الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) (١) ، على قول طائفة من المفسرين : أن الكثير من الأمر واقع في التكاليف الإسلامية ، ومعنى لعنتم لحرجتم ، ولدخلت عليكم المشقة ، ودين الله لا حرج فيه (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) (٢) بالتسهيل والتيسير (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٣) الآية.

وإنما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحنيفية السمحة ، ووضع الإصر والأغلال التي كانت على غيرهم ، وقال الله تعالى في صفة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٤) ، وقال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٥) ، وقال : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٦) ، وسمى الله تعالى الأخذ بالتشديد على النفس اعتداء فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) (٧). ومن الأحاديث كثير ، كمسألة الوصال ، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : نهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوصال رحمة لهم قالوا : إنك تواصل ، قال : «إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (٨).

وعن أنس رضي الله عنه قال : واصل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخر شهر رمضان ، فواصل ناس من المسلمين ، فبلغه ذلك فقال : «لو مدّ لنا شهر لواصلنا وصالا حتى يدع المتعمقون تعمقهم» (٩) وهذا إنكار.

__________________

(١) سورة : الحجرات ، الآية : ٧.

(٢) سورة : الحجرات ، الآية : ٧.

(٣) سورة : الحجرات ، الآية : ٧.

(٤) سورة : التوبة ، الآية : ١٢٨.

(٥) سورة : البقرة ، الآية : ١٨٥.

(٦) سورة : النساء ، الآية : ٢٨.

(٧) سورة : المائدة ، الآية : ٨٧.

(٨) أخرجه البخاري في كتاب : الصوم ، باب : الوصال ، وباب : الوصال إلى السحر (الحديث : ٤ / ١٧٧). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصوم ، باب : في الوصال (الحديث : ٢٣٦١).

(٩) أخرجه البخاري في كتاب : الصوم ، باب : الوصال ، وأخرجه في كتاب : التمني ، باب : ما يجوز من اللّو (الحديث : ٤ / ١٧٦). وأخرجه مسلم في كتاب : الصيام ، باب : النهي عن الوصال في الصوم (الحديث : ١١٠٤). وأخرجه الترمذي في كتاب : الصوم ، باب : ما جاء في ذكر كراهية الوصال للصائم (الحديث : ٧٧٨).

٢٤١

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوصال ، فقال رجل من المسلمين : فإنك يا رسول الله تواصل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأيكم مثلي؟ إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١) فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال بهم يوما ، ثم يوما ، ثم رأوا الهلال ، فقال : «لو تأخر الشهر لزدتكم» كالمنكل ، حين أبوا أن ينتهوا.

ومن ذلك مسألة قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم في رمضان ، فإنه تركه مخافة أن يفرض عليهم فيعجزوا عنه فيقعوا في الإثم والحرج ، فكان ذلك رفقا منه بهم.

قال القاضي أبو الطيب : يحتمل أن يكون الله تعالى أوحى إليه أنه إن واصل وفقا هذه الصلاة معهم فرضت عليهم.

وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : إن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.

وقد قيل هذا المعنى في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تخصّوا يوم الجمعة بصيام» (٢).

قال المهلب : وجهه خشيت أن يستمر عليه فيفرض.

وبهذا المعنى يجتمع النهي مع قول مالك رضي الله عنه في الموطأ ، ولا يكون به إشكال.

ومن ذلك حديث الحولاء بنت تويت : قالت عائشة رضي الله عنها : دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعندي امرأة ، فقال : «من هذه؟» فقلت : امرأة لا تنام تصلي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تنام الليل! خذوا من العمل ما تطيقون ، فو الله لا يسأم الله حتى تسأموا» (٣).

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الصوم ، باب : الوصال (الحديث : ٤ / ١٧٧). وأخرجه مسلم في كتاب : الصيام ، باب : النهي عن الوصال في الصوم (الحديث : ١١٠٥).

(٢) أخرجه مسلم في كتاب : الصوم ، باب : كراهية صيام يوم الجمعة منفردا (الحديث : ١١٤٤). وأخرجه البخاري في كتاب : الصوم ، باب : صوم يوم الجمعة وإذا أصبح صائما يوم الجمعة فليفطر (الحديث : ٤ / ٢٠٣). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصوم ، باب : النهي أن يخص يوم الجمعة بصوم (الحديث : ٢٤٢٠). وأخرجه الترمذي في كتاب : الصوم ، باب : ما جاء في كراهية صوم يوم الجمعة وحده (الحديث : ٧٤٣).

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : التهجد ، باب : ما يكره من التشديد في العبادة (الحديث : ٣ / ٢٧٩). ـ

٢٤٢

فأعاد لفظ (لا تنام) منكرا عليها ـ والله أعلم ـ غير راض فعلها ، لما خافه عليها من الكلل والسآمة أو تعطيل حق أوكد. ونحوه حديث أنس رضي الله عنه قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد ـ وحبل ممدود بين ساريتين ـ فقال : «ما هذا؟» قالوا : حبل لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به. فقال : «حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد» (١) وفي رواية : «لا ، حلوه».

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أني أصوم أسرد وأصلي الليل ، فإما أرسل إليّ وإما لقيته ، فقال : «ألم أخبر أنك تصوم لا تفطر وتصلي الليل؟ فلا تفعل ، فإن لعينك حظّا ، ولنفسك حظّا ، ولأهلك حظّا ، فصم وافطر وصلّ ونم» (٢) الحديث.

وفي رواية عن ابن سلمة قال : حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال : كنت أصوم الدهر ، وأقرأ القرآن كل ليلة ، فإما ذكرت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإما أرسل إليّ فأتيته فقال : «ألم أخبر أنك تصوم الدهر ، وتقرأ القرآن كل ليلة؟» فقلت : بلى يا رسول الله ، ولم أر في ذلك إلا الخير ، قال : «فإن كان كذلك ـ أو قال كذلك ـ فحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام» فقلت : يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : «فإن لزوجك عليك حقّا ، ولزوارك عليك حقّا ، ولجسدك عليك حقّا» قال : «فصم صوم داود نبي الله ، فإنه كان أعبد الناس» قال : فقلت : يا نبي الله ، وما صوم داود؟ قال : «كان يصوم يوما ويفطر يوما ، قال : واقرأ القرآن في كل شهر» قال : فقلت : يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : «فاقرأه في كل سبع ، ولا تزد على ذلك ، فإن لزوجك عليك حقّا ، ولزوارك عليك حقّا ، ولجسدك عليك

__________________

ـ وأخرجه مسلم في كتاب : صلاة المسافرين ، باب : أمر من نعس في صلاته (الحديث : ٧٨٥). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : صلاة الليل ، باب : ما جاء في صلاة الليل (الحديث : ١ / ١١٨).

(١) أخرجه البخاري في كتاب : التهجد ، باب : ما يكره من التشديد في العبادة (الحديث : ٣ / ٢٧٨). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : النعاس في الصلاة (الحديث : ١٣١٢). وأخرجه النسائي في كتاب : قيام الليل ، باب : الاختلاف على عائشة في إحياء الليل (الأحاديث : ٣ / ٢١٨ ، ٢١٩).

(٢) أخرجه أحمد في المسند (٢ / ١٩٩).

٢٤٣

حقّا» قال : فشددت فشدد الله عليّ. قال : وقال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر» قال : فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي رواية قال : «صم يوما وأفطر يوما ، وذاك صيام داود ، وهو أعدل الصيام» ، قال : فقلت : إني أطيق أفضل من ذلك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أفضل من ذلك» (١) قال عبد الله بن عمرو : لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحب إليّ من أهلي ومالي.

وفي الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال : ذكر رجل عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعبادة واجتهاد ، وذكر عنده آخر بدعة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يعدل بالدعة» (٢) والدعة المراد بها هنا الرفق والتيسير. قال فيه الترمذي : حسن غريب.

وعن أنس رضي الله عنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال الآخر : إني أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الآخر : إني أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (٣).

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وهي بجملتها تدل على الأخذ في التسهيل والتيسير

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الصوم ، باب : صوم الدهر ، وأخرجه في باب : حق الضيف في الصوم (الحديث : ٥ / ١٢٣). وأخرجه مسلم في كتاب : الصيام ، باب : النهي عن صوم الدهر (الحديث : ١١٥٩). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصوم ، باب : في صوم الدهر (الحديث : ٢٤٢٥). وأخرجه النسائي في كتاب : الصيام ، باب : صوم يوم وإفطار يوم وذكر الزيادة في الصيام والنقصان وصوم عشرة أيام من الشهر (الأحاديث : ٤ / ٢٠٩ ، ٢١٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : الصوم ، باب : ما جاء في سرد الصوم (الحديث : ٧٧٠).

(٢) أخرجه الترمذي في كتاب : صفة القيامة ، باب : ٦١ (الحديث : ٢٥٢١).

(٣) تقدم تخريجه ص : ٢٩ ، الحاشية : ٢.

٢٤٤

وإنما يتصور ذلك على الوجه الأول من عدم الالتزام ، وإن تصور مع الالتزام فعلى جهة ما لا يشق الدوام فيه حسبما نفسره الآن.

فصل

فأما إن التزم أحد ذلك التزاما فعلى وجهين : إما على جهة النذر ، وذلك مكروه ابتداء ، ألا ترى إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما ينهانا عن النذر ، يقول : «إنه لا يرد شيئا ، وإنما يستخرج به من الشحيح ـ وفي رواية ـ النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره ، وإنما يستخرج به من البخيل» (١).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا ، وإنما يستخرج به من البخيل».

وإنما ورد هذا الحديث ـ والله أعلم ـ تنبيها على عادة العرب في أنها كانت تنذر ، إن شفى الله مريضي فعليّ صوم كذا ، وإن قدم غائبي ، أو إن أغناني الله فعليّ صدقة كذا ، فيقول : لا يغني من قدر الله شيئا ، بل من قدر الله له الصحة ، أو المرض ، أو الغنى ، أو الفقر ، أو غير ذلك ، فالنذر لم يوضع سببا لذلك ، كما وضعت صلة الرحم سببا في الزيادة في العمر مثلا على الوجه الذي ذكره العلماء ، بل النذر وعدمه في ذلك سواء ، ولكن الله يستخرج به من البخيل بشرعية الوفاء به لقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) (٢) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (٣) وبه قال جماعة من العلماء ، كمالك والشافعي.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : القدر ، باب : إلقاء العبد النذر إلى القدر ، وأخرجه في كتاب : الإيمان ، باب : الوفاء بالنذر (الحديث : ١١ / ٤٣٧). وأخرجه مسلم في كتاب : النذور ، باب : النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئا (الحديث : ١٦٣٩). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : النهي عن النذر (الحديث : ٣٢٨٧). وأخرجه النسائي في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : النهي عن النذر ، وباب : النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره (الأحاديث : ٧ / ١٥ ، ١٦).

(٢) سورة : النحل ، الآية : ٩١.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : النذر فيما لا يملك وفي معصية (الحديث : ١١ / ٥٠٨). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : ما جاء في النذر ـ

٢٤٥

ووجه النهي أنه من باب التشديد على النفس ، وهو الذي تقدم الاستشهاد على كراهيته ، وأما على جهة الالتزام غير النذري ، فكأنه نوع من الوعد ، والوفاء بالعهد مطلوب ، فكأنه أوجب على نفسه ما لم يوجبه عليه الشرع ، فهو تشديد أيضا ، وعليه يأتي ما تقدم من حديث الثلاثة الذين أتوا يسألون عن عبادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقولهم : أين نحن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ الخ ، وقال أحدهم : أما أنا فأفعل كذا الخ.

ونحوه وقع في بعض الروايات أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول : لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت. وليس بمعنى النذر إذ لو كان كذلك لم يقل له : صم من الشهر ثلاثة أيام ، صم كذا ولقال له : أوف بنذرك ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (١).

فأما الالتزام بالمعنى النذري فلا بد من الوفاء به وجوبا لا ندبا ـ على ما قاله العلماء ـ وجاء في الكتاب والسنة ما يدل عليه ، وهو مذكور في كتب الفقه ، فلا نطيل به.

وأما بالمعنى الثاني فالأدلة تقتضي الوفاء به في الجملة ، ولكن لا تبلغ مبلغ العتاب على الترك ، حسبما دلت عليه الأدلة في مأخذ أبي أمامة رضي الله عنه للقيام في المسجد جماعة كان ذلك بصورة النوافل الراتبة المقتضية للدوام في القصد الأول ، فأمرهم بالدوام حتى لا يكونوا كمن عاهد ثم لم يوف بعهده فيصير معاتبا ، لكن هذا القسم على وجهين :

الوجه الأول : أن يكون في نفسه مما لا يطاق ، أو مما فيه حرج أو مشقة فادحة أو يؤدي إلى تضييع ما هو أولى ، فهذه هي الرهبانية التي قال فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رغب عن سنتي فليس مني» (٢) وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله.

__________________

ـ في المعصية (الحديث : ٣٢٨٩). وأخرجه الترمذي في كتاب : النذور ، باب : من نذر أن يطيع الله فليطعه (الحديث : ١٥٢٦). وأخرجه النسائي في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : النذر في المعصية (الحديث : ٧ / ١٧).

(١) تقدم تخريجه ص ٢٤٥ ، الحاشية : ٣.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٢٩ ، الحاشية : ٢.

٢٤٦

والوجه الثاني : أن لا يكون في الدخول فيه مشقة ولا حرج ، ولكنه عند الدوام عليه تلحق بسببه المشقة والحرج ، أو تضييع ما هو أوكد ، فههنا أيضا يقع النهي ابتداء ، وعليه دلت الأدلة المتقدمة ، وجاء في بعض روايات مسلم تفسير ذلك حيث قال : فشددت فشدّد عليّ ، وقال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر» (١).

فتأملوا كيف اعتبر في التزام ما لا يلزم ابتداء ، أن يكون بحيث لا يشق الدوام عليه إلى الموت! قال : فصرت إلى الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما كبرت وددت أنني قبلت رخصة نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعلى ذلك المعنى ينبغي أن يحمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبي قتادة رضي الله عنه كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوما؟ قال : «ويطيق أحد ذلك؟» ثم قال في صوم يوم وإفطار يوم : وددت أني طوقت ذلك ، فمعناه ـ والله أعلم ـ وددت أني طوقت الدوام عليه ، وإلا فقد كان يواصل الصيام ويقول : «إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (٢).

وفي الصحيح : «كان يصوم حتى نقول : لا يفطر ، ويفطر حتى نقول : لا يصوم» (٣).

فصل

إذا ثبت هذا ، فالدخول في عمل على نية الالتزام له إن كان في المعتاد بحيث إذا

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٢٤٤ ، الحاشية : ١.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب : الصيام ، باب : استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر (الحديث : ١١٦٢). وأخرجه النسائي في كتاب : الصوم ، باب : ذكر الاختلاف على غيلان بن جرير فيه ، وأخرجه في باب : صوم ثلثي الدهر (الحديث : ٤ / ٢٠٧). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصوم ، باب : في صوم الدهر تطوعا (الأحاديث : ٢٤٢٥ ، ٢٤٢٦).

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : الصوم ، باب : الوصال (الحديث : ٤ / ١٧٧). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصوم ، باب : في الوصل (الحديث : ٢٣٦١).

٢٤٧

داوم عليه أورث مللا ، ينبغي أن يعتقد أن هذا الالتزام مكروه ابتداء ، إذ هو مؤدّ إلى أمور جميعها منهيّ عنه :

أحدها : أن الله ورسوله أهدى في هذا الدين التسهيل والتيسير ، وهذا الملتزم يشبه من لم يقبل هديته ، وذلك يضاهي ردها على مهديها ، وهو غير لائق بالمملوك مع سيده ، فكيف يليق بالعبد مع ربه؟

والثاني : خوف التقصير أو العجز عن القيام بما هو أولى وآكد في الشرع ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إخبارا عن داود عليه‌السلام : «إنه كان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفر إذا لاقى» (١) تنبيها على أنه لم يضعفه الصيام عن لقاء العدو فيفر ويترك الجهاد في مواطن تكيده بسبب ضعفه.

وقيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إنك لتقل الصوم ، فقال : إنه يشغلني عن قراءة القرآن ، وقراءة القرآن أحب إليّ منه.

ولذلك كره مالك إحياء الليل كله ، وقال : لعله يصبح مغلوبا ، وفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسوة ، ثم قال : لا بأس به ما لم يضر بصلاة الصبح.

وقد جاء في صيام يوم عرفة أنه يكفر سنتين ، ثم إن الإفطار فيه للحاج أفضل ، لأنه قوة على الوقوف والدعاء ، ولابن وهب في ذلك حكاية ، وقد جاء في الحديث : «إن لأهلك عليك حقّا ، ولزوارك عليك حقّا ، ولنفسك عليك حقّا» (٢) فإذا انقطع إلى عبادة لا تلزمه الأصل فربما أخلّ بشيء من هذه الحقوق.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الصوم ، باب : ما يذكر من صوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الحديث : ٤ / ١٨٨). وأخرجه مسلم في كتاب : الصيام ، باب : صيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير رمضان (الحديث : ١١٥٧). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصوم ، باب : في صوم المحرم (الحديث : ٢٤٣٠).

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : الصوم ، باب : حق الجسم في الصوم (الحديث : ٥ / ١٢٣). وأخرجه مسلم في كتاب : الصيام ، باب : النهي عن صوم الدهر (الحديث : ١١٥٩). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصيام ، باب : في صوم الدهر (الحديث : ٢٤٢٥). وأخرجه النسائي في كتاب : الصيام ، باب : صوم يوم وإفطار يوم وذكر الزيادة في الصيام والنقصان وصوم عشرة أيام من الشهر (الأحاديث : ٤ / ٢٠٩ ، ٢١٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : الصوم ، باب : ما جاء في سرد الصوم (الحديث : ٧٧٠).

٢٤٨

وعن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه ، قال : آخر ما آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين سلمان وأبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء مبتذلة ، فقال : ما شأنك مبتذلة؟ قالت : إن أخاك أبا الدرداء ليست له حاجة في الدنيا ، قال : فلما جاء أبو الدرداء قرب إليه طعاما ، فقال : كل فإني صائم ، قال : ما أنا بآكل حتى تأكل ، قال : فأكل ، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم ، فقال له سلمان : نم ، فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال له : نم فنام ، فلما كان عند الصبح قال له سلمان : قم الآن ، فقاما فصليا ، فقال سلمان : إن لنفسك عليك حقّا ، ولربك عليك حقّا ، ولضيفك عليك حقّا ، ولأهلك عليك حقّا ، فأعط لكل ذي حق حقه ، فأتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرا ذلك له ، فقال : «صدق سلمان» (١). قال الترمذي : صحيح. وهذا الحديث قد جمع التنبيه على حق الأهل بالوطء والاستمتاع ، وما يرجع إليه ، والضيف بالخدمة والتأنيس والمؤاكلة وغيرها ، والولد بالقيام عليهم بالاكتساب والخدمة ، والنفس بترك إدخال المشقات عليها ، وحق الرب سبحانه بجميع ما تقدم ، وبوظائف أخر ، فرائض ونوافل آكد مما هو فيه.

والواجب أن يعطى كل ذي حق حقه ، وإذا التزم الإنسان أمرا من الأمور المندوبة ، أو أمرين أو ثلاثة ، فقد يصده ذلك عن القيام بغيرها ، أو عن كماله على وجهه ، فيكون ملوما.

والثالث : خوف كراهية النفس لذلك العمل الملتزم ، لأنه قد فرض من جنس ما يشق الدوام عليه ، فتدخل المشقة بحيث لا يقرب من وقت العمل إلا والنفس تشمئز منه ، وتود لو لم تعمل ، أو تتمنى لو لم تلتزم ، وإلى هذا المعنى يشير حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن هذا الذين متين فأوغلوا فيه برفق ، ولا تبغضوا لأنفسكم عبادة الله ، فإن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» (٢) يشبه الموغل بالعنف بالمنبت ، وهو المنقطع في

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الأدب ، باب : صنع الطعام والتكلف للضيف (الحديث : ١٣ / ١٥١). وأخرجه في كتاب : الصوم ، باب : من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع (الأحاديث : ٥ / ١١٢ ، ١١٤). وأخرجه الترمذي في كتاب : الزهد ، باب : أعط كل ذي حق حقه (الحديث : ٢٤١٥).

(٢) أخرج نحوه البخاري في كتاب : المرضى ، باب : تمني المريض الموت (الحديث : ١٠ / ١٠٩) ، وفي كتاب : الرقاق ، باب : القصد والمداومة على العمل (الأحاديث : ١١ / ٢٥٢ ، ٢٥٤). ـ

٢٤٩

بعض الطريق تعنيفا على الظهر ـ وهو المركوب ـ حتى وقف فلم يقدر على السير ، ولو رفق بدابته لوصل إلى رأس المسافة.

فكذلك الإنسان عمره مسافة ، والغاية الموت ، ودابته نفسه ، فكما هو المطلوب الرفق بنفسه ، حتى يسهل عليها قطع مسافة العمر بحمل التكليف فنهى في الحديث التسبب في تبغيض العبادة للنفس ، وما نهى الشرع عنه لا يكون حسنا.

وخرّج الطبري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (١) ، دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا ومعاذا فقال : «انطلقا فبشرا ، ويسّرا ولا تعسرا ، فإني قد أنزلت عليّ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً)».

وخرج مسلم عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه ومعاذا إلى اليمن ، فقال : «بشّرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا» (٢).

وعنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال : «بشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا» (٣) وهذا نهي عن التعسير الذي التزام الحرج في التعبد نوع منه.

وفي الطبري عن جابر بن عبد الله قال : مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رجل يصلي على صخرة بمكة ، فأتى ناحية مكة فمكث مليّا ، ثم انصرف فوجد الرجل يصلي على حاله ، فقال : «أيها

__________________

ـ وأخرج نحوه مسلم في كتاب : صفات المنافقين ، باب : لن يدخل أحد الجنة بعمله (الحديث : ٢٨١٦). وأخرج نحوه النسائي في كتاب : الإيمان ، باب : الدين يسر (الأحاديث : ٨ / ١٢١ ، ١٢٢).

(١) سورة : الأحزاب ، الآيات : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب : المغازي ، باب : بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن (الأحاديث : ٨ / ٤٩ ، ٥٠). وأخرجه مسلم في كتاب : الجهاد ، باب : الأمر بالتيسير وترك التنفير ، وفي كتاب : الأشربة ، باب : بيان أن كل مسكر خمر (الحديث : ١٧٣٣). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأشربة ، باب : النهي عن المسكر (الحديث : ٣٦٨٤). وأخرجه النسائي في كتاب : الأشربة ، باب : تحريم كل شراب أسكر (الأحاديث : ٨ / ٢٩٨ ، ٣٠٠).

(٣) أخرجه مسلم في كتاب : الجهاد ، باب : في الأمر بالتيسير وترك التنفير (الحديث : ١٧٧٢).

٢٥٠

الناس عليكم بالقصد والقسط ـ ثلاثا ـ فإن الله لن يمل حتى تملوا» (١).

وعن بريدة الأسلمي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يصلي ، فقال : «من هذا؟» فقلت : هذا فلان ، فذكرت من عبادته وصلاته ، فقال : «إن خير دينكم يسره».

وهذا يشعر بعدم الرضا بتلك الحالة ، وإنما ذلك مخافة الكراهية للعمل ، وكراهية العمل مظنة للترك الذي هو مكروه لمن ألزم نفسه لأجل نقض العهد.

وهو الوجه الرابع : وقد مر في الوجه الثالث ما يدل عليه ، فإن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن المنبت لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى» (٢) مع قوله : «ولا تبغضوا إلى أنفسكم العبادة» يدل على أن بغض العمل وكراهيته مظنة الانقطاع ، ولذلك مثّل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمنبت ـ وهو المنقطع عن استيفاء المسافة ـ وهو الذي دل عليه قول الله تعالى : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) (٣) على التفسير المذكور.

والخامس : الخوف من الدخول تحت الغلوّ في الدين ، فإن الغلوّ هو المبالغة في الأمر ، ومجاوزة الحد فيه إلى حيّز الإسراف ، وقد دلّ عليه مما تقدم أشياء ، حيث قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أيها الناس عليكم أنفسكم بالقصد» الحديث ، وقال الله عزوجل : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (٤).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غداة العقبة : «اجمع لي

__________________

(١) أخرج نحوه البخاري في كتاب : الإيمان ، باب : أحب الدين إلى الله أدومه (الأحاديث : ١ / ١٠٩ ، ١١٠) ، وأخرجه في كتاب : الرقاق ، باب : القصد والمداومة على العمل (الأحاديث : ١٤ / ٧٨ ، ٧٩). وأخرج نحوه مسلم في كتاب : صلاة المسافرين وقصرها ، باب : فضيلة العمل الدائم من قيام الليل (الحديث : ٧٨٢). وأخرج نحوه مالك في الموطأ في كتاب : صلاة الليل ، باب : ما جاء في صلاة الليل (الحديث : ١ / ١١٨). وأخرج نحوه أبو داود في كتاب : صلاة الليل ، باب : ما يؤمر به من القصد في الصلاة (الحديث : ١ / ٣١٥). وأخرج نحوه النسائي في كتاب : صلاة الليل ، باب : الاختلاف على عائشة في إحياء الليل (الحديث : ٣ / ٢١٨).

(٢) تقدم تخريجه ص ٢٤٩ ، الحاشية : ٢.

(٣) سورة : الحديد ، الآية : ٢٧.

(٤) سورة : المائدة ، الآية : ٧٧.

٢٥١

حصيات من حصى الحذف» فلما وضعتهن في يده قال : «فأمثال هؤلاء؟ ما مثل هؤلاء؟ إياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين» (١).

فأشار إلى أن الآية في النهي عن الغلو يشتمل معناها على كل ما هو غلو وإفراط ، وأكثر هذه الأحاديث المقيدة آنفا ، أخرجها الطبري.

وخرّج أيضا عن يحيى بن جعدة ، قال : كان يقال : اعمل وأنت مشفق ، ودع العمل وأنت تحبه ، عمل دائم وإن قل ، خير من عمل كثير منقطع (٢). وأتى معاذا رجل فقال : أوصني : قال : أمطيعي أنت؟ قال : نعم ، قال : صل ونم ، وأفطر وصم ، واكتسب ولا تأت الله إلا وأنت مسلم ، وإياك ودعوة المظلوم.

وعن إسحاق بن سويد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعبد الله بن مطرف : «يا عبد الله! العلم أفضل من العمل ، والحسنة بين السيئتين ، وخير الأمور أوسطها ، وشر السير الحقحقة» (٣).

ومعنى قوله : إن الحسنة بين السيئتين : أن الحسنة هي القصد والعدل ، والسيئتين مجاوزة الحد والتقصير ، وهو الذي دل على معناه قول الله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (٤) الآية. وقوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) (٥) الآية. ومعنى الحقحقة أرفع السير ، وإتعاب الظهر ، وهو راجع إلى الغلو والإفراط.

ونحوه عن يزيد بن مرة الجعفي قال : العلم خير من العمل ، والحسنة بين السيئتين.

__________________

(١) أخرجه النسائي في كتاب : الحج ، باب : التقاط الحصى (الحديث : ٥ / ٢٦٨).

(٢) أخرج نحوه البخاري في كتاب : الإيمان ، باب : أحب الدين إلى الله أدومه (الأحاديث : ١ / ١٠٩ ، ١١٠). وأخرج نحوه مسلم في كتاب : صلاة المسافرين وقصرها ، باب : فضيلة العمل الدائم من قيام الليل (الحديث : ٧٨٢).

(٣) أخرجه ابن السمعاني في : (ذيل تاريخ بغداد) بسند مجهول عن علي مرفوعا ، وللديلمي بلا سند عن ابن عباس مرفوعا : «خير الأعمال أوسطها». وقال العجلوني في (كشف الخفاء) : ابن الفرس : ضيف.

(٤) سورة : الإسراء ، الآية : ٢٩.

(٥) سورة : الفرقان ، الآية : ٦٧.

٢٥٢

وعن كعب الأحبار : إن هذا الدين متين فلا تبغض إليك دين الله وأوغل برفق ، فإن المنبت لم يقطع بعدا ولم يستبق ظهرا ، واعمل عمل المرء الذي يرى أنه لا يموت اليوم ، واحذر حذر المرء الذي يرى أنه يموت غدا.

وخرّج ابن وهب نحوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

وهذه إشارة إلى الأخذ بالعمل الذي يقتضي المداومة عليه من غير حرج.

وعن عمر بن إسحاق ، قال أدركت من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر ممن سبقني منهم؟ فما رأيت قوما أيسر سيرة ولا أقل تشديدا منهم.

وقال الحسن : دين الله وضع فوق التقصير ودون الغلو.

والأدلة في هذا المعنى جميعها راجع إلى أنه لا حرج في الدين ، والحرج كما ينطبق على الحرج الحالي ـ كالشروع في عبادة شاقة في نفسها ـ كذلك ينطلق على الحرج المآلي إذ كان الحرج لازما مع الدوام ، كقصة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وغيرها ـ مما تقدم ـ مع أن الدوام مطلوب حسبما اقتضاه قول أبي أمامة رضي الله عنه في قوله تعالى : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحب العمل إلى الله ما دوام عليه صاحبه وإن قلّ» (٢) فلذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا عمل عملا أثبته ، حتى قضى ركعتين ما بين الظهر والعصر بعد العصر.

هذا إن كان العامل لا ينوي الدوام فيه ، فكيف إذا عقد في نيته أن لا يتركه؟ فهو أحرى بطلب الدوام ، فلذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن عمرو : «يا عبد الله! لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل» (٣) وهو حديث صحيح ، فنهاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن

__________________

(١) سورة : الحديد ، الآية : ٢٧.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٢٥١ ، الحاشية : ١.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب : التهجد ، باب : ما يكره من ترك قيام الليل ، وباب : من نام عند السحر (الحديث : ٣ / ٣٣١). وأخرجه مسلم في كتاب : الصيام ، باب : النهي عن صوم الدهر (الحديث : ١١٥٩). وأخرجه النسائي في كتاب : قيام الليل ، باب : ذم من ترك قيام الليل (الحديث : ٣ / ٢٥٣).

٢٥٣

يكون مثل فلان وهو ظاهر في كراهية الترك من ذلك الفلان وغيره.

فالحاصل أن هذا القسم الذي هو مظنة للمشقة عند الدوام ، مطلوب الترك لعلة كثرته ففهم عند تقريره أنها إذا فقدت زال طلب الترك وإذا ارتفع طلب الترك رجع إلى أصل العمل ـ وهو طلب الفعل ـ.

فالداخل فيه على التزام شرطه داخل في مكروه ابتداء من وجه ، لإمكان عدم الوفاء بالشرط ، وفي المندوب إليه حملا على ظاهر العزيمة على الوفاء.

فمن حيث الندب أمره الشارع بالوفاء ، ومن حيث الكراهية كره له أن يدخل فيه.

وحين صارت الكراهة هي المقدمة كان دخوله في العمل لقصد القربة يشبه الدخول فيه بغير أمر ، فأشبه المبتدع الداخل في عبادة غير مأمور بها ، فقد يستسهل بهذا الاعتبار إطلاق البدعة عليها كما استسهله أبو أمامة رضي الله عنه.

ومن حيث كان العمل مأمورا به ابتداء قبل النظر في المال ، أو مع قطع النظر عن المشقة ، أو مع اعتقاد الوفاء بالشرط ، أشبه صاحبه من دخل في نافلة قصدا للتعبد بها ، وذلك صحيح جار على مقتضى أدلة الندب ، ولذلك أمر بعد الدخول فيه بالوفاء ، كان نذرا أو التزاما بالقلب غير نذر ، ولو كان بدعة ، داخلة في حد البدعة لم يؤمر بالوفاء ، ولكان عمله باطلا.

ولذلك جاء في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا قائما في الشمس ، فقال : «ما بال هذا؟» فقالوا : نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مروه فليجلس وليتكلم وليستظل ، وليتم صيامه» (١).

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : النذر فيما لا يملك وفي معصية (الحديث : ١١ / ٥١٢). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : ما لا يجوز من النذور في معصية الله (الحديث : ٢ / ٤٧٥). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : ما جاء في النذر في المعصية (الحديث : ٣٣٠٠).

٢٥٤

فأنت ترى كيف أبطل عليه التبدع بما ليس بمشروع ، وأمره بالوفاء بما هو مشروع في الأصل ، فلولا الفرق بينهما معنى لم يكن للتفرقة بينهما معنى مفهوم. وأيضا فإذا كان الداخل مأمورا بالدوام لزم من ذلك أن يكون الدخول طاعة بل لا بدّ ، لأن المباح فضلا عن المكروه والمحرم لا يؤمر بالدوام ، عليه ، ولا نظير لذلك في الشريعة ، وعليه أيد قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نذر أن يطيع الله فليطعه» (١) ولأن الله مدح من أوفى بنذره في قوله سبحانه : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) (٢) في معرج المدح وترتب الجزاء الحسن وفي آية الحديد : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) (٣) ، ولا يكون الأجر إلا على مطلوب شرعا.

فتأملوا هذا المعنى فهو الذي يجري عليه عمل السلف الصالح رضي الله عنهم بمقتضى الأدلة ، وبه يرتفع إشكال التعارض الظاهر لبادي الرأي ، حتى تنتظم الآيات والأحاديث وسير من تقدم ، والحمد لله ، غير أنه يبقى بعدها إشكالان قويان ، وبالنظر في الجواب عنهما ينتظم معنى المسألة على تمامه ، فنعقد في كل إشكال فصلا.

فصل

الإشكال الأول : إن ما تقدم من الأدلة على كراهية الالتزامات التي يشق دوامها معارض بما دلّ على خلافه ، فقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوم حتى تورمت قدماه ، فيقال له أو ليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول : «أفلا أكون عبدا شكورا؟» (٤) ويظل

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٢٤٥ ، الحاشية : ٣.

(٢) سورة : الإنسان ، الآية : ٧.

(٣) سورة : الحديد ، الآية : ٢٧.

(٤) أخرجه البخاري في كتاب : التهجد ، باب : قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الليل ، وفي كتاب : الرقاق ، باب : الصبر عن محارم الله (الحديث : ٣ / ١٢). وأخرجه مسلم في كتاب : صفات المنافقين ، باب : إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (الحديث : ٢٨١٩). وأخرجه الترمذي في كتاب : الصلاة ، باب : ما جاء في الاجتهاد في الصلاة (الحديث : ٤١٢). وأخرجه النسائي في كتاب : قيام الليل ، ـ

٢٥٥

اليوم الطويل في الحر الشديد صائما ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يواصل الصيام ويبيت عند ربه يطعمه ويسقيه ونحو ذلك من اجتهاده في عبادة ربه ، وفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسوة حسنة ، ونحن مأمورون بالتأسّي به.

فإن أبيتم هذا الدليل بسبب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مخصوصا بهذه القضية ، ولذلك كان ربه يطعمه ويسقيه ، وكان يطيق من العمل ما لا تطيقه أمته. فما قولكم فيما ثبت من ذلك عن الصحابة والتابعين ، وأئمة المسلمين العارفين بتلك الأدلة التي استدللتم بها على الكراهية؟ حتى إن بعضهم قعد من رجليه من كثرة التبتل ، وصارت جبهة بعضهم كركبة البعير من كثرة السجود.

وجاء عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله ، وكم من رجل صلى الصبح بوضوء العشاء ، كذا كذا سنة؟! وسرد الصيام كذا وكذا سنة؟! وكانوا هم العارفين بالسنّة لا يميلون عنها لحظة.

وروي عن ابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهما كانا يواصلان الصيام.

وأجاز مالك ـ وهو إمام في الاقتداء ـ صيام الدهر ، يعني : إذا أفطر أيام العيد.

ومما يحكى عن أويس القرني رضي الله عنه أنه كان يقوم ليلة حتى يصبح ، ويقول : بلغني أن لله عبادا ركوعا أبدا وعبادا قياما أبدا ، يريد أن يتنفل بالصلاة ، فتارة يطول فيها القيام ، وتارة الركوع ، وتارة السجود.

وعن الأسود بن يزيد أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يخضر جسده ويصفر ، فكان علقمة يقول له : ويحك لم تعذب هذا الجسد؟ فيقول : إن الأمر جد ، إن الأمر جد.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن امرأة مسروق قالت : كان يصلي حتى تورمت قدماه ، فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه.

وعن الشعبيني قال : غشي على مسروق في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.

__________________

ـ باب : الاختلاف على عائشة في إحياء الليل (الحديث : ٣ / ٢١٩).

٢٥٦

وعن الربيع بن خيثم أنه قال : أتيت أويسا القرني فوجدته قد صلى الصبح وقعد فقلت : لا أشغله عن التسبيح ، فلما كان وقت الصلاة قام فصلى إلى الظهر ، فلما صلى الظهر صلى إلى العصر ، فلما صلى العصر قعد يذكر الله إلى المغرب ، فلما صلى المغرب صلى إلى العشاء ، فلما صلى العشاء صلى إلى الصبح ، فلما صلى الصبح جلس فأخذته عينه ، ثم انتبه فسمعته يقول : اللهم إني أعوذ بك من عين نوامة ، وبطن لا تشبع.

والآثار في هذا المعنى كثيرة عن الأولين ، وهي تدل على الأخذ بما هو شاق في الدوام ولم يعدهم أحد بذلك مخالفين للسنة ، بل عدوهم من السابقين ، جعلنا الله منهم.

وأيضا فإن النهي ليس عن العبادة المطلوبة ، بل هو عن الغلو فيها ، غلوا يدخل المشقة على العامل ، فإذا فرضنا من فقدت في حقه تلك العلة ، فلا ينتهض النهي في حقه ، كما إذا قال الشارع : «لا يقضي القاضي وهو غضبان» (١) ـ وكانت علة النهي تشويش الفكر عن استيفاء الحجج ـ اطرد النهي مع كل مشوش ، وانتفى عند انتفائه ، حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الحجج ، وهذا صحيح جار على الأصول.

وحال من فقدت في حقه العلة حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة فإن الخوف سوط سائق ، والرجاء حاد قائد ، والمحبة سيل حامل ، فالخائف إن وجد المشقة ، فالخوف مما هو أشق ، يحمله على الصبر على ما هو أهون ، وإن كان العمل شاقّا ، والراجي يعمل وإن وجد المشقة ، لأن رجاء الراحة التامة يحمله على الصبر على بعض التعب ، والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب ؛ فيسهل عليه الصعب ، ويقرب عليه البعيد ، وهو القوي ، (كذا) ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ، ولا قام بشكر النعمة ، ويعمر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الأحكام ، باب : هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان (الأحاديث : ١٣ / ١٢٠ ، ١٢١). وأخرجه مسلم في كتاب : الأقضية ، باب : كراهية قضاء القاضي وهو غضبان (الحديث : ١٧١٧). وأخرجه الترمذي في كتاب : الأحكام ، باب : لا يقضي القاضي وهو غضبان (الحديث : ١٣٣٤). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأقضية ، باب : القاضي يقضي وهو غضبان (الحديث : ٣٥٨٩). وأخرجه النسائي في كتاب : القضاة ، باب : ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه (الأحاديث : ٨ / ٢٣٧ ، ٢٣٨).

٢٥٧

وإذا كان كذلك صح الجمع بين الأدلة ، وجاز الدخول في العمل التزاما مع الإيغال فيه ، إما مطلقا ، وإما مع ظن انتفاء العلة ، وإن دخلت المشقة فيما بعد ، إذا صح مع العامل الدوام على العمل ، ويكون ذلك جاريا على مقتضى الأدلة وعمل السلف الصالح.

والجواب : أن ما تقدم من أدلة النهي صحيح صريح ، وما نقل عن الأولين يحتمل ثلاثة أوجه.

أحدها : أن يحمل أنهم إنما عملوا على التوسط الذي هو مظنة الدوام ، فلم يلزموا أنفسهم بما لعله يدخل عليهم المشقة حتى يتركوا بسببه ما هو أولى ، أو يتركوا العمل ، أو يبغضوه لثقله على أنفسهم ، بل التزموا ما كان على النفوس سهلا في حقهم ، فإنما طلبوا اليسر لا العسر ، وهو الذي كان حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحال من تقدم النقل عنه من المتقدمين ، بناء على أنهم إنما عملوا بمحض السنة والطريقة العامة لجميع المكلفين ، وهذه طريقة الطبري في الجواب ، وما تقدم في السؤال مما يظهر منه خلاف ذلك فقضايا أحوال يمكن حملها على وجه صحيح ، إذا ثبت أن العامل ممن يقتدى به.

والثاني : يحتمل أن يكونوا عملوا على المبالغة فيما استطاعوا ، لكن لا على جهة الالتزام ، لا بنذر ولا غيره وقد يدخل الإنسان في أعمال يشق الدوام عليها ولا يشق في الحال ، فيغتنم نشاطه في حالة خاصة ، غير ناظر فيها فيما يأتي ، ويكون جاريا فيه على أصل رفع الحرج ، حتى إذا لم يستطعه تركه ولا حرج عليه لأن المندوب لا حرج في تركه في الجملة.

ويشعر بهذا المعنى ما في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصوم حتى نقول : لا يفطر ، ويفطر حتى نقول : لا يصوم ، وما رأيته استكمل صيام شهر قط إلا رمضان (١) الحديث.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الصوم ، باب : ما يذكر من صوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الحديث : ٤ / ١٨٨). وأخرجه مسلم في كتاب : الصيام ، باب : صيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير رمضان (الحديث : ١١٥٧). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصوم ، باب : في صوم المحرم (الحديث : ٢٤٣٠).

٢٥٨

فتأملوا وجه اعتبار النشاط والفراغ من الحقوق المتعلقة ، أو القوة فى الأعمال وكذلك قول عبد الله بن عمرو : «في صيام يوم وإفطار يومين» (١) ليتني طوقت ذلك. إنما يريد المداومة ، لأنه قد كان يوالي الصيام حتى يقولوا لا يفطر.

ولا يعترض هذا المأخذ بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قلّ» (٢) وإن كان عمله دائما ، لأنه محمول على العمل الذي يشق فيه الدوام.

وأما ما نقل عنهم أدلة صلاة الصبح بوضوء العشاء وقيام جميع الليل ، وصيام الدهر ونحوه ، فيحتمل أن يكون على الشرط المذكور ، وهو أن لا يلتزم ذلك. وإنما يدخل في العمل ما لا يغتنم نشاطه ، فإذا أتى زمان آخر وجد فيه النشاط أيضا ، وإذا لم يخل بما هو أولى عمل كذلك ، فيتفق أن يدوم له هذا النشاط زمانا طويلا.

وفي كل حالة هو في فسحة الترك ، لكنه ينتهز الفرصة مع الأوقات ، فلا بعد في أن يصحبه النشاط إلى آخر العمر ، فيظنه الظان التزاما وليس بالتزام ، وهذا صحيح ، ولا سيما مع سائق الخوف أو حادي الرجاء أو حامل المحبة ، وهو معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وجعلت قرة عيني في الصلاة» (٣) فلذلك قام صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تورمت قدماه ، وامتثل أمر ربه في قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤) الآية.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : الصوم ، باب : صوم الدهر ، وباب : حق الضيف ، وباب : حق الأهل (الحديث : ٤ / ١٩١). وأخرجه مسلم في كتاب : الصوم ، باب : النهي عن صوم الدهر (الحديث : ١١٥٩). وأخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة ، باب : كم يقرأ القرآن (الحديث : ١٣٨٩). وأخرجه الترمذي في كتاب : الصوم ، باب : في صوم يوم وفطر يوم (الحديث : ٧٧٠). وأخرجه النسائي في كتاب : الصيام ، باب : صوم يوم وإفطار يوم (الأحاديث : ٤ / ٢٠٩ ، ٢١٥).

(٢) تقدم تخريجه ص : ٢٥١ ، الحاشية : ١.

(٣) أخرجه النسائي في كتاب : عشرة النساء ، باب : حب النساء (الحديث : ٧ / ٦١). وأخرجه أحمد في المسند (الأحاديث : ٣ / ١٢٨ ، ١٩٩ ، ٢٨٥).

(٤) سورة : المزمل ، الآية : ٢.

٢٥٩

والثالث : أن دخول المشقة وعدمه على المكلف في الدوام أو غيره ليس أمرا منضبطا بل هو إضافي مختلف بحسب اختلاف الناس في قوة أجسامهم ، أو في قوة عزائمهم ، أو في قوة يقينهم ، أو نحو ذلك من أوصاف أجسامهم أو أنفسهم فقد يختلف العمل الواحد بالنسبة إلى رجلين ، لأن أحدهما أقوى جسما ، أو أقوى عزيمة أو يقينا بالموعود ، والمشقة قد تضعف بالنسبة إلى قوة هذه الأمور وأشباهها ، وتقوى مع ضعفها.

فنحن نقول : كل عمل يشق الدوام على مثله بالنسبة إلى زيد فهو منهي عنه ، ولا يشق على عمرو فلا ينهى عنه ، فنحن نحمل ما داوم عليه الأولون من الأعمال على أنه لم يكن شاقّا عليهم ؛ وإن كان ما هو أقل منه شاقا علينا ، فليس عمل مثلهم بما عملوا به حجة لنا أن ندخل فيما دخلوا فيه ، إلا بشرط أن يمتد مناط المسألة فيما بيننا وبينهم ، وهو أن يكون ذلك العمل لا يشق الدوام على مثله.

وليس كلامنا في هذا لمشاهدة الجميع ، فإن التوسط والأخذ بالرفق هو الأولى والأحرى بالجميع ، وهو الذي دلت عليه الأدلة ، دون الإيغال الذي لا يسهل مثله على جميع الخلق ولا أكثرهم ، إلا على القليل النادر منهم.

والشاهد لصحة هذا المعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١) يريد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يشق عليه الوصال ، ولا يمنعه عن قضاء حق الله وحقوق الخلق ، فعلى هذا : من رزق أنموذجا مما أعطيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار يوغل في العمل مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه فلا حرج.

وأما رده صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عبد الله بن عمرو فيمكن أن يكون شهد بأنه لا يطيق الدوام ، ولذلك وقع له ما كان متوقعا ، حتى قال : ليتني قبلت رخصة نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون عمل ابن الزبير وابن عمرو غيرهما في الوصال جاريا على أنهم أعطوا حظا مما أعطيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا

__________________

(١) تقدم تخريجه ص : ٢٤١ ، الحاشية : ٨.

٢٦٠