الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

وعنه أيضا : أخوف ما أخاف على الناس اثنتان : أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون وأن يضلوا وهم لا يشعرون. قال سفيان : وهو صاحب البدعة.

وعنه أيضا : أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه : هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا : يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلّا قليلا ، قال : والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور ، والله لتفشونّ البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا : تركت السنة.

وعنه أنه قال : أول ما تفقدون من دينكم الأمانة ، وآخر ما تفقدون الصلاة ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ولتطؤن نساءكم وهن حيّض ، ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة ، وحذو النعل بالنعل ، لا تخطئون طريقهم ولا تخطىء بكم ، وحتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما : ما بال الصلوات الخمس؟ لقد ضلّ من كان قبلنا ، إنما قال الله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) (١) ، لا تصلون إلا ثلاثا. وتقول الأخرى : إنما المؤمنون بالله كإيمان الملائكة ، ما فيها كافر ولا منافق ، حق على الله أن يحشرهما مع الدجال.

وهذا المعنى موافق لما ثبت من حديث أبي رافع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (٢) فإن السنة جاءت مفسرة للكتاب فمن أخذ بالكتاب من غير معرفة بالسنة زل عن الكتاب كما زلّ عن السنة ، فلذلك يقول القائل : لقد ضل من كان قبلنا إلى آخره.

وهذه الآثار عن حذيفة من تخريج ابن وضاح.

وخرّج أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.

__________________

(١) سورة : هود ، الآية : ١١٤.

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : لزوم السنة (الحديث : ٤٦٠٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : العلم ، باب : (١٠) (الحديث رقم : ٢٦٦٦). وأخرجه ابن ماجه في المقدمة (الحديث : ١٣). وأخرجه أحمد (٦ / ٨).

٦١

وخرّج عنه ابن وهب أيضا أنه قال : عليكم بالعلم قبل أن يقبض ، وقبضه بذهاب أهله. عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده ، وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم ، فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق.

وعنه أيضا : ليس عام إلا والذي بعده شر منه ، لا أقول : عام أمطر عن عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهاب علمائكم وخياركم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم.

وقال أيضا : كيف أنتم إذا ألبستم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجري الناس يحدثونها سنّة ، إذا غيرت ، قيل : هذا منكر.

وقال أيضا : أيها الناس! لا تبتدعوا ولا تنطعوا ولا تعمقوا ، وعليكم بالعتيق خذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكرون.

وعنه أيضا : القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة.

وقد روي معناه مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عمل قليل في سنة ، خير من عمل كثير في بدعة» (١).

وعنه أيضا خرّجه قاسم بن إصبع أنه قال : «أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام ضال يضل الناس بغير ما أنزل الله ، ومصور ، ورجل قتل نبيا أو قتله نبي» (٢).

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعمل به إلا عملت به ، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.

خرّج ابن المبارك عن عمر بن الخطاب : أن يزيد بن أبي سفيان يأكل ألوان الطعام ،

__________________

(١) أخرج نحوه الدارمي في المقدمة (الحديث : ٢٣).

(٢) تقدم تخريجه ص : ٥٨ ، الحاشية : ٤.

٦٢

فقال عمر لمولى له ـ يقال له يرفأ ـ إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه فأعلمني. فلما حضر عشاؤه أعلمه ، فأتاه عمر فسلّم عليه ، فاستأذن فأذن له فدخل ، فقرب عشاءه فجاء بثريد لحم فأكل عمر معه منها ، ثم قرب شواء فبسط يزيد يده ، وكف عمر يده ثم قال : والله يا يزيد بن أبي سفيان ، إطعام بعد طعام؟ والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم.

وعن ابن عمر : صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر.

وخرج الآجري عن السائب بن يزيد قال : أتى عمر بن الخطاب فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلا يسأل عن تأويل القرآن ، فقال : اللهم أمكنّي منه ، قال : فبينما عمر ذات يوم يغدي الناس إذ جاءه عليه ثياب وعمامة فتغدى حتى إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين! (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً* فَالْحامِلاتِ وِقْراً) (١) ، فقال عمر : أنت هو؟ فقام إليه محسرا عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال : والذي نفسي بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ، ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلاده ، ثم ليقم خطيبا ثم ليقل : أن صبيغا طلب العلم فأخطأ فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك ، وكان سيد قومه.

وخرّج ابن المبارك وغيره عن أبيّ بن كعب أنه قال : عليكم بالسبيل والسنّة ، فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنّة ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله فيعذبه الله أبدا ، وما على الأرض من عبد على السبيل والسنّة ذكر الله في نفسه فاقشعرّ جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذ أصابتها ريح شديدة فتحاتّ عنها ورقها إلا حط الله عنه خطاياه كما تحاتّ عن الشجرة ورقها ، فإن اقتصادا في سبيل الله وسنّة خير من اجتهاد في خلاف سبيل الله وسنة ، وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا واقتصادا أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم.

وخرّج ابن وضاح عن ابن عباس قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا سنّة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن.

وعنه أنه قال : عليكم بالاستفاضة والأثر وإياكم والبدع.

__________________

(١) سورة : الذاريات ، الآيتان : ١ ـ ٢.

٦٣

وخرّج ابن وهب عنه أيضا قال : من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عزوجل.

وخرّج أبو داود وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال يوما : إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ، ويفتح فيه القرآن ، حتى يأخذه المؤمن والمنافق ، والرجل والمرأة ، والصغير والكبير ، والعبد والحر ، فيوشك قائل أن يقول : ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره ، وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة ، وأحذّركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق.

قال الراوي : قلت لمعاذ : وما يدريني يرحمك الله إن الحكيم قد يقول كلمة ضلالة ، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال : بلى! اجتنب من كلام الحكيم غير المشتهرات التي يقال فيها : ما هذه؟ ولا يثنينّك لك عنه ، فإنه لعله أن يراجع وتلقّ الحقّ إذا سمعته فإن على الحق نورا.

وفي رواية مكان المشتهرات (المشتبهات) وفسر بأنه ما تشابه عليك من قول حتى يقال : ما أراد بهذه الكلمة؟ ويريد ـ والله أعلم ـ ما لم يشتمل ظاهره على مقتضى السنة حتى تنكره القلوب ويقول الناس : ما هذه؟ وذلك راجع إلى ما يحذر من زلة العالم حسبما يأتي بحول الله.

ومما جاء عمن بعد الصحابة رضي الله عنهم ما ذكر ابن وضاح عن الحسن قال : صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا ، صياما وصلاة ، إلا ازداد من الله بعدا.

وخرّج ابن وهب عن أبي إدريس الخولاني أنه قال : لأن أرى في المسجد نارا لا أستطيع إطفاءها ، أحب إليّ من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها.

وعن الفضيل بن عياض : اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين ، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.

٦٤

وعن الحسن : لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ما تتبعه عليه فتهلك ، أو تخالفه فيمرض قلبك.

وعنه أيضا في قول الله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (١). قال : كتب الله صيام رمضان على أهل الإسلام كما كتبه على من كان قبلهم ؛ فأما اليهود فرفضوه ، وأما النصارى فشق عليهم الصوم فزادوا فيه عشرا وأخروه إلى أخف ما يكون عليهم فيه الصوم من الأزمنة ، فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث قال : عمل قليل في سنّة خير من عمل كثير في بدعة.

وعن أبي قلابة : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون ، قال أيوب : وكان ـ والله ـ من الفقهاء ذوي الألباب.

وعنه أيضا : أنه كان يقول : إن أهل الأهواء أهل ضلالة ، ولا أرى مصيرهم إلا إلى النار.

وعن الحسن : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك.

وعن أيوب السختياني أنه كان يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا.

وعن أبي قلابة : ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف.

وكان أيوب يسمي أصحاب البدع خوارج ويقول : إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف.

وخرّج ابن وهب عن سفيان قال : كان رجل فقيه يقول : ما أحب أني هديت الناس كلهم وأضللت رجلا واحدا.

وخرّج عنه أنه كان يقول : لا يستقيم قول إلا بعمل ، ولا قول وعمل إلا بنيّة ، ولا قول ولا عمل ولا نيّة إلا موافقا للسنّة.

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ١٨٣.

٦٥

وذكر الآجري أن ابن سيرين كان يرى أسرع الناس ردة أهل الأهواء.

وعن إبراهيم : ولا تكلموهم إني أخاف أن ترتد قلوبكم.

وعن هشام بن حسان قال : لا يقبل الله من صاحب بدعة صياما ولا صلاة ولا حجّا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا ـ زاد ابن وهب عنه ـ وليأتين على الناس زمان يشتبه فيه الحق والباطل ، فإذا كان ذلك لم ينفع فيه دعاء إلا كدعاء الغرق.

وعن يحيى بن أبي كثير قال : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق ، فخذ في طريق آخر.

وعن بعض السلف : من جالس صاحب بدعة فزعت منه العصمة ، ووكل إلى نفسه.

وعن العوّام بن حوشب أنه كان يقول لابنه : يا عيسى ، أصلح قلبك واقلل مالك ، وكان يقول : والله لأن أرى عيسى في مجالس أصحاب البرابط (١) والأشربة والباطل أحب إليّ من أن أراه يجالس أصحاب الخصومات. قال ابن وضاح : يعني أهل البدع.

وقال رجال لأبي بكر بن عياش : يا أبا بكر ، من السّنيّ؟ قال : الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها.

وقال يونس بن عبيد : إن الذي تعرض عليه السنّة فيقبلها الغريب ، وأغرب منه صاحبها.

وعن يحيى بن أبي عمر الشيباني قال : كان يقال يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها.

وعن أبي العالية : تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه ، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ، ولا تحرّفوا يمينا ولا شمالا وعليكم بسنّة نبيكم ، وما كان عليه أصحابه من قبل أن يقتلوا صاحبهم ، ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا ، قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا ، وإياكم وهذه الأهواء ، التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء ، فحدّث الحسن بذلك فقال : رحمه‌الله ، صدق ونصح. خرّجه ابن وضاح وغيره.

__________________

(١) البرابط : جمع بربط : العود وهو من الآلات الموسيقية.

٦٦

وكان مالك كثيرا ما ينشد :

وخير أمور الدين ما كان سنّة

وشرّ الأمور المحدثات البدائع

وعن مقاتل بن حيان قال : أهل هذه الأهواء آفة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنهم يذكرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل بيته فيتصيدون بهذا الذكر الحسن عند الجهال من الناس فيقذفون بهم في المهالك ، فما أشبههم بمن يسقي الصبر باسم العسل ، ومن يسقي السم القاتل باسم الترياق! فأبصرهم فإنك إن لا تكن أصبحت في بحر الماء ، فقد أصبحت في بحر الأهواء الذي هو أعمق غورا وأشد اضطرابا ، وأكثر صواعق وأبعد مذهبا من البحر وما فيه ، ففلك مطيتك التي تقطع بها سفر الضلال اتباع السنة.

وعن ابن المبارك قال : اعلم يا أخي! أن الموت كرامة لكل مسلم لقي الله على السنّة ، فإن لله وإنّا إليه راجعون ، فإلى الله نشكو وحشتنا وذهاب الإخوان ، وقلة الأعوان ، وظهور البدع ، وإلى الله نشكو عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة ، وظهور البدع.

وكان إبراهيم التيمي يقول : اللهمّ اعصمني بدينك وبسنّة نبيك من الاختلاف في الحق ، ومن اتباع الهوى ، ومن سبل الضلالة ، ومن شبهات الأمور ، ومن الزيغ والخصومات.

وعن عمر بن عبد العزيز رحمه‌الله كان يكتب في كتبه : إني أحذركم ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيدة.

ولما بايعه الناس صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس! إنه ليس بعد نبيكم نبي ، ولا بعد كتابكم كتاب ، ولا بعد سنتكم سنّة ، ولا بعد أمتكم أمة ، ألا وإن الحلال ما أحل الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة ، ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة ، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع ، ألا وإني لست بقاض ولكني منفذ ، ألا وإني لست بخازن ولكني أضع حيث أمرت ، ألا وإني لست بخيركم ولكني أثقلكم حملا ، ألا ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ثم نزل.

وفيه قال عروة بن أذينة عن أذينة يرثيه بها :

وأحييت في الإسلام علما وسنّة

ولم تبتدع حكما من الحكم أسحما

٦٧

ففي كل يوم كنت تهدم بدعة

وتبني لنا من سنّة ما تهدما

ومن كلامه الذي عني به ويحفظه العلماء وكان يعجب مالكا جدّا ، وهو أن قال : سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها ، من عمل بها مهتد ، ومن انتصر بها منصور ، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى ، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.

وبحق وكان يعجبهم فإنه كلام مختصر جمع أصولا حسنة من السنة : منها ما نحن فيه لأن قوله : ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء من خالفها ، قطع لمادة الابتداع جملة ، وقوله : من عمل بها مهتد ـ إلى آخر الكلام ـ مدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك ، وهو قول الله سبحانه وتعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١). ومنها ما سنّه ولاة الأمر من بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو سنّة لا بدعة فيه البتة ، وإن لم يعلم في كتاب الله ولا سنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نص عليه على الخصوص ، فقد جاء ما يدل عليه في الجملة ، وذلك نص حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه حيث قال فيه : «فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين والمهديين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور» (٢) فقرن عليه الصلاة والسلام ـ كما ترى ـ سنّة الخلفاء الراشدين بسنته وإن من اتباع سنته اتباع سنتهم ، وإن المحدثات خلاف ذلك ليست منها في شيء ، لأنهم رضي الله عنهم فيما سنوه إما متبعون لسنّة نبيهم عليه‌السلام نفسها ، وإما متبعون لما فهموا من سنته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله ، لا زائد على ذلك ، وسيأتي بيانه بحول الله.

على أن أبا عبد الله الحاكم نقل عن يحيى بن آدم قول السلف الصالح : سنة أبي بكر

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ١١٥.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٣٣ ، الحاشية : ٢.

٦٨

وعمر رضي الله عنهما ، أن المعنى فيه أن يعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات وهو على تلك السنة ، وأنه لا يحتاج مع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قول أحد وما قال صحيح في نفسه فهو مما يحتمله حديث العرباض رضي الله عنه ، فلا زائد إذا على ما ثبت في السنة النبوية ، إلا أنه قد يخاف أن تكون منسوخة بسنة أخرى ، فافتقر العلماء إلى النظر في عمل الخلفاء بعده ، ليعلموا أن ذلك هو الذي مات عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير أن يكون له ناسخ ، لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمره ، وعلى هذا المعنى ، بنى مالك بن أنس في احتجاجه بالعمل ، ورجوعه إليه عند تعارض السنن.

ومن الأصول المضمنة في أثر عمر بن عبد العزيز أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقوله : الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، وهو أصل مقرر في غير هذا الموضع ، فقد جمع كلام عمر بن عبد العزيز رحمه‌الله أصولا حسنة وفوائد مهمة.

ومما يعزى لأبي إلياس الألباني : ثلاث لو كتبن في ظفر لوسعهن ، وفيهن خير الدنيا والآخرة : اتبع لا تبتدع ، اتضع لا ترتفع ، ومن ورع لا يتسع ، والآثار هنا كثيرة.

فصل

الوجه الرابع من النقل : ما جاء في ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس ، وإنما خصصنا هذا الموضع بالذكر وإن كان فيما تقدم من النقل كفاية ، لأن كثيرا من الجهال يعتقدون فيهم أنهم متساهلون في الاتباع ، وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه ، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به ، فأول شيء بنوا عليه طريقتهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها حتى زعم مذكرهم ، وحافظ مأخذهم ، وعمود نحلتهم أبو القاسم القشيري أنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفرادا به عن أهل البدع ، فذكر أن المسلمين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم باسم علم سوى الصحبة إذ لا فضيلة فوقها ، ثم سمي من يليهم التابعين ، ورأوا هذا الاسم أشرف الأسماء ، ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين ، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص الناس ممن له شدة عناية من الدين الزهاد والعباد. قال : ثم ظهرت البدع وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا فانفرد خواصّ أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون

٦٩

قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف. هذا معنى كلامه ، فقد عدّ هذا اللقب مخصوصا باتباع السنة ومباينة البدعة ، وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبرة به من المدعين للعلم.

وفي غرضي إن فسح الله في المدة وأعانني بفضله ويسر لي الأسباب أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى ، وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح ، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها؟ وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به ؛ حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة ، ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا ، وطريقة القوم بريئة من هذا الخباط بحمد الله.

فقد قال الفضيل بن عياض : من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة.

وقيل لإبراهيم بن أدهم : إن الله يقول في كتابه : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١) ، ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا! فقال : ماتت قلوبكم في عشرة أشياء : أولها عرفتم الله فلم تؤدوا حقه ، والثاني : قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به ، والثالث : ادعيتم حب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتركتم سنّته ، والرابع : ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه ، والخامس : قلتم نحب الجنة وما تعملون لها إلى آخر الحكاية.

وقال ذو النون المصري : من علامة حب الله متابعة حبيب الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أخلاقه وأفعاله وأمره وسنته.

وقال : إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء ، الأول : ضعف النية بعمل الآخرة ، والثاني : صارت أبدانهم مهيئة لشهواتهم ، والثالث : غلبهم طول الأمل مع قصر الأجل ، والرابع : آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله ، والخامس : اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والسادس : جعلوا زلات السلف حجة لأنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم.

__________________

(١) سورة : غافر ، الآية : ٦٠.

٧٠

وقال لرجل أوصاه : ليكن آثر الأشياء عندك وأحبها إليك أحكام ما افترض الله عليك ، واتقاء ما نهاك عنه ، فإن ما تعبدك الله به خير لك مما تختاره لنفسك من أعمال البر التي تجب عليك ، وأنت ترى أنها أبلغ لك فيما تريد ، كالذي يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما أشبه ذلك ، وإنما للعبد أن يراعي أبدا ما وجب عليه من فرض يحكمه على تمام حدوده ، وينظر إلى ما نهي عنه فيتقيه على أحكام ما ينبغي ، فإن الذي قطع العباد عن ربهم ، وقطعهم عن أن يذوقوا حلاوة الإيمان وأن يبلغوا حقائق الصدق ، وحجب قلوبهم عن النظر إلى الآخرة ، تهاونهم بأحكام ما فرض عليهم في قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم وبطونهم وفروجهم ، ولو وقفوا على هذه الأشياء وأحكموها لأدخل عليهم البر إدخالا تعجز أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما رزقهم الله من حسن معونته ، وفوائد كرامته ، ولكن أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب ، وتهاونوا بالقليل مما هم فيه من العيوب ، فحرموا ثواب لذة الصادقين في العاجل.

وقال بشر الحافي : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقال لي : «يا بشر! تدري لم رفعك الله بين أقرانك؟» قلت : لا يا رسول الله ، قال : «لاتباعك سنتي ، وحرمتك للصالحين ، ونصيحتك لإخوانك ، ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي هو الذي بلّغك منازل الأبرار».

وقال يحيى بن معاذ الرازي : اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول ، فلكل واحد منها ضد ، فمن سقط عنه وقع في ضده : التوحيد وضده الشرك ، والسنّة وضدها البدعة ، والطاعة وضدها المعصية.

وقال أبو بكر الدقاق وكان من أقران الجنيد : كنت مارّا في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة ، فهتف بي هاتف : كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر.

وقال أبو علي الحسن بن علي الجوزجاني : من علامات السعادة على العبد تيسير الطاعة عليه ، وموافقة السنة في أفعاله ، وصحبته لأهل الصلاح ، وحسن أخلاقه مع الإخوان ، وبذل معروفه للخلق واهتمامه للمسلمين ، ومراعاته لأوقاته. وسئل كيف الطريق إلى الله؟ فقال : الطرق إلى الله كثيرة ، وأوضح الطرق وأبعدها عن الشبه اتباع السنة قولا

٧١

وفعلا وعزما وعقدا ونية ، لأن الله يقول : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (١). فقيل له : كيف الطريق إلى السنة؟ فقال : مجانبة البدع ، واتباع ما أجمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام ، والتباعد عن مجالس الكلام وأهله ، ولزوم طريقة الاقتداء وبذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) (٢).

وقال أبو بكر الترمذي : لم يجد أحد تمام الهمة بأوصافها إلا أهل المحبة ، وإنما أخذوا ذلك باتباع السنة ومجانبة البدعة ، فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أعلى الخلق كلهم همة وأقربهم زلفى.

وقال أبو الحسن الوراق : لا يصل العبد إلى الله إلا بالله وبموافقة حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شرائعه ، ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء يضل من حيث أنه مهتد وقال :

الصدق استقامة الطريق في الدين واتباع السنّة في الشرع. وقال : علامة محبة الله متابعة حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومثله عن إبراهيم القمار قال : علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه.

وقال أبو محمد بن عبد الوهاب الثقفي : لا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان صوابا ، ومن صوابها إلا ما كان خالصا ، ومن خالصها إلا ما وافق السنة.

وإبراهيم بن شيبان القرميسيني صحب أبا عبد الله المغربي وإبراهيم الخواص ، وكان شديدا على أهل البدع متمسكا بالكتاب والسنّة ، لازما لطريق المشايخ والأئمة ، حتى قال فيه عبد الله بن منازل : إبراهيم بن شيبان حجة الله على الفقراء وأهل الآداب والمعاملات.

وقال أبو بكر بن سعدان وهو من أصحاب الجنيد وغيره : الاعتصام بالله هو الامتناع من الغفلة والمعاصي والبدع والضلالات.

وقال أبو عمر الزجاجي وهو من أصحاب الجنيد والثوري وغيرهما : كان الناس في الجاهلية يتبعون ما تستحسنه عقولهم وطبائعهم ، فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فردهم إلى الشريعة والاتباع ، فالعقل الصحيح الذي يستحسن ما يستحسنه الشرع ويستقبح ما يستقبحه.

__________________

(١) سورة : النور ، الآية : ٥٤.

(٢) سورة : النحل ، الآية : ١٢٣.

٧٢

وقيل لإسماعيل بن محمد السلمي جد أبي عبد الرحمن السلمي ، ولقي الجنيد وغيره : ما الذي لا بدّ للعبد منه؟ فقال : ملازمة العبودية على السنة ، ودوام المراقبة.

وقال أبو عثمان المغربي التونسي : هي الوقوف مع الحدود لا يقصر فيها ولا يتعداها قال الله تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (١).

وقال أبو يزيد البسطامي : عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئا أشد من العلم ومتابعته ، ولو لا اختلاف العلماء لشقيت ، واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد ، ومتابعة العلم هي متابعة السنة لا غيرها.

وروي عنه أنه قال : قم بنا ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية ـ وكان رجل مقصودا مشهورا بالزهد ـ قال الراوي : فمضينا ، فلما خرج من بيته ودخل المسجد رمى ببصاقة تجاه القبلة ، فانصرف أبو زيد ولم يسلم عليه ، وقال : هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه؟

وهذا أصل أصله أبو يزيد رحمه‌الله للقوم : وهو أن الولاية لا تحصل لتارك السنة وإن كان ذلك جهلا منه ، فما ظنك به إذا كان عاملا بالبدعة كفاحا؟

وقال : هممت أن أسأل الله أن يكفيني مئونة الأكل ومئونة النساء ثم قلت : كيف يجوز أن أسأل الله هذا؟ ولم يسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم أسأله؟ ثم إن الله سبحانه كفاني مئونة النساء حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أم حائط.

وقال : لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي ، وحفظ الحدود وآداب الشريعة.

وقال سهل التستري : كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء : طاعة كان أو معصية ، فهو عيش النفس ـ يعني باتباع الهوى ـ وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء فهو عتاب على النفس ـ يعني لأنه لا هوى له فيه ـ واتباع الهوى هو المذموم ، ومقصود القوم تركه البتة.

وقال : أصولنا سبعة أشياء ، التمسك بكتاب الله ، والاقتداء بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأكل

__________________

(١) سورة : الطلاق ، الآية : ١.

٧٣

الحلال ، وكف الأذى ، واجتناب الآثام ، والتوبة ، وأداء الحقوق. وقال : قد أيس الخلق من هذه الخصال الثلاث : ملازمة التوبة ، ومتابعة السنة ، وترك أذى الخلق. وسئل عن الفتوة (١) فقال : اتباع السنة.

وقال أبو سليمان الداراني : ربما تقع في قلبي النكتة (٢) من نكتة القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين : الكتاب والسنة.

وقال أحمد بن أبي الحواري : من عمل عملا بلا اتباع سنة فباطل عمله.

أبو حفص الحداد : من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنّة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال. وسئل عن البدعة فقال : التعدي في الأحكام ، والتهاون في السنن ، واتباع الآراء والأهواء ، وترك الاتباع والاقتداء قال : وما ظهرت حالة عالية إلا من ملازمة أمر صحيح.

وسئل حمدون القصار : متى يجوز للرجل أن يتكلم (٣) على الناس؟ فقال : إذا تعين عليه أداء فرض من فرائض الله في علمه ، أو خاف هلاك إنسان في بدعة يرجو أن ينجيه الله منها.

وقال : من نظر في سير السلف عرف تقصيره ، وتخلفه عن درجات الرجال.

وهذه ـ والله أعلم ـ إشارة إلى المثابرة على الاقتداء بهم فإنهم أهل السنّة.

وقال أبو القاسم الجنيد لرجل ذكر المعرفة وقال : أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله فقال الجنيد : إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الله تعالى وإليه يرجعون فيها. قال : ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة ، إلا إن يحال بي دونها.

وقال : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) الفتوة : مسلك ينمي خلق الشجاعة والنجدة في الفتى.

(٢) النكتة : الفكرة اللطيفة المؤثرة في النفس.

(٣) يعظهم ويعلمهم.

٧٤

وقال : مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنّة.

وقال : من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنّة. وقال : هذا مشيد بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال أبو عثمان الجبري : الصحبة مع الله تعالى بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة ، والصحبة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتباع سنته ، ولزوم ظاهر العلم ، والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة ، وإلى آخر ما قال.

ولما تغير عليه الحال مزق ابنه أبو بكر قميصا على نفسه ، ففتح أبو عثمان عينيه وقال : خلاف السنّة يا بني في الظاهر ، علامة رياء في الباطن.

وقال : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة ، قال الله تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (١).

قال أبو الحسين النووي : من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربنّ منه.

وقال محمد بن الفضل البلخي : ذهاب الإسلام من أربعة : لا يعملون بما يعلمون ، ويعملون بما لا يعلمون ، ولا يتعلمون ما لا يعلمون ، ويمنعون الناس من التعلم. هذا ما قال ، وهو وصف صوفيتنا اليوم ، عياذا بالله.

وقال : أعرفهم بالله أشدهم مجاهدة في أوامره ، وأتبعهم لسنّة نبيه.

وقال شاه الكرماني : من غضّ بصره عن المحارم ، وأمسك نفسه عن الشبهات ، وعمّر باطنه بدوام المراقبة ، وظاهره باتباع السنّة ، وعوّد نفسه أكل الحلال ، لم تخطىء له فراسة.

وقال أبو سعيد الخراز : كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل.

وقال أبو العباس بن عطاء وهو من أقران الجنيد : من ألزم نفسه آداب الله نوّر الله قلبه بنور المعرفة ، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوامره وأفعاله وأخلاقه.

__________________

(١) سورة : النور ، الآية : ٥٤.

٧٥

وقال أيضا : أعظم الغفلة غفلة العبد عن ربه عزوجل وغفلته عن أوامره ، وغفلته عن آداب معاملته.

وقال إبراهيم الخواص : ليس العالم بكثرة الرواية ، وإنما العالم من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم.

وسئل عن العافية فقال : العافية أربعة أشياء : دين بلا بدعة ، وعمل بلا آفة ، وقلب بلا شغل ، ونفس بلا شهوة.

وقال : الصبر ، الثبات على أحكام الكتاب والسنّة.

وقال بنان الحمال ـ وسئل عن أصل أحوال الصوفية ـ فقال : الثقة بالمضمون والقيام بالأوامر ، ومراعاة السر ، والتخلي من الكونين.

وقال أبو حمزة البغدادي : من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ، ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أحواله وأفعاله وأقواله.

وقال أبو إسحاق الرقاشي : علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه اه. ودليله قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (١).

وقال ممشاد الدينوري : آداب المريد في التزام حرمات المشايخ ، وحرمة الإخوان ، والخروج عن الأسباب ، وحفظ آداب الشرع على نفسه.

وسئل أبو علي الروذباري عمن يسمع الملاهي ويقول : هي لي حلال ، لأني قد وصلت إلى درجة لا يؤثّر فيّ اختلاف الأحوال ، فقال : نعم قد وصل ولكن إلى سقر (٢).

وقال أبو محمد عبد الله بن منازل : لم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن ، ولم يبتل بتضييع السنن أحد إلا يوشك أن يبتلي بالبدع.

وقال أبو يعقوب النهرجوري : أفضل الأحوال ما قارن العلم.

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٣١.

(٢) سقر : اسم من أسماء جهنم. قال تعالى : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ* وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ* لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) [سورة : المدثر ، الآيات : ٢٦ ـ ٢٨].

٧٦

وقال أبو عمرو بن نجيد : كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه.

وقال بندار بن الحسين : صحبة أهل البدع تورث الإعراض عن الحق.

وقال أبو بكر الطمستاني : الطريق واضح ، والكتاب والسنّة قائم بين أظهرنا ، وفضل الصحابة معلوم لسبقهم إلى الهجرة ولصحبتهم ، فمن صحب منا الكتاب والسنّة ، وتغرب عن نفسه والخلق ، وهاجر بقلبه إلى الله ، فهو الصادق المصيب.

وقال أبو القاسم النصرآباذي : أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنّة ـ وترك البدع والأهواء ، وتعظيم حرمات المشايخ ، ورؤية أعذار الخلق ، والمداومة على الأوراد ، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات.

وكلامهم في هذا الباب يطول ، وقد نقلنا عن جملة ممن اشتهر منهم ينيف على الأربعين شيخا ، جميعهم يشير أو يصرح بأن الابتداع ضلال ـ والسلوك عليه تيه ، واستعماله رمي في عماية ، وأنه مناف لطلب النجاة ، وصاحبه غير محفوظ ، وموكول إلى نفسه ، ومطرود عن نيل الحكمة ، وأن الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة مجمعون على تعظيم الشريعة ، مقيمون على متابعة السنّة ، غير مخلين بشيء من آدابها ، أبعد الناس عن البدع وأهلها ، ولذلك لا نجد منهم من ينسب إلى فرق من الفرق الضالة ، ولا من يميل إلى خلاف السنة ، وأكثر من ذكر منهم علماء وفقهاء ومحدّثون وممن يؤخذ عنه الدين أصولا وفروعا ومن لم يكن كذلك ، فلا بدّ له من أن يكون فقيها في دينه بمقدار كفايته.

وهم كانوا أهل الحقائق والمواجد والأذواق والأحوال والأسرار التوحيدية ، فهم الحجة لنا على كل ما ينتسب إلى طريقهم ولا يجري على منهاجهم ، بل يأتي ببدع محدثات ، وأهواء متبعات ، وينسبها إليهم ، تأويلا عليهم. من قول محتمل ، أو فعل من قضايا الأحوال ، أو استمساكا بمصلحة شهد الشرع بإلغائها ، أو ما أشبه ذلك. فكثيرا ما ترى المتأخرين ممن يتشبه بهم ، يرتكب من الأعمال ما أجمع الناس على فساده شرعا ، ويحتج بحكايات هي قضايا الأحوال ، إن صحت لم يكن فيها حجة ، لوجوه عدة ، ويترك من كلامهم وأحوالهم ما هو واضح في الحق الصريح ، والاتباع الصحيح ، شأن من اتبع من الأدلة الشرعية ما تشابه بها.

٧٧

ولما كان أهل التصوف في طريقهم بالنسبة إلى إجماعهم على أمر كسائر أهل العلوم في علومهم ، أتيت من كلامهم بما يقوم منه دليل على مدعي السنّة وذم البدعة في طريقتهم حتى يكون دليلا لنا من جهتهم ، على أهل البدع عموما ، وعلى المدعين في طريقهم خصوصا ، وبالله التوفيق.

فصل

الوجه الخامس من النقل : ما جاء منه في ذم الرأي المذموم ، وهو المبني على غير أسّ ، والمستند إلى غير أصل من كتاب ولا سنّة ، لكنه وجه تشريعي فصار نوعا من الابتداع ، بل هو الجنس فيها ، فإن جميع البدع إنما هي رأي على غير أصل ، ولذلك وصف بوصف الضلال ، ففي الصحيح ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله لا ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعا ، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم ، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون» (١).

فإذا كان كذلك ، فذم الرأي عائد على البدع بالذم لا محالة.

وخرّج ابن المبارك وغيره ، عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحل الله ، ويحلون به ما حرم الله» (٢).

قال ابن عبد البر : هذا هو القياس على غير أصل والكلام في الدين بالتخرص (٣) والظن ، ألا ترى إلى قوله في الحديث : «يحلون الحرام ويحرمون الحلال»؟ ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنّة رسوله تحليله ، والحرام ما كان في كتاب الله وسنة رسوله تحريمه ،

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٥٦ ، الحاشية : ٣.

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : شرح السنة (الحديث : ٤٥٩٧). وأخرج نحوه أيضا الإمام أحمد في المسند (الحديث : ١٠٢٤).

(٣) اخترص القول : افتعله ، والخرص : الكذب.

٧٨

فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه بغير علم ، وقاس برأيه ما خرج منه عن السنة ، فهذا الذي قاس برأيه فضلّ وأضلّ ، ومن رد الفروع في علمه إلى أصولها فلم يقل برأيه.

وخرّج ابن المبارك حديثا : إن من أشراط الساعة ثلاثا ، وإحداهن : أن يلتمس العلم عند الأصاغر ، قيل لابن المبارك : من الأصاغر؟ قال : الذين يقولون برأيهم ، فأما صغير يروي عن كبير ، فليس بصغير.

وخرّج ابن وهب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أصبح أهل الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم. قال سحنون : يعني البدع.

وفي رواية : إياكم وأصحاب الرأي ، فإنهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي ، فضلّوا وأضلّوا.

وفي رواية لابن وهب : أن أصحاب الرأي أعداء السنّة ، أعيتهم أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين يسألوا أن يقولوا : لا نعلم ، فعارضوا السنن برأيهم ، فإياكم وإياهم.

قال أبو بكر بن أبي داود : أهل الرأي هم أهل البدع.

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ، ولم تمض به سنة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عزوجل.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه : قراؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم.

وخرّج ابن وهب وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال : السنّة ما سنه الله ورسوله ، لا تجعلوا حظ الرأي سنة للأمة.

وخرّج أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال : لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى أدرك فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم ، فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني إسرائيل.

وعن الشعبي : إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس.

وعن الحسن : إنما هلك من كان قبلكم حين شعبت بهم السبل ، وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار ، وقالوا في الدين برأيهم ، فضلّوا وأضلّوا.

٧٩

وعن دراج بن السهم بن أسمح قال : يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى تعقد شحما ، ثم يسير عليها في الأمصار حتى تعود نقضا ، يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن.

وقد اختلف العلماء في الرأي المقصود بهذه الأخبار والآثار ، فقد قالت طائفة : المراد به رأي أهل البدع المخالفين للسنن ، لكن في الاعتقاد كمذهب جهم وسائر مذاهب أهل الكلام لأنهم استعملوا آراءهم في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل وفي رد ظواهر القرآن لغير سبب يوجب الرد ويقتضي التأويل كما قالوا بنفي الرؤية نفيا للظاهر بالمحتملات ، ونفي عذاب القبر ، ونفي الميزان والصراط ، وكذلك ردوا أحاديث الشفاعة والحوض ـ إلى أشياء يطول ذكرها ـ وهي مذكورة في كتب الكلام.

وقالت طائفة : إنما الرأي المذموم المعيب الرأي المبتدع وما كان مثله من ضروب البدع ، فإن حقائق جميع البدع رجوع إلى الرأي ، وخروج عن الشرع وهذا هو القول الأظهر ، إذ الأدلة المتقدمة لا تقتضي بالقصد الأول من البدع نوعا دون نوع بل ظاهرها تقتضي العموم في كل بدعة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة ، كانت من الأصول أو الفروع ، كما قاله القاضي إسماعيل في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (١) ، بعد ما حكى أنها نزلت في الخوارج ، وكأن القائل بالتخصيص ـ والله أعلم ـ لم يقل به بالقصد الأول ، بل أتى بمثال مما تتضمنه الآية ، كالمثال المذكور فإنه موافق لما كان مشتهرا في ذلك الزمان ، فهو أولى ما يمثل به ويبقى ما عداه مسكوتا عن ذكره عند القائل به ، ولو سئل عن العموم لقال به ، وهكذا كل ما تقدم من الأقوال الخاصة ببعض أهل البدع إنما تحصل على التفسير بحسب الحاجة ، ألا ترى أن الآية الأولى من سورة آل عمران إنما نزلت في قصة نصارى نجران؟ ثم نزّلت على الخوارج حسبما تقدم ـ إلى غير ذلك مما يذكر في التفسير ـ إنما يحملونه على ما يشمله الموضع بحسب الحاجة الحاضرة لا بحسب ما يقتضيه اللفظ لغة. وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال المفسرين المتقدمين ، وهو الأولى لمناصبهم في العلم ، ومراتبهم في فهم الكتاب والسنّة. ولهذا المعنى تقرير في غير هذا الموضع.

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.

٨٠