الإعتصام - ج ١ و ٢

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي

الإعتصام - ج ١ و ٢

المؤلف:

أبي اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٠٧

فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنتجنبها ، كما نبين الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها ؛ وقد بين ذلك أهل أصول الفقه وبسطوا القول فيه ، ولم يبسطوا القول في طريق الزائغين ، فهل يمكن حصر مآخذها أو لا؟ فنظرنا في آية أخرى تتعلق بهم كما تتعلق بالراسخين ، وهي قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (١) ، فأفادت الآية أن طريق الحق واحدة ، وأن للباطل طرقا متعددة لا واحدة ، وتعددها لم يحص بعدد مخصوص وهكذا الحديث المفسر للآية وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه : خطّ لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطّا فقال : «هذا سبيل الله مستقيما» ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» (٢) ثم تلا هذه الآية.

ففي الحديث أنها خطوط متعددة غير محصورة بعدد ، فلم يكن لنا سبيل إلى حصر عددها من جهة النقل ، ولا لنا أيضا سبيل إلى حصرها من جهة العقل أو الاستقراء.

أما العقل : فإنه لا يقضي بعدد دون آخر ، لأنه غير راجع إلى أمر محصور ؛ ألا ترى أن الزيغ راجع إلى الجهالات؟ ووجوه الجهل لا تنحصر ، فصار طلب حصرها عناء من غير فائدة.

وأما الاستقراء : فغير نافع أيضا في هذا المطلب ؛ لأنا لما نظرنا في طرق البدع من حين نبتت وجدناها تزداد على الأيام ، ولا يأتي زمان إلا وغريبة من غرائب الاستنباط تحدث ، إلى زماننا هذا.

وإذا كان كذلك فيمكن أن يحدث بعد زماننا استدلالات أخر لا عهد لنا بها فيما تقدم ، لا سيما عند كثرة الجهل ، وقلة العلم ، وبعد الناظرين فيه عن درجة الاجتهاد فلا يمكن إذا حصرها من هذا الوجه ، ولا يقال : إنها ترجع إلى مخالفة طريق الحق ، فإن أوجه المخالفة لا تنحصر أيضا.

__________________

(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٣.

(٢) أخرجه أحمد في المسند (١ / ٤٣٥ ، ٤٦٥). وأخرجه الدارمي (الحديث : ٢٠٨). وأخرجه النسائي في الكبرى (تحفة الأشراف : ٩٢٨١).

١٨١

فثبت أن تتبع هذا الوجه عناء. لكنا نذكر من ذلك أوجها كلية يقاس عليها ما سواها.

فمنها : اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة ، والمكذوب فيها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها : كحديث الاكتحال يوم عاشوراء ، وإكرام الديك الأبيض ، وأكل الباذنجان بنية وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تواجد واهتز عند السماع حتى سقط الرداء عن منكبيه ، وما أشبه ذلك ، فإن ناقل أمثال هذه الأحاديث ـ على ما هو معلوم ـ جاهل ومخطئ في نقل العلم ، فلم ينقل الأخذ بشيء منها عمن يعتد به في طريقة العلم ، ولا طريقة السلوك.

وإنما أخذ بعض العلماء بالحديث الحسن لإلحاقه عند المحدثين بالصحيح ، لأن سنده ليس فيه من يعاب بجرحه متفق عليها ، وكذلك أخذ من أخذ منهم بالمرسل ليس إلّا من حيث ألحق بالصحيح في أن المتروك ذكره كالمذكور والمعدل ، فأما ما دون ذلك فلا يؤخذ به بحال عند علماء الحديث.

ولو كان من شأن أهل الإسلام إذا يبين عنه الأخذ من الأحاديث بكل ما جاء عن كل من جاء لم يكن لانتصابهم للتعديل والتجريح معنى ، مع أنهم قد أجمعوا على ذلك ، ولا كان لطلب الإسناد معنى يتحصل ، فلذلك جعلوا الإسناد من الدين ولا يعنون (حدثني فلان عن فلان) مجردا ، بل يريدون ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين يحدّث عنهم ، حتى لا يسند عن مجهول ولا مجروح ولا متهم ، إلا عمن تحصل الثقة بروايته ، لأن روح المسألة أن يغلب على الظن من غير ريبة أن ذلك الحديث قد قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لنعتمد عليه في الشريعة ، ونسند إليه الأحكام.

والأحاديث الضعيفة الإسناد لا يغلب على الظن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالها ، فلا يمكن أن يسند إليها الحكم ، فما ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب؟

نعم الحامل على اعتمادها في الغالب إنما هو ما تقدم من الهوى المتبع ، وهذا كله على فرض أن لا يعارض الحديث أصل من أصول الشريعة ، وأما إذا كان له معارض فأحرى أن لا يؤخذ به ، فهو هدم لأصل من أصول الشريعة ، والإجماع على منعه إذا كان صحيحا في الظاهر ، وذلك دليل على الوهم من بعض الرواة ، أو الغلط من بعض الرواة أو النسيان ، فما

١٨٢

الظن به إذا لم يصح؟ على أنه قد روي عن أحمد بن حنبل أنه قال : الحديث الضعيف خير من القياس ، وظاهره يقتضي العمل بالحديث غير الصحيح ، لأنه قدمه على القياس المعمول به عند جمهور المسلمين ، بل هو إجماع السلف رضي الله عنهم ، فدلّ على أنه عنده أعلى رتبة في العمل من القياس.

والجواب عن هذا : أنه كلام مجتهد يحتمل اجتهاده الخطأ والصواب ، إذ ليس له على ذلك دليل يقطع العذر ، وإن سلم فيمكن حمله على خلاف ظاهره ، لإجماعهم على طرح الضعيف الإسناد ، فيجب تأويله على أن يكون أراد به الحسن السند وما دار به على القول بإعماله ، أو أراد (خير من القياس) لو كان مأخوذا به فكأنه يرد القياس بذلك الكلام مبالغة في معارضة من اعتمده أصلا حتى رد به الأحاديث وقد كان رحمه‌الله تعالى يميل إلى نفي القياس ، ولذلك قال : ما زلنا نلعن أصل الرأي ويلعنونا حنى جاء الشافعي فخرج بيننا ، أو أراد بالقياس القياس الفاسد الذي لا أصل له من كتاب ولا سنّة ولا إجماع ، ففضل عليه الحديث الضعيف وإن لم يعمل به ، وأيضا فإذا أمكن أن يحمل كلام أحمد على ما يسوغ لم يصح الاعتماد عليه في معارضة كلام الأئمة رضي الله عنهم.

فإن قيل : هذا كله رد على الأئمة الذين اعتمدوا على الأحاديث التي لم تبلغ درجة الصحيح ، فإنهم كما نصوا على اشتراط صحة الإسناد ، كذلك نصوا أيضا على أن أحاديث الترغيب والترهيب لا يشترط في نقلها للاعتماد صحة الإسناد ، بل إن كان ذلك فبها ونعمت ، وإلّا فلا حرج على من نقلها واستند إليها ، فقد فعله الأئمة ك (مالك) في الموطأ ، وابن المبارك في رقائقه ، وأحمد بن حنبل في رقائقه ، وسفيان في جامع الخير ، وغيرهم.

فكل ما في هذا النوع من المنقولات راجع إلى الترغيب والترهيب ، وإذا جاز اعتماد مثله ، جاز فيما كان نحوه مما يرجع إليه كصلاة الرغائب والمعراج ، وليلة النصف من شعبان ، وليلة أول جمعة من رجب ، وصلاة الإيمان والأسبوع ، وصلاة بر الوالدين ويوم عاشوراء وصيام رجب ، والسابع والعشرين منه ، وما أشبه ذلك ، فإن جميعها راجع إلى الترغيب في العمل الصالح ، فالصلاة على الجملة ثابت أصلها ، وكذلك الصيام وقيام الليل ، كل ذلك راجع إلى خير نقلت فضيلته على الخصوص.

١٨٣

وإذا ثبت فكل ما نقلت فضيلته في الأحاديث فهو من باب الترغيب ، فلا يلزم فيه شهادة أهل الحديث بصحة الإسناد ، بخلاف الأحكام.

فإذا هذا الوجه من الاستدلال من طريق الراسخين لا من طريق الذين في قلوبهم زيغ ، حيث فرقوا بين أحاديث الأحكام فاشترطوا فيها الصحة ، وبين أحاديث الترغيب والترهيب فلم يشترطوا فيها ذلك.

فالجواب : إن ما ذكره علماء الحديث من التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب لا ينتظم مع مسألتنا المفروضة ، وبيانه : أن العمل المتكلّم فيه إما أن يكون منصوصا على أصله جملة وتفصيلا ، أو لا يكون منصوصا عليه لا جملة ولا تفصيلا ، أو يكون منصوصا عليه جملة لا تفصيلا.

فالأول : لا إشكال في صحته ، كالصلوات المفروضات والنوافل المرتبة لأسباب وغيرها ، وكالصيام المفروض ، أو المندوب على الوجه المعروف ، إذا فعلت على الوجه الذي نص عليه من غير زيادة ولا نقصان ، كصيام عاشوراء أو يوم عرفة والوتر بعد نوافل الليل ، وصلاة الكسوف. فالنص جاء في هذه الأشياء صحيحا على ما شرطوا ، فثبتت أحكامها من الفرض والسنة ولاستحباب ، فإذا ورد في مثلها أحاديث ترغيب فيها ، أو تحذير من ترك الفرض منها ، وليست بالغة مبلغ الصحة ، ولا هي أيضا من الضعف بحيث لا يقبلها أحد ، أو كانت موضوعة لا يصح الاستشهاد بها ، فلا بأس بذكرها والتحذير بها والترغيب ، بعد ثبوت أصلها من طريق صحيح.

والثاني : ظاهر أنه غير صحيح ، وهو عين البدعة ، لأنه لا يرجع إلّا لمجرد الرأي المبني على الهوى ، وهو أبدع البدع وأفحشها ، كالرهبانية المنفية عن الإسلام ، والخصاء لمن خشي العنت ، والتعبد بالقيام في الشمس ، أو بالصمت من غير كلام أحد ، فالترغيب في مثل هذا لا يصح ، إذ لا يوجد في الشرع ، ولا أصل له يرغب في مثله ، أو يحذر من مخالفته.

والثالث : ربما يتوهم أنه كالأول من جهة أنه إذا ثبت أصل عبادة في الجملة ، فيسهل

١٨٤

في التفصيل نقله من طريق غير مشترط الصحة. فمطلق التنفل بالصلاة مشروع ، فإذا جاء ترغيب في صلاة ليلة النصف من شعبان فقد عضده أصل الترغيب في صلاة النافلة ، وكذلك إذا ثبت أصل صيام ، ثبت صيام السابع والعشرين من رجب ، وما أشبه ذلك ، وليس كما توهموا ، لأن الأصل إذا ثبت في الجملة لا يلزم إثباته في التفصيل ، فإذا ثبت مطلق الصلاة لا يلزم منه إثبات الظهر والعصر أو الوتر أو غيرها حتى ينص عليها على الخصوص ، وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام لا يلزم منه إثبات صوم رمضان أو عاشوراء أو شعبان أو غير ذلك ، حتى يثبت بالتفصيل بدليل صحيح ، ثم ينظر بعد ذلك في أحاديث الترغيب والترهيب بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثابت بالدليل الصحيح.

وليس فيما ذكر في السؤال شيء من ذلك ، إذ لا ملازمة بين ثبوت التنفل الليلي والنهاري في الجملة ، وبين قيام ليلة النصف من شعبان بكذا وكذا ركعة ، يقرأ في كل ركعة منها بسورة كذا على الخصوص كذا وكذا مرة ، ومثله صيام اليوم الفلاني من الشهر الفلاني ، حتى تصير تلك العبادة مقصودة على الخصوص ، ليس في شيء من ذلك ما يقتضيه مطلق شرعية التنفل بالصلاة أو الصيام.

والدليل على ذلك أن تفضيل يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة بعبادة ما يتضمن حكما شرعيا فيه على الخصوص ، كما ثبت لعاشوراء مثلا ، أو لعرفة ، أو لشعبان مزية على مطلق التنفل بالصيام ، فإنه ثبت له مزية على الصيام في مطلق الأيام ، فتلك المزية اقتضت مرتبة في الأحكام أعلى من غيرها بحيث لا تفهم من مطلق مشروعية الصلاة النافلة ، لأن مطلق المشروعية يقتضي أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف في الجملة. وصيام يوم عاشورا يقتضي أنه يكفر السنة التي قبله ، فهو أمر زائد على مطلق المشروعية ، ومساقه يفيد له مزية في الرتبة ، وذلك راجع إلى الحكم.

فإذا هذا الترغيب الخاص يقتضي مرتبة في نوع من المندوب خاصة ، فلا بد من رجوع إثبات الحكم إلى الأحاديث الصحيحة بناء على قولهم : إن الأحكام لا تثبت إلا من طريق صحيح والبدع المستدل عليها بغير الصحيح لا بدّ فيها من الزيادة على المشروعات كالتقييد بزمان أو عدد أو كيفية ما ، فيلزم أن تكون أحكام تلك الزيادات ثابتة بغير الصحيح ، وهو ناقض لما أسسه العلماء.

١٨٥

ولا يقال : إنهم يريدون أحكام الوجوب والتحريم فقط ، لأنا نقول : هذا تحكم من غير دليل ، بل الأحكام خمسة ، فكما لا يثبت الوجوب إلا بالصحيح فإذا ثبت الحكم فاستسهل أن يثبت في أحاديث الترغيب والترهيب ، ولا عليك ، فعلى كل تقدير : كل ما رغب فيه إن ثبت حكمه ومرتبته في المشروعات من طريق صحيح فالترغيب فيه بغير الصحيح مغتفر ، وإن لم يثبت إلا من حديث الترغيب ، فاشترط الصحة أبدا ، وإلّا خرجت عن طريق القوم المعدودين في أهل الرسوخ ، فلقد غلط في هذا المكان جماعة ممن ينسب إلى الفقه ، ويتخصص عن العوام بدعوى رتبة الخواص ، وأصل هذا الغلط عدم فهو كلام المحدثين في الموضعين ، وبالله التوفيق.

فصل

ومنها ضد هذا ، وهو ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم ، ويدعون أنها مخالفة للمعقول ، وغير جارية على مقتضى الدليل ، فيجب ردّها ، كالمنكرين لعذاب القبر ، والصراط ، والميزان ، ورؤية الله عزوجل في الآخرة ، وكذلك حديث الذباب وقتله ، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ، وأنه يقدم الذي فيه الداء ، وحديث الذي أخذ أخاه بطنه فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسقيه العسل ، وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول.

ربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ـ وحاشاهم ـ وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم ، كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب ، وربما ردوا فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة ، لينفروا الأمة عن اتباع السنّة وأهلها. كما روي عن أبي بكر بن محمد أنه قال : قال عمرو بن عبيد : لا يعفى عن اللص دون السلطان ، قال فحدثته بحديث صفوان بن أمية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «فهلا قبل أن تأتيني به» (١) قال : أتحلف بالله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله؟ قلت : أفتحلف أنت بالله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقله؟ فحدثت به ابن عون ـ قال ـ فلما عظمت الحلقة قال : يا أبا بكر حدث.

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الحدود ، باب : ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان (الأحاديث : ٢ / ٨٣٤ ، ٨٣٥).

١٨٦

وقد جعلوا القول بإثبات الصراط والميزان والحوض قولا بما لا يعقل ، وقد سئل بعضهم : هل يكفر من قاله برؤية الباري في الآخرة؟ فقال : لا يكفر لأنه قال ما لا يعقل ، ومن قال ما لا يعقل فليس بكافر.

وذهبت طائفة إلى نفي أخبار الآحاد جملة ، والاقتصار على ما استحسنته عقولهم في فهم القرآن ، حتى أباحوا الخمر بقوله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) (١) الآية ، ففي هؤلاء وأمثالهم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (٢) وهذا وعيد شديد تضمنه النهي ، لاحق بمن ارتكب رد السنة.

ولما ردوها بتحكم العقول كان الكلام معهم راجعا إلى أصل التحسين والتقبيح وهو مذكور في الأصول ، وسيأتي له بيان إن شاء الله.

وقال عمر بن النضر : سئل عمرو بن عبيد يوما عن شيء ـ وأنا عنده ـ فأجاب فيه ، فقلت له : ليس هكذا يقول أصحابنا ، قال : ومن أصحابك لا أبا لك؟ قلت : أيوب ، ويونس ، وابن عون ، والتيمي ، قال : أولئك أنجاس أرجال أموات غير أحياء.

وقال ابن علية : حدثني اليسع ، قال : تكلم واصل ـ يعني : ابن عطاء ـ يوما ـ قال ـ فقال عمرو بن عبيد : ألا تسمعون؟ ما كلام الحسن وابن سيرين عند ما تسمعون إلا خرقة حيضة ملقاة. كان واصل بن عطاء أول من تكلم في الاعتزال فدخل معه في ذلك عمرو بن عبيد فأعجب به ، فزوجه أخته ، وقال لها : زوجتك برجل ما يصلح إلا أن يكون خليفة ، ثم تجاوزوا الحد حتى ردوا القرآن بالتلويح والتصريح لرأيهم السوء ، فحكى عمرو بن علي أنه سمع ممن يثق به أنه قال : كنت عند عمرو بن عبيد ـ وهو جالس على دكان عثمان الطويل ـ فأتاه رجل فقال : يا أبا عثمان! ما سمعت من الحسن يقول في قول الله عزوجل : (قُلْ لَوْ

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٩٣.

(٢) تقدم تخريجه ص : ٨٦ ، الحاشية : ٢.

١٨٧

كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) (١) قال : تريد أخبرك برأي حسن ، قال : لا أريد إلا ما سمعت من الحسن ، قال : سمعت الحسن يقول : كتب الله على قوم القتل فلا يموتون إلا قتلا ، وكتب على قوم الهدم فلا يموتون إلا هدما ، وكتب على قوم الغرق فلا يموتون إلا غرقا ، وكتب على قوم الحريق فلا يموتون إلا حرقا ، فقال له عثمان الطويل : يا أبا عثمان ؛ ليس هذا قولنا. قال عمرو : قد قلت أريد أن أخبرك برأي الحسن ، فأنا أكذب على الحسن.

وعن الأثرم عن أحمد بن حنبل قال : حدثنا معاذ ، قال : كنت عند عمرو بن عبيد فجاءه عثمان بن فلان ، فقال : يا أبا عثمان! سمعت ـ والله ـ بالكفر. قال : ما هو؟ لا تعجل بالكفر ، قال : هاشم الأوقص زعم أن (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) (٢) وقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (٣) لم يكن هذا في أم الكتاب ، والله تعالى يقول : (حم* وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٤) فما الكفر إلا هذا ، فسكت ساعة ثم تكلم فقال : والله لو كان الأمر كما تقول ما كان على أبي لهب من لوم ، ولا كان على الوحيد من لوم ، قال عثمان ـ في مجلسه ـ : هذا والله الدين ـ قال معاذ ـ ثم قال في آخره : فذكرته لوكيع ، فقال : يستتاب قائلها فإن تاب ... وإلا ضربت عنقه.

ومثل هذا محكي ، لكن عن بعض المرموقين من أئمة الحديث ، فروي عن عليّ بن المديني ، عن المؤمل ، عن الحسن بن وهب الجمحي ، قال : الذي كان بيني وبين فلان خاص فانطلق بأهله إلى بئر ميمون ، فأرسل إليّ : أن ائتني ، فأتيته عشية فبتّ عنده ، قال : فهو في فسطاط وأنا في فسطاط آخر ، فجعلت أسمع صوته الليل كله كأنه دويّ النحل ، قال : فلما أصبحنا جاء بغدائه فتغدينا قال : وذكر ما بيني وبينه من الإخاء والحق ، قال : فقال لي : أدعوك إلى رأي الحسن ، قال : وفتح لي شيئا من القدر ، قال : فقمت من عنده فما كلمته بكلمة حتى لقي الله ، قال : فأنا يوما خارج من الطريق في الطواف وهو داخل ، أو أنا داخل

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ١٥٤.

(٢) سورة : المسد ، الآية : ١.

(٣) سورة : المدثر ، الآية : ١١.

(٤) سورة : الزخرف ، الآيات : ١ ـ ٤.

١٨٨

وهو خارج ، فأخذ بيدي فقال : يا أبا عمر ، حتى متى؟ حتى متى؟ قال : فلم أكلمه ، فقال : ما لي؟ أرأيت لو أن رجلا قال : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) (١) ليست من القرآن؟ ما كنت تقول له؟ قال : فنزعت يدي من يده ، قال علي : قال مؤمل : فحدثت به سفيان بن عيينة ، فقال لي : ما كنت أرى أنه بلغ هذا كله.

قال عليّ : وسمعته أنا وأحمد بن (٢).

قال : حدثت أنا سفيان بن عيينة عن معلى الطحان ببعض حديثه ، فقال : ما أحوج صاحب هذا الرأي إلى أن يقتل؟

فانظروا إلى تجاسرهم على كتاب الله تعالى وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم! كل ذلك ترجيح لمذاهبهم على محض الحق ، وأقربهم إلى هيبة الشريعة من يتطلب بها المخرج فيتأول لها الواضحات ، ويتبع المتشابهات ، وسيأتي ، والجميع داخلون تحت ذمها.

وربما احتج طائفة من نابتة المبتدعة على رد الأحاديث بأنها إنما تفيد الظن ، وقد ذم الظن في القرآن ، كقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) (٣) وقال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٤) وما جاء في معناه ، حتى أحلوا أشياء مما حرمها الله تعالى على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس تحريمها في القرآن نصا ، وإنما قصدوا من ذلك أن يثبت لهم من أنظار عقولهم ما استحسنوا.

والظن المراد في الآية وفي الحديث أيضا غير ما زعموا ، وقد وجدنا له محال ثلاثة :

أحدها : الظن في أصول الدين ، فإنه لا يغني عند العلماء لاحتماله النقيض عند الظان ، بخلاف الظن في الفروع فإنه معمول به عند أهل الشريعة للدليل الدال على إعماله ، فكان الظن مذموما إلا ما تعلق منه بالفروع ، وهذا صحيح ذكره العلماء في هذا الموضع.

والثاني : أن الظن هنا هو ترجيح أحد النقيضين على الآخر من غير دليل مرجح ، ولا

__________________

(١) سورة : المسد ، الآية : ١.

(٢) بياض في الأصل.

(٣) سورة : النجم ، الآية : ٢٣.

(٤) سورة : النجم ، الآية : ٢٨.

١٨٩

شك أنه مذموم هنا لأنه من التحكم ، ولذلك أتبع في الآية بهوى النفس في قوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) (١) فكأنهم مالوا إلى أمر بمجرد الغرض والهوى ولذلك أثبت ذمه ، بخلاف الظن الذي أثاره دليل ، فإنه غير مذموم في الجملة ، لأنه خارج عن اتباع الهوى ، ولذلك أثبت وعمل بمقتضاه حيث يليق العمل بمثله كالفروع.

والثالث : أن الظن على ضربين : ظن يستند إلى أصل قطعي ، وهذه هي الظنون المعمول بها في الشريعة أينما وقعت لأنها استندت إلى أصل معلوم ، فهي من قبيل المعلوم جنسه ، وظن لا يستند إلى قطعي ، بل إما مستند إلى غير شيء أصلا وهو مذموم ـ كما تقدم ـ وإما مستند إلى ظن مثله ، فذلك الظن إن استند أيضا إلى قطعي ، فكالأول ، أو إلى ظني ، رجعنا إليه ، فلا بد أن يستند إلى قطعي ، وهو محمود ، أو إلى غير شيء ، وهو مذموم ، فعلى كل تقدير : خبر واحد صح سنده ، فلا بد من استناده إلى أصل في الشريعة قطعي فيجب قبوله ، ومن هنا قبلناه مطلقا ، كما أن ظنون الكفار غير مستندة إلى شيء ، فلا بد من ردها وعدم اعتبارها ، وهذا الجواب الأخير مستمد من أصل وقع بسطه في كتاب الموافقات والحمد لله.

ولقد بالغ بعض الضالين في رد الأحاديث ، ورد قول من اعتمد على ما فيها ، حتى عدوا القول به مخالفا للعقل ، والقائل به معدود في المجانين.

فحكى أبو بكر بن العربي عن بعض من لقي بالمشرق من المنكرين للرؤية ، أنه قيل له : هل يكفر من يقول بإثبات الباري أم لا؟ فقال : لا! لأنه قال بما لا يعقل ، ومن قال بما لا يعقل لا يكفر. قال ابن العربي : فهذه منزلتنا عندهم ، فليعتبر الموفق بما يؤدي إليه اتباع الهوى ، أعاذنا الله من ذلك بفضله.

وزلّ بعض المرموقين في زماننا في هذه المسألة ، فزعم أن خبر الواحد كله زعم وهو ما حكى في الأثر : «بئس مطية الرجل زعموا» (٢) والأثر الآخر : «إياكم والظن

__________________

(١) سورة : النجم ، الآية : ٢٣.

(٢) أخرجه أبو داود في كتاب : الأدب ، باب : قول الرجل : زعموا (الحديث : ٤٩٧٢). وأخرجه أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد.

١٩٠

فإن الظن أكذب الحديث» (١) ، وهذه من كلام هذا المتأخر زلة عفا الله عنه.

فصل

ومنها : تخرّصهم (٢) على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العرو عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله ، فيفتاتون (٣) على الشريعة بما فهموا ، ويدينون به ، ويخالفون الراسخين في العلم ، وإنما دخلوا في ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم ، واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط ، وليس كذلك ، كما حكي عن بعضهم أنه سئل عن قول الله تعالى : (رِيحٍ فِيها صِرٌّ) (٤) فقال : هو هذا الصرصر ، يعني : صرار الليل ، وعن النظام أنه كان يقول : إذا آلى المرء بغير اسم الله لم يكن موليا ، قال : لأن الإيلاء مشتق من اسم الله ، وقال بعضهم في قول الله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٥) ، لكثرة أكله من الشجرة ، يذهبون إلى قول العرب غوى الفصيل إذا أكثر من اللبن حتى بشم ، ولا يقال فيه غوى ، وإنما غوى من الغي ، وفي قوله سبحانه : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) (٦) أي : ألقينا فيها ، كأنه عندهم من قول العرب : (ذرته الريح) وذلك لا يجوز لأن ذرأنا مهموز وذرته غير مهموز ، وكذلك إذا كان من أذرته الدابة عن ظهرها لعدم الهمزة ، ولكنه رباعي وذرأنا ثلاثي.

وحكى ابن قتيبة عن بشر المريسي أنه كان يقول لجلسائه : قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهيئها ، فسمع قاسم التمار قوما يضحكون ، فقال : هذا كما قال الشاعر :

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : النكاح ، باب : لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع (الحديث : ٩ / ١٧١). وأخرجه مسلم في كتاب : البر والصلة ، باب : تحريم الظن والتجسس والتنافس (الحديث : ٢٥٦٣). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : حسن الخلق ، باب : ما جاء في المهاجرة (الأحاديث : ٢ / ٩٠٧ ، ٩٠٨). وأخرجه أبو داود في كتاب : الأدب ، باب : في الغيبة (الأحاديث : ٤٨٨٢ ، ٤٩١٧). وأخرجه الترمذي في كتاب : البر والصلة ، باب : ما جاء في شفقة المسلم على المسلم (الحديث : ١٩٢٨).

(٢) تخرّص : تكذّب بالباطل.

(٣) افتات : افترى واختلق.

(٤) سورة : آل عمران ، الآية : ١١٧.

(٥) سورة : طه ، الآية : ١٢١.

(٦) سورة : الأعراف ، الآية : ١٧٩.

١٩١

إنّ سليمى والله يكلؤها

ضنت بشيء ما كان يرزؤها

وبشر المريسي رأس في الرأي ، وقاسم التمار رأي في علم الكلام.

قال ابن قتيبة : واحتجاجه ببشر أعجب من لحن بشر. واستدل بعضهم تحليل شحم الخنزير بقول الله تعالى : (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) (١) فاقتصر على تحريم اللحم دون غيره ، فدل على أنه حلال ، وربما سلم بعض العلماء ما قالوا ، وزعم أن الشحم إنما حرم بالإجماع.

والأمر أيسر من ذلك ، فإن اللحم يطلق على الشحم وغيره حقيقة ، حتى إذا خص بالذكر قيل : شحم كما يقال : عرق ، وعصب ، وجلد ، ولو كان على ما قالوا لزم أن لا يكون العرق والعصب ولا الجلد ولا المخ ولا النخاع ولا غير ذلك مما خص بالاسم محرما ، وهو خروج عن القول بتحريم الخنزير.

ويمكن أن يكون من خفي هذا الباب مذهب الخوارج في زعمهم : أن لا تحكيم استدلالا بقوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (٢) فإنه مبني على أن اللفظ ورد بصيغة العموم ، فلا يلحقه تخصيص ، فلذلك أعرضوا عن قول الله تعالى : (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) (٣) وقوله : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٤) وإلّا فلو علموا تحقيقا قاعدة العرب في أن من العموم لم يرد به الخصوص لم يسرعوا إلى الإنكار ولقالوا في أنفسهم هل هذا العام مخصوص؟ فيتأوّلون ، وفي الموضع وجه آخر مذكور في موضع غير هذا ، وكثيرا ما يوقع الجهل بكلام العرب في مجاز لا يرضى بها عاقل ، أعاذنا الله من الجهل والعمل به بفضله.

فمثل هذه الاستدلالات لا يعبأ بها ، وتسقط مكالمة أهلها ، ولا يعد خلاف أمثالهم ، وما استدلوا عليه من الأحكام الفروعية أو الأصولية فهو عين البدعة إذ هو خروج عن طريقة كلام العرب إلى اتباع الهوى ، فحق ما حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال :

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٣.

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ٥٧.

(٣) سورة : النساء ، الآية : ٣٥.

(٤) سورة : المائدة ، الآية : ٩٥.

١٩٢

إنما هذا القرآن كلام فضعوه مواضعه ولا تتبعوا به أهواءكم ، أي : فضعوه على مواضع الكلام ولا تخرجوه عن ذلك ، فإنه خروج عن طريقه المستقيم إلى اتباع الهوى.

وعنه أيضا : إنما أخاف عليكم رجلين ، رجل تأول القرآن على غير تأويله ، ورجل ينفس المال على أخيه. وعن الحسن رضي الله عنه أنه قيل له : أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقة؟ قال : نعم! فليتعلمها ، فإن الرجل يقرأ بالآية فيعباه توجيهها فيهلك. وعنه أيضا قال : أهلكتكم العجمة ، تتأولون القرآن على غير تأويله.

فصل

ومنها : انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف ، وطلب الأخذ بها تأويلا ـ كما أخبر الله تعالى في كتابه ـ إشارة إلى النصارى في قولهم بالثالوثي بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (١) وقد علم العلماء أن كل دليل فيه اشتباه وإشكال ليس بدليل في الحقيقة ، حتى يتبين معناه ويظهر المراد منه ، ويشترط في ذلك أن لا يعارضه أصل قطعي ، فإذا لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك أو عارضه قطعي كظهور تشبيه ، فليس بدليل ، لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهرا في نفسه ، ودالا على غيره ، وإلّا احتيج إلى دليل ، فإن دل الدليل على عدم صحته فأحرى أن لا يكون دليلا.

ولا يمكن أن تعارض الفروع الجزئية الأصول الكلية ، لأن الفروع الجزئية إن لم تقتض عملا فهي في محل التوقف ، وإن اقتضت عملا فالرجوع إلى الأصول هو الصراط المستقيم ، ويتناول الجزئيات حتى إلى الكليات ، فمن عكس الأمر حاول شططا ودخل في حكم الذم ، لأن متبع الشبهات مذموم ، فكيف يعتد بالمتشابهات دليلا؟ أو يبنى عليها حكم من الأحكام؟ وإذا لم تكن دليلا في نفس الأمر فجعلها بدعة محدثة هو الحق.

ومثاله في ملة الإسلام مذهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب ـ المنزه عن النقائص ـ من العين واليد والرجل والوجه والمحسوسات والجهة وغير ذلك من الثابت للمحدثات.

__________________

(١) سورة : آل عمران ، الآية : ٧.

١٩٣

ومن الأمثلة أيضا أن جماعة زعموا أن القرآن مخلوق تعلقا بالمتشابه ، والمتشابه الذي تعلقوا به على وجهين : عقلي ـ في زعمهم ـ وسمعي.

فالعقلي : أن صفة الكلام من جملة الصفات ، وذات الله عندهم بريئة من التركيب جملة ، وإثبات صفات الذات قول بتركيب الذات ، وهو محال ، لأنه واحد على الإطلاق ، فلا يمكن أن يكون متكلما بكلام قائم به ، كما لا يكون قادرا بقدرة قائمة به ، أو عالما بعلم قائم به ، إلى سائر الصفات.

وأيضا فالكلام لا يعقل إلا بأصوات وحروف ، وكل ذلك من صفات المحدثات ، والباري تنزه عنها ، وبعد هذا الأصل يرجعون إلى تأويله قوله سبحانه : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١) وأشباهه.

وأما السمعي : فنحو قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢) والقرآن إما أن يكون شيئا ، أو لا شيء ، ولا شيء ، عدم ، والقرآن ثابت ، هذا خلف ، وإن كان شيئا فقد ، شملته الآية فهو إذا مخلوق ، وبهذا استدل المريسي على عبد العزيز المكّي رحمه‌الله تعالى.

وهاتان الشبهتان أخذ في التعلق بالمتشابهات ، فإنهم قاسوا الباري على البرية ، ولم يعقلوا ما رواء ذلك ، فتركوا معاني الخطاب ، وقاعدة العقول.

أما تركهم للقاعدة فلم ينظروا في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣) ، وهذه الآية نقلية عقلية ، لأن المشابه للمخلوق في وجه ما ، مخلوق مثله ، إذ ما وجب للشيء وجب لمثله ، فكما تكون الآية دليلا على نفي الشبه تكون دليلا لهؤلاء ، لأنهم عاملوه في التنزيه معاملة المخلوق ، حيث توهموا أن اتصاف ذاته بالصفات يقتضي التركيب.

وأما تركهم لمعاني الخطاب ، فإن العرب لا تفهم من قوله : (السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) و (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أو (الْقَدِيرُ) ، وما أشبه ذلك إلا من له سمع وبصر وعلم وقدرة اتصف

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ١٦٤.

(٢) سورة : الرعد ، الآية : ١٦.

(٣) سورة : الشورى ، الآية : ١١.

١٩٤

بها ، فإخراجها عن حقائق معانيها التي نزل القرآن بها خروج عن أم الكتاب إلى اتباع ما تشابه منه من غير حاجة.

وحيث ردوا هذه الصفات إلى الأحوال التي هي العالمية والقادرية ، فما ألزموه في العلم والقدرة لازم لهم في العالمية والقادرية ، لأنها إما موجودة ، فيلزم التركيب ، أو معدومة ، والعدم نفي محض.

وأما كون الكلام هو الأصوات والحروف ، فبناء على عدم النظر في الكلام النفسي ، وهو مذكور في الأصول.

وأما الشبهة السمعية فكأنها عندهم بالتبع ، لأن العقول عندهم هي العمدة المعتمدة ، ولكنهم يلزمهم بذلك الدليل مثل ما مرّ والله (؟) لأن قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) إما أن يكون على عمومه لا يتخلف عنه شيء ، أو لا. فإن كان على عمومه ، فتخصيصه إما بغير دليل ـ وهو التحكم ـ وإما بدليل ، فأبرزوه حتى ننظر فيه ، ويلزم مثله في الإرادة إن ردوا الكلام إليها ، وكذلك غيرها من الصفات إن أقروا بها ، أو الأحوال إن أنكروها ، وهذا الكلام معهم بحسب الوقت.

والذي يليق بالمسألة أنواع أخر من الأدلة التي تقتضي كون هذا المذهب بدعة لا يلائم قواعد الشريعة.

ومن أغرب ما يوضع هاهنا ما حكاه المسعودي وذكره الآجري ـ في كتاب الشريعة ـ بأبسط مما ذكره المسعودي ، واللفظ هنا للمسعودي مع إصلاح بعض الألفاظ ، قال : ذكر صالح بن علي الهاشمي قال : حضرت يوما من الأيام جلوس المهتدي للمظالم ، فرأيت من سهولة الوصول ونفوذ الكتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته ، فأقبلت أرمقه ببصري إذا نظر في القصص ، فإذا رفع طرفه إليّ أطرقت ، فكأنه علم ما في نفسي.

فقال لي : يا صالح أحسب أن في نفسك شيئا تحب أن تذكره ـ قال ـ فقلت : نعم يا

__________________

(١) سورة : الرعد ، الآية : ١٦.

١٩٥

أمير المؤمنين ، فأمسك ، فلما فرغ من جلوسه أمر أن لا أبرح ، ونهض ، فجلست جلوسا طويلا ، فقمت إليه وهو على حصير الصلاة فقال لي : يا صالح أتحدثني بما في نفسك؟ أم أحدثك؟ فقلت : بل هو من أمير المؤمنين أحسن.

فقال : كأنني بك وقد استحسنت من مجلسنا ، فقلت : أي خليفة خليفتنا! إن لم يكن يقول بقول أبيه من القول بخلق القرآن ، فقال : قد كنت على ذلك برهة من الدهر ، حتى أقدم عليّ الواثق شيخا من أهل الفقه والحديث من أذنة من الثغر الشامي ، مقيدا طوالا ، حسن الشيبة ، فسلم غير هائب ، ودعا فأوجز ، فرأيت الحياء منه في حماليق عيني الواثق والرحمة عليه.

فقال : يا شيخ أجب أبا عبد الله أحمد بن أبي دؤاد عما يسألك عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين أحمد يصغر ويضعف ويقل عند المناظرة ، فرأيت الواثق وقد صار مكان الرحمة غضبا عليه ، فقال : أبو عبد الله يصغر ويضعف ويقل عند مناظرتك؟ فقال : هوّن عليك يا أمير المؤمنين ، أتأذن لي في كلامه؟ فقال له الواثق : قد أذنت لك.

فأقبل الشيخ على أحمد فقال : يا أحمد إلام دعوت الناس؟ فقال أحمد : إلى القول بخلق القرآن ، فقال له الشيخ : مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها من القول بخلق القرآن أداخلة في الدين فلا يكون الدين تاما إلا بالقول بها؟ قال : نعم ، قال الشيخ : فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا الناس إليها أم تركهم؟ قال : لا ، قال له : يعلمها أم لم يعلمها؟ قال : علمها ، قال : فلم دعوت الناس إلى ما لم يدعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه وتركهم منه؟ فأمسك ، فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين هذه واحدة.

ثم قال له : أخبرني يا أحمد ، قال الله تعالى في كتابه العزيز : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) الآية فقلت أنت : الدين لا يكون تاما إلا بمقالتك بخلق القرآن ، فالله تعالى عزوجل صدق في تمامه وكماله أم أنت في نقصانك؟ فأمسك ، فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، وهذه ثانية!

ثم قال بعد ساعة : أخبرني يا أحمد ، قال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٣.

١٩٦

إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (١) فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها فيما بلغه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الأمة أم لا؟ فأمسك ، فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، وهذه ثالثة!

ثم قال بعد ساعة : أخبرني يا أحمد! لما علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها : اتّسع له عن أن أمسك عنهم أم لا؟ قال أحمد : بل اتّسع له ذلك. فقال الشيخ : وكذلك لأبي بكر؟ وكذلك لعمر؟ وكذلك لعثمان؟ وكذلك لعليّ؟ رحمة الله عليهم. قال : نعم. فصرف وجهه إلى الواثق وقال : يا أمير المؤمنين! إذا لم يتسع لنا ما اتّسع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه فلا وسّع الله علينا ، فقال الواثق : نعم! لا وسّع الله علينا إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه فلا وسع الله علينا. ثم قال الواثق : اقطعوا قيوده. فلما فكت جاذب عليها. فقال الواثق : دعوه. ثم قال : يا شيخ لم جاذبت عليها؟ قال : لأني عقدت في نيّتي أن أجاذب عليها ، فإذا أخذتها أوصيت أن تجعل بين يدي وكفي. ثم أقول : يا ربي! سل عبدك : لم قيدني ظلما وارتاع بي أهلي؟ فبكى الواثق والشيخ وكل من حضر. ثم قال له الواثق : يا شيخ! اجعلني في حلّ. فقال : يا أمير المؤمنين! ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حلّ إعظاما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولقرابتك منه. فتهلل وجه الواثق وسرّ ؛ ثم قال له : أقم عندي آنس بك. فقال له : مكاني في ذلك الثغر أنفع ، وأنا شيخ كبير ، ولي حاجة. قال : سل ما بدا لك. قال : يأذن أمير المؤمنين في رجوعي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم. قال : قد أذنت لك. وأمر له بجائزة فلم يقبلها ، فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة ، وأحسب أيضا أن الواثق رجع عنها.

فتأملوا هذه الحكاية ففيها عبرة لأولي الألباب ، وانظروا كيف مأخذ الخصوم في إفحامهم لخصومهم بالرد عليهم بكتاب الله وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد ، وهو الجهل بمقاصد الشرع ، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض ، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها ، وعامّها المرتب على خاصّها ، ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها المفسر ببيّنها ، إلى ما

__________________

(١) سورة : المائدة ، الآية : ٦٧.

١٩٧

سوى ذلك من مناحيها ، فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام فذلك الذي نظمت به حين استنبطت.

وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي ، فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا حتى يستنطق فلا ينطق باليد وحدها ولا بالرجل وحدها ولا بالرأس وحده ولا باللسان وحده ، بل بجملته التي سمي بها إنسانا ، كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها ، لا من دليل منها أي دليل كان ، وإن ظهر لبادي الرأي نطق ذلك الدليل ، فإنما هو توهمي لا حقيقي ، كاليد إذا استنطقت فإنما تنطق توهما لا حقيقة ، من حيث علمت أنها يد إنسان لا من حيث هي إنسان لأنه محال.

فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضها كأعضاء الإنسان إذا صوت صورة مثمرة.

وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما أي دليل كان عفوا وأخذا أوليّا ، وإن كان ثمّ ما يعارضه من كلي أو جزئي ، فكأن العضو الواحد لا يعطى في مفهوم أحكام الشريعة حكما حقيقيا ، فمتبعه متبع متشابه ، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ كما شهد الله به : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١).

فصل

وعند ذلك نقول :

من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها ، وبالعمومات من غير تأمل هل لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس ، بأن يكون النص مقيدا فيطلق ، أو خاصّا فيعم بالرأي من غير دليل سواه. فإن هذا المسلك رمي في عماية ، واتباع للهوى في الدليل ، وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد ، فإذا قيد صار واضحا ، كما أن إطلاق المقيد رأي في ذلك المقيد معارض للنص من غير دليل.

فمثال الأول : أن الشريعة قد ورد طلبها على المكلفين على الإطلاق والعموم ، ولا

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ١٢٢.

١٩٨

يرفعها عذر إلا العذر الرافع للخطاب رأسا ، وهو زوال العقل ، فلو بلغ المكلف في مراتب الفضائل الدينية إلى أي رتبة بلغ ، بقي التكليف عليه كذلك إلى الموت ولا رتبة لأحد يبلغها في الدين كرتبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رتبة أصحابه البررة ، ولم يسقط عنهم من التكليف مثقال ذرة ، إلا ما كان من تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى الآحاد ، كالزّمن لا يطالب بالجهاد والمقعد لا يطالب بالصلاة قائما والحائض لا تطالب بالصلاة المخاطب بها في حال حيضها ، ولا ما أشبه ذلك.

فمن رأى أن التكليف قد يرفعه البلوغ إلى مرتبة ما من مراتب الدين ـ كما يقوله أهل الإباحة ـ كان قوله بدعة مخرجة عن الدين.

ومنه دعاوى أهل البدع على الأحاديث الصحيحة مناقضتها للقرآن ، أو مناقضة بعضها بعضا ، وفساد معانيها ، أو مخالفتها للعقول ـ كما حكموا بذلك في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمتحاكمين إليه : «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : مائة الشاة والخادم ردّ عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، وعلى المرأة هذه الرجم واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» (١) فغدا عليها فاعترفت ، فرجمها. قالوا : هذا مخالف لكتاب الله ، لأنه قضى بالرجم والتغريب ، وليس للرجم ولا للتغريب في كتاب الله ذكر ، فإن كان الحديث باطلا فهو ما أردنا ، وإن كان حقا فقد ناقض كتاب الله بزيادة الرجم والتغريب.

فهذا اتباع للمتشابه ، لأن الكتاب في كلام العرب وفي الشرع يتصرف على وجوه :

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب : المحاربين ، باب : الاعتراف بالزنا ، وباب : البكران يجلدان وينفيان (الحديث : ١٢ / ١٢١). وأخرجه مسلم في كتاب : الحدود ، باب : من اعترف على نفسه بالزنا (الأحاديث : ١٦٩٧ ، ١٦٩٨). وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب : الحدود ، باب : ما جاء في الرجم (الحديث : ٢ / ٨٢٢). وأخرجه الترمذي في كتاب : الحدود ، باب : ما جاء في الرجم على الثيب (الحديث : ١٤٣٣). وأخرجه أبو داود في كتاب : الحدود ، باب : المرأة التي أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجمها من جهينة (الحديث : ٤٤٤٥). وأخرجه النسائي في كتاب : القضاة ، باب : صون النساء عن مجلس الحكم (الأحاديث : ٨ / ٢٤٠ ، ٢٤١). وأخرجه ابن ماجه في كتاب : الحدود ، باب : حد الزنا (الحديث : ٢٥٤٩). وأخرجه الدارمي في كتاب : الحدود ، باب : الاعتراف بالزنا (الحديث : ٢ / ١٧٧).

١٩٩

منها الحكم والفرض كقوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) (١) ، وقال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (٢) (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) (٣) ، فكان المعنى : لأقضين بينكما بكتاب الله ، أي بحكم الله الذي شرع لنا ، كما أن الكتاب يطلق على القرآن ، فتخصيصهم الكتاب بأحد المحامل من غير دليل اتباع لما تشابه من الأدلة.

وفي الحديث : «مثل أمتي كمطر لا يدرى أوله خير أم آخره؟» (٤) قالوا : فهذا يقتضي أنه لم يثبت لأول هذه الأمة فضل على الخصوص دون آخرها ولا العكس ثم نقل : «إن الإسلام بدئ غريبا وسيعود غريبا كما بدئ فطوبى للغرباء» (٥) ، فهذا يقتضي تفضيل الأولين والآخرين على الوسط. ثم نقل : «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» (٦) ، فاقتضى أن الأولين أفضل على الإطلاق.

قالوا : فهذا تناقض ، وكذبوا ، ليس ثمّ تناقض ولا اختلاف.

وذلك أن التعارض إذا ظهر لبادي الرأي في المقولات الشرعية ، فإما أن لا يمكن الجمع بينهما أصلا ، وإما أن يمكن فإن لم يمكن فهذا الفرض بين قطعي وظني ، أو بين ظنيين ، فأما بين قطعيين فلا يقع في الشريعة ، ولا يمكن وقوعه ، لأن تعارض القطعيين

__________________

(١) سورة : النساء ، الآية : ٢٤.

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ١٨٣.

(٣) سورة : النساء ، الآية : ٧٧.

(٤) أخرجه الترمذي في كتاب : الأمثال ، باب : مثل أمتي مثل المطر (الحديث : ٢٨٧٣). وأخرجه أحمد في المسند (٣ / ١٣٠ ، ١٤٣) من حديث أنس ومن حديث عمار بن ياسر (٤ / ٣١٩).

(٥) تقدم تخريجه ص : ٨ ، الحاشية : ١.

(٦) أخرجه البخاري في كتاب : الشهادات ، باب : لا يشهد على شهادة جور إذا شهد (الحديث : ٥ / ١٩٠). وأخرجه مسلم في كتاب : فضائل الصحابة ، باب : فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (الحديث : ٢٥٣٥). وأخرجه الترمذي في كتاب : الفتن ، باب : ما جاء في القرن الثالث (الحديث : ٢٢٢٢) ، وفي كتاب : الشهادات ، باب : خير القرون (الحديث : ٢٣٠٣). وأخرجه أبو داود في كتاب : السنة ، باب : في فضل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الحديث : ٤٦٥٧). وأخرجه النسائي في كتاب : الأيمان والنذور ، باب : الوفاء بالنذر (الأحاديث : ٧ / ١٧ ، ١٨).

٢٠٠