٤٠.

(٣) سورة : المائدة ، الآية : ١.

(٤) سورة : الرعد ، الآية : ٤١.

(٥) سورة : البروج ، الآيتان : ١٥ ـ ١٦.

٥٧١

قال ابن عبد البر : قد بين مالك رحمه‌الله أن الكلام فيما تحته عمل هو مباح عنده وعند أهل بلده ـ يعني : العلماء منهم ـ وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه ، وضرب مثلا نحو رأي جهم والقدر قال : والذي قاله مالك عليه جماعة الفقهاء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى ، وإنما خالف في ذلك أهل البدع ، وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه‌الله ، إلا أن يضطر أحد إلى الكلام ، فلا يسعه السكوت إذا طمع في درء الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه ، وخشي ضلالة عامة ، أو نحو هذا.

وقال يونس بن عبد الأعلى : سمعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد قال لي : يا أبا موسى! لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام ، لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه.

وقال أحمد بن حنبل : لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في المسائل إلا وفي قلبه دغل.

وقال عن الحسن بن زياد اللؤلؤي ، وقال له رجل في زفر بن الهذيل : أكان ينظر في الكلام؟ فقال : سبحان الله ما أحمقك! ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم ، همهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم.

وقال ابن عبد البر : أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ، ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء ، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم.

وعن أبي الزناد أنه قال : وايم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة ، ونتعلمها شبيها بتعلمنا أي القرآن ، وما برح من أدركنا من أهل الفقه والفضل من خيار أولية الناس ، يعيبون أهل الجدل والتنقيب والأخذ بالرأي وينهون عن لقائهم ومجالستهم ، ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير ، ويخبرون أنهم أهل ضلال وتحريف لتأويل كتاب الله وسنن رسوله ، وما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث وزجر عن ذلك ، وحذره المسلمين في غير موطن ، حتى كان من قوله كراهية لذلك : «ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على

٥٧٢

أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم» (١).

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : اتقوا الله في دينكم. قال سحنون : يعني : الانتهاء عن الجدل فيه ، وخرّج ابن وهب عن عمر أيضا أن أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم ، فعارضوا السنن برأيهم ، فإياكم وإياهم. قال أبو بكر بن أبي داود : أهل الرأي هم أهل البدع ، وهو القائل في قصيدته في السنّة :

ودع عنك آراء الرجال وقولهم

فقول رسول الله أزكى وأشرح

وعن الحسن قال : إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل ، وحادوا عن الطريق ، فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا.

وعن مسروق قال : من رغب برأيه عن أمر الله يضل. وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول : السنن السنن ، إن السنن قوام الدين ، وعن هشام بن عروة قال : إن بني إسرائيل لم يزل أمرهم معتدلا حتى نشأ فيهم مولدون سبايا الأمم ، فأخذوا فيهم بالرأي فضلّوا وأضلّوا.

فهذه الآثار وأشباهها تشير إلى ذم إيثار نظر العقل على آثار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد بالرأي المذموم في هذه الأخبار البدع المحدثة في الاعتقاد ، كرأي أبي جهم وغيره من أهل الكلام ، لأنهم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم في رد الأحاديث ، فقالوا : لا يجوز أن يرى الله في الآخرة لأنه تعالى يقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ) (٢) الآية.

فردوا قوله عليه الصلاة والسلام : «إنكم ترون ربكم يوم القيامة» (٣) وتأولوا قول الله

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب : الحج ، باب : فرض الحج والعمرة (الحديث : ١٣٣٧) ، وأخرجه في كتاب : الفضائل ، باب : توقيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترك إكثار سؤاله (الحديث : ١٣٣٧). وأخرجه النسائي في كتاب : الحج ، باب : وجوب الحج (الأحاديث : ٥ / ١١٠ ، ١١١).

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ١٠٣.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : مواقيت الصلاة ، باب : فضل صلاة العصر ، وباب : فضل صلاة الفجر ، وأخرجه في كتاب : تفسير سورة ق ، وأخرجه في كتاب : التوحيد ، باب : قوله تعالى : ـ

٥٧٣

تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١) وقالوا : لا يجوز أن يسأل الميت في قبره ، لقول الله تعالى : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٢) فردوا الأحاديث المتواترة في عذاب القبر وفتنته ، وردوا الأحاديث في الشفاعة على تواترها ، وقالوا : لن يخرج من النار من دخل فيها ، وقالوا : لا نعرف حوضا ولا ميزانا ، ولا نعقل ما هذا ، وردوا السنن في ذلك كله ـ برأيهم وقياسهم ـ إلى أشياء يطول ذكرها من كلامهم في صفة الباري ، وقالوا : العلم محدث في حال حدوث المعلوم لأنه لا يقع علم إلا على معلوم ، فرارا من قدم العالم ـ في زعمهم ـ.

وقال جماعة : الرأي المذموم المراد به الرأي المبتدع وشبهه من ضروب البدع ، وهذا القول أعم من الأول ، لأن الأول خاص بالاعتقاد ، وهذا عام في العمليات وغيرها.

وقال آخرون ـ قال ابن عبد البر : وهم الجمهور ـ : إن المراد به القول في الشرع بالاستحسان والظنون ، والاشتغال بحفظ المعضلات ، ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصولها ، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل ، قالوا : وفي الاشتغال بهذا تعطيل السنن والتذرع إلى جهلها.

وهذا القول غير خارج عما تقدم ، وإنما الفرق بينهما أن هذا منهي عنه للذريعة إلى الرأي المذموم وهو معارضة المنصوص ، لأنه إذا لم يبحث عن السنن جهلها فاحتاج إلى الرأي ، فلحق بالأولين الذين عارضوا السنن حقيقة ، فجميع ذلك راجع إلى معنى واحد ، وهو إعمال النظر العقلي مع طرح السنن ، إما قصدا أو غلطا وجهلا ، والرأي إذا عارض السنّة فهو بدعة وضلالة.

فالحاصل من مجموع ما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم لم يعارضوا ما جاء في السنن بآرائهم ، علموا معناه أو جهلوه ، جرى لهم على معهودهم أو لا ، وهو المطلوب من نقله ،

__________________

ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) (الحديث : ٢ / ٢٧). وأخرجه مسلم في كتاب : المساجد ، باب : فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما (الحديث : ٦٣٣). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في الرؤية (الحديث : ٤٧٢٩). وأخرجه الترمذي في كتاب : صفة الجنة ، باب : ما جاء في رؤية الله تبارك وتعالى (الحديث : ٢٥٥٤).

(١) سورة : القيامة ، الآيتان : ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) سورة : غافر ، الآية : ١١.

٥٧٤

وليعتبر فيه من قدم الناقص ـ وهو العقل ـ على الكامل ـ وهو الشرع ـ ورحم الله الربيع ابن خثيم حيث يقول : يا عبد الله! ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله ، وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه ، لا تتكلف ، فإن الله يقول لنبيه : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (١) إلى آخرها.

وعن معمر بن سليمان ، عن جعفر ، عن رجل من علماء أهل المدينة ، قال : إن الله علم علما علمه العباد ، وعلم علما لم يعلمه العباد ، فمن تكلف العلم الذي لم يعلّمه العباد لم يزدد منه إلا بعدا ، قال : والقدر منه.

وقال الأوزاعي : كان مكحول والزهري يقولان : أمرّوا هذه الأحاديث كما جاءت ولا تتناظروا فيها : ومثله عن مالك ، والأوزاعي ، وسفيان بن سعيد ، وسفيان بن عيينة ، ومعمر بن راشد ، في الأحاديث في الصفات أنهم أمرّوها كما جاءت ، نحو حديث التنزل ، وخلق آدم على صورته ، وشبههما ، وحديث مالك في السؤال عن الاستواء مشهور.

وجميع ما قالوه مستمد من معنى قوله الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) الآية ، ثم قال : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) (٢) فإنها صريحة في هذا الذي قررناه ، فإن كل ما لم يجر على المعتاد في الفهم متشابه ، فالوقف عنه هو الأحرى بما كان عليه الصحابة المتبعون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ لو كان من شأنهم اتباع الرأي لم يذموه ولم ينهوا عنه ، لأن أحدا لا يرتضي طريقا ثم ينهى عن سلوكه ، كيف وهم قدوة الأمة باتفاق المسلمين؟!

وروي أن الحسن كان في مجلس فذكر فيه أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم ، فإنهم ـ ورب الكعبة ـ على الهدي المستقيم.

وعن حذيفة أنه كان يقول : اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم ، فلعمري لئن اتبعتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا ، ولئن تركتموه يمينا أو شمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا.

__________________

(١) سورة : ص ، الآية : ٨٦.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

٥٧٥

وعن ابن مسعود : من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا ، وأحسنها خلالا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم.

والآثار في هذا المعنى كثيرة جميعا يدل على الاقتداء بهم والاتباع لطريقهم على كل حال ، وهو طريق النجاة حسبما نبه عليه حديث الفرق في قوله : «ما أنا عليه وأصحابي» (١).

فصل

النوع الرابع :

إن الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه ، حتى يكون عبدا لله ، وهذا أصل قد تقرر في قسم المقاصد من كتاب (الموافقات) ، لكن على وجه كلي يليق بالأصول ، فمن أراد الاطلاع عليه فليطالعه من هنالك.

ولما كانت طرق الحق متشعبة لم يمكن أن يؤتي عليها بالاستيفاء ، فلنذكر منها شعبة واحدة تكون كالطريق لمعرفة ما سواها.

فاعلموا أن الله تعالى وضع هذه الشريعة حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم مطيعهم وعاصيهم ، برهم وفاجرهم ، لم يختص بها أحدا دون أحد وكذلك سائر الشرائع إنما وضعت لتكون حجة على جميع الأمم التي تنزل فيهم تلك الشريعة ، حتى إن المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها.

فأنت ترى أن نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته ، مما أختص به دون أمته ، أو كان عامّا له ولأمته ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) إلى قوله تعالى : (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) ثم قال تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) (٣) وقوله تعالى : (يا

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٣٤٩ ، الحاشية : ١.

(٢) سورة : الأحزاب ، الآية : ٥٠.

(٣) سورة : الأحزاب ، الآية : ٥٢.

٥٧٦

أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) (٢) إلى سائر التكاليف التي وردت على كل مكلف والنبي فيهم ، فالشريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلفين ، وهي الطريق الموصل والهادي الأعظم.

ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (٣) فهو عليه الصلاة والسلام أول من هداه الله بالكتاب والإيمان ، ثم من اتبعه فيه ، والكتاب هو الهادي ، والوحي المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدي والخلق مهتدون بالجميع ، ولما استنار قلبه وجوارحه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وباطنه وظاهره بنور الحق علما وعملا ، صار هو الهادي الأول لهذا الأمة والمرشد الأعظم ، حيث خصّه الله دون الخلق بإنزال ذلك النور عليه ، واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشرية اصطفاء أوليّا ، لا من جهة كونه بشرا عاقلا ـ مثلا ـ لاشتراكه مع غيره في هذه الأوصاف ، ولا لكونه من قريش ـ مثلا ـ دون غيرهم ، وإلّا لزم ذلك في كل قرشي ، ولا لكونه من بني عبد الطلب ، ولا لكونه عربيّا ، ولا لغير ذلك ، بل من جهة اختصاصه بالوحي الذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه القرآن ، حتى نزل فيه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤) وإنما كان خلقه القرآن لأنه حكّم الوحي على نفسه ، حتى صار في علمه وعمله على وفقه ، فكان الوحي حاكما وافقا قائلا وكان هو عليه الصلاة والسلام مذعنا ملبيا نداءه ، واقفا عند حكمه ، وهذه الخاصية كانت من أعظم الأدلة على صدقه فيما جاء به ، إذ قد جاء بالأمر وهو مؤتمر ، وبالنهي وهو منته ، وبالوعظ وهو متعظ ، وبالتخويف وهو أول الخائفين ، وبالترجية وهو سائق دابة الراجين.

وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه. ودلالة له على الصراط المستقيم الذي سار عليه عليه‌السلام ، ولذلك صار عبد الله حقّا ، وهو أشرف اسم

__________________

(١) سورة : التحريم ، الآية : ١.

(٢) سورة : الطلاق ، الآية : ١.

(٣) سورة : الشورى ، الآية : ٥٢.

(٤) سورة : القلم ، الآية : ٤.

٥٧٧

تسمى به العباد ، فقال الله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (١) (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) (٢) (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) (٣) وما أشبه ذلك من الآيات التي وقع مدحه فيها بصحة العبودية.

وإذا كان كذلك فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم ومنارا يهتدون بها إلى الحق ، وشرفهم إنما يثبت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامها والعمل بها قولا واعتقادا وعملا ، لا بحسب عقولهم فقط ، ولا بحسب شرفهم في قومهم فقط ، لأن الله تعالى إنما أثبت الشرف بالتقوى لا غيرها لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٤) فمن كان أشد محافظة على اتباع الشريعة فهو أولى بالشرف والكرم ، ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشرف مبلغ الأعلى في اتباعها ، فالشرف إذا إنما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشريعة.

ثم نقول بعد هذا : إن الله سبحانه شرف أهل العلم ورفع أقدارهم ، وعظم مقدارهم ، ودلّ على ذلك الكتاب والسنّة والإجماع ، بل قد اتفق العقلاء على فضيلة العلم وأهله ، وأنهم المستحقون شرف المنازل ، وهو مما لا ينازع فيه عاقل.

واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة أفضل العلوم وأعظمها أجرا عند الله يوم القيامة ، ولا علينا أسامحنا بعض الفرق في تعيين العلوم ـ أعني : العلوم التي نبه الشارع على مزيتها وفضيلتها ـ أم لم نسامحهم ، بعد الاتفاق من الجميع على الأفضلية ، وإثبات الحرية.

وأيضا : فإن علوم الشريعة منها ما يجري مجرى الوسائل بالنسبة إلى السعادة الأخروية ، ومنها ما يجري مجرى المقاصد ، والذي يجري مجرى المقاصد أعلى مما ليس كذلك ـ بلا نزاع بين العقلاء أيضا ـ كعلم العربية بالنسبة إلى علم الفقه ، فإنه كالوسيلة ، فعلم الفقه أعلى.

__________________

(١) سورة : الإسراء ، الآية : ١.

(٢) سورة : الفرقان ، الآية : ١.

(٣) سورة : البقرة ، الآية : ٢٣.

(٤) سورة : الحجرات ، الآية : ١٣.

٥٧٨

وإذا ثبت هذا فأهل العلم أشرف الناس وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع وإنما وقع الثناء في الشريعة على أهل العلم من حيث اتصافهم بالعلم لا من جهة أخرى ، ودل على ذلك وقوع الثناء عليهم مقيدا بالاتصاف به ، فهو إذا العلة في الثناء ، ولو لا ذلك الاتصاف لم يكن لهم مزية على غيرهم ، ومن ذلك صار العلماء حكاما على الخلائق أجمعين قضاء أو فتيا أو إرشادا ، لأنهم اتصفوا بالعلم الشرعي الذي هو حاكم بإطلاق ، فليسوا بحكم من جهة ما اتصفوا بوصف يشتركون فيه مع غيرهم كالقدرة والإرادة والعقل وغير ذلك ، إذ لا مزية في ذلك من حيث القدر المشترك ، لاشتراك الجميع فيها ، وإنما صاروا حكاما على الخلق مرجوعا إليهم بسبب حملهم للعلم الحاكم ، فلزم من ذلك أنهم لا يكونون حكاما على الخلق إلا من ذلك الوجه ، كما أنهم ممدحون من ذلك الوجه أيضا ، فلا يمكن أن يتصفوا بوصف الحكم مع فرض خروجهم عن صوت العلم الحاكم ، إذ ليسوا حجة إلا من جهته ، فإذا خرجوا عن جهته فكيف يتصور أن يكونوا حكاما؟ هذا محال.

وكما أنه لا يقال في العالم بالعربية مهندس ، ولا في العالم بالهندسة عربي ، فكذلك لا يقال في الزائغ عن الحكم الشرعي حاكم بالشرع ، بل يطلق عليه أنه حاكم بعقله أو برأيه أو نحو ذلك ، فلا يصح أن يجعل حجة في العالم الحاكم ، لأن العلم الحاكم يكذبه ويرد عليه ، وهذا المعنى أيضا في الجملة متفق عليه لا يخالف فيه أحد من العقلاء.

ثم نصير من هذا إلى معنى آخر مرتب عليه ، وهو أن العالم بالشريعة إذ اتّبع في قوله ، وانقاد إليه الناس في حكمه ، فإنما اتبع من حيث هو عالم وحاكم بها وحاكم بمقتضاها ، لا من جهة أخرى ، فهو في الحقيقة مبلغ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، المبلغ عن الله عزوجل ، فيتلقى منه ما بلغ على العلم بأنه بلغ ، أو على غلبة الظن بأنه بلغ لا من جهة كونه منتصب للحكم مطلقا ، إذ لا يثبت ذلك لأحد على الحقيقة. وإنما هو ثابت للشريعة المنزلة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وثبت ذلك له عليه الصلاة والسلام وحده دون الخلق من جهة دليل العصمة ، والبرهان أن جميع ما يقوله أو يفعله حق ، فإن الرسالة المقترنة بالمعجزة على ذلك دلت ، فغيره لم يثبت له عصمة بالمعجزة بحيث بمقتضاها حتى يساوي النبي في الانتصاب للحكم بإطلاق ، بل إنما يكون منتصبا على شرط الحكم بمقتضى الشريعة ، بحيث إذا وجد الحكم في الشرع بخلاف ما حكم لم يكن حاكما ، إذا كان ـ بالفرض ـ خارجا عن مقتضى الشريعة

٥٧٩

الحاكمة ، وهو أمر متفق عليه بين العلماء ، ولذلك إذا وقع النزاع في مسألة شرعية وجب ردها إلى الشريعة حيث يثبت الحق فيها لقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١) الآية.

فإذا المكلف بأحكامها لا يخلو من أحد أمور ثلاثة :

أحدها : أن يكون مجتهدا فيها ، فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها ، لأنه اجتهاده في الأمور التي ليست دلالتها واضحة إنما يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو الأقرب إلى قصد الشارع والأولى بأدلة الشريعة ، دون ما ظهر لغيره من المجتهدين ، فيجب عليه اتباع ما هو الأقرب ، بدليل أنه لا يسعه فيما اتضح فيه الدليل إلا اتباع الدليل ، دون ما أداه إليه اجتهاده ، ويعد ما ظهر له لغوا كالعدم ، لأنه على غير صوب الشريعة الحاكمة ، فإذا ليس قوله بشيء يعتد به الحكم.

والثاني : أن يكون مقلدا صرفا ، خليّا من العلم الحاكم جملة ، فلا بد له من قائد يقوده وحاكم يحكم عليه ، وعالم يقتدي به ، ومعلوم أنه لا يقتدى به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم ، والدليل على ذلك أنه لو علم أو غلب على ظنه أنه ليس من أهل ذلك العلم لم يحل له اتباعه ولا الانقياد لحكمه ، بل لا يصح أن يخطر بخاطر العامي ولا غيره تقليد الغير في أمر مع علمه بأنه ليس من أهل ذلك الأمر ، كما أنه لا يمكن أن يسلم المريض نفسه إلى أحد يعلم أنه ليس بطبيب إلا أن يكون فاقد العقل ، وإذا كان كذلك فإنما ينقاد إلى المفتي من جهة ما هو عالم بالعلم الذي يجب الانقياد إليه ، لا من جهة كونه فلانا أيضا ، وهذه الجملة أيضا لا يسع الخلاف فيها عقلا ولا شرعا.

والثالث : أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين ، لكنه يفهم الدليل وموقعه ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتبرة فيه تحقيق المناط ونحوه ، فلا يخلو إما أن يعتبر ترجيحه أو نظره ، أو لا فإن اعتبرناه صار مثل المجتهد في ذلك الوجه ، والمجتهد إنما هو تابع للعلم الحاكم ، ناظر نحوه ، متوجه شطره ، فالذي يشبه كذلك وإن لم نعتبره فلا بد من رجوعه إلى

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٥٩.

٥٨٠