الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

هو قد ذكر الجهنميين ، قال : فقلت له : يا صاحب رسول الله ، ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول : (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) (١) ، و (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) (٢) ، فما هذا الذي تقولون؟ قال : فقال : أفتقرأ القرآن؟ قلت : نعم ، قال : فهل سمعت بمقام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ـ يعني : الذي يبعثه الله فيه ـ قلت : نعم ، قال : فإنه مقام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار. قال : ثم نعت (٣) وضع الصراط ومر الناس عليه ، قال : وأخاف ألّا أكون أحفظ ذلك ، قال : غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يونوا (٤) فيها ، قال : يعني : فيخرجون كأنهم عيدان السماسم ، فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس ، فرجعنا وقلنا : ويحكم! أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد ، أو كما قال.

ويزيد الفقير من ثقات أهل الحديث ، وثقه ابن معين ، وأبو زرعة. وقال أبو حاتم : صدوق ، وخرّج عنه البخاري.

وعبيد الله بن الحسن العنبري كان من ثقة أهل الحديث ، ومن كبار العلماء العارفين بالسنّة ، إلا أن الناس رموه بالبدعة بسبب قول حكي عنه من أنه كان يقول : بأن كل مجتهد من أهل الأديان مصيب ، حتى كفّره القاضي أبو بكر وغيره. وحكى القتيبي عنه كان يقول : إن القرآن يدل على الاختلاف فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب ، والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب ، ومن قال بهذا فهو مصيب لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين.

وسئل يوما عن أهل القدر وأهل الاجبار ، قال : كلّ مصيب ، هؤلاء قوم عظموا الله ، وهؤلاء قوم نزهوا الله. قال : وكذلك القول في الأسماء ، فكل من سمى الزاني مؤمنا فقد أصاب ، ومن سماه كافرا فقد أصاب ، ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب ، ومن قال هو كافر وليس بمشرك فقد أصاب لأن القرآن يدل على كل هذه المعاني. قال :

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ١٩٢.

(٢) سورة : السجدة ، الآية : ٢٠.

(٣) نعت : وصف.

(٤) يونوا : يضعفوا ويفتروا.

١٢١

وكذلك السنن المختلفة ، كالقول بالقرعة وخلافه ، والقول بالسعاية وخلافه ، وقتل المؤمن بالكافر ، ولا يقتل مؤمن بكافر ، وبأيّ ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب. قال : ولو قال قائل : إن القاتل في النار ، كان مصيبا ، ولو قال : في الجنة ، كان مصيبا ، ولو وقف وأرجأ أمره كان مصيبا إذا كان إنما يريد بقوله إن الله تعبّده بذلك وليس عليه علم الغيب.

قال ابن أبي خيثمة : أخبرني سليمان بن أبي شيخ قال : كان عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن أبي الحريقي العنبري البصري اتهم بأمر عظيم ، روي عنه كلام رديء.

قال بعض المتأخرين : هذا الذي ذكره ابن أبي شيخ عنه قد روي أنه رجع عنه لمّا تبين له الصواب ، وقال : إذا أرجع وأنا من الأصاغر ، ولأن أكون ذنبا في الحق ، أحب إليّ أن أكون رأسا في الباطل اه.

فإن ثبت عنه ما قيل فيه فهو على جهة الزلة من العالم ، وقد رجع عنها رجوع الأفاضل إلى الحق ، لأنه بحسب ظاهر حاله فيما نقل عنه إنما اتبع ظواهر الأدلة الشرعية فيما ذهب إليه ، ولم يتبع عقله ، ولا صادم الشرع بنظره ، فهو أقرب من مخالفة الهوى ، ومن ذلك الطريق ـ والله أعلم ـ وفق إلى الرجوع إلى الحق.

وكذلك يزيد الفقير فيما ذكر عنه ، لا كما عارض الخوارج عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، إذ طالبه بالحجة ، فقال بعضهم : لا تخاصموه فإنه ممن قال الله فيه : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (١) ، فرجحوا المتشابه على المحكم ، وناصبوا بالخلاف السواد الأعظم.

وأما إن لم يصح بمسبار (٢) العلم أنه من المجتهدين فهو الحري باستنباط ما خالف الشرع كما تقدم ، إذ قد اجتمع له مع الجهل بقواعد الشرع ، الهوى الباعث عليه في الأصل ، وهو التبعية ، إذ قد تحصل له مرتبة الإمامة والاقتداء ، وللنفس فيها من اللذة ما لا مزيد عليه ، ولذلك يعسر خروج حب الرئاسة من القلب إذا انفرد ، حتى قال الصوفية : حب الرئاسة آخر ما يخرج من قلوب الصديقين ، بتفكيك إذا انضاف إليه الهوى من الأصل وانضاف إلى هذين الأمرين دليل ـ في ظنه ـ شرعي على صحة ما ذهب إليه ، فيتمكن الهوى من قلبه تمكنا لا

__________________

(١) سورة : الزخرف ، الآية : ٥٨.

(٢) المسبار : ما يعرف به غور الجرح أو الماء.

١٢٢

يمكن في العادة الانفكاك عنه ، وجرى منه مجرى الكلب من صاحبه ، كما جاء في حديث الفرق. فهذا النوع ظاهر أنه آثم في ابتداعه إثم من سنّ سنّة سيئة.

ومن أمثلته أن الإمامية من الشيعة تذهب إلى وضع خليفة دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتزعم أنه مثل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العصمة ، بناء على أصل متوهم ، فوضعوه على أن الشريعة أبدا مفتقرة إلى شرح وبيان لجميع المكلفين ، إما بالمشافهة أو بالنقل ممن شافه المعصوم ، وإنما وضعوا ذلك بحسب ما ظهر لهم بادئ الرأي من غير دليل عقلي ولا نقلي ، بل بشبهة زعموا أنها عقلية ، وشبه من النقل باطلة ، إما في أصلها ، وإما في تحقيق مناطها ، وتحقيق ما يدعون ولما يرد عليهم به مذكور في كتب الأئمة ، وهو يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى دعاو ، وإذا طولبوا بالدليل عليها سقط في أيديهم ، إذ لا برهان لهم من جهة من الجهات.

وأقوى شبههم مسألة اختلاف الأمة وأنه لا بدّ من واحد يرتفع به الخلاف ، أن الله يقول : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (١) ، ولا يكون كذلك إلا إذا أعطي العصمة كما أعطيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه وارث ، وإلا فكل محق أو مبطل يدعي أنه المرحوم ، وأنه الذي وصل إلى الحق دون من سواه فإن طولبوا بالدليل على العصمة لم يأتوا بشيء غير أن لهم مذهبا يخفونه ولا يظهرونه إلا لخواصهم ، لأنه كفر محض ودعوى بغير برهان.

قال ابن العربي في كتاب العواصم : خرجت من بلادي على الفطرة ، فلم ألق في طريقي إلا مهتديا ، حتى بلغت هذه الطائفة ـ يعني : الإمامية والباطنية من فرق الشيعة ـ فهي أول بدعة لقيت ، ولو فاجأتني بدعة مشبهة كالقول بالمخلوق أو نفي الصفات أو الإرجاء لم آمن الشيطان. فلما رأيت حماقاتهم أقمت على حذر ، وترددت فيها على أقوام أهل عقائد سليمة ، ولبثت بينهم ثمانية أشهر ، ثم خرجت إلى الشام فوردت بيت المقدس فألفيت فيها ثماني وعشرين حلقة ومدرستين ـ مدرسة الشافعية بباب الأسباط وأخرى للحنفية ـ وكان فيها من رءوس العلماء المبتدعة ومن أحبار اليهود والنصارى كثير ، فوعيت العلم وناظرت كل طائفة بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري وغيره من أهل السنّة.

ثم نزلت إلى الساحل لأغراض وكان مملوءا من هذه النحل الباطنية والإمامية ، فطفت

__________________

(١) سورة : هود ، الآيتان : ١١٨ ـ ١١٩.

١٢٣

في مدن الساحل لتلك الأغراض نحوا من خمسة أشهر ، ونزلت بعكا ، وكان رأس الإمامية بها حينئذ أبو الفتح العكّي ، وبها من أهل السنة شيخ يقال له الفقيه الديبقي ، فاجتمعت بأبي الفتح في مجلسه وأنا ابن العشرين ، فلما رآني صغير السن كثير العلم متدربا ولع بي ، وفيهم ـ لعمر الله ، وإن كانوا على باطل ـ انطباع وإنصاف وإقرار بالفضل إذا ظهر ، فكان لا يفارقني ، ويساومني الجدال ولا يفاترني ، فتكلمت على مذهب الإمامية والقول بالتعليم من المعصوم بما يطول ذكره.

ومن جملة ذلك أنهم يقولون : إن لله في عباده أسرارا وأحكاما والعقل لا يستقل بدركها ، فلا يعرف ذلك إلا من قبل إمام معصوم ، فقلت لهم : أمات الإمام المبلغ عن الله لأول ما أمره بالتبليغ أم هو مخلد؟ فقال لي : «مات» وليس هذا بمذهبه ولكنه تستر معي ، فقلت : هل خلفه أحد؟ فقال : خلفه وصيه علي ، قلت : فهل قضى بالحق وأنفذه؟ قال : لم يتمكن لغلبة المعاند ، قلت : فهل أنفذه حين قدر؟ قال : منعته التقية ولم تفارقه إلى الموت ، إلا أنها كانت تقوى تارة وتضعف أخرى ، فلم يمكن إلا المداراة لئلا تنفتح عليه أبواب الاختلال ، قلت : وهذه المداراة حق أم لا؟ فقال : باطل أباحته الضرورة ، قلت : فأين العصمة؟ إنما نعني العصمة مع القدرة ، قلت : فمن بعده إلى الآن وجدوا القدرة أم لا؟ قال : لا ، قلت : فالدين مهمل ، والحق مجهول مخمل؟ قال : سيظهر ، قلت : بمن؟ قال : بالإمام المنتظر ، قلت : لعله الدجال فما بقي أحد إلا ضحك ، وقطعنا الكلام على غرض مني لأني خفت أن ألجمه فينتقم مني في بلاده.

ثم قلت : ومن أعجب ما في هذا الكلام أن الكلام أن الإمام إذا أوصى إلى من لا قدرة له فقد ضيع ، فلا عصمة له ، وأعجب منه أن الباري تعالى ـ على مذهبه ـ إذا علم أنه لا علم إلا بمعلم وأرسله عاجزا مضطربا لا يمكنه أن يقول ما علم ، فكأنه ما علمه وما بعثه ، وهذا عجز منه وجور ، لا سيما على مذهبهم.

فرأوا من الكلام ما لم يمكنهم أن يقوموا معه بقائمة ، وشاع الحديث ، فرأى رئيس الباطنية المسمين بالإسماعيلية أن يجتمع معي ؛ فجاءني أبو الفتح إلى مجلس الفقيه الديبقي وقال : إن رئيس الإسماعيلية رغب في الكلام معك ، فقلت : أنا مشغول ، فقال : هنا موضع مرتب قد جاء إليه ، وهو محرس الطبرانيين ، مسجد في قصر على البحر ، وتحامل عليّ ،

١٢٤

فقمت ما بين حشمة وحسبة ، ودخلت قصر المحرس ، وطلعنا إليه فوجدتهم قد اجتمعوا في زاوية المحرس الشرقية ، فرأيت النكر في وجوههم ، فسلمت ثم قصدت جهة المحراب فركعت عنده ركعتين لا عمل لي فيهما إلا تدبير القول معهم ، والخلاص منهم ، فلعمر الذي قضى عليّ بالإقبال إلى أن أحدثكم ، إن ما كنت رجوت الخروج عن ذلك المجلس أبدا ، ولقد كنت أنظر في البحر يضرب في حجارة سود محددة تحت طاقات المحرس ، فأقول : هذا قبري الذي يدفنوني فيه ، وأنشد في سري :

ألا! هل إلى الدنيا معاد؟ وهل لنا

سوى البحر قبر؟ أو سوء الماء أكفان؟

وهي كانت الشدة الرابعة من شدائد عمري التي أنقذني الله منها ، فلما سلمت استقبلتهم وسألتهم عن أحوالهم عادة ، وقد اجتمعت إليّ نفسي ، وقلت : أشرف ميتة في أشرف موطن أناضل فيه عن الدين ، فقال لي أبو الفتح ـ وأشار إلى فتى حسن الوجه ـ هذا سيد الطائفة ومقدمها ، فدعوت له فسكت ، فبدرني وقال : قد بلغتني مجالسك وأنهي إليّ كلامك ، وأنت تقول : قال الله وفعل ، فأي شيء هو الله الذي تدعو إليه؟ أخبرني وأخرج عن هذه المخرقة التي جازت لك على هذه الطائفة الضعيفة وقد اختطفني أصحابه قبل الجواب ، فعمدت ـ بتوفيق الله ـ إلى كنانتي واستخرجت منها سهما أصاب حبة قلبه فسقط لليدين وللفم.

وشرح ذلك : أن الإمام أبا بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الحافظ الجرجاني قال : كنت أبغض الناس فيمن يقرأ علم الكلام ، فدخلت يوما إلى الري ، ودخلت جامعها أول دخولي واستقبلت سارية أركع عندها ، وإذا بجواري رجلان يتذاكران علم الكلام ، فتطيرت بهما ، وقلت : أول ما دخلت هذا البلد سمعت فيه ما أكره وجعلت أخفف الصلاة حتى أبعد عنهما ، فعلق بي من قولهما : أن هؤلاء الباطنية أسخف خلق الله عقولا ، وينبغي للنحرير (١) ألّا يتكلف لهم دليلا ، ولكن يطالبهم (بلم فلا قبل لهم بها ، وسلمت مسرعا).

وشاء الله بعد ذلك أن كشف رجل من الإسماعيلية القناع في الإلحاد ، وجعل يكاتب وشمكير الأمير يدعوه إليه ويقول له : إني لا أقبل دين محمد إلا بالمعجزة فإن أظهرتموها

__________________

(١) النحرير : العالم الحاذق في علمه.

١٢٥

رجعنا إليكم ، وانجرت الحال إلى أن اختاروا منهم رجلا له دهاء ومنّة (١) فورد على وشمكير رسولا ، فقال له : إنك أمير ومن شأن الأمراء والملوك أن تتخصص عن العوام ولا تقلد أحدا في عقيدة ، وإنما حقهم أن يفصحوا عن البراهين ، فقال وشمكير : أختار رجلا من أهل مملكتي ، ولا أنتدب للمناظرة بنفسي ، فيناظرك بين يدي ، فقال له الملحد : اختر أبا بكر الإسماعيلي ، لعلمه بأنه ليس من أهل علم التوحيد وإنما كان إماما في الحديث ، ولكن كان وشمكير ـ لعامية فيه ـ يعتقد أنه أعلم أهل الأرض بأنواع العلوم ، فقال وشمكير : ذلك مرادي ، فإنه رجل جيد ، فأرسل إلى أبي بكر الإسماعيلي بجرجان (٢) ليرحل إليه إلى غزنة (٣) ، فلم يبق من العلماء أحد إلا يئس من الدين ، وقال سيبهت الإسماعيليّ الكافر مذهبا الإسماعيليّ الحافظ مذهبا ، ولم يمكنهم أن يقولوا للملك : إنه لا علم عنده بذلك لئلا يتهمهم ، فلجئوا إلى الله في نصر دينه.

قال الإسماعيلي الحافظ : فلما جاءني البريد ، وأخذت في المسير وتدانت لي الدار قلت : إنا لله ، وكيف أناظر فيما لا أدري؟ هل أتبرأ عند الملك وأرشده إلى من يحسن الجدل ، ويعلم بحجج الله على دينه؟ ندمت على ما سلف من عمري إذا لم أنظر في شيء من علم الكلام ، ثم أذكرني الله ما كنت سمعته من الرجلين بجامع الري فقويت نفسي ، وعولت على أن أجعل ذلك عمدتي ، وبلغت البلد فتلقاني الملك ثم جميع الخلق ، وحضر الإسماعيلي المذهب مع الإسماعيلي النسب ، وقال الملك للباطني : اذكر قولك يسمعه الإمام ، فلما أخذ في ذكره واستوفاه ، قال له الحافظ لم؟ فلما سمعها الملحد قال : هذا إمام قد عرف مقالتي ، ففهمت ، قال الإسماعيلي : فخرجت من ذلك الوقت ، وأمرت بقراءة علم الكلام ، وعلمت أنه عمدة من عمد الإسلام.

قال ابن العربي : وأنا حين انتهى بي الأمر إلى ذلك قلت : إن كان في الأجل تنفس فهذا شبيه بيوم الإسماعيلي ، فوجهت إلى أبي الفتح الكلام وقلت له : لقد كنت في لا شيء ، ولو خرجت من عكا قبل أن أجتمع بهذا العالم ما رحلت إلا عريّا عن نادرة الأيام ، ونظرا إلى

__________________

(١) المنّة : ـ بالضم ـ القوة.

(٢) جرجان : مدينة عظيمة بين طبرستان وخراسان.

(٣) غزنة : مدينة عظيمة في طرف خراسان وهي الحد بين خراسان والهند.

١٢٦

حذقه بالكلام ومعرفته حيث قال لي : أي شيء هو الله؟ ولا يسأل بمثل هذا إلا مثله ، ولكن بقيت هاهنا نكتة ، لا بدّ من أن نأخذها اليوم عنه ، وتكون ضيافتنا عنده ، لم قلت : أي شيء هو الله فاقتصرت من حروف الاستفهام على (أي) وتركت الهمزة وهل وكيف وأنّى وكم وما ، هي أيضا من ثواني حروف الاستفهام وعدلت عن اللام من حروفه ، وهذا سؤال ثان عن حكمة ثانية ، وهو أن ل (أي) معنيين في الاستفهام. فأي المعنيين قصدت بها؟ ولم سألت بحرف محتمل؟ ولم تسأل بحرف مصرح بمعنى واحد؟ هل وقع ذلك بغير علم ولا قصد حكمة؟ أم بقصد حكمة؟ فبيّنها لنا.

فما هو إلا أن افتتحت هذا الكلام وانبسطت فيه وهو يتغير حتى اصفرّ آخرا من الوجل ، كما اسودّ أولا من الحقد. ورجع أحد أصحابه الذي كان عن يمينه إلى آخر كان بجانبه ، وقال له : ما هذا الصبي إلا بحر زاخر من العلم ، ما رأينا مثله قط ، وهم ما رأوا واحدا به رمق إلا أهلكوه ، لأن الدولة لهم ، ولو لا مكاننا من رفعة دولة ملك الشام ووالي عكا كان يحظينا ما تخلصت منهم في العادة أبدا.

وحين سمعت تلك الكلمة من إعظامي قلت : هذا مجلس عظيم ، وكلام طويل ، يفتقر إلى تفصيل ، ولكن نتواعد إلى يوم آخر ، وقمت وخرجت ، فقاموا كلهم معي وقالوا : لا بدّ أن تبقى قليلا ، فقلت : لا ، وأسرعت حافيا وخرجت على الباب أعدو حتى أشرفت على قارعة الطريق ، وبقيت هناك مبشرا نفسي بالحياة ، حتى خرجوا بعدي وأخرجوا لي (لا يكى) ولبستها ومشيت معهم متضاحكا ، ووعدوني بمجلس آخر فلم أوف لهم ، وخفت وفاتي في وفائي.

قال ابن العربي : وقد قال لي أصحابنا النصرية بالمسجد الأقصى : إن شيخنا أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي اجتمع برئيس من الشيعة الإمامية ، فشكا إليه فساد الخلق ، وأن هذا الأمر لا يصلح إلا بخروج الإمام المنتظر ، فقال نصر : هل لخروجه ميقات أم لا؟ قال الشيعي : نعم ، قال له أبو الفتح : ومعلوم هو أو مجهول؟ قال : معلوم. قال نصر : ومتى يكون؟ قال : إذا فسد الخلق ، قال أبو الفتح : فهل تحبسونه عن الخلق وقد فسد جميعهم إلا أنتم فلو فسدتم لخرج ، فأسرعوا به وأطلقوه من سجنه وعجلوا بالرجوع إلى مذهبنا ، فبهت. وأظنه سمعها عن شيخه أبي الفتح سليمان بن أيوب الرازي الزاهد.

١٢٧

انتهى ما حكاه ابن العربي وغيره ، وفيه غنية لمن عرج عن تعرف أصولهم ، وفي أثناء الكتاب منه أمثلة كثيرة.

القسم الثاني : يتنوع أيضا ، وهو الذي لم يستنبط بنفسه وإنما اتبع غيره من المستنبطين ، لكن بحيث أقر بالشبهة واستصوبها ، وقام بالدعوة بها مقام متبوعه ، لانقداحها في قلبه ، فهو مثل الأول ، وإن لم يصر إلى تلك الحال ولكنه تمكن حب المذهب من قلبه حتى عادى عليه ووالى.

وصاحب هذا القسم لا يخلو من استدلال ولو على أعمّ ما يكون ، فقد يلحق بمن نظر في الشبهة وإن كان عاميا ، لأنه عرض للاستدلال ، وهو عالم أنه لا يعرف النظر ولا ما ينظر فيه ، ومع ذلك فلا يبلغ من استدل بالدليل الجملي مبلغ من استدل على التفصيل ، وفرق بينهما في التمثيل.

إن الأول أخذ شبهات مبتدعة فوقف وراءها ، حتى إذا طولب فيها بالجريان على مقتضى العلم تبلد وانقطع ، أو خرج إلى ما لا يعقل ، وأما الثاني فحسن الظن بصاحب البدعة فتبعه ، ولم يكن له دليل على التفصيل يتعلق به ، إلا تحسين الظن بالمبتدع خاصة ، وهذا القسم في العوام كثير.

فمثال الأول حال حمدان بن قرمط المنسوب إليه القرامطة ، إذ كان أحد دعاة الباطنية فاستجاب له جماعة نسبوا إليه ، وكان رجلا من أهل الكوفة مائلا إلى الزهد فصادفه أحد دعاة الباطنية وهو متوجه إلى قريته وبين يديه بقر يسوقه ، فقال له حمدان ـ وهو لا يعرف حاله ـ : أراك سافرت عن موضع بعيد ، فأين مقصدك؟ فذكر موضعا هو قرية حمدان ، فقال له حمدان : اركب بقرة من هذا البقر لتستريح به عن تعب المشي ، فلما رآه مائلا إلى الديانة أتاه من ذلك الباب ، وقال : إني لم أؤمن بل أؤمر بذلك ، فقال له : وكأنك لا تعمل إلا بأمر ، فقال : نعم ، فقال حمدان : وبأمر من تعمل؟ قال : بأمر مالكي ومالكك ومن له الدنيا والآخرة ، قال : ذلك هو رب العالمين ، قال : صدقت ، ولكن الله يهب ملكه من يشاء ، قال : وما غرضك في البقعة التي أنت متوجه إليها؟ قال : أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الشقاوة إلى السعادة. وأن أستنقذهم من ورطات الذل

١٢٨

والفقر ، وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب فقال له حمدان : أنقذني أنقذك الله ، وأفض عليّ من العلم ما تحييني به ، فما أشد احتياجي لمثل ما ذكرت! فقال له : وما أمرت أن أخرج السر المكنون إلى أحد إلا بعد الثقة به والعهد إليه ، فقال : فما عهدك؟ فاذكره فإني ملتزم له فقال : أن تجعل لي وللإمام عهد الله على نفسك وميثاقك ألا تخرج سر الإمام الذي ألقيه إليك ولا تفشي سري أيضا ، فالتزم حمدان عهده ، ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله ، حتى استدرجه واستغواه ، واستجاب له في جميع ما ادّعاه ، ثم انتدب للدعوة وصار أصلا من أصول هذه البدعة ، فسمي أتباعه القرامطة.

ومثال الثاني ما حكاه الله في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (١) ، وقوله تعالى : (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٢).

وحكى المسعودي أنه كان في أعلى صعيد مصر رجل من القبط ممن يظهر دين النصرانية وكان يشار إليه بالعلم والفهم ، فبلغ خبره أحمد بن طولون ، فاستحضره وسأله عن أشياء كثيرة ، من جملتها أنه أمر في بعض الأيام وقد أحضر مجلسه بعض أهل النظر ليسأله عن الدليل على صحة دين النصرانية ، فسألوه عن ذلك ، فقال : دليلي على صحتها وجودي إياها متناقضة متنافية ، تدفعها العقول ، وتنفر منها النفوس ، لتباينها وتضادها ، لا نظر يقويها ، ولا جدل يصححها ، ولا برهان يعضدها من العقل والحس عند أهل التأمل فيها ، والفحص عنها. ورأيت مع ذلك أمما كثيرة وملوكا عظيمة ذوي معرفة ، وحسن سياسة ، وعقول راجحة ، قد انقادوا إليها ، وتدينوا بها مع ما ذكرت من تناقضها في العقل فعلمت أنهم لم يقبلوها ولا تدينوا بها إلا بدلائل شاهدوها ، وآيات ومعجزات عرفوها ، أوجبت انقيادهم إليها ، والتدين بها.

فقال له السائل : وما التضاد الذي فيها؟ فقال : وهل يدرك ذلك أو تعلم غايته؟ منها قولهم بأن الثلاثة واحد وأن الواحد ثلاثة. ووصفهم للأقانيم (٣) والجوهر وهو الثالوثي وهل

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ١٠٤.

(٢) سورة : الشعراء ، الآيات : ٧٢ ـ ٧٤.

(٣) الأقانيم : جمع أقنوم : الأصل والأقانيم الثلاثة عند النصارى : الأب والابن وروح القدس.

١٢٩

الأقانيم في أنفسها قادرة عالمة أم لا؟ وفي اتحاد ربهم القديم بالإنسان المحدث ، وما جرى في ولادته وصلبه وقتله ، وهل في التشنيع أكبر وأفحش من إله صلب وبصق في وجهه؟ ووضع على رأسه إكليل الشوك وضرب رأسه بالقضيب؟ وسمرت قدماه ، ونخز بالأسنة والخشب جنباه؟ وطلب الماء فسقي الخل من بطيخ الحنظل؟ فأمسكوا عن مناظرته ، لما قد أعطاهم من تناقض مذهبه وفساده اه.

والشاهد من الحكاية الاعتماد على الشيوخ والآباء من غير برهان ولا دليل.

القسم الثالث : يتنوع أيضا وهو الذي قلد غيره على البراءة الأصلية ، فلا يخلو أن يكون ثمّ من هو أولى بالتقليد منه ، بناء على التسامع الجاري بين الخلق بالنسبة إلى الجم الغفير إليه في أمور دينهم من عالم وغيره ، وتعظيمهم له بخلاف الغير. أو لا يكون ثم من هو أولى منه ، لكنه ليس في إقبال الخلق عليه وتعظيمهم له ما يبلغ تلك الرتبة ؛ فإن كان هناك منتصبون فتركهم هذا المقلد وقلد غيرهم فهو آثم إذ لم يرجع إلى من أمر بالرجوع إليه ، بل تركه ورضي لنفسه بأخسر الصفقتين فهو غير معذور ، إذ قلد في دينه من ليس بعارف بالدين في حكم الظاهر ، فعمل بالبدعة وهو يظن أنه على الصراط المستقيم.

وهذا حال من بعث فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم تركوا دينهم الحق ورجعوا إلى باطل آبائهم. ولم ينظروا نظر المستبصر ، حتى لم يفرقوا بين الطريقين ، وغطى الهوى على عقولهم دون أن يبصروا الطريق ، فكذلك أهل هذا النوع.

وقلّ ما تجد من هذه صفته إلا وهو يوالي فيما ارتكب ويعادي بمجرد التقليد.

خرّج البغوي عن أبي الطفيل الكناني أن رجلا ولد له غلام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعا له بالبركة وأخذ بجبهته فنبتت شعرة بجبهته كأنها سلفة فرس. قال : فشب الغلام ، فلما كان زمن الخوارج أجابهم فسقطت الشعرة عن جبهته ، فأخذه أبوه فقيده وحبسه مخافة أن يلحق بهم أحد ، قال : فدخلنا عليه فوعظناه وقلنا له : ألم تر بركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقعت؟ قال : فلم نزل به حتى رجع عن رأيهم ، قال : فرد الله عزوجل الشعرة في جبهته إذ تاب.

١٣٠

وإن لم يكن هناك منتصبون إلى هذا المقلد الخامل بين الناس ، مع أنه قد نصب نفسه منصب المستحقين ، ففي تأثيمه نظر ، ويحتمل أن يقال فيه : إنه آثم.

ونظيره مسألة أهل الفترات العاملين تبعا لآبائهم ، واستنامة لما عليه أهل عصرهم ، من عبادة غير الله وما أشبه ذلك ، لأن العلماء يقولون في حكمهم : إنهم على قسمين : قسم غابت عليه الشريعة ولم يدر ما يتقرب به إلى الله تعالى ، فوقف عن العمل بكل ما يتوهمه العقل أنه يقرب إلى الله ، ورأى ما أهل عصره عاملون به مما ليس لهم فيه مستند إلا استحسانهم ، فلم يستفزه ذلك على الوقوف عنه ، وهؤلاء هم الداخلون حقيقة تحت عموم الآية الكريمة : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١).

وقسم لابس ما عليه أهل عصره من عبادة غير الله ، والتحريم والتحليل بالرأي ووافقوهم في اعتقاد ما اعتقدوه من الباطل ، فهؤلاء نص العلماء على أنهم غير معذورين ، مشاركون لأهل عصرهم في المؤاخذة ، لأنهم وافقوهم في العمل والموالاة والمعاداة على تلك الشرعة فصاروا من أهلها. فكذلك ما نحن في الكلام عليه ، إذ لا فرق بينهما.

ومن العلماء من يطلق العبارة ويقول : كيفما كان لا يعذب أحد إلا بعد الرسل وعدم القبول منهم. وهذا إن ثبت قولا هكذا ، فنظيره في مسألتنا أن يأتي عالم أعلم من ذلك المنتصب يبين السنّة من البدعة ، فإن راجعه هذا المقلد في أحكام دينه ولم يقتصر على الأول فقد أخذ بالاحتياط الذي هو شأن العقلاء ورجاء السلامة ، وإن اقتصر على الأول ظهر عناده ، لأنه مع هذا الفرض لم يرض بهذا الطارئ ، وإذا لم يرضه كان ذلك لهوى داخله ، وتعصب جرى في قلبه مجرى الكلب في صاحبه ، وهو إذا بلغ هذا المبلغ لم يبعد أن ينتصر لمذهب صاحبه ، ويستدل عليه بأقصى ما يقدر عليه في عموميته. وحكمه قد تقدم في القسم قبله.

فأنت ترى صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين بعث إلى أصحاب أهواء وبدع ، وقد استندوا إلى آبائهم وعظمائهم فيها ، وردوا ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وغطى على قلوبهم رين (٢) الهوى حتى التبست عليهم المعجزات بغيرها ـ كيف صارت شريعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجة عليهم على الإطلاق

__________________

(١) سورة : الإسراء ، الآية : ١٥.

(٢) الرين : الغطاء والحجاب الكثيف.

١٣١

والعموم ، وصار الميت منهم مسوقا إلى النار على العموم ، من غير تفرقة بين المعاند صراحا وغيره ، وما ذاك إلا القيام الحجة عليهم ، بمجرد بعثته وإرساله لهم ، مبينا للحق الذي خالفوه. فمسألتنا شبيهة بذلك ، فمن أخذ بالحزم فقد استبرأ لدينه ، ومن تابع الهوى خيف عليه الهلاك ، وحسبنا الله.

فصل

ولنزد هذا الموضع شيئا من البيان فإنه أكيد ، لأنه تحقيق مناط الكتاب وما احتوى عليه من المسائل ، فنقول وبالله التوفيق :

إن لفظ (أهل الأهواء) وعبارة (أهل البدع) إنما تطلق حقيقة على الذين ابتدعوها ، وقدموا فيها شريعة الهوى بالاستنباط والنصر لها ، والاستدلال على صحتها في زعمهم ، حتى عدّ خلافهم خلافا ، وشبههم منظورا فيها ، ومحتاجا إلى ردها والجواب عنها ، كما نقول في ألقاب الفرق من المعتزلة والقدرية والمرجئة والخوارج والباطنية ومن أشبههم ، بأنها ألقاب لمن قام بتلك النحل ما بين مستنبط لها وناصر لها ، وذابّ عنها ، كلفظ «أهل السنّة» إنما يطلق على ناصريها ، وعلى من استنبط على وفقها ، والحامين لذمارها.

ويرشح ذلك أن قول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) (١) ، يشعر بإطلاق اللفظ على من جعل ذلك الفعل الذي هو التفريق ، وليس إلا المخترع أو من قام مقامه. وكذلك قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) (٢) ، وقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) (٣). فإن اتباع المتشابه مختص بمن انتصب منصب المجتهد لا بغيره.

وكذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم» (٤) لأنهم أقاموا أنفسهم مقام المستنبط للأحكام الشرعية المقتدى به فيها ، بخلاف

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

(٢) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٥.

(٣) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

(٤) تقدم تخريجه ص : ٥٦ ، الحاشية : ٣.

١٣٢

العوام ، فإنهم متبعون لما تقرر عند علمائهم لأنه فرضهم ، فليسوا بمتبعين للمتشابه حقيقة ، ولا هم متبعون للهوى ، وإنما يتبعون ما يقال لهم كائنا ما كان ، فلا يطلق على العوام لفظ أهل الأهواء حتى يخوضوا بأنظارهم فيها ويحسنوا بنظرهم ويقبحوا.

وعند ذلك يتعين للفظ أهل الأهواء وأهل البدع مدلول واحد ، وهو أنه من انتصب للابتداع ولترجيحه على غيره. وأما أهل الغفلة عن ذلك والسالكون سبل رؤسائهم بمجرد التقليد من غير نظر فلا.

فحقيقة المسألة أنها تحتوي على قسمين : مبتدع ومقتد به.

فالمقتدى به كأنه لم يدخل في العبارة بمجرد الاقتداء لأنه في حكم المتبع.

والمبتدع هو المخترع أو المستدل على صحة ذلك الاختراع ، وسواء علينا أكان ذلك الاستدلال من قبيل الخاص بالنظر في العلم ، أو كان من قبيل الاستدلال العامي ، فإن الله سبحانه ذم أقواما قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (١) ، فكأنهم استدلوا إلى دليل جمليّ ، وهو الآباء إذ كانوا عندهم من أهل العقل ، وقد كانوا على هذا الدين ، وليس إلا لأنه صواب ، فنحن عليه ، لأنه لو كان خطأ لما ذهبوا إليه.

وهو نظير من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومن يشار إليه بالصلاح ، ولا ينظر إلى كونه من أهل الاجتهاد في الشريعة أو من أهل التقليد ، ولا كونه يعمل بعلم أو بجهل ، ولكن مثل هذا يعد استدلالا في الجملة من حيث جعل عمدة في اتباع الهوى واطّراح ما سواه ، فمن أخذ به فهو آخذ بالبدعة بدليل مثله ، ودخل في مسمى أهل الابتداع ، إذ كان من حق من كان هذا سبيله أن ينظر في الحق إن جاءه ، ويبحث ويتأنى ويسأل حتى يتبين له فيتبعه ، أو الباطل فيجتنبه ، ولذلك قال تعالى ردّا على المحتجين بما تقدم : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) (٢) ، وفي الآية الأخرى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (٣) ، فقال تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا

__________________

(١) سورة : الزخرف ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة : الزخرف ، الآية : ٢٤.

(٣) سورة : البقرة ، الآية : ١٧٠.

١٣٣

يَهْتَدُونَ؟) (١) ، وفي الآية الأخرى : (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٢). وأمثال ذلك كثير.

وعلامة من هذا شأنه أن يرد خلاف مذهبه بما عليه من شبهة دليل تفصيلي أو إجمالي ، ويتعصب لما هو عليه غير ملتفت إلى غيره ، وهو عين اتباع الهوى ، فهو المذموم حقّا ، وعليه يحصل الإثم ، فإن ما كان مسترشدا مال إلى الحق حيث وجده ولم يرده ، وهو المعتاد في طالب الحق ، ولذلك بادر المحققون إلى اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تبين لهم الحق.

فإن لم يجد سوى ما تقدم له من البدعة ، ولم يدخل مع المتعاصيين لكنه عمل بها.

فإن قلنا : إن أهل الفترة معذبون على الإطلاق إذا اتبعوا من اخترع منهم ، فالمتبعون للمبتدع إذا لم يجدوا محقّا مؤاخذون أيضا.

وإن قلنا : لا يعذبون حتى يبعث لهم الرسول وإن عملوا بالكفر فهؤلاء لا يؤاخذون ما لم يكن فيه محق ، فإذ ذاك يؤاخذون من حيث إنهم معه بين أحد أمرين : إما أن يتبعوه على طريق الحق فيتركوا ما هم عليه ، وإما أن لا يتبعوه فلا بد من عناد ما وتعصب فيدخلون إذ ذاك تحت عبارة (أهل الأهواء) فيأثمون.

وكل من اتبع بيان سمعان في بدعته التي اشتهرت عند العلماء ، مقلدا فيها على حكم الرضاء بها ورد ما سواها ، فهو من الإثم مع من اتّبع ، فقد زعم أن معبوده في صورة الإنسان وأنه يهلك كله إلا وجهه ثم زعم أن روح الإله حل في علي ، ثم في فلان ، ثم في بيان نفسه.

وكذلك من اتبع المغيرة بن سعد العجلي الذي ادّعى النبوة مدة وزعم أنه يحيي الموتى بالاسم الأعظم ، وأن لمعبوده أعضاء على حروف الهجاء على كيفية يشمئز منها قلب المؤمن إلى إلحادات أخر.

وكذلك من اتبع المهدي المغربي المنسوب إليه كثير من بدع المغرب ، فهو في الإثم والتسمية مع من اتّبع إذا انتصب ناصرا لها ومحتجّا عليها. وقانا الله شرّ التعصب على غير بصيرة من الحق بفضله ورحمته.

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ١٧٠.

(٢) سورة : لقمان ، الآية : ٢١.

١٣٤

فصل

إذا ثبت أن المبتدع آثم فليس الإثم الواقع عليه على رتبة واحدة ، بل هو على مراتب مختلفة ، من جهة كون صاحبها مستترا بها أو معلنا ، ومن جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية ، ومن جهة كونها بيّنة أو مشكلة ، ومن جهة كونها كفرا أو غير كفر ، ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه ، إلى غير ذلك من الوجوه التي يقطع معها بالتفاوت في عظم الإثم وعدمه أو يغلب على الظن.

وهذا المعنى وإن لم يخف على العالم بالأصول فلا يترك التنبيه على وجه التفاوت بقلو جمليّ ، فهو الأولى في هذا المقام.

فأما الاختلاف من جهة كون صاحبها مدعيا للاجتهاد أو مقلدا : فظاهر ، لأن الزيغ في قلب الناظر في المتشابهات ابتغاء تأويلها ، أمكن منه في قلب المقلد وإن ادّعى النظر أيضا ، لأن المقلد الناظر لا بدّ من استناده إلى مقلّده في بعض الأصول التي يبنى عليها ، أو المقلد قد انفرد بها دونه ، فهو آخذ بحظّ ما لم يأخذ فيه الآخر ، إلا أن يكون هذا المقلد ناظرا لنفسه ، فحينئذ لا يدعي رتبة التقليد فصار في درجة الأول ، وزاد عليه الأول بأنه أول من سنّ تلك السنة السيئة ، فيكون عليه وزرها ووزر من عمل بها ، وهذا الثاني ممن عمل بها فيكون على الأول من إثمه ما عينه الحديث الصحيح ، فوزره أعظم على كل تقدير ، والثاني دونه لأنه إن نظر وعاند الحق واحتج لرأيه ، فليس له إلا أدلة جملية لا تفصيلية ، والفرق بينهما ظاهر ، فإن الأدلة التفصيلية أبلغ في الاحتجاج على عين المسألة من الأدلة الجملية ، فتكون المبالغة في الوزر بمقدار المبالغة في الاستدلال.

وأما الاختلاف من جهة وقوعها في الضروريات أو غيرها : فالإشارة إليه ستأتي عند التكلم على أحكام البدع.

وأما الاختلاف من جهة الإسرار والإعلان : فظاهر أن المسر بها ضرره مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره ، فعلى أي صورة فرضت البدعة من كونها كبيرة أو صغيرة أو مكروهة ، هي باقية على أصل حكمها ، فإذا أعلن بها ـ وإن لم يدع إليها ـ فإعلانه بها ذريعة إلى الاقتداء به.

١٣٥

وسيأتي ـ بحول الله ـ أن الذريعة قد تجري مجرى المتذرّع إليه أو تفارقه ، فانضم إلى وزر العمل بها وزر نصبها لمن يقتدي به فيها ، والوزر في ذلك أعظم بلا إشكال.

ومثاله ما حكى الطرطوشي في أصل القيام ليلة النصف من شعبان عن أبي محمد المقدسي ، قال : لم يكن عندنا ببيت المقدس صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان ، وأول ما أحدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة : قدم علينا رجل في بيت المقدس يعرف بابن أبي الحمراء ، وكان حسن التلاوة ، فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان فأحرم خلفه رجل ، ثم انضاف إليهما ثالث ورابع ، فما ختمها إلا وهو في جماعة كبيرة ، ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير ، وشاعت في المسجد وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى وبيوت الناس ومنازلهم ، ثم استمرت كأنها سنة إلى يومنا هذا ، فقلت له : فرأيتك تصليها في جماعة ، قال : نعم! وأستغفر الله منها.

وأما الاختلاف من جهة الدعوة إليها وعدمها : فظاهر أيضا ، لأن غير الداعي وإن كان عرضة بالاقتداء فقد لا يقتدى به ، ويختلف الناس في توفر دواعيهم على الاقتداء به ، إذ قد يكون خامل الذكر ، وقد يكون مشتهرا ولا يقتدى به ، لشهرة من هو أعظم عند الناس منزلة منه.

وأما الداعي إذا دعا إليها فمظنة الاقتداء أقوى وأظهر ، ولا سيما المبتدع اللسن الفصيح الآخذ بمجامع القلوب ، إذا أخذ في الترغيب والترهيب ، وأدلى بشبهته التي تداخل القلب بزخرفها ، كما كان معبد الجهني يدعو الناس إلى ما هو عليه من القول بالقدر ، ويلوي بلسانه نسبته إلى الحسن البصري.

فروي عن سفيان بن عيينة أن عمرو بن عبيد سئل عن مسألة فأجاب فيها وقال : هو من رأي الحسن ، فقال له رجل : إنهم يروون عن الحسن خلاف هذا ، فقال : إنما قلت لك هذا من رأيي الحسن ، يريد نفسه.

وقال محمد بن عبد الله الأنصاري : كان عمرو بن عبيد إذا سئل عن شيء ، قال : هذا من قول الحسن ، فيوهم أنه الحسن بن أبي الحسن وإنما هو قوله.

١٣٦

وأما الاختلاف من جهة كونه خارجا على أهل السنّة أو غير خارج : فلأن غير الخارج لم يزد على الدعوة مفسدة أخرى يترتب عليها إثم ، والخارج زاد الخروج على الأئمة ـ وهو موجب للقتل ـ والسعي في الأرض بالفساد ، وإثارة الفتن والحروب ، إلى حصول العداوة والبغضاء بين أولئك الفرق ، فله من الإثم العظيم أوفر حظّ.

ومثاله قصة الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (١) ، وأخبارهم شهيرة.

وقد لا يخرجون هذا الخروج بل يقتصرون على الدّعوة لكن على وجه ادعى إلى الإجابة ، لأن فيه نوعا من الإكراه والإخافة ، فلا هو مجرد دعوة ، ولا هو شق العصا من كل وجه ، وذلك أن يستعين على دعوة بأولي الأمر من الولاة والسلاطين ، فإن الاقتداء هنا أقوى بسبب خوف الولاة في الإيقاع بالآبي سجنا أو ضربا أو قتلا ، كما اتفق لبشر المريسي في زمن المأمون ، ولأحمد بن أبي دؤاد في خلافة الواثق ، وكما اتفق لعلماء المالكية بالأندلس إذ صارت ولايتها للمهديين ، فمزقوا كتب المالكية وسموها كتب الرأي ، ونكلوا بجملة من الفضلاء بسبب أخذهم في الشريعة بمذهب مالك ، وكانوا هم مرتكبين للظاهرية المحضة ، التي هي عند العلماء بدعة ظهرت بعد المائتين من الهجرة ، ويا ليتهم وافقوا مذهب داود وأصحابه! لكنهم تعدوا ذلك إلى أن قالوا برأيهم ، ووضعوا للناس مذاهب لا عهد لهم بها في الشريعة ، وحملوهم عليها طوعا أو كرها ، حتى عم داؤها في الناس ، وثبتت زمانا طويلا ، ثم ذهب منها جملة وبقيت أخرى إلى اليوم ، ولعل الزمان يتسع إلى ذكر جملة منها في أثناء الكتاب بحول الله.

فهذا الوجه ، الوزر فيه أعظم من مجرد الدعوة من وجهين : الأول الإخافة والإكراه بالإسلام والقتل ، والآخر كثرة الداخلين في الدعوة ، لأن الإعذار والإنذار الأخروي قد لا يقوم له كثير من النفوس ، بخلاف الدنيوي. ولأجل ذلك شرعت الحدود والزواجر في

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ١٢ ، الحاشية : ١.

١٣٧

الشرع ، و «إن الله ليزع بالسلطان ، ما لا يزعه بالقرآن» فالمبتدع إذا لم ينتصر بإجابة دعوته بمجرد الإعذار والإنذار الذي يعظ به ، حاول الانتهاض بأولي الأمر ، ليكون ذلك أحرى بالإجابة.

وأما الاختلاف من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية : فإن الحقيقية أعظم وزرا ، لأنها التي باشرها المنتهي بغير واسطة ، ولأنها مخالفة محضة وخروج عن السنّة ظاهر : كالقول بالقدر ، والتحسين والتقبيح ، والقول بإنكار خبر الواحد ، وإنكار الإجماع ، وإنكار تحريم الخمر ، والقول بالإمام المعصوم ، وما أشبه ذلك.

فإذا فرضت إضافية : فمعنى الإضافية أنها مشروعة من وجه ، ورأي مجرد من وجه ، إذ يدخلها من جهة المخترع رأي في بعض أحوالها فلم تناف الأدلة من كل وجه ، هذا وإن كانت تجري مجرى الحقيقة ، ولكن الفرق بينهما ظاهر كما سيأتي إن شاء الله.

وبحسب ذلك الاختلاف يختلف الوزر ، ومثاله جعل المصاحف في المساجد للقراءة آخر صلاة الصبح بدعة.

قال مالك : أول من جعل مصحفا الحجاج بن يوسف ، يريد أنه أول من رتب القراءة في المصحف إثر صلاة الصبح في المسجد. قال ابن رشد : مثل ما يصنع عندنا إلى اليوم.

فهذه محدثة ـ أعني : وضعه في المسجد ـ لأن القراءة في المسجد مشروع في الجملة معمول به ، إلا أن تخصيص المسجد بالقراءة على ذلك الوجه هو المحدث.

ومثله وضع المصاحف في زماننا للقراءة يوم الجمعة وتحبيسها على ذلك القصد.

وأما الاختلاف من جهة كونها ظاهرة المأخذ أو مشكلة : فلأن الظاهر عند الإقدام عليها محض مخالفة ، فإن كانت مشكلة فليست بمحض مخالفة ، لإمكان أن لا تكون بدعة ، والإقدام على المحتمل ، أخفض رتبة من الإقدام على الظاهر ، ولذلك عدّ العلماء ترك المتشابه من قبيل المندوب إليه في الجملة ، ونبه الحديث على أن ترك المتشابه لئلا يقع في الحرام ، فهو حمى له ، وإن الواقع في المتشابه واقع في الحرام ، وليس ترك الحرام في

١٣٨

الجملة من قبيل المندوب بل من قبيل الواجب ، فكذلك حكم الفعل المشتبه في البدعة ، فالتفاوت بينهما بيّن.

وإن قلنا : إن ترك المتشابه من باب المندوب ، وإن مواقعته من باب المكروه فالاختلاف أيضا واقع من هذه الجهة ، فإن الإثم في المحرمة هو الظاهر ، وأما المكروهة فلا إثم فيها في الجملة ، ما لم يقترن بها ما يوجبها ، كالإصرار عليها ، إذ الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ، فكذلك الإصرار على المكروه فقد يصيره صغيرة ، ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة في مطلق التأثيم : وإن حصل الفرق من جهة أخرى ، بخلاف المكروه مع الصغيرة. والشأن في البدع ـ وإن كانت مكروهة ـ في الدوام عليها وإظهارها من المقتدى بهم في مجامع الناس وفي المساجد ، فقلما تقدم بل تقع منهم على أصلها من الكراهية إلا ويقترن بها ما يدخلها في مطلق التأثيم من إصرار أو تعليم أو إشاعة أو تعصب لها أو ما أشبه ذلك ، فلا يكاد يوجد في البدع ـ بحسب الوقوع ـ مكروه لا زائد فيه على الكراهية. والله أعلم.

وأما الاختلاف بحسب الإصرار عليها أو عدمه : فلأن الذنب قد يكون صغيرا فيعظم بالإصرار عليه ، كذلك البدعة تكون صغيرة فتعظم بالإصرار عليها ، فإذا كانت فلتة فهي أهون منها إذا داوم عليها ، ويلحق بهذا المعنى إذا تهاون بها المبتدع وسهل أمرها ، نظير الذنب إذا تهاون به ، فالمتهاون أعظم وزرا من غيره.

وأما الاختلاف من جهة كونها كفرا وعدمه : فظاهر أيضا ، لأن ما هو كفر جزاؤه التخليد في العذاب ـ عافانا الله ـ وليس كذلك ما لم يبلغ حكم سائر الكبائر مع الكفر في المعاصي ، فلا بدعة أعظم وزرا من بدعة تخرج عن الإسلام ، كما أنه لا ذنب أعظم من ذنب يخرج عن الإسلام ، فبدعة الباطنية والزنادقة (١) ، ليست كبدعة المعتزلة (٢) والمرجئة (٣)

__________________

(١) الزنادقة : هم القائلين بأزلية العلم.

(٢) المعتزلة : فرقة من المتكلمين يخالفون أهل السنة في بعض المعتقدات على رأسهم واصل بن عطاء الذي اعتزل حلقة الحسن البصري.

(٣) المرجئة : فرقة لا يحكمون على أحد من المسلمين بشيء بل يرجئون الحكم إلى يوم القيامة ، من أقوالهم : (لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة).

١٣٩

وأشباههم ، ووجوه التفاوت كثيرة ، ولظهورها عند العلماء لم نبسط الكلام عليها. والله المستعان بفضله.

فصل

ويتعلق بهذا الفصل أمر آخر وهو الحكم في القيام على أهل البدع من الخاصة أو العامة وهذا باب كبير في الفقه تعلق بهم من جهة جنايتهم على الدين ، وفسادهم في الأرض ، وخروجهم عن جادة الإسلام ، إلى بنيّات الطريق التي نبّه عليها قول الله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (١) ، وهو فصل من تمام الكلام على التأثيم ، لكنه مفتقر إلى النظر في شعب كثيرة ، منها ما تكلم عليها العلماء ، ومنها ما لم يتكلموا عليها ، لأن ذلك حدث بعد موت المجتهدين ، وأهل الحماية للدين ، فهو باب يكثر التفريع فيه بحيث يستدعي تأليفا مستقلا ؛ فرأينا أن بسط ذلك يطول ، مع أن العناء فيه قليل الجدوى في هذه الأزمنة المتأخرة لتكاسل الخاصة ، عن النظر فيما يصلح العامة ، وغلبة الجهل على العامة ، حتى إنهم لا يفرقون بين السنّة والبدعة.

بل قد انقلب الحال إلى أن عادت السنّة بدعة ، فقاموا في غير موضع القيام ، واستقاموا إلى غير مستقام ، فعم الداء ، وعدم الأطباء ، حسبما جاءت به الأخبار. فرأينا أن لا نفرد هذا المعنى بباب يخصه ، وأن لا نبسط القول فيه ، وأن نقتصر من ذلك على لمحة تكون خاتمة لهذا الباب ، في الإشارة إلى أنواع الأحكام التي يقام عليهم بها في الجملة لا في التفصيل ، وبالله التوفيق.

فنقول : إن القيام عليهم بالتثريب (٢) أو التنكيل أو الطرد أو الإبعاد أو الإنكار هو بحسب حال البدعة في نفسها من كونها عظيمة المفسدة في الدين أم لا ، وكون صاحبها مشتهرا بها أو لا ، وداعيا إليها أو لا ، ومستظهرا بالأتباع وخارجا عن الناس أو لا ، وكونه عاملا بها على جهة الجهل أو لا.

وكل من هذه الأقسام له حكم اجتهاديّ يخصه ، إذ لم يأت في الشرع في البدعة حدّ لا

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٣.

(٢) يقال : ثرّب عليهم فعلهم : قبّحه.

١٤٠